إزرائيل إم. كيرزنر

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

كيف يمكن أن تتم ترجمة العلوم الإيجابية واليقينية (المعبر عنها بالكامل بالتعبير “يكون”) إلى التعبير عنها بـ”يجب أن” ضمن إطار المفهوم الاقتصادي؟ في الجزء الأول من هذه السلسلة، قمنا بجذب الانتباه إلى بعض التناقضات الظاهرية التي تحيط بالمشورة الاقتصادية. وقمنا، على وجه الخصوص، بجذب انتباه مربك ومحير إلى المناصرة والدفاع الانفعالي العاطفي الذي دافع به لودفيغ فون ميزس عن ترتيبات وأنظمة السوق الحر، وهو نفس لودفيغ فون ميزس الذي أصر على موقف (“حرية القيمة”) فيرتفرايهايتالأكثر تجريديا وحيادية والذي يجب أن يتم القيام به من جانب كافة علماء الاجتماع. وفي هذه المقالة، الحالية، سنقوم، كخطوة باتجاه توضيح هذه التناقضات الظاهرية والاحجيات المربكة، بمناقشة طبيعة فرضيات علم الاقتصاد المركزية الإيجابية تماما. كما أننا سنجد بان أي إدراك كامل حريص للأسلوب الذي يسهم بموجبه علم الاقتصاد في وجود سلسلات السبب والمسبب (أي وجود سبب لكل ما يتم تسببه) في المجال الاقتصادي سيكون بمقدوره أن يساعدنا على أن نرى كيف يمكن للمعرفة التي تتعلق بهذه السلسلات أن تغذي وتديم طرقا محددة جدا خاصة بتقديم مشورة وإرشاد لصانعي سياسات اقتصادية. فالتعبيرات التي تصف سلسلات السبب والمسبب تتم بالتعبير “يكون”، إلا أن هذا التعبير، كما سوف نرى، بمقدوره، وفق إحساس محدد بعناية، أن يستحدث ويولد التعبير “يجب أن” الذي تتكون منه أية مشورة اقتصادية.
السبب والمسبب في مجال الشؤون الاقتصادية
تأسس علم الاقتصاد كفرع من فروع المعرفة في القرن الثامن عشر، عندما أقر علماء الاقتصاد الكلاسيكيون بان هناك سلسلات سبب ومسبب منتظمة موجودة في أية ظاهرة اقتصادية، (تماما كوجودها في أية ظاهرة فيزيائية طبيعية). وبالرغم من التقدم اللاحق الذي تحقق في وضع الفرضيات الاقتصادية الذي عمل بشكل جذري على تغيير الطريق التي بموجبها يستطيع علماء الاقتصاد أن يفهموا السبب والمسبب الاقتصادية، فان علماء الاقتصاد الكلاسيكيين هم الذين قاموا بتأسيس علم الاقتصاد في هذا الحقل العلمي من المعرفة من خلال تأسيس فكرة سلسلات السبب والمسبب النظامية.
إن الفهم والإدراك الفعليين لهذا الحقل العلمي من المعرفة الاقتصادية (أو “الاقتصاد السياسي” حسبما تمت تسميته من قبل علماء الاقتصاد الكلاسيكيين في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر) يحمل في طياته مضامين ثورية خاصة بالسياسة العامة. وكما أكده ميزس مرات ومرات، فان اكتشاف الأصول النظامية في الظاهرة الاقتصادية يعني أن رجل الدولة السياسي المهتم بالسياسة العامة لم يعد باستطاعته التعامل مع الاقتصاد على كونه معجونا طريا له الحرية في قولبته وفق أي شكل مهما كان نوعه ظنا منه بأنه الأفضل بالنسبة للمجتمع. فكل تصرف سياسي وكل تقييد تشريعي (أي قانون يفرض على نشاط اقتصادي) وكل إعانة مالية عامة، يجب، في الوقت الحالي، أن يتم الإقرار بأنها سوف تكون متبوعة بتداعيات محددة. وقبل أن يتم البدء في أية تعرفة جمركية وقبل أن يتم منح أي حق احتكاري وقبل أن تتم طباعة أية نقود وقبل أن يتم فرض أي نوع من الرقابة على الأسعار، يجب على أولئك الذين يعتبرون كمسؤولين عن سياسة الدولة أن يسألوا أنفسهم عما إذا كانوا قد اخذوا بعين الاعتبار كافة التداعيات التي من المرجح أن تتبع هذه الأفعال وتنجم عنها. وكما اثبت علماء الاقتصاد الكلاسيكيين، يوجد هناك “قوانين” اقتصادية يجب مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار إذا كان من المطلوب تجنب حدوث كارثة اقتصادية.
ولكن، كيف يمكن أن تتواجد مثل هذه “القوانين”؟ فمما لا ريب فيه، سوف تقوم أية استحالة يتم إدراكها بالبديهة باعتراض سبيل أية “قوانين” قد يتم تخيلها لحيلولة دون تواجدها، وهو الأمر الأول المطلوب كي يتم فهم وملاحظة أية أصول نظامية وعلاقات سببية أو وظيفية في أية ظاهرة فيزيائية طبيعية. ولكن، فان توقع وجود مثل هذه الأصول النظامية والعلاقات السببية والوظيفية في أية ظاهرة اقتصادية (والتي تمثل محصلة قرارات وأفعال يتم اتخاذها وإجراؤها بشكل مستقل من قبل الملايين الذين ينتخبون بشكل حر ممثلين فرديين)، سوف يبدو على أنه إدراك حدسي مضاد بشكل فاضح. وعلى ما يظهر، فانه لا مفر من ضمان قيام الممثلين الذين ينتخبون بشكل حر “بإطاعة” الأصول النظامية التي يقر العلم بأنها حاسمة وقاطعة.
إن هذه الصعوبة الادراكية الحدسية هي السبب الأساسي الذي يكمن في حيرة وارتباك كل من واضعي النظريات الاقتصادية والفلاسفة على مدار القرنين الماضيين وفي جدالهم حول ذات الإمكانية المتاحة في علم الاقتصاد وحول صفتها المعرفية النظرية. وقد تم تزويد السلسلة الحالية من المقالات (وبشكل خاص هذه المقالة) بالمعلومات بفضل البصائر النافذة وإطار العمل الفلسفي الذي تم تحديده بالاشتراك مع مدرسة العلوم الاقتصادية النمساوية وعلى وجه الخصوص مع فكر ممثليها، رواد القرن العشرين وهما ميزس وفريدرك هايك.
وضمن إطار العمل الفلسفي هذا، سوف ينصب الاهتمام على غايات وأغراض الكائنات البشرية وعلى الطريقة التي يتم بها إجراء تعديل على توقعات ومعرفة هذه الكائنات البشرية بشكل منهجي منظم من خلال خبرة وتجربة اقتصادية. فالتجربة الاقتصادية المتغيرة تعمل على تغيير الشروط التي بموجبها يجد أولئك الممثلون الفرديون أنفسهم قادرين بالفعل على القيام بالاختيار، وهي أيضا تلك التجربة التي ستقوم بتعليم الممثلين أينما يقومون بارتكاب خطأ التفاؤل المفرط أو التشاؤم المفرط في حكمهم على الشروط التي بموجبها يكون الآخرون على استعداد للمقايضة معهم وان تلك التجربة هي التي أيضا ستعمل على تغيير الممثلين الفرديين تبعا للفرص المستقبلية المتاحة التي لم تعد لغاية الآن موجودة أو التي لم تتم ملاحظتها لغاية هذا الوقت. وضمن هذا الإطار التحليلي، تستطيع أية نظرية اقتصادية أن تقدم أفكارا يتم بموجبها فهم كيف تقوم التغيرات ذات المنشأ الخارجي التي تطرأ على موجودات المصادر المتاحة وعلى المعرفة الفنية والافضليات لدى المستهلكين بإجراء تغيير منظم على ظاهرة السوق والذي، بالتالي، يعمل على تحديد مسار الإنتاج وأنماط تخصيص وتوزيع المصادر. ولكي يتم توضيح هذا النهج نحو التفكير الاستنتاجي دعونا نأخذ على سبيل الفرض “الأصول النظامية” ذات القاعدة الأكبر في اقتصاد السوق ألا وهي “قانون” العرض والطلب.
“قانون” العرض والطلب
هذا الفهم الأساسي لأسعار السوق يقوم بتعريف وتحديد طبيعة واتجاه القوى التي تعمل داخل السوق بالنسبة لكل مادة منتجة وكل مصدر. وينظر هذا الفهم إلى السوق، بالنسبة لأية مادة منتج معين، ولتكن إحدى المنتجات الخاصة بالاستهلاك البشري (كالحليب أو الخدمات التي يقدمها مغني أوبرا على سبيل المثال) أو بالنسبة لأي مصدر (كالمزرعة التي تقوم بزراعة المحاصيل أو الخدمات التي يقدمها مدرس هندسي لتدريب مهندسين على سبيل المثال)، وكأنه سوق في حالة تعديل وتحول متواصل تجري بفعل خبرة وتجربة سوقية وفق نمط منهجي منظم. وقد يتم، في أي وقت معين، عرض “الكثير جدا” أو “القليل جدا” من أية مادة (سلعة أو خدمة) معينة للبيع (أو يتم السعي لشرائها). (ومعنى “الكثير جدا” المعروض من أية مادة للبيع أن هناك الكثير منها معروضا للبيع بشكل يزيد عن السعي للشراء. أما “القليل جدا” المعروض من أية مادة للبيع فيعني أن السعي لشراء تلك المادة، وفق الأسعار المتداولة، سيكون اكثر مما يرغب ببيعه البائعون.) و”قانون” العرض والطلب يقوم بتركيز الاهتمام على وجود قوى سوق عفوية تلقائية تنزع إلى “تصحيح” اختلالات التوازن هذه.
وحيثما يتم عرض “الكثير جدا” من أية مادة (سلعة أو خدمة) للبيع، فان الأسعار الهابطة (الخاصة بتلك المادة المعنية) تنزع إلى تشجيع بعض البائعين (“الحديين” الذين يرفضون البيع إذا هبط الثمن عن حد معين) على خفض الإنتاج لمثل تلك المادة والى تشجيع مشترين محتملين على السعي نحو طلب كميات إضافية بغرض شرائها. وحيثما يتم عرض “القليل جدا” من أية مادة (سلعة أو خدمة) للبيع، فان الأسعار الصاعدة الخاصة بتلك المادة المعنية تنزع إلى تشجيع بائعين محتملين على زيادة إنتاج تلك المادة (وبالتالي الكميات التي ستعرض للبيع) والى تثبيط بعض المشترين (“الحديين” الذين يرفضون الشراء إذا ارتفع الثمن عن حد معين) عن مواصلة الشراء. فإذا كانت عملية الضبط والتوافق هذه في سوق معينة مسموحا لها أن تستمر بشكل غير محدود (أي إذا بقيت تكاليف وتقنيات الإنتاج الخاصة بالمادة المعنية من ناحية، وافضليات المستهلكين، من ناحية أخرى، ثابتة لا تتغير بشكل غير محدود في حين تستمر عمليات الضبط والتوافق في السوق)، فان السوق الخاص بتلك المادة يمكن التصور على كونه سيحوز على “التوازن”. فتوازن السوق سيؤدي إلى حالة تصورية بحيث لا يتم بها عرض “الكثير جدا” ولا“القليل جدا” للبيع من تلك المادة المعنية. وفي مثل هذه الحالة التصورية من التوازن، سوف لن يكون هناك أي نطاق خاص بقوى السوق يعمل على حفزها على الحركة، كما انه في مثل هذه الحالة التصورية من التوازن فان الأسعار والكميات المعروضة للبيع والتي يتم السعي لشرائها سوف تكون بمثل ذلك التوازن نظرا لعدم وجود ميول حافزة لأي منهما لكي تتغير.
وعلى النقيض لما تعلمه العديد من طلبة علم الاقتصاد كي يعتقدوا به، فان “قانون” العرض والطلب لا يقر (عندما يتم فهمه بالشكل المناسب) بان كل سوق سوف يكون متوازنا أو على وشك التوازن في كل لحظة. كما انه لا يقر (بشكل اقل اعتراضا على ما ورد أعلاه) بان الأسواق تنزع بسرعة إلى تحقيق التوازن. والأصح هو أن “القانون” يقر بان ذلك، ولدرجة أن لا يكون السوق في أية لحظة معينة متوازنا، سيقوم بنفسه بحفز قوى تدفع السوق بطريقة مهيمنة باتجاه التوازن.
ومع ذلك، يجب أن يتم الفهم والتأكيد على أن التبديل المتواصل الذي يطرأ على المتغيرات المعنية ذات المنشأ الخارجي (على سبيل المثال تكاليف الإنتاج وتوفر المصادر وأنماط الافضليات لدى المستهلكين) ستقوم بشكل لا يمكن تجنبه تقريبا بضمان أن تكون وضعية التوازن، بالنسبة لأي سوق وفي أية لحظة معينة، مختلفة عما كانت عليه تلك الوضعية في أية لحظة سابقة. وبناء على ذلك، فان قوى السوق التي يتم إطلاقها وتحريرها بواسطة ظروف إخلال التوازن في إحدى اللحظات سوف لن تضمن بكل تأكيد تقريبا أن يتم إحراز التوازن في أية لحظة لاحقة.
وبالرغم من كل ذلك، فان من المعقول والمنطقي أن نشير إلى أن اختلالات التوازن الإجمالية الإضافية التي تتواجد في السوق في أية لحظة معينة سوف تنزع، وفقا لـ”قانون” العرض والطلب، إلى أن يتم تصحيحها. “فالإفراط في العرض” سوف يقوم بالضغط على الأسعار كي تهبط ويثبط همة البائعين الحديين من القيام ببعض الإنتاج ويشجع على القيام بمشتريات إضافية، وبالتالي سوف ينزع نحو التخلص من إخلال التوازن. أما “النقص” فسيعمل في الاتجاه المعكوس، إلا انه سيكون حميدا على قدر المساواة. والآن دعونا نتفحص لماذا يمكن أن يتم وصف التخلص من هذه “الاختلالات في التوازن” على كونه “حميدا”. ففي المقالة الختامية من هذه السلسلة، سوف يكون هذا التحليل مساعدا لنا على فهم الحس الواعي الذي يمكن بموجبه لأية نظرية اقتصادية، وفق أسلوب موضوعي علميا، أن تقوم بنشر وترويج مشورة سياسة اقتصادية سليمة.
