تحليل مفصل للمشورة الاقتصادية: الجزء الثاني

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

كيف يمكن أن تتم ترجمة العلوم الإيجابية واليقينية (المعبر عنها بالكامل بالتعبير “يكون”) إلى التعبير عنها بـ”يجب أن” ضمن إطار المفهوم الاقتصادي؟ في الجزء الأول من هذه السلسلة، قمنا بجذب الانتباه إلى بعض التناقضات الظاهرية التي تحيط بالمشورة الاقتصادية. وقمنا، على وجه الخصوص، بجذب انتباه مربك ومحير إلى المناصرة والدفاع الانفعالي العاطفي الذي دافع به لودفيغ فون ميزس عن ترتيبات وأنظمة السوق الحر، وهو نفس لودفيغ فون ميزس الذي أصر على موقف (“حرية القيمة”) فيرتفرايهايتالأكثر تجريديا وحيادية والذي يجب أن يتم القيام به من جانب كافة علماء الاجتماع. وفي هذه المقالة، الحالية، سنقوم، كخطوة باتجاه توضيح هذه التناقضات الظاهرية والاحجيات المربكة، بمناقشة طبيعة فرضيات علم الاقتصاد المركزية الإيجابية تماما. كما أننا سنجد بان أي إدراك كامل حريص للأسلوب الذي يسهم بموجبه علم الاقتصاد في وجود سلسلات السبب والمسبب (أي وجود سبب لكل ما يتم تسببه) في المجال الاقتصادي سيكون بمقدوره أن يساعدنا على أن نرى كيف يمكن للمعرفة التي تتعلق بهذه السلسلات أن تغذي وتديم طرقا محددة جدا خاصة بتقديم مشورة وإرشاد لصانعي سياسات اقتصادية. فالتعبيرات التي تصف سلسلات السبب والمسبب تتم بالتعبير “يكون”، إلا أن هذا التعبير، كما سوف نرى، بمقدوره، وفق إحساس محدد بعناية، أن يستحدث ويولد التعبير “يجب أن” الذي تتكون منه أية مشورة اقتصادية.
السبب والمسبب في مجال الشؤون الاقتصادية
تأسس علم الاقتصاد كفرع من فروع المعرفة في القرن الثامن عشر، عندما أقر علماء الاقتصاد الكلاسيكيون بان هناك سلسلات سبب ومسبب منتظمة موجودة في أية ظاهرة اقتصادية، (تماما كوجودها في أية ظاهرة فيزيائية طبيعية). وبالرغم من التقدم اللاحق الذي تحقق في وضع الفرضيات الاقتصادية الذي عمل بشكل جذري على تغيير الطريق التي بموجبها يستطيع علماء الاقتصاد أن يفهموا السبب والمسبب الاقتصادية، فان علماء الاقتصاد الكلاسيكيين هم الذين قاموا بتأسيس علم الاقتصاد في هذا الحقل العلمي من المعرفة من خلال تأسيس فكرة سلسلات السبب والمسبب النظامية.
إن الفهم والإدراك الفعليين لهذا الحقل العلمي من المعرفة الاقتصادية (أو “الاقتصاد السياسي” حسبما تمت تسميته من قبل علماء الاقتصاد الكلاسيكيين في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر) يحمل في طياته مضامين ثورية خاصة بالسياسة العامة. وكما أكده ميزس مرات ومرات، فان اكتشاف الأصول النظامية في الظاهرة الاقتصادية يعني أن رجل الدولة السياسي المهتم بالسياسة العامة لم يعد باستطاعته التعامل مع الاقتصاد على كونه معجونا طريا له الحرية في قولبته وفق أي شكل مهما كان نوعه ظنا منه بأنه الأفضل بالنسبة للمجتمع. فكل تصرف سياسي وكل تقييد تشريعي (أي قانون يفرض على نشاط اقتصادي) وكل إعانة مالية عامة، يجب، في الوقت الحالي، أن يتم الإقرار بأنها سوف تكون متبوعة بتداعيات محددة. وقبل أن يتم البدء في أية تعرفة جمركية وقبل أن يتم منح أي حق احتكاري وقبل أن تتم طباعة أية نقود وقبل أن يتم فرض أي نوع من الرقابة على الأسعار، يجب على أولئك الذين يعتبرون كمسؤولين عن سياسة الدولة أن يسألوا أنفسهم عما إذا كانوا قد اخذوا بعين الاعتبار كافة التداعيات التي من المرجح أن تتبع هذه الأفعال وتنجم عنها. وكما اثبت علماء الاقتصاد الكلاسيكيين، يوجد هناك “قوانين” اقتصادية يجب مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار إذا كان من المطلوب تجنب حدوث كارثة اقتصادية.
ولكن، كيف يمكن أن تتواجد مثل هذه “القوانين”؟ فمما لا ريب فيه، سوف تقوم أية استحالة يتم إدراكها بالبديهة باعتراض سبيل أية “قوانين” قد يتم تخيلها لحيلولة دون تواجدها، وهو الأمر الأول المطلوب كي يتم فهم وملاحظة أية أصول نظامية وعلاقات سببية أو وظيفية في أية ظاهرة فيزيائية طبيعية. ولكن، فان توقع وجود مثل هذه الأصول النظامية والعلاقات السببية والوظيفية في أية ظاهرة اقتصادية (والتي تمثل محصلة قرارات وأفعال يتم اتخاذها وإجراؤها بشكل مستقل من قبل الملايين الذين ينتخبون بشكل حر ممثلين فرديين)، سوف يبدو على أنه إدراك حدسي مضاد بشكل فاضح. وعلى ما يظهر، فانه لا مفر من ضمان قيام الممثلين الذين ينتخبون بشكل حر “بإطاعة” الأصول النظامية التي يقر العلم بأنها حاسمة وقاطعة.
إن هذه الصعوبة الادراكية الحدسية هي السبب الأساسي الذي يكمن في حيرة وارتباك كل من واضعي النظريات الاقتصادية والفلاسفة على مدار القرنين الماضيين وفي جدالهم حول ذات الإمكانية المتاحة في علم الاقتصاد وحول صفتها المعرفية النظرية. وقد تم تزويد السلسلة الحالية من المقالات (وبشكل خاص هذه المقالة) بالمعلومات بفضل البصائر النافذة وإطار العمل الفلسفي الذي تم تحديده بالاشتراك مع مدرسة العلوم الاقتصادية النمساوية وعلى وجه الخصوص مع فكر ممثليها، رواد القرن العشرين وهما ميزس وفريدرك هايك.
وضمن إطار العمل الفلسفي هذا، سوف ينصب الاهتمام على غايات وأغراض الكائنات البشرية وعلى الطريقة التي يتم بها إجراء تعديل على توقعات ومعرفة هذه الكائنات البشرية بشكل منهجي منظم من خلال خبرة وتجربة اقتصادية. فالتجربة الاقتصادية المتغيرة تعمل على تغيير الشروط التي بموجبها يجد أولئك الممثلون الفرديون أنفسهم قادرين بالفعل على القيام بالاختيار، وهي أيضا تلك التجربة التي ستقوم بتعليم الممثلين أينما يقومون بارتكاب خطأ التفاؤل المفرط أو التشاؤم المفرط في حكمهم على الشروط التي بموجبها يكون الآخرون على استعداد للمقايضة معهم وان تلك التجربة هي التي أيضا ستعمل على تغيير الممثلين الفرديين تبعا للفرص المستقبلية المتاحة التي لم تعد لغاية الآن موجودة أو التي لم تتم ملاحظتها لغاية هذا الوقت. وضمن هذا الإطار التحليلي، تستطيع أية نظرية اقتصادية أن تقدم أفكارا يتم بموجبها فهم كيف تقوم التغيرات ذات المنشأ الخارجي التي تطرأ على موجودات المصادر المتاحة وعلى المعرفة الفنية والافضليات لدى المستهلكين بإجراء تغيير منظم على ظاهرة السوق والذي، بالتالي، يعمل على تحديد مسار الإنتاج وأنماط تخصيص وتوزيع المصادر. ولكي يتم توضيح هذا النهج نحو التفكير الاستنتاجي دعونا نأخذ على سبيل الفرض “الأصول النظامية” ذات القاعدة الأكبر في اقتصاد السوق ألا وهي “قانون” العرض والطلب.