اختلال السوق – لمَ يتم التأسف عليه؟
دعونا ندرس حالة “الإنتاج المفرط” في سوق معينة (على أن يتم اعتبار مثل ذلك السوق وكأنه سوق معزول ومنعزل عن الأسواق الأخرى). ولسبب يعود إلى سوء في الحسابات أو لأي خطأ آخر، عملت القرارات التي اتخذها المنتجون في السوق على المغالاة في تقدير شغف المشترين بالشراء. والكميات التي عرضت للبيع والأسعار المتوقعة منها التي قام بطلبها بائعون محتملون لم يقابلها قرارات والتي سيقوم باتخاذها مشترون محتملون (وبالتالي تلك الأسعار التي بموجبها سيتوقع المشترون المحتملون أن يكونوا قادرين على الشراء والتي بموجبها أيضا سيكون لديهم الرغبة في الشراء). إن هذا الاختلال في التوازن سيتطابق مع قرارات تم اتخاذها بحيث ثبت في النهاية على أنها قرارات مخيبة للآمال ومع قرارات تم اتخاذها انتهت إلى انه قد تم التأسف عليها. هناك بعض البائعين المحتملين (الذين قد يقوموا بطريقة مغايرة بتقديم عروض للبيع وفق أسعار منخفضة، لكنهم قد يكونوا قد صمدوا وقدموا بشكل خاطئ أسعارا مرتفعة) قد يفشلوا وتخيب آمالهم من حيث عدم تمكن خططهم للبيع وفق أسعار مرتفعة من التنفيذ الناجح. وقد يشعر أيضا هؤلاء البائعون بالأسف والندم على رفضهم العرض بالبيع وفق أسعار منخفضة أو انهم قد يشعرون بالأسف على قراراتهم التي اتخذوها بشكل مسبق من ناحية الإنتاج. فإخفاق القرارات التي يتخذها بعض البائعين المحتملين لنقل الحركة مع قرارات متوافقة يتخذها المشترون المحتملون يكشف عن “خطأ” هذه القرارات كلها والذي هو مصدر خيبة الأمل والأسف.
هناك نمط من القرارات والذي يكون مختلفا واكثر دقة، يتخذه كل من مشترين محتملين وبائعين محتملين قد يسمح لهم بالوصول إلى تنفيذ خططهم بشكل اكثر نجاحا مما يخطر على البال فعلا. وعند قيام اثنين من المشاركين في السوق بالدخول في مبادلة طوعية لمنفعة مشتركة بينهما (كأن تكون على سبيل المثال وفق سعر منخفض) فان إخفاقهم في إنجاز ذلك (بسبب عائد إلى ارتكاب “خطأ” ما) سوف يبدو، على الأقل من الوهلة الأولى، بأنه سوء حظ لا لبس فيه بالنسبة لكل واحد منهما. وعلى ما يظهر، منذ الوهلة الأولى، بان لا أحد منهما سوف يكسب أي شيء من خلال حقيقة كونهما لم يقوما باتخاذ الخطوات الكامنة نحو تحقيق المنفعة المشتركة.
وبناء على ذلك، إذا كنا على صواب في هذا الحكم، فان عملية السوق التي تقوم حسب “قانون” العرض والطلب الخاص بنا بحفز ميول ونزعات السوق المتواصلة باتجاه تصحيح مثل تلك الاختلالات في التوازن، سوف تبدو بأنها حميدة لأنها تنزع إلى اكتشاف وتصحيح قرارات السوق “الخاطئة” وهي تلك القرارات التي تعمل على إحباط استغلال المبادلات المربحة المشتركة المحتملة.
وبالرغم من أننا كنا حريصين على التعبير الصريح عن هذا الحكم (أو الرأي) المساند والمؤيد بطريقة صارمة (من ناحية نتيجة “قانون” العرض والطلب) وفق شروط أولية، فإننا سنجد بان ذلك الحكم هو في الحقيقة قد صمد بشكل نشط وقوي اكثر مما قمنا بافتراضه. وكما سوف نرى في المقالة الختامية من هذه السلسلة، فان ذلك الحكم سوف ينزع إلى الصمود حتى عندما نقوم بإهمال الافتراضات المحددة التي وردت في هذا القسم من المقالة. هناك مفهوم أو إحساس محدد والذي بموجبه تؤدي نظرية العرض والطلب “الإيجابية” بشكل يتعذر تجنبه إلى فهم صفتها الحميدة من الناحية الاجتماعية (بمعنى تلميحاتها ومضامينها “المعيارية”). وقمنا هنا، فعلا، بإلقاء نظرة سريعة على الأساس الخاص بالمشورة الاقتصادية ذات القاعدة العلمية، إلا أن المقالة الحالية لم تقم بعد بإكمال شرحها وعرضها للعمل الإيجابي لـ”قانون” العرض والطلب. وقبل أن نمضي قدما بشكل ابعد من ذلك، فان علينا أن نكشف بطريقة اكثر حذرا تماماكيف يقوم هذا “القانون” بتحقيق سحره، أي ميله نحو تصحيح اختلال توازن السوق. وسوف نجد بان المناقشة المعيارية في هذا القسم من المقالة يمكنها أن تساعدنا على فهم العمل “الإيجابي” لعملية السوق المنافسة.
كيف يعمل السوق
إن اختلال توازن السوق، كما رأينا، يعكس ويعبر عن قرارات تم اتخاذها بشكل خاطئ. فالذين شاركوا في السوق قد تم تركهم وهم خائبو الآمال مع بضائعهم غير المباعة. فلو أنهم كانوا يعرفون ذلك بشكل مسبق لكانوا قد أنتجوا عدد وحدات اقل من هذا النوع من البضائع وحتى انهم لكانوا قد تحولوا إلى خطوط إنتاج بضاعة تختلف عما لديهم أو لكانوا قد سعدوا بالبيع وفق أسعار أقل (فالسبب الوحيد الذي جعلهم يخفقون في القيام بذلك هو انهم قد اقتنعوا بشكل خاطئ بان لديهم القدرة على الحصول على أسعار أعلى).
علينا أن نلاحظ بان هذا المفهوم المتعلق باختلال توازن السوق يشير، في الواقع، إلى وجود نوعينمميزين من الأخطاء. النوع الأول من الأخطاء الذي ارتكبه المشاركون في السوق، حسب رأينا، هو انه ببساطة لم يتم استغلال والاستفادة من فرص تبادل مربحة مشتركة (وبنفس هذه الطريقة عندما تكون أسعار السوق “مرتفعة جدا”، محدثة بذلك عروضا خاصة بالبيع والتي يتم رفضها، ويعني ذلك، على الأرجح، بان المبيعات المربحة المشتركة كان من الممكن أن تتم، من حيث المبدأ، لو تم البيع وفق أسعار اقل.) أما النوع الثاني من الأخطاء فيعني بان بعض المشاركين في السوق قد انقادوا إلى الاعتقاد(بشكل خاطئ تماما) بان فرص التبادل المربح المشترك موجودة فعلا (والتي هي غير موجودة). وهكذا، فقد اخفق النوع الأول من هذين النوعين من الأخطاء في التعرف على فرص كانت قائمة، أما النوع الثاني من الأخطاء فهو الذي قام “برؤية” فرص كانت في حقيقة الأمر فرصا غير موجودة. وقد يصف المرء النوع الأول من الأخطاء على أنه أحد الأشياء التشاؤمية غير الملائمة (أي الإخفاق في رؤية فرص تحدق فعلا في وجه المرء)، في حين يتم وصف النوع الثاني من الأخطاء على أنه أحد الأشياء المفرطة في التفاؤل غير الملائم وغير المبرر. ويمكن لهذا التبصر النافذ أن يساعدنا على فهم عملية ضبط السوق وعمل “قانون” العرض والطلب.
والآن دعونا ننظر إلى أخطاء التفاؤلية المفرطة. ففي أي مكان تحدث به مثل هذه الأخطاء، سوف يتم الاكتشاف (وبالتالي يتم التصحيح بشكل افتراضي) بان أخطاء التفاؤلية المفرطة هذه هي في الغالب حتمية ليس من الممكن تجنبها. فخبرة المرء في السوق سوف تكشف عن الموقع الذي كان هو نفسه فيه مفرطا في التفاؤل وسوف تكشف عن أن الفرص التي كان من المتوقع أن يقوم ذلك المرء بمواجهتها بشكل مفرط في التفاؤل هي ببساطة فرص لم تحدث. ومثل هذه الخبرة في مطاردة وتتبع الفرص سوف تنزع، وبشكل حتمي تقريبا، إلى أن تكبح جماح توقعات وحدس السوق المفرطة في التفاؤل. وستقوم مثل هذه الخبرة بـ”تعليمنا” أين وكيف تكون مثل تلك التوقعات الأكثر واقعية في وضعية منظمة. وحيثما يكون البائعون المفترضون المفرطون في التفاؤل يرفضون، على سبيل المثال، أن يبيعوا وفق أسعار منخفضة (واثقين تماما، لكنه بشكل خاطئ، وهم يتوقعون بان يتم البيع بأسعار مرتفعة)، فان تجربتهم وخبرتهم المخيبة للآمال في السوق تنزع إلى تعليمهم بان يقوموا بخفض الأسعار المطلوبة).
ولكن النوع الثاني من الأخطاء (والذي يعبر عن التشاؤمية غير الملائمة) سوف لا يبدو بأنه قادر على القيام بتصحيح “تلقائي” وفق أية طريقة مماثلة. فالفرصة (الخاصة بتبادل نافع بشكل مشترك) التي لا تتم رؤيتها في الوقت الحاضر من قبل الأطراف المعنية (والتي بناء على ذلك لا يتم استغلالها) قد لا تتم رؤيتها أيضا يوم غد (حتى وان كانت ما تزال موجودة غدا). والآن دعونا نأخذ مثالا على ذلك. إذا كانت الأسعار المختلفة الخاصة “بنفس” المادة (السلعة أو الخدمة) كانت قد سادت في أنحاء مختلفة في “نفس” السوق، فان ذلك سوف يكون أحد الاحتمالات التي قد يتم بموجبه حدوث تواجد لفرص مبادلة نافعة مشتركة إلا أنها قد تمت إضاعتها. وبالرغم من كل ذلك، ففي أي سوق يقوم به مشترون بالشراء وفق أسعار مرتفعة في حين يكون هناك بعض البائعين الذين يبيعون وفق أسعار منخفضة، سوف يكون لدينا وضعا بحيث يكون هؤلاء البائعون والمشترون وقد استفادوا تماما من التبادل مع بعضهم البعض وفق أحد الأسعار الأقل من تلك الأسعار المرتفعة والتي بموجبها قام المشترون بالشراء، إلا أنها أعلى من تلك الأسعار المنخفضة التي بموجبها كان البائعون يبيعون بها. ومن الواضح بان هؤلاء المشاركين في السوق كانوا مجرد جاهلين على غير دراية بما يجري في مكان آخر في نفس السوق. ولكن على ما يظهر، لا يوجد هناك أسلوب واضح يتم به استبدال مثل ذلك الجهل وعدم الدراية بطريقة عفوية تلقائية بمعلومات ممتازة عن السوق. كما انه على ما يبدو، لا يوجد هناك طريقة واضحة والتي من خلالها قد ينزع السوق إلى استبدال أسعار سوق متباعدة بشكل كبير بأسعار اقل تباعدا.
ومن هنا، تعتبر عملية السوق العفوية التلقائية بأنها عملية تتوقف على اليقظة الريادية بخصوص إحدى النزعات الأكثر أهمية (والمعترف بها على نطاق واسع) في سوق حر ومنافس: وهي أن الأسعار الخاصة بنفس المادة (السلعة أو الخدمة) سوف تتحرك فعلا باتجاه سعر منفرد في جميع أنحاء السوق.
اليقظة الريادية

أحد العناصر الأقل وضوحا لكنه برغم ذلك من اكثر العناصر قوة والعاملة في الأسواق هو عنصر اليقظة الريادية، أي نزوع الكائنات البشرية إلى ملاحظة الشيء الذي يكون من مصلحتها أن تلاحظه. فالمشترون الذين يقومون بالشراء بدفع أسعار عالية بغير ضرورة لذلك فانهم سوف ينزعون بالفعل، عاجلا أم آجلا، إلى اكتشاف أين يمكنهم الحصول على سلع مشابهة وفق أسعار اقل إلى حد كبير. والبائعون الذين يقومون بالبيع بأسعار مخفضة بغير ضرورة لذلك فانهم سوف ينزعون بالفعل إلى اكتشاف أين يمكنهم إيجاد مشترين راغبين في دفع أسعار عالية. إضافة لذلك، سوف يكتشف الرياديون، عاجلا أم آجلا، بأنهم قادرون على كسب ربح صاف بمجرد شرائهم وفق أسعار مخفضة والبيع وفق أسعار مرتفعة. إننا نشعر بأننا فعلا مقتنعون بان الأسعار المتباعدة بشكل كبير في نفس السوق والتي تخص منتجا معينا أو مصدرا معينا سوف تفتح الطريق وفق هذا الأسلوب أمام قوى منافسة تنزع إلى دفع هذه الأسعار المتباعدة للتوجه للاقتراب نحو بعضها البعض. وبهذا الشكل، وكنتيجة لليقظة الريادية فان الأخطاء الناجمة عن التشاؤم غير الملائم سوف تنزع إلى التصحيح.
وهكذا، فان “قانون” العرض والطلب يقوم بشرح وتفسير سلسلات السببية الاقتصادية مصحوبا بكل بعد من البعدين المتميزين التاليين: البعد الأول، وهو كما رأيناه في البداية، يعمل باتجاه تصحيح اختلالات توازن السوق لمواد (سلع أو خدمات) معينة. والبعد الثاني يعمل بهدف تصحيح مثل تلك الاختلالات في التوازن بنفس الوقت الذي يقوم به بتصحيح ظاهرة الأسعار المتباعدة لكل مادة من مثل تلك المواد. وتعمل قوى العرض والطلب على تصحيح القرارات “الخاطئة” التي تكون متفائلة بشكل غير ملائم، بنفس الوقت الذي تعمل به على تصحيح القرارات “الخاطئة” التي تكون مفرطة في التشاؤم.