“قانون” العرض والطلب
هذا الفهم الأساسي لأسعار السوق يقوم بتعريف وتحديد طبيعة واتجاه القوى التي تعمل داخل السوق بالنسبة لكل مادة منتجة وكل مصدر. وينظر هذا الفهم إلى السوق، بالنسبة لأية مادة منتج معين، ولتكن إحدى المنتجات الخاصة بالاستهلاك البشري (كالحليب أو الخدمات التي يقدمها مغني أوبرا على سبيل المثال) أو بالنسبة لأي مصدر (كالمزرعة التي تقوم بزراعة المحاصيل أو الخدمات التي يقدمها مدرس هندسي لتدريب مهندسين على سبيل المثال)، وكأنه سوق في حالة تعديل وتحول متواصل تجري بفعل خبرة وتجربة سوقية وفق نمط منهجي منظم. وقد يتم، في أي وقت معين، عرض “الكثير جدا” أو “القليل جدا” من أية مادة (سلعة أو خدمة) معينة للبيع (أو يتم السعي لشرائها). (ومعنى “الكثير جدا” المعروض من أية مادة للبيع أن هناك الكثير منها معروضا للبيع بشكل يزيد عن السعي للشراء. أما “القليل جدا” المعروض من أية مادة للبيع فيعني أن السعي لشراء تلك المادة، وفق الأسعار المتداولة، سيكون اكثر مما يرغب ببيعه البائعون.) و”قانون” العرض والطلب يقوم بتركيز الاهتمام على وجود قوى سوق عفوية تلقائية تنزع إلى “تصحيح” اختلالات التوازن هذه.
وحيثما يتم عرض “الكثير جدا” من أية مادة (سلعة أو خدمة) للبيع، فان الأسعار الهابطة (الخاصة بتلك المادة المعنية) تنزع إلى تشجيع بعض البائعين (“الحديين” الذين يرفضون البيع إذا هبط الثمن عن حد معين) على خفض الإنتاج لمثل تلك المادة والى تشجيع مشترين محتملين على السعي نحو طلب كميات إضافية بغرض شرائها. وحيثما يتم عرض “القليل جدا” من أية مادة (سلعة أو خدمة) للبيع، فان الأسعار الصاعدة الخاصة بتلك المادة المعنية تنزع إلى تشجيع بائعين محتملين على زيادة إنتاج تلك المادة (وبالتالي الكميات التي ستعرض للبيع) والى تثبيط بعض المشترين (“الحديين” الذين يرفضون الشراء إذا ارتفع الثمن عن حد معين) عن مواصلة الشراء. فإذا كانت عملية الضبط والتوافق هذه في سوق معينة مسموحا لها أن تستمر بشكل غير محدود (أي إذا بقيت تكاليف وتقنيات الإنتاج الخاصة بالمادة المعنية من ناحية، وافضليات المستهلكين، من ناحية أخرى، ثابتة لا تتغير بشكل غير محدود في حين تستمر عمليات الضبط والتوافق في السوق)، فان السوق الخاص بتلك المادة يمكن التصور على كونه سيحوز على “التوازن”. فتوازن السوق سيؤدي إلى حالة تصورية بحيث لا يتم بها عرض “الكثير جدا” ولا“القليل جدا” للبيع من تلك المادة المعنية. وفي مثل هذه الحالة التصورية من التوازن، سوف لن يكون هناك أي نطاق خاص بقوى السوق يعمل على حفزها على الحركة، كما انه في مثل هذه الحالة التصورية من التوازن فان الأسعار والكميات المعروضة للبيع والتي يتم السعي لشرائها سوف تكون بمثل ذلك التوازن نظرا لعدم وجود ميول حافزة لأي منهما لكي تتغير.
وعلى النقيض لما تعلمه العديد من طلبة علم الاقتصاد كي يعتقدوا به، فان “قانون” العرض والطلب لا يقر (عندما يتم فهمه بالشكل المناسب) بان كل سوق سوف يكون متوازنا أو على وشك التوازن في كل لحظة. كما انه لا يقر (بشكل اقل اعتراضا على ما ورد أعلاه) بان الأسواق تنزع بسرعة إلى تحقيق التوازن. والأصح هو أن “القانون” يقر بان ذلك، ولدرجة أن لا يكون السوق في أية لحظة معينة متوازنا، سيقوم بنفسه بحفز قوى تدفع السوق بطريقة مهيمنة باتجاه التوازن.
ومع ذلك، يجب أن يتم الفهم والتأكيد على أن التبديل المتواصل الذي يطرأ على المتغيرات المعنية ذات المنشأ الخارجي (على سبيل المثال تكاليف الإنتاج وتوفر المصادر وأنماط الافضليات لدى المستهلكين) ستقوم بشكل لا يمكن تجنبه تقريبا بضمان أن تكون وضعية التوازن، بالنسبة لأي سوق وفي أية لحظة معينة، مختلفة عما كانت عليه تلك الوضعية في أية لحظة سابقة. وبناء على ذلك، فان قوى السوق التي يتم إطلاقها وتحريرها بواسطة ظروف إخلال التوازن في إحدى اللحظات سوف لن تضمن بكل تأكيد تقريبا أن يتم إحراز التوازن في أية لحظة لاحقة.
وبالرغم من كل ذلك، فان من المعقول والمنطقي أن نشير إلى أن اختلالات التوازن الإجمالية الإضافية التي تتواجد في السوق في أية لحظة معينة سوف تنزع، وفقا لـ”قانون” العرض والطلب، إلى أن يتم تصحيحها. “فالإفراط في العرض” سوف يقوم بالضغط على الأسعار كي تهبط ويثبط همة البائعين الحديين من القيام ببعض الإنتاج ويشجع على القيام بمشتريات إضافية، وبالتالي سوف ينزع نحو التخلص من إخلال التوازن. أما “النقص” فسيعمل في الاتجاه المعكوس، إلا انه سيكون حميدا على قدر المساواة. والآن دعونا نتفحص لماذا يمكن أن يتم وصف التخلص من هذه “الاختلالات في التوازن” على كونه “حميدا”. ففي المقالة الختامية من هذه السلسلة، سوف يكون هذا التحليل مساعدا لنا على فهم الحس الواعي الذي يمكن بموجبه لأية نظرية اقتصادية، وفق أسلوب موضوعي علميا، أن تقوم بنشر وترويج مشورة سياسة اقتصادية سليمة.
اختلال السوق – لمَ يتم التأسف عليه؟
دعونا ندرس حالة “الإنتاج المفرط” في سوق معينة (على أن يتم اعتبار مثل ذلك السوق وكأنه سوق معزول ومنعزل عن الأسواق الأخرى). ولسبب يعود إلى سوء في الحسابات أو لأي خطأ آخر، عملت القرارات التي اتخذها المنتجون في السوق على المغالاة في تقدير شغف المشترين بالشراء. والكميات التي عرضت للبيع والأسعار المتوقعة منها التي قام بطلبها بائعون محتملون لم يقابلها قرارات والتي سيقوم باتخاذها مشترون محتملون (وبالتالي تلك الأسعار التي بموجبها سيتوقع المشترون المحتملون أن يكونوا قادرين على الشراء والتي بموجبها أيضا سيكون لديهم الرغبة في الشراء). إن هذا الاختلال في التوازن سيتطابق مع قرارات تم اتخاذها بحيث ثبت في النهاية على أنها قرارات مخيبة للآمال ومع قرارات تم اتخاذها انتهت إلى انه قد تم التأسف عليها. هناك بعض البائعين المحتملين (الذين قد يقوموا بطريقة مغايرة بتقديم عروض للبيع وفق أسعار منخفضة، لكنهم قد يكونوا قد صمدوا وقدموا بشكل خاطئ أسعارا مرتفعة) قد يفشلوا وتخيب آمالهم من حيث عدم تمكن خططهم للبيع وفق أسعار مرتفعة من التنفيذ الناجح. وقد يشعر أيضا هؤلاء البائعون بالأسف والندم على رفضهم العرض بالبيع وفق أسعار منخفضة أو انهم قد يشعرون بالأسف على قراراتهم التي اتخذوها بشكل مسبق من ناحية الإنتاج. فإخفاق القرارات التي يتخذها بعض البائعين المحتملين لنقل الحركة مع قرارات متوافقة يتخذها المشترون المحتملون يكشف عن “خطأ” هذه القرارات كلها والذي هو مصدر خيبة الأمل والأسف.
هناك نمط من القرارات والذي يكون مختلفا واكثر دقة، يتخذه كل من مشترين محتملين وبائعين محتملين قد يسمح لهم بالوصول إلى تنفيذ خططهم بشكل اكثر نجاحا مما يخطر على البال فعلا. وعند قيام اثنين من المشاركين في السوق بالدخول في مبادلة طوعية لمنفعة مشتركة بينهما (كأن تكون على سبيل المثال وفق سعر منخفض) فان إخفاقهم في إنجاز ذلك (بسبب عائد إلى ارتكاب “خطأ” ما) سوف يبدو، على الأقل من الوهلة الأولى، بأنه سوء حظ لا لبس فيه بالنسبة لكل واحد منهما. وعلى ما يظهر، منذ الوهلة الأولى، بان لا أحد منهما سوف يكسب أي شيء من خلال حقيقة كونهما لم يقوما باتخاذ الخطوات الكامنة نحو تحقيق المنفعة المشتركة.