نطاق تحليلنا الواسع

لقد كانت مناقشتنا، لغاية هذه النقطة، بسيطة كل البساطة في كل من افتراضاتها وموادها الرئيسية. ولقد قمنا بالحديث عن السوق الخاصة “بمادة (سلعة أو خدمة) معينة” في حين قمنا بالافتراض بان هذا السوق هو سوق معزول ومنعزل عن كافة الأسواق الأخرى. وعندما يقوم أحد ما بتوسيع وجهة نظر تحليلية لشخص ما كي تشتمل على الأسواق الخاصة بمنتجات ومصادر لا تعد ولا تحصى التي قد يتم شراؤها وبيعها ولكي تشتمل أيضا ليس فقط على مجرد قرارات شراء وبيع بل أيضا على قرارات تتعلق بالأشياء التي يتوجب إنتاجها وبكيفية إنتاج هذه الأشياء، فانه قد يبدو، في الوقت الحالي، بأننا في عالم من تعقيدات عقل متردد، يكون لتحليلاتنا البسيطة غير المعقدة ارتباطا ضئيلا به. إلا أن ذلك ليس هو الحال. فالبصائر النافذة التي وردت في الأقسام السابقة من هذه المقالة لها فعلا ارتباط مباشر حتى بالنسبة للأسواق المتشابكة الأكثر تعقيدا.
لننظر على سبيل المثال إلى سوق يتم به إنتاج مادة (سلعة أو خدمة) معينة ولتكن مادة المنتج “ج” من خلال دمج المدخل “أ” مع المدخل “ب” طبقا لبعض الوصفات الإنتاجية. ولنتصور بان يكون مثل ذلك الإنتاج عالي الربح. ولدى دمج المدخل “أ” مع المدخل “ب” فان تكاليف هذا الدمج، بحسب مستوى مخرجات معينة، ستكون اقل إلى حد كبير من الإيرادات التي سيتم تحصيلها من بيع المنتج “ج” في سوق السلع الاستهلاكية. مثل هذا الاحتمال أو التصور قد يبدو بأنه، إلى حد ما، معقد (في حال مقارنته مع الاحتمالات التي تم بحثها قبل ذلك). ولكن، يجب علينا أن نلاحظ بان مثل هذا الاحتمال هو من بين الاحتمالات التي يقوم المشترون بموجبها بدفع أسعار أعلى مما هو ضروري وأن البائعين يبيعون بأسعار اقل مما هو ضروري، تماما كما هو الحال لدى سوق سلعة أو خدمة منفردة والتي تم بحثها في القسم السابق من هذه المقالة. وبناء عليه، فان أولئك الذين يبيعون المدخلين “أ” و”ب” بأسعار يكون مجموعهما اقل من السعر الذي يتم دفعه للمنتج “ج”، قد يكونوا، من حيث المبدأ، أنتجوا المنتج “ج” وباعوه بسعر أعلى (بما أن المدخلين “أ” و”ب” هما المطلوبان فقط لإنتاج المنتج “ج”). فربحية هذا الخط من الإنتاج ستنتج عن تباعد (مخفي) في الأسعار “التي تخص نفس مادة المنتج” في نفس السوق (أي أنها ناتجة عن ظروف يمكن في ظلها شراء كل شيء يلزم لإنتاج المنتج “ج” بسعر اقل من سعر السوق بالنسبة للمنتج “ج”). وهكذا، من الممكن لنا أن نتوقع (ما لم نفترض وجود تحكم احتكاري يسيطر على الوصول إلى مصدري المدخلين “أ” و”ب”) بان تنزع مثل هذه الربحية إلى جذب انتباه ويقظة ريادية منافسة، وهو الشيء الذي سوف ينزع إلى إزالة ربحية هذا الخط من الإنتاج (بفعل الضغط على سعر المنتج “ج” ومجموع سعري المدخلين “أ” و”ب” معا كي يقتربا من بعضهما بشكل وثيق).
وبالرغم من كون هذا الموقع ليس هو بالمكان الملائم للتحليل بهذا الشكل، إلا أن أي تحليل مشابه يتم القيام به سيكون بإمكانه أن يثبت بان هناك ارتباطا واسعا بين البحث الذي أجريناه من قبل حول “قانون” العرض والطلب وبين الجوانب الرئيسية، على اقل تقدير، لاحتمالات السوق المعقدة.
السبب والمسبب في الشؤون الاقتصادية
لقد عمل البحث الذي قمنا به على إيضاح الطريقة التي تقوم بموجبها النظرية الاقتصادية البسيطة بتعليل وجود سلسلات سبب ومسبب محددة ومنتظمة في مجال الشؤون الاقتصادية. وبالفعل، هناك طرق محددة موجودة يتم وفقها اتخاذ قرارات اقتصادية في أية فترة واحدة تنزع إلى أن تأخذ بالاعتبار المنتظم تلك القرارات الأخرى التي يتم اتخاذها في نفس السوق. وبهذه الطريقة، تقوم أية قرارات يتم إصدارها بصياغة وقولبة بعضها البعض وفق أسلوب منهجي منتظم. كما أننا رأينا كيف يمكن لذلك الأسلوب، والذي بموجبه تنزع مثل تلك “القولبة” إلى البروز، أن يبدو وكأنه، للوهلة الأولى على اقل تقدير، يستحق بان يدعى باسم “الحميد”. ومثل هذا التحليل البسيط سوف يساعدنا على أن نفهم، من حيث المبدأ، كيف يمكن للنظرية الاقتصادية أن تؤدي إلى صدور أحكام وآراء تتعلق “بجودة وصلاح” مبادرات سياسة عامة معينة من خلال التداعيات والتبعات الواعدة لمثل تلك المبادرات.
والآن، نحن على استعداد أن نقوم، في المقالة الأخيرة من هذه السلسلة، بمعالجة المسألة التي تم عرضها في بداية المقالة الأولى، وهي: هل يمكن أن تتم ترجمة الفهم الاقتصادي الإيجابي اليقيني إلىمشورة اقتصادية موضوعية ومشروعة علميا؟
مجلة فريمان، أيلول 2006.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 15 حزيران 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

كما هو الحال، وبشكل افتراضي لدى جميع فروع المعرفة الإنسانية، يتم تقييم المعرفة والفهم الاقتصادي ليس فقط بشكل عرضي (أو حتى وإن كان ذلك بشكل مبدأي)، بل من حيث منفعتهما وفائدتهما من ناحية الشروط العملية والتطبيقية. والمبالغ الضخمة التي يتم إنفاقها كل سنة على البحث والتعليم الاقتصاديين سوف لن يكتب لها أن تشاهد النور، بكل تأكيد، لو لم يكن من المتوقع للبحث والتعليم الاقتصاديين أن يساعدا على ترويج ونشر السياسات الحكيمة التي تؤدي إلى الازدهار والرفاه الاقتصادي.
وبالفعل، ليس من الممكن أن يكون هناك أي شك حول قيام أولئك الذين يناصرون ويدافعون عن سياسات السوق الحر (في كتابات يتم نشرها في مطبوعات فريمان أو في أي مكان آخر) حيث يقومون هم بذلك الدفاع وهم على قناعة ثابتة بان مثل تلك المناصرة سوف تنبت وتنمو بشكل طبيعي من الفهم والإدراك الاقتصاديين. إنني، بكل تأكيد، أشاطرهم هذه القناعة، ومع ذلك فان الطريق الذي يتجه من فهم اقتصادي فعال وصحيح إلى مشورة سياسة اقتصادية معقولة سوف لن يكون طريقا صريحا واضح المعالم. وللمباشرة من العرض باستخدام التعبير بـ”يكون” إلى العرض باستخدام التعبير “يجب أن” سوف يكون، وفق جميع سياقات الكلام، محفوفا بالمخاطر الفلسفية التشهيرية. مثل هذه الأخطار سوف تتضاعف، ضمن سياق علم الاقتصاد، بشكل تصاعدي وذلك بفعل تلك الأذهان الماكرة التي تعمل على تعقيد مصادر الفهم الاقتصادي نفسه.
إن محاولتنا الخاصة بتوضيح الأساس الكامن في مجال العلوم الاقتصادية، بالنسبة لمشورة اقتصادية مشروعة ونافعة، سوف تتواصل وفق النحو التالي. في هذه المقالة الحالية سنقوم بتطوير وتوسيع التناقض الظاهري الذي يدخل في عرض أية مشورة “علمية” (أي المشورة المدعومة من قبل العلم أو حتى تلك المشورة التي قد تكون مستتبعة بالعلم) في المجال الاقتصادي. وفي المقالة الثانية سنقوم بفحص واختبار القواعد الفلسفية للعلوم الاقتصادية نفسها (مع بذل اهتمام خاص نحو إمكانياتها بالنسبة لصناعة السياسات الاقتصادية). وفي المقالة الختامية سنحاول أن نصيغ معا بصائرنا النافذة العديدة وأن نشكل استنتاجاتنا فيما يخص المشروعية العلمية لأية مشورة اقتصادية.
الاقتصاد السياسي هل هو “علـوم” أو “آداب”: تلك هي معضلة القرن التاسع عشر
ينظر الآباء المؤسسون لعلم الاقتصاد، بما فيهم العالم الأكثر شهرة آدم سميث، بشكل عام، إلى حقلهم هذا في مجال المعرفة وكأنه يشكل ما يطلق عليه اسم “آداب”، أي انه تعزيز “للثروة” الوطنية، لكونه مجموعة من النصوص المطبوعة لمشورة تدور حول كيفية إنجاز غرض محدد جيدا. وبالرغم من أن العنوان الكلاسيكي القديم الذي حمله آدم سميث هو التحقيق في طبيعة وأسباب ثروة الأمم (موحيا بذلك إلى أنه عبارة عن تحقيق علمي نزيه ليس له شأن في ترويج الثروة الوطنية المتزايدة ولا بمنعها)، فانه عادة ما كان يتم النظر إلى سميث نفسه على كونه معبرا عن موضوعه وكأنه أدب (مبينا ومعلنا عن طرق خاصة بزيادة الثروة الوطنية). لكن علماء الاقتصاد من ذوي التفكير العميق في تلك الفترة كانت لديهم هواجس وشكوك جدية حول مثل هذا النهج.
وبعض علماء الاقتصاد الكلاسيكيين الذي اتبعوا منحى سميث قاموا، بالفعل، بالتصارع مع العلاقة التي تربط بين علم الاقتصاد السياسي وأدب الاقتصاد السياسي. ومن بين مثل هؤلاء العلماء الاقتصاديين هناك ريتشارد واتلي الذي لم يكن فقط عالم اقتصاد ذائع الصيت بل أيضا رئيس أساقفة انجليكاني. وقد شعر واتلي بأنه بحاجة إلى الدفاع عن نفسه فيما يتعلق باهتمامه بعلم الثروة (وهو اهتمام تبين بان نقاده قد اعتبروه غير لائق برجل دين). وأشار واتلي (في محاضرة تمت في العام 1831 في أكسفورد) إلى أن من الممكن نشر وإدخال استنتاجات الاقتصاد السياسي في سياسات يتم تصميمها بغرض خفض الثروة (إذا تم النظر إلى الثروة وكأنها مشتبه بها أخلاقيا)، تماما كما يكون بالمستطاع أن يتم استخدامها في صياغة سياسات خاصة تهدف إلى زيــادة الثروة!
وفي أوائل القرن التاسع عشر، قام ناساو سينيور، أحد علماء الاقتصاد السياسي البارزين في تلك الفترة، وفي إحدى مراحل مسار حياته المهنية الأكاديمية، بالإنكار الصريح لوجود نفس الإمكانية في علم الاقتصاد والتي يمكن أن تكون متاحة لمثل ذلك الفن. ومع أن سينيور قام، في وقت لاحق، بالتراجع عن هذا الموقف الصريح إلا انه لم يتوافق ولم يتراض أبدا وبشكل تام مع فكرة أن يكون الاقتصاد السياسي أدبا. وفي خطابه الرئاسي في العام 1860 الذي وجهه إلى قسم العلوم الاقتصادية والإحصائيات (التابع للجمعية البريطانية)، بعد ربع قرن تقريبا من إنكاره لتوفر إمكانية أن يكون الاقتصاد السياسي أدبا، أصر سينيور على انه يتوجب على عالم الاقتصاد السياسي أن يركز اهتمامه فقط على إنتاج أو توزيع الثروة، بغض النظر عما إذا كانت “الثروة خيرا أم شرا”. كما انه كان يعتقد، بشكل واضح، بأنه ليس لعالم الاقتصاد، بصفته عالم اقتصاد، أي شأن في تقديم أية مشورة. “…عندما يقدم مبدأ وعندما ينصح قارئه بان يقوم بعمل ما أو ليمتنع عن القيام بعمل ما، فانه بذلك يحيد عن العلم إلى الأدب…”
ولما كان القرن التاسع عشر في سبيل الانقضاء، تم إبداء التجاهل نحو مخاوف سينيور، وقام علماء الاقتصاد، وخصوصا على مستوى القارة الأوروبية، ببذل قليل من الانتباه نحو التحذيرات والنصائح التي أبداها سينيور. فالمدرسة التاريخية الألمانية (التي هيمنت على علوم اقتصاد القارة الأوربية طيلة العقود الأخيرة من ذلك القرن) لم تقم بأية محاولة من أي نوع تستهدف فصل علومها الاقتصادية الأساسية عن المناصرة لمصلحة برامج اجتماعية معينة. وبالنسبة لها، فقد كان من الالتزام أن تتم هذه المناصرة التي تمنح علم الاقتصاد أهميته بصفته فرع من فروع المعرفة. ويروي جوزيف شومبيتر شهادة قدمها أحد طلبة صف دراسي كان يتم تدريسه من قبل قطب بارز من أقطاب المدرسة لدرجة أن حالة المزاج التي كانت تسود غرفة الصف كانت شبيهة بوضعية سباق انتخابي.
ولقد كان عالم الاجتماع الكبير ماكس ويبر هو الذي اعترف بالخطر الذي يحدق بسمعة علم الاقتصاد على أساس كونه علما موضوعيا متجردا جرى إرباكه بفعل مثل هذا الموقف المنغمس في السياسة. وأكد بالدليل بان الصفة العلمية لأي علم اجتماعي تشترط أن يكون محايدا بمنتهى الدقة وكأنه حيادٌ يتم بين أحكام وآراء يتم بها تحديد قيم (أو تحديد أسعار) متباينة، وهو الأمر الذي جعله يسير بشكل معاكس لوجهة النظر المهيمنة على العلوم الاقتصادية الألمانية. وفي حلقة نقاش بين علماء اجتماع باللغة الألمانية تم عقده في العام 1907، كان الموقف الذي اتخذه ويبر هو الموضوع الذي دار حول الاختلاف وعدم الاتفاق المريرين. ويصر ويبر على أن العلماء الذين لا يتفقون بشكل واضح تماما على أولويات أخلاقية، يجب عليهم، بالرغم من ذلك، أن يكونوا قادرين، على اقل تقدير من ناحية المبدأ، على أن يتفقوا حول الافتراضات والفرضيات الإيجابية المتواجدة في تخصصاتهم في حقل المعرفة. وفي وقت قريب جدا، سوف نعود إلى مزيد من التعليق على مبدأ ويبر، فيرتفرايهايت (أي حرية القيمة أو التحرر من وضع أحكام للقيمة).