وبناء على ذلك، إذا كنا على صواب في هذا الحكم، فان عملية السوق التي تقوم حسب “قانون” العرض والطلب الخاص بنا بحفز ميول ونزعات السوق المتواصلة باتجاه تصحيح مثل تلك الاختلالات في التوازن، سوف تبدو بأنها حميدة لأنها تنزع إلى اكتشاف وتصحيح قرارات السوق “الخاطئة” وهي تلك القرارات التي تعمل على إحباط استغلال المبادلات المربحة المشتركة المحتملة.
وبالرغم من أننا كنا حريصين على التعبير الصريح عن هذا الحكم (أو الرأي) المساند والمؤيد بطريقة صارمة (من ناحية نتيجة “قانون” العرض والطلب) وفق شروط أولية، فإننا سنجد بان ذلك الحكم هو في الحقيقة قد صمد بشكل نشط وقوي اكثر مما قمنا بافتراضه. وكما سوف نرى في المقالة الختامية من هذه السلسلة، فان ذلك الحكم سوف ينزع إلى الصمود حتى عندما نقوم بإهمال الافتراضات المحددة التي وردت في هذا القسم من المقالة. هناك مفهوم أو إحساس محدد والذي بموجبه تؤدي نظرية العرض والطلب “الإيجابية” بشكل يتعذر تجنبه إلى فهم صفتها الحميدة من الناحية الاجتماعية (بمعنى تلميحاتها ومضامينها “المعيارية”). وقمنا هنا، فعلا، بإلقاء نظرة سريعة على الأساس الخاص بالمشورة الاقتصادية ذات القاعدة العلمية، إلا أن المقالة الحالية لم تقم بعد بإكمال شرحها وعرضها للعمل الإيجابي لـ”قانون” العرض والطلب. وقبل أن نمضي قدما بشكل ابعد من ذلك، فان علينا أن نكشف بطريقة اكثر حذرا تماماكيف يقوم هذا “القانون” بتحقيق سحره، أي ميله نحو تصحيح اختلال توازن السوق. وسوف نجد بان المناقشة المعيارية في هذا القسم من المقالة يمكنها أن تساعدنا على فهم العمل “الإيجابي” لعملية السوق المنافسة.
كيف يعمل السوق
إن اختلال توازن السوق، كما رأينا، يعكس ويعبر عن قرارات تم اتخاذها بشكل خاطئ. فالذين شاركوا في السوق قد تم تركهم وهم خائبو الآمال مع بضائعهم غير المباعة. فلو أنهم كانوا يعرفون ذلك بشكل مسبق لكانوا قد أنتجوا عدد وحدات اقل من هذا النوع من البضائع وحتى انهم لكانوا قد تحولوا إلى خطوط إنتاج بضاعة تختلف عما لديهم أو لكانوا قد سعدوا بالبيع وفق أسعار أقل (فالسبب الوحيد الذي جعلهم يخفقون في القيام بذلك هو انهم قد اقتنعوا بشكل خاطئ بان لديهم القدرة على الحصول على أسعار أعلى).
علينا أن نلاحظ بان هذا المفهوم المتعلق باختلال توازن السوق يشير، في الواقع، إلى وجود نوعينمميزين من الأخطاء. النوع الأول من الأخطاء الذي ارتكبه المشاركون في السوق، حسب رأينا، هو انه ببساطة لم يتم استغلال والاستفادة من فرص تبادل مربحة مشتركة (وبنفس هذه الطريقة عندما تكون أسعار السوق “مرتفعة جدا”، محدثة بذلك عروضا خاصة بالبيع والتي يتم رفضها، ويعني ذلك، على الأرجح، بان المبيعات المربحة المشتركة كان من الممكن أن تتم، من حيث المبدأ، لو تم البيع وفق أسعار اقل.) أما النوع الثاني من الأخطاء فيعني بان بعض المشاركين في السوق قد انقادوا إلى الاعتقاد(بشكل خاطئ تماما) بان فرص التبادل المربح المشترك موجودة فعلا (والتي هي غير موجودة). وهكذا، فقد اخفق النوع الأول من هذين النوعين من الأخطاء في التعرف على فرص كانت قائمة، أما النوع الثاني من الأخطاء فهو الذي قام “برؤية” فرص كانت في حقيقة الأمر فرصا غير موجودة. وقد يصف المرء النوع الأول من الأخطاء على أنه أحد الأشياء التشاؤمية غير الملائمة (أي الإخفاق في رؤية فرص تحدق فعلا في وجه المرء)، في حين يتم وصف النوع الثاني من الأخطاء على أنه أحد الأشياء المفرطة في التفاؤل غير الملائم وغير المبرر. ويمكن لهذا التبصر النافذ أن يساعدنا على فهم عملية ضبط السوق وعمل “قانون” العرض والطلب.