القرن العشرون: علم اقتصاد الرفاه
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، لم يعد واضعو النظريات الاقتصادية من ذوي الاتجاه السائد حينئذ ينظرون إلى حقلهم هذا في المعرفة على انه متعلق بالثروة المادية. فهم، بدلا من ذلك، قاموا بتركيز اهتمامهم على الحس الذاتي وغير الموضوعي بالرفاه حيث تأمل المخلوقات البشرية أن تستخرجه وتتوصل إليه من ثرواتها وأنشطتها الاقتصادية، وهو الأمر الذي أدى بهم (وخصوصا في إنجلترا) إلى النظر إلى علم الاقتصاد وكأنه يتعلق بشكل أساسي بـ”الرفاه”. ثم قاموا، في وقت قريب جدا، بالحديث عن “علم اقتصاد الرفاه” (وهو العنوان الجديد لكتاب إيه. سي. بيجو الصادر في العام 1902، والذي كان هو نفس كتاب الطبعة الثانية الصادر في العام 1912 المعنون بـ الثروة والرفاه). وللنظر إلى علم الاقتصاد باعتباره علم قادر على ترويج الرخاء الاقتصادي قد بدا وكأنه مجرد خطوة صغيرة غير ضارة. وهكذا، فقد تم في الغالب، بالنسبة لكثير من سنوات النصف الأول من القرن العشرين، التسليم بصحة القول جدلا على أن عالم الاقتصاد هو ذلك العالم الخبير الذي يقوم بصياغة سياسات يتم تنفيذها بغرض ترويج رفاه اقتصادي كلي غير فردي. وقد بدا بكل وضوح على أن لدى علماء الاقتصاد واجب مهني ألا وهو الدفاع عن السياسات التي تعمل حسب اعتقادهم على تعزيز الرفاهية من الناحية العلمية. وحتى علماء الاقتصاد الذين كانوا شديدي الحساسية تجاه التماسك الفلسفي لأية فكرة تدور حول الرفاهية الكلية الشاملة كانوا قادرين على استنباط إصدارات تمت صياغتها بشكل اكثر حرصا وعناية عن علم اقتصاد الرفاه من خلال رجوعهم إلى “أمثلية باريتو” أو إلى تركيبات معقدة مماثلة.
وتعتبر هذه الفترة هي الفترة التي شرع بها علماء الاقتصاد بالبدء في إيجاد فرص وفيرة للتوظيف في الحكومة. وبما أن المد الذي أصاب الرأي العام قد تحول بشكل حاسم (خلال الربع الثاني من القرن) إلى جانب التدخل الحكومي الشامل في اقتصاد السوق، نظر علماء الاقتصاد بشكل متزايد إلى حقلهم هذا في المعرفة وكأنه قادر على استحداث وخلق سياسات محددة جدا خاصة بحكومات يتم تنويرها بحيث تقوم باتباع هذه السياسات. وقام علماء الاقتصاد بوضع علمهم (وعلى وجه الخصوص ذلك الفرع الذي عمل على صياغة “علم اقتصاد الرفاه”) في خدمة الأحزاب السياسية، وهو الأمر الذي عمل، بشكل حتمي، على النزوع إلى إثارة نفس تلك الأسئلة المزعجة المتعلقة بالموضوعية المتجردة والحيادية لذلك العلم التي أزعجت ماكس ويبر وفق هذه الشاكلة. وقد تبين، بنحو مطرد، بان أي برنامج سياسي وأية فرضية خاصة بتشريع اقتصادي بإمكانهما أن يجدا علماء اقتصاد لديهم الاستعداد بأن يعطوا حجة “علمية” تعمل على دعمهما.
ميزس وفيرتفرايهايت
كان لودفيغ فون ميزس، عالم الاقتصاد التابع للمدرسة النمساوية المتفوقة، نصيرا مدافعا ومتحمسا جدا لمبدأ ويبر، فيرتفرايهايت، بخصوص كافة العلوم الاجتماعية وبشكل خاص علم الاقتصاد. وكان لودفيغ يعتقد بان الموضوعية المتجردة لأي علم تشترط لا شيء أقل من أن يتم فصل الافضليات الشخصية وأحكام القيمة الخاصة تماما عن الممارسين لها. والشيء الضمني في مبدأ ويبر، فيرتفرايهايت، هو اقتناع عالم الاقتصاد بان من الممكن، على الأقل من ناحية المبدأ، أن يمارس ويواصل علومه بمعزل عن أحكامه وآرائه الشخصية الذاتية حول القيمة. ومع ذلك، هناك فعلا بعض فلاسفة القرن العشرين قد تحدوا (وما زالوا يتحدون بالفعل) هذا الأمر، مؤكدين بالدليل على أن من الوهم أن يتم الاعتقاد بان بإمكان المرء أن يطمس الأحكام التي تحدد القيمة التي يضعها بينما يكون هو منشغل في علمه. وهم يجادلون بطريقة لا يمكن تجنبها على أن علم المرء يعكس الافتراضات الأخلاقية له. وقد يكون ميزس قد وافق على أن الإبقاء والمحافظة على مثل ذلك العزل سيكون أمرا صعبا، لكنه قد يكون قد رفض بشكل مشدد تلك الادعاءات التي تقول بأنه مستحيل. ويصر ميزس على أن من واجب العالِم تجاه سمعة علمه وتكامله أن يقوم بعزل البحث العلمي الذي يقوم بتأليفه عن أية مسحة “تلوث” ولو ضئيلة ناجمة عن ميول شخصية. فالباحث الطبي الذي يكشف عن الحلقات التي تربط بين تدخين السجائر ومرض السرطان يجب عليه أن يواصل اختباراته في المختبر وتحليلاته الإحصائية دون أن يكون ذلك البحث قد تأثر، بأي شكل من الأشكال، بأفضلياته الشخصية الذاتية المتعلقة بالتدخين أو بمخاوفه الخاصة به المتعلقة بالمرض. وهكذا أيضا، يجب أن يكون تحليل عالم الاقتصاد للأسواق والتنظيم وتداعياتهما مستقلا تماما عن آرائه الأخلاقية الخاصة به المتعلقة بالحرية وبالتفاوت في الدخل أو نحو ذلك.
ويقدم موقف ميزس إيضاحا رائعا عن الأشياء المبهمة والتعقيدات التي دخلت وتدخلت في مبدأ فيرتفرايهايت. فهناك غونار ميردال وهو أحد علماء الاجتماع السويديين البارزين في القرن العشرين (والذي كانت مواقفه حول السياسة الاقتصادية في خصام تام مع تلك المواقف التي تبناها ميزس بحيث انه عندما فاز كل من ميردال وإف. إيه. هايك مناصفةً بلقب جائزة نوبل في علم الاقتصاد، كان من المفهوم على نطاق واسع على أن القيام بهذه الاختيارات قد مثل نوعا من أعمال التوازن الفكري الآيديولوجي لآراء هايك المعتمدة حول السوق الحر لكونها قد واجهت توازنا مضادا من قبل دفاع ميردال عن سيطرة الحكومة الشاملة على الاقتصاد). وفي العام 1930 قام ميردال بنشر كتاب باللغة الألمانية عمل على فحص تاريخ علم الاقتصاد وتوصل إلى نتيجة مفادها بان معظم علماء الاقتصاد الرواد خلال ذلك التاريخ قد قاموا بحقن فرضيات وأفكار سياسية داخل ما كانوا قد قدموه على أنها بحوث علمية. وقد تمت ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية في العام 1955. وكان فريتز ماكلوب (وهو نفسه عالم اقتصاد مرموق في القرن العشرين المتدرب في النمسا والذي كان أحد تلامذة لودفيغ فون ميزس حيث قام بالتعامل مع ميزس على المستوى الشخصي بولاء وانتماء نموذجيين) قد كتب مراجعة لهذه الترجمة التي تم نشرها. وقام ماكلوب بجلب الانتباه نحو إقرار ميردال على أن مدرسة الاقتصاد النمساوية (على نحو مغاير لمذاهب الفكر الاقتصادي الأخرى) لم تكن قد ارتكبت ذنب قيامها بحقن مثاليات سياسية في البحث العلمي التي قامت بتأليفها. وقد وجد ماكلوب بان هذا الحكم الاطرائي يعتبر أمرا مفاجئا. وقام بطرح السؤال التالي: “كيف تمكنت أبحاث ومؤلفات النمساوي فون ميزس المضادة للمتدخلين من النجاة هربا من اهتمام وعناية ميردال؟” ومن الواضح بان ماكلوب لم يكن ليقدر على التوافق والتراضي مع إصرار ميزس الذي ذكره عن فيرتفرايهايت وعن الانفصال عن الالتزامات الآيديولوجية المسبقة بوجود مؤلفات ميزس التي تنطق بشكل فصيح والتي تصب لصالح سياسة عدم التدخل (الحكومي) في الشؤون الاقتصادية ولصالح اقتصاد السوق الحر.
وفي الحقيقة، فان أي قارئ للأثر العلمي الذي ألفه ميزس ليس باستطاعته أن يخفق في الإحساس بالتناقض الظاهري الذي يحيط بالعاطفة والهيام اللتان كتب بهما ميزس علومه الاقتصادية. وبحلول الوقت الذي نصل به إلى الجزء الثالث من هذه السلسلة، فأننا سنكون، بشكل مشجع، قد توصلنا إلى حل هذا التناقض. وهنا، سنقوم فقط بتحديده وبربطه مع التحدي الأكبر المتمثل باستخراج واستنباط مشورة نافعة من علم اقتصاد حرية تحديد القيمة.
لودفيغ فون ميزس وأهمية علم الاقتصاد
كما كنا قد لاحظنا، كان ميزس مقتنعا بان علم الاقتصاد يجب أن تتم مواصلته بشكل نزيه بعيدا عن العاطفة والانفعال، بصفته حقل معرفة في بيئة سوق حر، إلا أنه (أي ميزس) كان قد كتب بعاطفة متحمسة شديدة النقد عن الأخطار التي تواجه بني البشر في حال قيامهم بتجاهل الحقائق التي تكشف عنها العلوم الأكاديمية. وقد اختتم تحفته الرائعة الفعل البشري بالجمل القاسية التالية: “تعتبر مجموعة المعرفة الاقتصادية عنصرا رئيسيا في تركيبة الحضارة الإنسانية، فهي الأساس الذي تم فوقه بناء الصناعات الحديثة وكافة الإنجازات الأخلاقية والفكرية والعلاجية التي تحققت في القرون الأخيرة. وهي أيضا التي تبقت لدى الأفراد سواء عملوا على الاستفادة المناسبة من هذا الكنز الثري الذي وفرته لهم هذه المعرفة أم انهم تركوه بدون أن يستفيدوا منه. لكنهم، في حال إخفاقهم في الحصول على أقصى منفعة منه وقاموا بإهمال تعاليمه وتحذيراته، فسوف لن يكونوا قد عملوا على إلغاء علم الاقتصاد، بل إخماد المجتمع وسلالة بني البشر.”
لقد كان هذا هو الاقتناع العاطفي بالأهمية القصوى لتعاليم علم الاقتصاد الذي أسهم بالعناية والحرص اللذان قام ميزس ببذلهما تجاه الحالة الفلسفية لتلك التعاليم. فقد كان ميزس يعتقد بان أعداء المجتمع الحر بإمكانهم إن يديموا ويبقوا على دفاعهم عن التخطيط المركزي وعن التدخل الحكومي الشامل في اقتصاد السوق (أو استبداله) فقط بمجرد تجاهلهم لعلم الاقتصاد أو تشويه سمعة علم الاقتصاد. وقد نظر ميزس إلى كافة المحاولات التي بذلت للتشكيك في مشروعية الفرضيات التأسيسية لعلم الاقتصاد وكأنها مدفوعة من قبل دافع خفي لسياسة عدم تدخل اقتصادية مشوهة للسمعة.
ونظرا لاعتقاد ميزس بان سياسات عدم التدخل هي التي فقط يمكنها أن تديم وتحفظ الحضارة الحديثة، فقد شعر بأنه قد انساق إلى التوضيح وإلى الدفاع عن تلك القواعد الفلسفية التي قام هو بتسميتها بـ”علم الاقتصاد الحديث”. (بالنسبة لميزس، فان علم الاقتصاد الحديث هو مجموعة تعاليم اقتصادية متجذرة في علم الاقتصاد الكلاسيكي القديم لآدم سميث وتابعيه، بما انه قد تمت إعادة تصنيفه وصياغته من قبل ما سمي بعلماء الاقتصاد الكلاسيكيين الجدد، بما فيهم بشكل خاص، مؤسس المدرسة النمساوية كارل مينجر وتابعيه والذين كان من بينهم معلم ميزس الخاص صاحب المقام الرفيع يوجين فون بوم-بافيرك).
وقد اشتملت إيضاحات ميزس الخاصة بقواعد النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة، بشكل خاص، على دفاعه عن علم الاقتصاد من التهمة الماركسية وهي أن علماء الاقتصاد التقليديين هم مجرد تابعين خانعين لـ”الوول ستريت” الذين يناصرون السوق الحر لمجرد أن يقوموا بخدمة أسيادهم صرافي الرواتب الرأسماليين. وقد رأى ميزس بشكل واضح على أنه ما لم يقم علماء الاقتصاد بتطهير علومهم من أية وصمة من وصمات الانحياز الشخصي الملوثة (كالتعبير الصريح عن أحكام وآراء شخصية بتحديد القيمة)، فان تعاليمهم سوف تكون عرضة لمثل ذلك النبذ وصرف النظر. وبشكل دقيق، نظرا لأنه رأى في السوق الحر وكأنه مطلب مسبق رئيسي بالنسبة لأي مجتمع متحضر ومزدهر ونظرا لأنه كان يعتقد بان التحليل الاقتصادي غير المنحاز سيعمل حتما على دعم وجهة النظر هذه، فقد أصيب ميزس بالرعب من جراء إمكانية أن يتم نبذ علم الاقتصاد وكأنه لا شيء سوى كونه دعاية سياسية رأسمالية. وقد نظر فريتز ماكلوب إلى مناصرة ميزس لسياسة عدم التدخل (في كتاباته “ضد التدخلية”) باعتبارها مثال يحتذى على دقة التفاصيل للانطلاق من النزاهة والتجرد إلى مواصلة علوم الاقتصاد والتي قام ميردال باتهام الكثيرين جدا من علماء الاقتصاد بهما (إلا أنها كانت هي السياسة التي أقرت المدرسة النمساوية، بشكل عام، بأنها لم تكن قد ارتكبت أي ذنب). وسوف نعود في المقالة الثالثة من هذه السلسلة الصغيرة إلى فحص واختبار مشروعية تهمة ماكلوب.
وفي الفترة التي أعقبت الحرب، لم يقم معظم علماء الاقتصاد ببذل الكثير من الاهتمام إلى تلك الأمور المقلقة. والصحيح في هذا الجانب هو أن ميلتون فريدمان، وهو أحد العلماء الرواد في مدرسة شيكاغو المرموقة، قام (في مقالة مؤثرة في العام 1953) بمناصرة ما سماه بـ”علم الاقتصاد الإيجابي” (والذي يتم بموجبه تأسيس فرضيات اقتصادية قد تتحكم في الحصول على تصديق العلماء بغض النظر عن ميولهم الشخصية). ولكن ذلك الأمر تم النظر إليه باعتباره، من الناحية الأساسية، ممارسة منهجية متبعة تقوم بعرض حالة خاصة بمعالجة علم الاقتصاد على أساس كونه حقل معرفة تجريبي بشكل تام (كونه نقيضا للمعرفة المنطقية) (وليس كحالة خاصة بمبدأ حرية القيمة، فيرتفرايهايت).
ولقد جرى، من وقت لآخر، تكريس المزيد من العناية الجدية نحو مسألة حرية القيمة، فيرتفرايهايت. وهكذا، قام تيرينس دبليو. هاتشيسون وهو أحد مؤرخي الفكر الرواد (والذي كان، بمحض الصدفة، عالما في منهجية علم الاقتصاد الذي انتقد، بمرارة، مؤلفات ميزس المنهجية الخاصة)، بتأليف كتاب حول الموضوع. لكن هناك عدد قليل من علماء الاقتصاد الآخرين الذين قدموا الكثير من التفكير نحو المخاطر التي تحدق بنزاهتهم وتجردهم (أو إلى نزاهتهم التي يتم فهمها بالوعي) التي قد تكمن في الإفادات المعلنة عن سياستهم. وهناك بعض علماء الاقتصاد الذين كانوا، بطريقة أخرى، قد تأثروا بشكل عميق بالمدرسة النمساوية وبشكل خاص بميزس، قد عبروا بصراحة عن تحفظات قوية ضد مبدأ حرية القيمة، فيرتفرايهايت. وهكذا، قام موري روذبارد، وهو تلميذ رائد من تلاميذ ميزس، بالجدال وبالمناقشة بالنسبة لنطق المبادئ الأخلاقية المهنية بشكل صريح من جانب عالم الاقتصاد الذي يقدم مشورة حول سياسة ما.
ومنذ عهد قريب، قام دانييل بي. كلاين، والذي هو مدافع ونصير مشهور داعم لصناعة سياسة السوق الحر الاقتصادية بدعوة علماء الاقتصاد لنشر علومهم بهدف تعديل الخيارات السياسية-الاقتصادية المتاحة لجمهور عامة الناس. وجادل كلاين مؤكدا على أن علماء الاقتصاد الذين قاموا هم أنفسهم بتقييم المجتمع الحر كان لديهم التزام أخلاقي للمساعدة على قولبة الرأي العام ليتجه نحو إظهار الإدراك الكامل للحرية. وكان موقف علماء الاقتصاد موقفا فريدا من نوعه لقيامهم بإنجاز ذلك نظرا لأنهم كانوا يتمتعون بسمعة مهنية محترمة. وبدلا من أن يبذلوا وقتهم في التحدث إلى بعضهم البعض بلغة نماذج رياضيات مجردة، كان من الواجب على علماء الاقتصاد أن ينشغلوا في “خطاب عام” يتحدثون به إلى الرجل العادي حول مسائل سياسية عمومية تطبيقية. وقام كلاين بعمل استطلاع لعينة نموذجية من المؤلفات المنشورة التي أبدى تجاهها علماء الاقتصاد، كل من العلماء المتطورين والطلبة الخريجين المحبطين، تحسرا وتأسفا على عدم صلة المؤلفات الأكاديمية بالموضوع لكونها قد أنجزت بفعل مهنة خاصة بعلم اقتصاد. وقد وجد كلاين بأن تلك المهنة قد تم حبسها داخل توجه عقلي وفكري لتكمن ضمن اهتمامات عالم الاقتصاد المهنية العقلانية كي يتجنب مخاطبة الرجل العادي حول مسائل واقعية، مركزا بدلا من ذلك على النماذج التجريدية المثالية التي تعتمد عليها (بشكل عكسي) أية سمعة حسنة مهنية ومكافآت مهنية. وفي قيامه بدفع وحث عالم الاقتصاد على أن يقوم بإطلاع الرجل العادي على ما هو صالح وخير له، قام كلاين بشكل واضح بحض عالم الاقتصاد على أن ينظر إلى مسؤوليته المهنية وكأنها امتداد إلى ما أبعد من الإيجابية واليقينية الصارمة. ويجب على عالم الاقتصاد ليس فقط أن يقلق نفسه، أو حتى بشكل مبدأي، لينشغل في فهم وتوقع سلسلات السبب والمسبب الاقتصادية (أي وجود سبب لكل ما يتم تسببه في الحقل الاقتصادي)، بل عليه أيضا أن يروج وينشر ذلك الفهم الخاص بتقديم المشورة إلى أي فرد في الشارع (وحتى بتحذيره) بالنسبة لما هو الأفضل (ولما هو الأسوأ!) في مجالات عمل ذلك الفرد.
علماء الاقتصاد الذين تم انتقادهم بقسوة
وفي سبيل حث عالم الاقتصاد على إبلاغ جمهور العامة عما يكون في نظر علم الاقتصاد خيرا لهم، قام كلاين بالتمرد بشكل علني على الموقف الذي اتخذه جورج جيه. ستيجلر، وهو عالم اقتصاد من مدرسة شيكاغو الحائز على جائزة نوبل. وفي العام 1982، قام ستيجلر بنشر كتاب وجه به انتقادا شديدا لعلماء الاقتصاد (بدءا من آدم سميث ولغاية الزمن الذي عاش به ستيجلر) بشأن قيامهم بعمل ما كان يرغب منهم كلاين أن يقوموا بعمله بكل دقة (بمعنى أن يتم إبلاغ جمهور العامة عما هو خير لهم). وقام ستيجلر بالاحتجاج بشدة ضد علماء الاقتصاد لكونهم “وعاظا مبشرين” (يعاملون جمهور العامة على أساس انهم مخطئون، كالأطفال الذين قد يتم تحسين سلوكهم إذا ما تم تعليمهم بالشكل المناسب من خلال إقناع أخلاقي مناسب).
بالنسبة لستيجلر، يجب على عالم الاقتصاد أن يمتنع عن “التبشير والوعظ” ليس بسبب وجود أية أمور مقلقة فيما إذا كان مثل ذلك التبشير ينتهك موضوعيتهم العلمية وحياديتهم الأخلاقية، والأصح أن ستيجلر قام بشجب مثل ذلك الوعظ لان التبشير بسياسة اقتصادية هو بمثابة اعتقاد، وهو حسب رأي ستيجلر عمل خاطئ تماما: بان عالم الاقتصاد يعرف ما هو خير وصالح من الناحية الاقتصادية لجمهور العامة على نحو افضل مما يعرفه ذلك الجمهور أنفسهم. وقام ستيجلر بدعم فرضية المعرفة الكاملة (التي ميزت بشكل تشهيري الكثير من النماذج التي تم بناؤها من قبل واضعي نظريات اقتصادية لتعلل وتسهم في حقائق عالم حقيقي غير زائف) إلى درجة التناغم لكنها كانت متطرفة. وفي الواقع، قام ستيجلر بافتراض أن كل ما يقدر علماء الاقتصاد على تعليمه والتبشير به سوف يكون معروفا بشكل مسبق لدى جمهور الناس ولممثليهم السياسيين. وقد يعتقد عالم الاقتصاد بان النتيجة المتوقعة من سياسة معينة سوف تكون غير مرغوبة، لكنها في حال قيام جمهور العامة بتبني مثل تلك السياسة فان ذلك يثبت بان هؤلاء الجمهور هم في الواقع راغبون بتلك النتيجة ذاتها. وعالم الاقتصاد الذي يقوم بشجب مثل تلك السياسة على أساس أنها خطأ سوف يعمل ببساطة على الكشف عن أن لديه مجموعة من الأهداف التي تختلف عن تلك الأهداف التي يسعى نحوها جمهور الناس فعلا.
ومما لا شك فيه أن تاريخ الاقتصاد قد عمل على الكشف عن وجود إجماع ضئيل بين علماء الاقتصاد يتعلق بالإمكانية المتاحة وبالاستفادة من مبدأ حرية القيمة، فيرتفرايهايت، فالمهابة والاعتبار اللذان لازما تعاليم علم الاقتصاد والأهمية التي ألصقها الرأي العام المثقف بهذه التعاليم قد تراوحت بين القوة والوهن على مدى التاريخ، كما أن وجهات نظر علماء الاقتصاد أنفسهم فيما يخص وجود أو عدم وجود التزام لديهم لتنوير جمهور العامة حول السياسة الاقتصادية قد تغيرت وتعددت إلى درجة كبيرة. وسوف نحاول أن نوضح مشروعية المشورة (“العلمية”) التي يقدمها علماء الاقتصاد إلى جمهور الناس ونحن نقابل هذه الخلفية المربكة إلى حد ما.
من التعبير بـ”يكون” إلى التعبير بـ”يجب أن”
في الجزء الثاني من هذه السلسلة سنقوم بمراجعة قواعد الدروس الإيجابية واليقينية جدا التي يتم تدريسها من قبل علم الاقتصاد، أي أننا سوف نقدم، بشكل موجز، طبيعة التفكير الاقتصادي الذي يعمل على تأسيس وجود سلسلات السبب والمسبب في المجال الاقتصادي. وفي هذا الصدد، سنقوم باتباع التقليد النمساوي في مجال التفكير الاقتصادي، وعلى وجه الخصوص ما تم تطويره من المؤلفات ذات الصلة التي قام بها قطبا ذلك التقليد في القرن العشرين وهما ميزس وإف. أيه. هايك. والشيء الذي سوف ينبثق من هذا الإجراء والاختبار سوف يكون بمثابة تبصر ينفذ إلى نزعة السوق القوية لتقوم بترجمة تصنيفات احتياجات المستهلكين بطريقة منتظمة وكذلك التقييدات المفروضة على المصادر الطبيعية إلى أنماط من التخصيص والتوزيع للمصادر التي تتوافق معهما. وسوف نرى بان هذه الترجمة التصنيفية ستعمل على المتابعة بحيث تبدأ من غاية العمل الإنساني والنزوع المهني للكائنات البشرية بغرض اكتشاف ما هو في مصلحتهم ومن إمكانيات توصيل المعلومات عن نظام سعر السوق، وهو الأمر الذي سيقودنا مباشرة إلى الجزء الثالث والأخير من هذه السلسلة.
وفي تلك المقالة الثالثة، سنقوم بفحص واختبار المضامين التي تحملها وجهة النظر النمساوية هذه بالنسبة لإمكانية تقديم مشورة نزيهة حول مسائل سياسات عامة كتلك المشورة التي لا تعكس أية أفضليات شخصية أو آيديولوجيات فكرية لعالِم الاقتصاد الذي يقوم بعرضها. وبالإمكان أن يتم التمسك بمبدأ حرية القيمة من قبل مقدِّم السياسة العامة؛ وبالإمكان أن يتم المحافظة على موضوعية ونزاهة علماء الاقتصاد الذين يقدمون المشورة؛ وكذلك بالإمكان لنا أن نأمل في التمسك بالسمعة العلمية الحسنة لعلماء الاقتصاد، فقط إذا كانت تلك الإمكانية موجودة. إن استنتاجاتنا التي سنتوصل إليها فيما يتعلق بهذه الأسئلة سوف تمكّننا من توضيح بعض التناقضات الظاهرية التي واجهناها في المقالة الحالية، فهي التي ستزودنا، على وجه الخصوص، بفهم كيفية عدم حاجة تعاليم علماء اقتصاد السوق الحر إلى التساهل مع أغراضها وأهدافها ونزاهتها، والتي قد يتم، بالرغم من ذلك، عرضها مع وجود قناعة عاطفية ومناصرة دعم مكرسة لها.
مجلة فريمان، تموز-آب 2006.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 16 كانون الثاني 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

المقدمـة

منذ أربعين سنة الآن عرّف البروفيسور هايك بطريقة حاسمة الفهم الخاطىء الأساسي المتعلق باقتصاد الرفاه السائد. هذا الفهم الخاطئ، كما جادل هايك، كان مسؤولا عن الإخفاق في تقدير النقد لإمكانية التخطيط المركزي المستند إلى النظريات الاقتصادية العقلانية—وهو النقد الذي عبّر عنه بقوة ووضوح ميزس، والذي طوره أيضا هايك نفسه. وببساطة، وكما برهن البروفيسور لافوي (1985)، إن المضمون الحقيقي لدرس هايك وأهميته لم يتم استيعابهما من قبل اقتصاديي الرفاه الذين كتبوا حول جدال النظريات الاقتصادية الاشتراكية، بالرغم من أنه تم الإشارة إلى عمل هايك على نطاق واسع.
نحاول في هذا البحث أن نكرر عرض هايك ونطبق مفهومه فيما يتعلق بمشكلة المعرفة وتداعياتها بالنسبة إلى التخطيط الاقتصادي المركزي سواء كان شاملاً أو غير ذلك. وسنستشهد في الفقرات القادمة بصياغة هايك لمفهومه الخاص ونقدم بعض الملاحظات الخاصة به. في الأجزاء اللاحقة من هذا البحث سنبدأ من نقطة انطلاق مختلفة تماماً وبالتالي نصل إلى إعادة صياغة وتطبيق موقف هايك—بيان بعض الأبعاد الراديكالية نوعا ما لإعادة صياغتنا.