والآن دعونا ننظر إلى أخطاء التفاؤلية المفرطة. ففي أي مكان تحدث به مثل هذه الأخطاء، سوف يتم الاكتشاف (وبالتالي يتم التصحيح بشكل افتراضي) بان أخطاء التفاؤلية المفرطة هذه هي في الغالب حتمية ليس من الممكن تجنبها. فخبرة المرء في السوق سوف تكشف عن الموقع الذي كان هو نفسه فيه مفرطا في التفاؤل وسوف تكشف عن أن الفرص التي كان من المتوقع أن يقوم ذلك المرء بمواجهتها بشكل مفرط في التفاؤل هي ببساطة فرص لم تحدث. ومثل هذه الخبرة في مطاردة وتتبع الفرص سوف تنزع، وبشكل حتمي تقريبا، إلى أن تكبح جماح توقعات وحدس السوق المفرطة في التفاؤل. وستقوم مثل هذه الخبرة بـ”تعليمنا” أين وكيف تكون مثل تلك التوقعات الأكثر واقعية في وضعية منظمة. وحيثما يكون البائعون المفترضون المفرطون في التفاؤل يرفضون، على سبيل المثال، أن يبيعوا وفق أسعار منخفضة (واثقين تماما، لكنه بشكل خاطئ، وهم يتوقعون بان يتم البيع بأسعار مرتفعة)، فان تجربتهم وخبرتهم المخيبة للآمال في السوق تنزع إلى تعليمهم بان يقوموا بخفض الأسعار المطلوبة).
ولكن النوع الثاني من الأخطاء (والذي يعبر عن التشاؤمية غير الملائمة) سوف لا يبدو بأنه قادر على القيام بتصحيح “تلقائي” وفق أية طريقة مماثلة. فالفرصة (الخاصة بتبادل نافع بشكل مشترك) التي لا تتم رؤيتها في الوقت الحاضر من قبل الأطراف المعنية (والتي بناء على ذلك لا يتم استغلالها) قد لا تتم رؤيتها أيضا يوم غد (حتى وان كانت ما تزال موجودة غدا). والآن دعونا نأخذ مثالا على ذلك. إذا كانت الأسعار المختلفة الخاصة “بنفس” المادة (السلعة أو الخدمة) كانت قد سادت في أنحاء مختلفة في “نفس” السوق، فان ذلك سوف يكون أحد الاحتمالات التي قد يتم بموجبه حدوث تواجد لفرص مبادلة نافعة مشتركة إلا أنها قد تمت إضاعتها. وبالرغم من كل ذلك، ففي أي سوق يقوم به مشترون بالشراء وفق أسعار مرتفعة في حين يكون هناك بعض البائعين الذين يبيعون وفق أسعار منخفضة، سوف يكون لدينا وضعا بحيث يكون هؤلاء البائعون والمشترون وقد استفادوا تماما من التبادل مع بعضهم البعض وفق أحد الأسعار الأقل من تلك الأسعار المرتفعة والتي بموجبها قام المشترون بالشراء، إلا أنها أعلى من تلك الأسعار المنخفضة التي بموجبها كان البائعون يبيعون بها. ومن الواضح بان هؤلاء المشاركين في السوق كانوا مجرد جاهلين على غير دراية بما يجري في مكان آخر في نفس السوق. ولكن على ما يظهر، لا يوجد هناك أسلوب واضح يتم به استبدال مثل ذلك الجهل وعدم الدراية بطريقة عفوية تلقائية بمعلومات ممتازة عن السوق. كما انه على ما يبدو، لا يوجد هناك طريقة واضحة والتي من خلالها قد ينزع السوق إلى استبدال أسعار سوق متباعدة بشكل كبير بأسعار اقل تباعدا.
ومن هنا، تعتبر عملية السوق العفوية التلقائية بأنها عملية تتوقف على اليقظة الريادية بخصوص إحدى النزعات الأكثر أهمية (والمعترف بها على نطاق واسع) في سوق حر ومنافس: وهي أن الأسعار الخاصة بنفس المادة (السلعة أو الخدمة) سوف تتحرك فعلا باتجاه سعر منفرد في جميع أنحاء السوق.