طبقاً لهايك (1945: 77-78):
يتم تحديد السمة الخاصة لمشكلة النظام الاقتصادي المستند إلى العقلانية بشكل دقيق من خلال حقيقة مفادها أن المعرفة المتعلقة بالظروف الواجب علينا استخدامها لا توجد أبدا في شكل متكامل أو مركز وإنما فقط كأجزاء متناثرة من المعرفة غير الكاملة والمتناقضة غالبا، والتي يمتلكها كل الأفراد على حدة. وبناءً على ذلك، فالمشكلة الاقتصادية للمجتمع لا تتمثل فقط في كيفية توزيع موارد معينة—إذا كان يقصد بـ”المعينة” أن تكون معطاة إلى فكر منفرد يقوم عمدا بحل المشكلة الناجمة عن هذه “المعطيات”—إنها مشكلة كيفية تأمين أفضل استخدام للموارد معروف لأي عضو في المجتمع، لغايات لا يعرف أهميتها النسبية إلا هؤلاء الأفراد. أو باختصار، إنها مشكلة الانتفاع من المعرفة التي لا تعطى لأي شخص بشكل كامل.
دعنا نسمي مشكلة المعرفة هذه (مشكلة المعرفة الخاصة بهايك). نلاحظ في هذه المرحلة الأولية من نقاشنا أن الموقف المحتمل بخصوص مشكلة المعرفة لهايك، وعلى الأقل للوهلة الأولى، أنها لا تجعل تفوق معيار الكفاءة الاجتماعي غير مقبول مباشرة. إنه من الصحيح، كما أوضح هايك، فإن طبيعة المعرفة التي تتميز بالانتشار تعني أن المشكلة الاقتصادية لا تكمن في توزيع “الموارد الموجودة”، حيث تعني “الموارد الموجودة” تلك الموارد الموجودة والمعروفة لفكر منفرد. في الواقع، فإن المعرفة بحد ذاتها هي مصدر شحيح. لذلك يمكن اعتبار مهمة المخطط المركزي في ظل مشكلة المعرفة الخاصة بهايك بأنها الاستخدام الأكثر كفاءة للمعرفة المتوفرة المنتشرة والموجودة في المجتمع في لحظة ما—مع تقييد إمكانية بلوغ هذا الاستخدام بالتكاليف المترتبة على الاتصال والبحث الضروري نظرا لانتشار المعلومات المتوفرة.
ولذلك قد يبدو أنه لا يوجد شيء يجعل مشكلة المعرفة الخاصة بهايك خارجة عن مجال التخطيط الاقتصادي. وكما يجادل البعض، فإن مشكلة المعرفة تقوم بتعقيد مهام التخطيط: إنها تقدم مصدرا جديدا ودقيقا ومعقدا (المعرفة)؛ وتثير الانتباه حول المميزات الخاصة لهذا المصدر (سمته المتشتتة)؛ وتستدعي الانتباه إلى نوع جديد من التكاليف المطلوبة للبحث والاتصال. ولكن كما قد يبدو، يمكن أن تندرج مشكلة المعرفة الخاصة بهايك تحت المشكلة العامة للاقتصاد المفهومة تقليديا بمصطلحات توزيع الموارد. إن الموضوع الأساسي لهذا البحث هو رفض هذا الفهم لنتائج مشكلة المعرفة الخاصة بهايك.[1]
سأناقش في هذا البحث أن مشكلة ضمان الاستخدام الأفضل للمعرفة المنتشرة لا يمكن في الواقع أن يترجم إلى قضية خاصة لمشكلة تأمين تخصيص أكثر فعالية لموارد المجتمع الأكثر شمولا. وسيلي ذلك أن التخطيط الاجتماعي، بميزاته الخاصة، غير قادر على توضيح مشكلة هايك—هذا التخطيط قادر فقط على أن يحبط ويعيق قوة السوق التلقائية القادرة على المشاركة في مشكلة المعرفة هذه. ومن المهم للتمكن من تطوير هذه المناقشات أن يتم تقديم “مشكلة معرفة” محددة لتبدو للوهلة الأولى أنها تختلف كلياً عن مشكلة المعرفة الخاصة بهايك.
الخطة الفردية ومشكلة المعرفة
في الحياة اليومية يستمر الإنسان بالتخطيط. وقد قام الاقتصاديون باستنباط أن الخطة الفردية تمثل البحث عن المزيد: فالمخطِّط مصمم على الوصول إلى الوضع الأمثل المحاط بالعوائق. هذا هو مفهوم القرار الاقتصادي الذي وضعه ليونيل روبنز بدقة متناهية في عام 1932، وتم تبنيه منذ ذلك الحين أساساً لنظرية الاقتصاد الجزئي. ونشير إلى أن هناك مشكلة حتمية محتملة للمعرفة التي تحيط بمفهوم الخطة الفردية.
تفترض فكرة الخطة مسبقا وجود كيان مُستهدَف—مثل منفعة أو ربح—يجب أن تتم زيادته للحد الأقصى. كما وتفترض وجود عوائق معروفة على الموارد. ووفقا لمصطلحات روبنز، فإنه يُفترض توفر كل من الغايات والوسائل. إنها المعرفة المفترضة من قبل المخطِّط لظروف التخطيط هذه التي تتيح للاقتصاديين فهم الخطة باعتبارها حل لمشكلة تحقيق الحد الأقصى المقيَّدة. يجب ملاحظة أن صلاحية الخطة تعتمد كليا على صلاحية الفرضية أن المخطِّط في الواقع يعرف الظروف المحيطة بقراراته المستقبلية بشكل دقيق. إذا لم يعرف المخطِّط ماذا يريد أن يحقق وما هي الموارد المتوفرة لديه أو ما مدى فعالية هذه الموارد بالنسبة للأهداف المبتغاة، فإن خططه لن تؤدي إلى أفضل النتائج مهما تمت صياغتها بشكل حذر.
يمكننا أن نعرِّف الآن مشكلة المعرفة المناسبة لكل خطة فردية: بسبب نقص في معلومات المخطِّط حول ظروفه الحقيقية يمكن أن تفشل خطته في تحقيق الهدف الأمثل. دعنا نسمي مشكلة المعرفة هذه بـ”مشكلة المعرفة الأساسية”. وهذا سوف يميزها عن ما أسميناه “مشكلة المعرفة الخاصة بهايك”. كما سيوضح ذلك ما نعنيه، حيث أن مشكلة المعرفة الخاصة بهايك يمكن أن تعتبر حالة خاصة لما أسميناه “مشكلة المعرفة الأساسية”.
بالتأكيد فإن ما أسميناه “مشكلة المعرفة الأساسية” تبدو للوهلة الأولى تتشابه بشكل طفيف مع “مشكلة المعرفة الخاصة بهايك”. فمشكلة المعرفة الخاصة بهايك تكمن في طبيعة المعلومات المتوفرة المنتشرة؛ وتكمن مشكلة المعرفة الأساسية في جهل الفرد بالظروف المتعلقة بحالته. علاوة على ذلك، سيُظهر المزيد من التمحيص لكل من مشكلة المعرفة الخاصة بهايك ومشكلة المعرفة الأساسية المعنى الهام الذي بسببه تُعتبر مشكلة هايك مشكلة أساسية. دعنا أولاً نوضح الفهم الخاطئ المحتمل المتعلق بمشكلة المعرفة الأساسية.
مشكلة المعرفة الأساسية واقتصاديات البحث

قد يبدو للوهلة الأولى أنه من الممكن الفرار تماما من مشكلة المعرفة الأساسية التي تحيط بكل خطة فردية عن طريق إضافة مراحل تخطيط جديدة. إذا كان هناك احتمال لإخفاق خطة ما بسبب عدم توفر أحد الموارد الضرورية، فإن هذا التهديد بالإخفاق لن يكون بالضرورة نهائيا؛ وقد يمكن تجنبه من خلال التخطيط التمهيدي الملائم للحصول على هذا المورد. وبدلاً من وضع خطة فردية موجهة إلى الإحراز الفوري للهدف النهائي، فإنه من الضروري أن نقدم أهدافا متوسطة نسعى إلى تحقيقها في سياق الخطط التمهيدية الإضافية. عندئذ، قد تتطلب مشكلة المعرفة الأساسية أيضا التخطيط التمهيدي الحكيم فحسب.
من هذا المنطلق، يبدو أن مشكلة المعرفة الأساسية تمثل النقص في الموارد المتاحة لمورد هام هو المعرفة. وقد يستدعي هذا النقص إجراء بحث مُنظَّم لاكتساب المعلومات المهمة. وقد يُعتقد أنه من الممكن الفرار من مشكلة المعرفة الأساسية على الأقل إلى نفس الدرجة التي يُمكن لأي مشكلة تنتج عن نقص في الموارد أن تجد مخرجاً منه. وللدرجة الجديرة بالاهتمام، قد تستطيع خطة بحث تمهيدية تغطية النقص في المعلومات الضرورية التخلص كليا من مشكلة المعرفة الأساسية. وللدرجة التي يُعتقد أن هذا البحث المكلف غير ذي قيمة، سيبدو أن مشكلة المعرفة الرئيسية تعبر فقط عن الصعوبات الشحيحة التي لا مفر منها والموجودة ضمن وضع المخطِّط. وبالنسبة لعالِم الاقتصاد، فإن مشكلة الشح التي لا مفر منها تعني أنه لا توجد أي مشكلة على الإطلاق بالمعنى المقصود.
وإذا كان من الممكن تجنب مشكلة المعرفة، فإنه سيتم (ومن المفترض أن يتم) الفرار منها؛ وعندما يكون من غير المجدي تجنبها، سيبدو أنه لا وجود لمشكلة المعرفة الأساسية على الإطلاق—حيث أننا قمنا بتعريف مشكلة المعرفة الأساسية على أنها الإخفاق في تحقيق الدرجة المثلى الممكن تحقيقها. إذا كان نقص المعرفة يجعل من غير الممكن تحقيق الدرجة الافتراضية المثلى، فإن ذلك لن يؤدي إلى إحداث مشكلة المعرفة الأساسية. وإذا كانت تكلفة اكتساب المعرفة مانعة، تكون عندها الدرجة الافتراضية المثلى، وإن كان يمكن تحقيقها، غير مثلى على الإطلاق.
لا يمكن لهذا الجدل أن يستديم. فمشكلة المعرفة الأساسية التي تحاصر بقوة كل خطة فردية بطبيعتها لا يمكن الفرار منها. ومن غير ريب، يمكن تصحيح العجز في المعرفة بواسطة البحث وأن المخطِّط المستقل سيأخذ بعين الاعتبار في تخطيطه التمهيدي ضرورة إجراء البحث أو عدمه. ولكن مشكلة المعرفة الأساسية—التي تشمل على إمكانية الإخفاق في إنجاز الأمثل الممكن تحقيقه—تبقى. في الواقع، إن إمكانية التخطيط التمهيدي لاكتساب المعرفة توسع فقط مجال مشكلة المعرفة الأساسية.
دعنا نأخذ بعين الاعتبار الفرد المشارك في خطة والذي يسعى لتحقيق هدف قيّم. دعنا نسمي هذه (الخطة أ). خلال وضع الخطوات المحددة اللازمة لمتابعة (الخطة أ)، يدرك الفرد بأنه يفتقد إلى أجزاء من المعلومات المطلوبة. وعليه، يُعِدّ خطة لتحقيق تلك الأهداف الأولية، ألا وهي أجزاء المعرفة المفقودة. دعنا نسمي خطة البحث هذه (الخطة ب). يمكن أن نعتبر أن (الخطة أ) قد توسعت (نتيجة الجهل) لتشمل التخطيط لإحراز الأهداف الأولية المطلوبة، وبذلك تكون (الخطة ب) مدمجة مع (الخطة أ) الموسعة. وقد نعرِّف الخطوات اللاحقة الواجب اتخاذها في سياق (الخطة أ) الموسعة—تلك الخطوات اللاحقة للحصول على المعلومات من (الخطة ب)—بـ(الخطة أ). ( تتألف (الخطة أ) من الخطوات التي من شأنها أن تشكل الخطة الأصلية (الخطة أ) التي تم تصورها لو كان المخطط لا يفتقد إلى المعلومات المطلوبة). ونلاحظ بأن مشكلة المعرفة الأساسية هي خطر محتمل لكل من (الخطة أ) و(الخطة ب). ومن المؤكد أن (الخطة أ) المشتملة على (الخطة ب) و(الخطة أ) عرضة لنفس نقاط الضعف لكل منهما.
حتى ولو نجحت (الخطة ب) في الحصول على المعلومات المطلوبة المثلى الممكن العثور عليها بالضبط (وكانت تستحق التكاليف المخصصة لهذا البحث)، فإن (الخطة أ) ستكون عرضة للمخاطر المتعلقة بمشكلة المعرفة الأساسية. وبالرغم من أن صانع القرار، وهو ينشد صياغة (الخطة أ)، أدرك أنه ينقصه بعض المعلومات المحددة، ولذلك شرع في وضع (الخطة ب) التمهيدية، قد يكون في الحقيقة يفتقر الى معلومات اكثر مما يعتقد. (الهام في الموضوع أن مثل هذه المعلومات التي لم تُحدد قد تكون على شكل شركة، ولكن من الخطأ أن نؤمن أو نعتقد بصلاحية المعلومات الخاطئة كليا). أضف إلى ذلك أن المخطِّط الفرد قد يكون مخطأ في اعتقاده بأن المعلومات الناقصة هي معلومات ضرورية لتطبيق (الخطة أ) . كما يمكن أن يكون مخطأ في اعتقاده بأنه يفتقد إلى تلك المعلومات، وفي الواقع، قد تكون هذه المعلومات في قبضته الآن.
على سبيل المثال، قد يعتقد المخطِّط بأن (الخطة أ)، وفي سياق اتصاله مع الشخص (س)، تتطلب معلومات متعلقة برقم هاتف (س)، وهي المعلومات التي يعتقد أنه يفتقدها، وعليه يقوم بتنفيذ (الخطة ب) للبحث عن رقم هاتف (س). ولكن الحقيقة يمكن أن تكون مختلفة جدا، وأن (س) هو الشخص الخطأ، أو قد تكون الحقيقة أن (س) هو الآن جالس مع المخطِّط، ولذلك لا حاجة لرقم هاتفه للخطة (أ). أو قد يكون المخطِّط لا يفتقد رقم هاتف (س) على الإطلاق، ويمكن أن يكون رقم الهاتف مكتوباً في قائمة معينة موجودة لديه قرب جهاز الهاتف الذي يستعمله. مع وجود احتمالات الخطأ المحض ضمن (الخطة أ) و/أو (الخطة ب)، حيث يكون المخطِّط غير مدرك بحجم جهله، فإن (الخطة أ) التي تحتوي على (الخطة أ) و(الخطة ب) قد تكون بعيدة عن الأمثل، وإن كانت (الخطة ب) ناجحة من حيث تحقيق أهدافها. إضافة إلى ذلك، يمكن أن تغفل (الخطة ب) طرقا متاحة وأكثر فعالية لتحقيق أهدافها (فعلى سبيل المثال هناك طرق للبحث ذات تكلفة أقل لم يكن الباحث مدركا لها).
خلاصة القول، فإن احتمال التخطيط للبحث عن المعلومات الناقصة لا يُنهي مشكلة المعرفة. أولاً: يمكن أن يتم البحث بدون المعرفة بأن هناك أساليب متوفرة ذات فعالية أكبر. ثانياً: المعلومات التي يتم البحث عنها قد لا تبرر تكاليف البحث لأن الحقيقة التي يجهلها المخطِّط هي أن المعلومات غير مهمة للوصول إلى أهداف المخطِّط النهائية. وثالثاً: بغض النظر عن المعلومات التي يدرك المخطِّط أنه يفتقدها والتي سيحاول البحث عنها، فإنه قد يفتقد إلى معلومات هو غير مدرك لها ولا يأخذها بعين الاعتبار للقيام بالبحث عنها.
التخطيط المركزي ومشكلة المعرفة
نحن الآن نقدر مفهوم هايك لمشكلة المعرفة المتشتتة التي تُظهر مهمة التخطيط المركزي على أنها مرتبطة بعمق وتعقيد مع مشكلة المعرفة الأساسية. دعنا نضع أنفسنا في مكان المخطِّط المركزي الذي يبحث جديا وبفكر أحادي عن الطريقة المحتملة الأكثر كفاءة لتخصيص الموارد.
وكمخطِّط مركزي، فالمهمة هي صياغة خطة للمجتمع بأسلوب مشابه لذلك الذي يتبعه الفرد في التخطيط لسياق أعماله. نحن نعد خططنا الاجتماعية وفقا لبعض الأهداف الاجتماعية المحددة وفي ضوء تصور معين لمجموعات الموارد الاجتماعية المتاحة.[2] إن هذا الإطار مناسب للتخطيط المركزي لكل من التخطيط الاجتماعي الشامل والتخطيط المركزي المصمم خصيصا لتكميل أو تعديل النشاط الاقتصادي اللامركزي بدلا من إحلاله كليا. هذا التشابه بين الخطة الاجتماعية والخطة الفردية يدفعنا لأن ندرك علاقة مشكلة المعرفة الأساسية بالخطة الاجتماعية بنفس الطريقة التي وجدنا أنها خطر حتمي لا مفر منه بالنسبة للخطة الفردية. ومفهوم هايك يجعلنا ندرك بأن الخطة المركزية قد تكون معرضة للمخاطر (التي تنتج عن مشكلة المعرفة الأساسية) والتي يمكن أن يتم التهرب منها بواسطة التخطيط اللامركزي.
ومن البديهي استنتاج أن الخطة المركزية معرضة بشكل حتمي لمخاطر مشكلة المعرفة الأساسية بناء على مفهوم مشكلة المعرفة الأساسية نفسها. ونظرا لأن المخطِّط المستقل قد لا يكون مدركاً لظروفه الحقيقية وكذلك قد يكون غير مدرك بجهله، قد تفشل أفضل خططه المصاغة بشكل جيد في الحصول على الأمثل. وقد يكون القائمون على التخطيط المركزي أيضا غير مدركين بجهلهم فيما يتعلق بالظروف الحقيقية المناسبة للتخطيط الاجتماعي. ويعمِّق فهمنا للنتائج الخاصة بالمعرفة المتشتتة تقديرنا لجدية وخطورة مشكلة المعرفة الأساسية، ويكشف النقاب عن كيفية إمكانية تخطي مخاطر هذه المشكلة تماما في ظل غياب وجود الخطة المركزية.
إن إدراك حقيقة تشتت المعرفة—وخاصة فيما يتعلق بمعرفة الظروف الخاصة بالوقت والمكان (هايك، 1945: 80)—يوضح فورا فهمنا لمشكلة المعرفة الأساسية التي تهدد الأشخاص المعنيين بالتخطيط المركزي. فبالنسبة للمخطِّط المركزي، تُستمد مشكلة المعرفة الأساسية من الاحتمال بأن ما يعتقده المخطِّط بالنسبة لظروفه يمكن أن يختلف عما كان يمكن أن يعرفه لو كان أكثر يقظة أو إدراكا للبيئة الحقيقية (بدون الإنفاق الإضافي للموارد). ويعتبر الاحتمال نفسه وثيق الصلة بالنسبة للمخطِّط المركزي، ولكنه يزداد بسبب المأزق الخاص الذي يواجهه المخطِّط المركزي. إن ما يعتقده المخطِّط المركزي عن الظروف ذات العلاقة يجب أن يشابه ما يعتقده عن توفر أجزاء المعرفة المتشتتة التي يمكن حشدها، بطريقة ما ومقابل تكلفة، لصياغة وتطبيق الخطة الاجتماعية. وهناك فرصة ضئيلة لأن يعرف المخطِّط المركزي أين يجد أو يبحث عن جميع عناصر المعرفة المتشتتة المعروفة في النظام الاقتصادي. وإضافة إلى ذلك، فإنه يبدو أن هناك فرصة ضئيلة لأن يكون المخطِّط المركزي مدركا تماما لطبيعة مدى الفجوات المحددة في معرفته بهذا الخصوص. ويمكن أن يدرك بشكل عام أنه جاهل لبعض الأمور، ولكن هذا لا يُعطيه أي تلميح للمكان الذي يجب أن يبحث فيه. وفي النهاية، لا يستطيع المخطِّط استغلال كافة المعلومات المتوفرة لديه. وبشكل واضح، فإن انتشار المعلومات يعتبر مسؤولا عن بعد جديد في تطبيق مشكلة المعرفة الأساسية.
لقد ذكرنا سابقاً بأن مشكلة المعرفة الخاصة بهايك، وبالرغم من كونها شيئا جديدا، يمكن أن تندرج ضمن المشكلة الاقتصادية العامة، التي تُفهم تقليديا وفقا للإنجاز الفعال في تخصيص الموارد المتوفرة (وبشمول المعلومات المتاحة كمورد هام متوفر). ويمكن الآن أن نرى كيف أنه من غير المناسب اعتبار أنه بإمكان المخططين المركزيين أن يتفقوا مع مشكلة المعرفة الخاصة بهايك من حيث التخطيط التقليدي لتحقيق النمط الأمثل المحاط بالصعوبات بالنسبة لتخصيص الموارد. إن الجهل غير المعروف، وهو صُلب مشكلة المعرفة الناجمة عن تشتت المعلومات، يتحدى إمكانية المطابقة الصارمة لخطة التخصيص (معيار بروكرستيان). وكما أن المخطِّط الفردي غير قادر على التشبث بشكل متعمد مع مشكلة المعرفة الأساسية المحيطة بعمليات صنع القرار، كذلك الأمر بالنسبة للمخطِّط المركزي: فهو غير قادر على تنفيذ تقنيات للتخطيط ليتفق بشكل متعمد مع مشكلة المعرفة الخاصة بهايك.
الأمر الذي يجعل نقد مشكلة المعرفة الخاصة بهايك للتخطيط المركزي مدمرا هو أنه في حالة نظام إدارة السوق القائم على التخطيط اللامركزي، تُبدَّد مشكلة المعرفة غير الواضحة التي يواجهها المخططون المركزيون من خلال إجراءات الاكتشاف التنافسية لأصحاب المبادرة.
إجراءات الاكتشاف التنافسية لأصحاب المبادرة

هناك فهم خاطئ متكرر لمشكلة هايك الخاصة بصنع القرار اللامركزي. وفي حالات كثيرة، تُعرض هذه الحالة على أنها تجادل بأن اقتصاد السوق اللامركزي ينجو من مشكلة المعرفة المتشتتة لأن الأسعار تنقل المعلومات إلى صناع القرار المعنيين بشكل دقيق (بحيث يستبدل ذلك الحاجة لديهم لمعرفة المعلومات المفصلة المتشتتة خلال النظام). يجب التأكيد على أنه، وبالرغم من وجود هذا السياق من الاستنتاج بشكل واضح في أعمال هايك، إلا أنه لم يستوفه حقه فيما يتعلق بالمعاني الكاملة المتضمنة في ذلك العمل.
إن المجادلة بأن أسعار السوق تعطي وتنقل المعلومات، متغلبة بذلك على مشكلة المعرفة المتشتتة، توضح مسألة الأسواق التي تعتمد على الفرضية المشكوك فيها والتي تنص على أن الأسواق تكون دائما متوازنة أو قريبة من التوازن. ويمكن أن ندّعي أنه عند ذلك التوازن فقط يتم توجيه المشارك في السوق تلقائيا، وبالاسترشاد بأسعار السوق، باتجاه تلك الأعمال التي ستتنسّق بمرونة مع أعمال جميع مشاركي السوق الآخرين.
إضافة إلى ذلك، فإن وضع فرضية أن الأسواق قريبة من التوازن هو (وبمعزل عن الأسباب الأخرى لعدم الشعور بالارتياح المتعلق بواقعية هذه الفرضية) بمثابة الاستجداء من مشكلة هايك للمعرفة المتشتتة بدلا من التغلب عليها. في خضم ما تم ذكره سابقاً، وكما تقدم ظاهرة المعلومات المتشتتة التحدي للمخططين المركزيين، فإنها تقدم إلى الأسواق تحديا مماثلا ألا وهو الوصول إلى منظومات أسعار السوق التي ستخلق توازنا بين العرض والطلب.
لا يتسنى لأحد حل مشكلة المعرفة المتشتتة عن طريق افتراض الأسعار التي ستولد القرارات المرغوبة بلطف. إن المعرفة المتشتتة هي السبب الحقيقي بأن أسعار السوق الموجودة غير قادرة على خلق توازن بين العرض والطلب في الأسواق وضمان عدم هدر الموارد. الحقيقة أن السوق يمتلك أسلحة لمكافحة مشكلة المعرفة المتشتتة (وإن لم يكن قهرها تماما)، وهذه الأسلحة متضمنة في طريقة عمل نظام التسعير، وليست موجودة في النظام الافتراضي لأسعار التوازن. إن أهمية الأسعار فيما يتعلق ﺒمشكلة المعرفة الخاصة بهايك لا تقع ضمن نطاق دقة المعلومات التي ينقلها توازن الأسعار فيما يتعلق بأعمال الآخرين الذين حصلوا على معلومات مشابهة. بل تتمثل أهميتها في قدرة الأسعار غير المتوازنة على تقديم فرص للربح الصافي يمكنها أن تجذب انتباه أصحاب المبادرة المتيقظين الذين يسعون إلى تحقيق الأرباح. ويعبر إخفاق المشاركين في السوق عن نفسه في تنسيق نشاطاتهم بسبب المعرفة المتشتتة من خلال منظمونات الأسعار التي تنبه أصحاب المبادرة كيفية تحقيق أرباح صافية.
هناك معرفة قليلة للطرق المحددة لفرص الربح التي تجذب انتباه أصحاب المبادرة. ولكن، مما لا شك فيه أن لهذه الفرص قوة مغناطيسية جاذبة. إن القول بأن إمكانيات الربح الصافي تجذب الانتباه لا يعني أن إدراك هذه الإمكانيات مضمون بعملية البحث المتأني والمكلف من جانب أصحاب المبادرة. بل يجب إدراك أن إغراء الربح الصافي هو الذي يجعل صاحب القرار يتجاوز حدود إطار الخطة الموضوعة، وينجو من مشكلة المعرفة المتشتتة التي تحيط بصُنع القرار الفردي. إن يقظة أصحاب المبادرة موجودة دائماً لتحل محل تخطيطهم الضيق ضمن إطار الفعل الإنساني الأوسع. وفي نفس الوقت الذي يقوم به الإنسان بعملية احتساب التخصيص الأمثل للموارد المتوفرة آخذا بالاعتبار النتائج المتنافسة، يكون متحفزا لأي شيء قد يوحي بأن الموارد المتاحة مختلفة عن تلك التي تم افتراضها، أو ربما يجب وضع مجموعة أخرى من الأهداف والسعي لتحقيقها.
ويتم الاستجابة إلى إشارات الربح الصافي الناتج عن الأخطاء التي تنشأ عن المعرفة المتشتتة المتوفرة في المجتمع عبر العنصر الربحي في أعمال الإنسان. هذه هي الخميرة التي تخمر عملية الاكتشاف التنافسية لأصحاب المبادرة والتي تُكشف النقاب للمشاركين عن المعلومات ذات العلاقة المنتشرة في السوق. وعليه، فإن هذه العملية التنافسية لأصحاب المبادرة هي التي تتماسك مع مشكلة المعرفة الأساسية التي تواجه سلطات التخطيط المركزي. وللمدى الذي يمكن أن يحل التخطيط المركزي محل عملية الاكتشاف لأصحاب المبادرة، سواء على صعيد التخطيط الشامل للمجتمع أو على صعيد تدخلات الدولة التدريجية في نظام السوق الحر، يقوم المخططون بخنق قدرة السوق على تجاوز مشكلة المعرفة الأساسية معرضين أنفسهم إلى المشكلة ذاتها. إن مصدر المشكلة هو المعرفة المتشتتة الخاصة بهايك: لا توجد أدوات للتخطيط المركزي يمكنه من خلالها أن يتدخل في مشكلة المعرفة المتشتتة، كما إن طبيعته المركزية تعني أن عملية اكتشاف السوق تواجه صعوبات كثيرة، هذا إن لم تتوقف تماماً.
الأسواق والشركات والتخطيط المركزي

منذ بحث رونالد كوز (1937) حول نظرية الشركات، تم إدراك أن كل شركة في اقتصاد السوق هي عبارة عن جزيرة لـ”التخطيط المركزي” المحلي في بحر من قوى السوق التنافسية الهائجة. ففي داخل الشركة، نلاحظ تنسيق النشاطات بواسطة التوجيه المركزي وليس من قبل تنافس السوق عبر آلية الأسعار. يوضح نقاشنا في هذا البحث القوى التي تتحكم في موقع الحدود التي تفصل عالم “التخطيط المركزي” عن نظام الأسعار التنافسية.