اليقظة الريادية

أحد العناصر الأقل وضوحا لكنه برغم ذلك من اكثر العناصر قوة والعاملة في الأسواق هو عنصر اليقظة الريادية، أي نزوع الكائنات البشرية إلى ملاحظة الشيء الذي يكون من مصلحتها أن تلاحظه. فالمشترون الذين يقومون بالشراء بدفع أسعار عالية بغير ضرورة لذلك فانهم سوف ينزعون بالفعل، عاجلا أم آجلا، إلى اكتشاف أين يمكنهم الحصول على سلع مشابهة وفق أسعار اقل إلى حد كبير. والبائعون الذين يقومون بالبيع بأسعار مخفضة بغير ضرورة لذلك فانهم سوف ينزعون بالفعل إلى اكتشاف أين يمكنهم إيجاد مشترين راغبين في دفع أسعار عالية. إضافة لذلك، سوف يكتشف الرياديون، عاجلا أم آجلا، بأنهم قادرون على كسب ربح صاف بمجرد شرائهم وفق أسعار مخفضة والبيع وفق أسعار مرتفعة. إننا نشعر بأننا فعلا مقتنعون بان الأسعار المتباعدة بشكل كبير في نفس السوق والتي تخص منتجا معينا أو مصدرا معينا سوف تفتح الطريق وفق هذا الأسلوب أمام قوى منافسة تنزع إلى دفع هذه الأسعار المتباعدة للتوجه للاقتراب نحو بعضها البعض. وبهذا الشكل، وكنتيجة لليقظة الريادية فان الأخطاء الناجمة عن التشاؤم غير الملائم سوف تنزع إلى التصحيح.
وهكذا، فان “قانون” العرض والطلب يقوم بشرح وتفسير سلسلات السببية الاقتصادية مصحوبا بكل بعد من البعدين المتميزين التاليين: البعد الأول، وهو كما رأيناه في البداية، يعمل باتجاه تصحيح اختلالات توازن السوق لمواد (سلع أو خدمات) معينة. والبعد الثاني يعمل بهدف تصحيح مثل تلك الاختلالات في التوازن بنفس الوقت الذي يقوم به بتصحيح ظاهرة الأسعار المتباعدة لكل مادة من مثل تلك المواد. وتعمل قوى العرض والطلب على تصحيح القرارات “الخاطئة” التي تكون متفائلة بشكل غير ملائم، بنفس الوقت الذي تعمل به على تصحيح القرارات “الخاطئة” التي تكون مفرطة في التشاؤم.
نطاق تحليلنا الواسع

لقد كانت مناقشتنا، لغاية هذه النقطة، بسيطة كل البساطة في كل من افتراضاتها وموادها الرئيسية. ولقد قمنا بالحديث عن السوق الخاصة “بمادة (سلعة أو خدمة) معينة” في حين قمنا بالافتراض بان هذا السوق هو سوق معزول ومنعزل عن كافة الأسواق الأخرى. وعندما يقوم أحد ما بتوسيع وجهة نظر تحليلية لشخص ما كي تشتمل على الأسواق الخاصة بمنتجات ومصادر لا تعد ولا تحصى التي قد يتم شراؤها وبيعها ولكي تشتمل أيضا ليس فقط على مجرد قرارات شراء وبيع بل أيضا على قرارات تتعلق بالأشياء التي يتوجب إنتاجها وبكيفية إنتاج هذه الأشياء، فانه قد يبدو، في الوقت الحالي، بأننا في عالم من تعقيدات عقل متردد، يكون لتحليلاتنا البسيطة غير المعقدة ارتباطا ضئيلا به. إلا أن ذلك ليس هو الحال. فالبصائر النافذة التي وردت في الأقسام السابقة من هذه المقالة لها فعلا ارتباط مباشر حتى بالنسبة للأسواق المتشابكة الأكثر تعقيدا.
لننظر على سبيل المثال إلى سوق يتم به إنتاج مادة (سلعة أو خدمة) معينة ولتكن مادة المنتج “ج” من خلال دمج المدخل “أ” مع المدخل “ب” طبقا لبعض الوصفات الإنتاجية. ولنتصور بان يكون مثل ذلك الإنتاج عالي الربح. ولدى دمج المدخل “أ” مع المدخل “ب” فان تكاليف هذا الدمج، بحسب مستوى مخرجات معينة، ستكون اقل إلى حد كبير من الإيرادات التي سيتم تحصيلها من بيع المنتج “ج” في سوق السلع الاستهلاكية. مثل هذا الاحتمال أو التصور قد يبدو بأنه، إلى حد ما، معقد (في حال مقارنته مع الاحتمالات التي تم بحثها قبل ذلك). ولكن، يجب علينا أن نلاحظ بان مثل هذا الاحتمال هو من بين الاحتمالات التي يقوم المشترون بموجبها بدفع أسعار أعلى مما هو ضروري وأن البائعين يبيعون بأسعار اقل مما هو ضروري، تماما كما هو الحال لدى سوق سلعة أو خدمة منفردة والتي تم بحثها في القسم السابق من هذه المقالة. وبناء عليه، فان أولئك الذين يبيعون المدخلين “أ” و”ب” بأسعار يكون مجموعهما اقل من السعر الذي يتم دفعه للمنتج “ج”، قد يكونوا، من حيث المبدأ، أنتجوا المنتج “ج” وباعوه بسعر أعلى (بما أن المدخلين “أ” و”ب” هما المطلوبان فقط لإنتاج المنتج “ج”). فربحية هذا الخط من الإنتاج ستنتج عن تباعد (مخفي) في الأسعار “التي تخص نفس مادة المنتج” في نفس السوق (أي أنها ناتجة عن ظروف يمكن في ظلها شراء كل شيء يلزم لإنتاج المنتج “ج” بسعر اقل من سعر السوق بالنسبة للمنتج “ج”). وهكذا، من الممكن لنا أن نتوقع (ما لم نفترض وجود تحكم احتكاري يسيطر على الوصول إلى مصدري المدخلين “أ” و”ب”) بان تنزع مثل هذه الربحية إلى جذب انتباه ويقظة ريادية منافسة، وهو الشيء الذي سوف ينزع إلى إزالة ربحية هذا الخط من الإنتاج (بفعل الضغط على سعر المنتج “ج” ومجموع سعري المدخلين “أ” و”ب” معا كي يقتربا من بعضهما بشكل وثيق).
وبالرغم من كون هذا الموقع ليس هو بالمكان الملائم للتحليل بهذا الشكل، إلا أن أي تحليل مشابه يتم القيام به سيكون بإمكانه أن يثبت بان هناك ارتباطا واسعا بين البحث الذي أجريناه من قبل حول “قانون” العرض والطلب وبين الجوانب الرئيسية، على اقل تقدير، لاحتمالات السوق المعقدة.
السبب والمسبب في الشؤون الاقتصادية
لقد عمل البحث الذي قمنا به على إيضاح الطريقة التي تقوم بموجبها النظرية الاقتصادية البسيطة بتعليل وجود سلسلات سبب ومسبب محددة ومنتظمة في مجال الشؤون الاقتصادية. وبالفعل، هناك طرق محددة موجودة يتم وفقها اتخاذ قرارات اقتصادية في أية فترة واحدة تنزع إلى أن تأخذ بالاعتبار المنتظم تلك القرارات الأخرى التي يتم اتخاذها في نفس السوق. وبهذه الطريقة، تقوم أية قرارات يتم إصدارها بصياغة وقولبة بعضها البعض وفق أسلوب منهجي منتظم. كما أننا رأينا كيف يمكن لذلك الأسلوب، والذي بموجبه تنزع مثل تلك “القولبة” إلى البروز، أن يبدو وكأنه، للوهلة الأولى على اقل تقدير، يستحق بان يدعى باسم “الحميد”. ومثل هذا التحليل البسيط سوف يساعدنا على أن نفهم، من حيث المبدأ، كيف يمكن للنظرية الاقتصادية أن تؤدي إلى صدور أحكام وآراء تتعلق “بجودة وصلاح” مبادرات سياسة عامة معينة من خلال التداعيات والتبعات الواعدة لمثل تلك المبادرات.
والآن، نحن على استعداد أن نقوم، في المقالة الأخيرة من هذه السلسلة، بمعالجة المسألة التي تم عرضها في بداية المقالة الأولى، وهي: هل يمكن أن تتم ترجمة الفهم الاقتصادي الإيجابي اليقيني إلىمشورة اقتصادية موضوعية ومشروعة علميا؟
مجلة فريمان، أيلول 2006.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 15 حزيران 2007.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018