لاحظنا أن استبدال اكتشاف السوق (يقظة أصحاب المبادرة لفرص الربح) بالتخطيط المركزي يولد نطاق نفوذ جديد لمشكلة المعرفة الأساسية الناشئة عن تشتت المعرفة. وعليه، وفي إطار نظام السوق الحر، يتم شراء أية ميزة مستمدة من التخطيط المركزي (على سبيل المثال، تجنب الازدواجية التي “تهدر” الموارد والموجودة غالبا في حالات التنافس في السوق) بثمن مشكلة معرفة مُعززة. يمكن أن نتوقع توسعا تلقائيا للشركات إلى الدرجة التي تتوازن فيها المميزات الإضافية للتخطيط المركزي مع الصعوبات المتزايدة للمعرفة التي تنشأ من المعلومات المتشتتة. فعلى نطاق ضيق، يمكن أن تكون هذه الصعوبات الأخيرة غير مهمة بالدرجة الكافية للتعامل معها للاستفادة من التنظيم المنسق بشكل واضح. وقد تعني المعرفة المتشتتة على منطقة جغرافية أو مؤسساتية صغيرة وجود مشكلة المعرفة الخاصة بهايك، والتي لا تشبه المشكلة المتعلقة بمؤسسات كبيرة ومعقدة، والتي يمكن حلها من خلال البحث المتأني. ومع ذلك، وبعد نقطة معينة، فإن صعوبات المعرفة يمكن أن تقلل من أرباح الشركات الكبيرة جداً. إن التنافس بين الشركات ذات الأحجام والمجالات المختلفة سيؤدي إلى كشف النقاب عن الحد الأقصى للتخطيط المركزي.
من جانب آخر، إذا تم فرض التخطيط المركزي على نظام السوق الحر، سواء كان ذلك لاعتبارات شاملة أم لا، فإن هذا التخطيط سيشتمل في الغالب على مشكلة المعرفة إلى حد لا يمكن تبريره بواسطة أي مميزات يمكن أن تمنحها الأنظمة المستندة على المركزية. إن التخطيط المركزي الذي تنفذه الحكومة يُبعد أسلحة السوق العفوية الدقيقة لمصارعة مشكلة المعرفة. وهذا التخطيط المركزي، استنادا إلى طبيعته الذاتية وكذلك طبيعة مشكلة المعرفة، غير قادر على أن يقدم أي أسلحة بديلة.
الخـاتمة

يجب أن نتذكر أنه نظرا لطبيعة مشكلة المعرفة، لا يمكن معرفة مداها وخطورتها سلفاً. إن جزءا من المأساة المتعلقة بمقترحات السياسة الصناعية والتخطيط الاقتصادي هو أن المدافعين عنهما جاهلون تماما بمشكلة المعرفة—المشكلة الناجمة عن عدم إدراك الشخص بجهله.
“التخطيط الاقتصادي ومشكلة المعرفة”: تعليق
ليونيد هورويتز[3]

ملاحظاتي موجهة إلى القضايا التي أثارها تحليل البروفيسور كيرزنر، وليس إلى الاقتراحات المختلفة المطروحة حالياً حول سياسة صناعية قومية، إلا أنني آمل أن تكون لها علاقة كخلفية لتحليل تلك الاقتراحات. كذلك، وما دام أنني أعتزم الإعراب عن مخالفتي لبعض من النقاط التي أثارها البروفيسور كيرزنر، دعوني أؤكد بأنني أتعاطف كلياً مع نقطته الأساسية، ألا وهي: تشتت المعلومات بين وحدات اتخاذ القرار الاقتصادية والتي يطلق عليها “مشكلة المعرفة المتعلقة بهايك”، والقضية الناتجة عنها والتي تتمثل في نقل المعلومات بين مختلف الوحدات.
كثير من الأبحاث التي قمت بها منذ خمسينات القرن الماضي كانت مركّزة حول قضايا اقتصاديات الرفاه، من منظور معلوماتي. إن نظريات هايك (وقد حضرت صفوفه في جامعة لندن للاقتصاد خلال العام الأكاديمي 1938-1939) قد لعبت دوراً رئيسياً في التأثير على تفكيري وقد اعترفت بذلك التأثير. بيد أن آرائي تأثرت أيضاً من قبل أسكار لانج (جامعة شيكاغو 1940-1942) وكذلك لودفيغ فون ميزس، والذي شاركت في ندواته في جنيف خلال الفترة 1938-1949.
والآن، توجد أبحاث كثيرة في هذا الميدان. إن دراسة متأنية لهذه الأبحاث سوف ترينا، في اعتقادي، بأن الفقرات الافتتاحية في بحث البروفيسور كيرزنر (والقائلة بأن درس هايك لم يُستوعَب قط من قبل علماء اقتصاد الرفاه) لا ينطبق على علماء الرفاه في مجموعهم في زمننا الحالي، بغض النظر عما إذا كان ذلك ينطبق أو لا ينطبق على الأبحاث السابقة في هذا الميدان.
دعوني أوضح ها هنا بأنني لا أعتزم أن أجادل حول مزايا أو مساوىء ما يمكن أن يشار إليه بـ”التخطيط المركزي” أو”السياسة الصناعية”. وبدلاً من ذلك، فإن هدفي من ذلك هو إدخال بعض من الشك فيما يتعلق بالحجج المبسطة التي تستخدم في بعض الأحيان في هذا الحقل. أود القول بأن الورقة التي أمامنا—وعلى الرغم من كثير من رؤاها الثمينة—لا تقدم أساساً كافياً لتكوين حكم حول المزايا المعزوة إلى “السوق الحرة”، أو “التخطيط المركزي”، أوغيرهما من أشكال التدخل الحكومي في العملية الاقتصادية. (هذا هو حكم على غرار الأحكام القضائية الاسكتلندية: ليس “مذنباً”، وليس “غير مذنب”، ولكن: “غير مثبت على أنه مذنب”)! الحالة هي كذلك لأسباب عدة، بما في ذلك غموض التعابير المستخدمة، والافتراضات الكامنة التي تصور “البيئة الاقتصادية الكلاسيكية” (والتي ستحدد أدناه)، ومسألة الحوافز، والأحكام القيمية التي تتجاوز معيار الكفاءة.
إن تعابير مثل “التخطيط المركزي” و”السوق الحرة” لهما تفسيرات كثيرة. وعند تحليل مزايا ونقاط ضعف عملية السوق، من الأمور المهمة التمييز بين الأسواق الحرة التامة، وبين الأسواق الاحتكارية أو مجموعة من قلة من الاحتكارات، وغيرهما من الأسواق غير الحرة بالمعنى التام للتعبير. وعلى سبيل المثال، ففي صناعة تتميز بتناقص التكاليف تدريجيا، لن يستطيع البقاء في السوق سوى قلة من الشركات، على الرغم من حرية الدخول للسوق. مثل هذا السوق يمكن تسميته بـ”الحرة”، ولكنه يُميِّلُ احتكار القلة وليس سوق منافسة حقيقية.
إن نظرية اقتصاد الرفاه المعروفة تؤكد نظرية باريتو بالنسبة للكفاءة الأمثل لتوازن قائم في سوق تنافسية كاملة. ولكن، ليست هنالك أسس نظرية للجزم بأن أسواق الاحتكار أو أسواق احتكار القلة تؤدي إلى تخصيص كفءٍ للموارد المتاحة. وفي الحقيقة، فإن التحليل الأولي يظهر بأن أسعار الاحتكار الموحدة أو الأسعار الموحدة في إطار احتكار القلة هما، بشكل عام، أسعار غير كفؤة بمعايير باريتو.[4] يضاف إلى ذلك أنه في ظل ظروف تتسم بالمردود المتزايد، فإن توازناً تنافسياً تاماً، هو بشكل عام مستحيل التحقيق، ذلك لأن تعظيم الربح في ظل سقف محدد للأسعار سوف يستدعي إنتاجاً يتراوح بين الصفر أو إنتاجاً غير محدود. لذا، فإن من الصعب رؤية كيفية تبرير كفاءة السوق الحرة بوجود مردود متعاظم، سواءً تم تفسير المصطلح الأخير بالمنافسة الكاملة، أو، مجرد حرية الدخول.
إن الصعوبات المصاحبة للمردود المتعاظم تشكل فقط حالة خاصة من بين مشكلة أكبر وأهم، إذ إن نظرية ضمان الكفاءة الأمثل لتوازن قائم في سوق تنافسية تفترض غياب العوامل الخارجية، وتستبعد كذلك السلع العامة.[5]
يضاف إلى ذلك، كما رأينا أعلاه، فإن هنالك ظروفاً (مثل المردودات المتزايدة) حيث لا يمكن لأية مجموعة من الأسعار أن تحقق توازناً بين العرض والطلب؛ يستدل من ذلك بأن تنافساً متوازناً تاماً هو أمر مستحيل المنال. وهكذا، ومن أجل ضمان إمكانية وجود أسعار متوازنة—وتعرف من الناحية التقنية الفنية بوجود توازن تنافسي كامل—وكذلك التوازن التنافسي الكامل والأمثل، فإن النظريات ذات العلاقة تقدم مجموعة من الفرضيات، مستبعدةً عوامل مثل الآثار الخارجية، والسلع العامة، والمردودات المتزايدة، وتلك الأصناف من السلع العامة غير القابلة للقسمة، وغير ذلك. وعندما تستوفى جميع هذه المعطيات (مع استبعاد العوامل المقلقة)، فإننا نتحدث عن اقتصاد كلاسيكي أو مناخ كلاسيكي. لذا، فإن النظريات التي تضمن تحقيق التوازن التنافسي الأمثل تفترض وجود بيئة كلاسيكية.
من الناحية العملية، مع ذلك، فإن المرء كثيراً ما يواجه بيئات غير كلاسيكية. التلوث هو مثال على عامل خارجي سلبي مهم، بينما المعلومات المستقاة من الاختراعات الجديدة أو السرور الذي ينشأ من المؤلَّفات الموسيقية تدلل على عوامل خارجية إيجابية أو سلع عامة. الدفاع الوطني هو مثال آخر على سلعة عامة بالغة الأهمية. الجسور والسدود تجسد عدم القابلية للقسمة، وهنالك أمثلة عديدة على اقتصاديات الحجم—والمعروفة بالمردود المتصاعد (للحجم). إنني لا أعرف أي أساس للادعاء بأنه، في مثل هذه الحالات، فإن عمليات السوق الحرة (بغض النظر عن كيفية وصفها) توفر تخصيصاً مثالياً للموارد.
لقد اتضح من عدد من الدراسات (ماونت وريتر 1974؛ أوسانا 1978؛ هورويتز 1977) بأنه في البيئات الكلاسيكية، فإن آلية التسعير التنافسية المثالية تستخدم حداً أدنى من المساحة لنقل رسالتها؛ أي أنها تستخدم الحد الأدنى من المتغيرات لنقل المعلومات بين الوحدات الاقتصادية. وهذا يؤكد نظرية هايك فيما يتعلق بالكفاءة الإعلامية لآلية الأسواق. ولكن، فقد تبين بالأمثلة (هورويتز 1977؛ كالساميليا 1977) بأنه في غياب التحدب لسلسلة احتمال الإنتاج،[6] فقد يكون مستحيلاً إيجاد أية آلية لامركزية ذات كفاءة عند استخدام مساحة ذات أبعاد محدودة لنقل رسالتها.
وبالإضافة إلى الصعوبات في تحقيق الكفاءة في البيئات غير الكلاسيكية، علينا أن نلاحظ بأن الكفاءة هي واحدة فقط من بين المعايير الممكنة، والتي تبنى على أساسها الأحكام التقييمية حول النظم الاقتصادية. بعض الناس قد يكونون مستعدين للتضحية بالكفاءة في سبيل المساواة؛ فبالنسبة لهم، فإن حقيقة أن عملية السوق تحقق الكفاءة، قد تكون غير كافية—حتى لو افترضنا وجود بيئة أو مناخ كلاسيكي. بطبيعة الحال، فإن هذا التوجه لا يحتاج بالضرورة إلى التخلي عن عملية السوق، بل ربما تعزيز ذلك بوسائل مثل الضرائب والدعم المالي. وهكذا، يمكن وضع دور للحكومة على أسس تقييمية، حتى لو تم الاعتراف بأن التدخل الحكومي سوف يؤدي إلى تخفيض كفاءة النظام الاقتصادي.
كما إنني أرى مشكلة في ترويج حجج البروفيسور كيرزنر حول النظرية أعلاه، فيما يتعلق بالتوازن التنافسي الأمثل. إن الورقة أمامنا جازمة في تجنب الاعتماد على الأسواق التي تكون بالفعل في حالة توازن. ولكن في الافتراضات الكلاسيكية، فقط يكون التوازن التنافسي هو الذي يضمن الوضع الأمثل. لذا، فإن أفضل ما يمكن قوله بالنسبة لحالات فقدان التوازن أنها قد تتجه نحو التوازن. وفي الحقيقة، فإن دراسة اشتركت في كتابتها مع أرو وبلوك عام 1959، حددتْ مجموعة من الحالات، حيث كان مثل هذا التوجه نحو التوازن قائماً. ولكن أبحاثاً لاحقة (على سبيل المثال بحث سكارف 1960) قد كشفت النقاب عن أن هذا التوجه ليس موجوداً دائماً، حتى في حالات السوق التنافسية المثالية. وفي جميع الأحوال، فإن من الصعب رؤية كيف يمكن في غياب قوى الاستقرار الادعاء نظرياً بأن الأسواق تؤدي إلى الكفاءة.[7]
إن التأكيد الأساسي في دراسة كيرزنر هو حول ما يسميه المؤلف “مشكلة المعرفة الأساسية.” وإلى الحد الذي يتجاوز فيه هذا القول تشتت المعرفة وفق هايك، فإن “قضية المعرفة الأساسية” هذه تبدو، ببساطة، من منطلق أن معظم القرارات—سواءً من قبل المخططين أو الشركات أو الأفراد—لا بد أن تتم دون توافر معلومات كاملة ودقيقة. لا يوجد أي خلاف حول هذه النقطة. ولكن بعض المناقشات على ما يبدو توحي بأن مثل هذا الوضع من عدم اليقين يجعل اتخاذ أي سلوك عقلاني مستحيلاً منطقياً.
إنني لا أستطيع الاتفاق على ما تقدم. هنالك بالفعل نظريات متطورة حول السلوك العقلاني في حالات عدم اليقين، بما في ذلك نظرية البحث. إن نظرية القرار الإحصائية هي فقط واحدة من فروع هذا العلم. ولكن حتى إذا قبلنا بالصعوبات العملية لسلوكيات البحث الأمثل، فإن المرء يجد نفسه منساقاً إلى إطار ما يسمى بـ”العقلانية المقيدة” (سايمون 1972؛ رادنر 1975).
إنني، بطبيعة الحال، أوافق على أن الناس كثيراً ما يتصرفون من منطلق قناعات ليست صحيحة في الواقع. وفي أفضل الحالات، يكون أملنا أن يكون التصرف عقلانياً في ضوء التنبؤ بالمستقبل وليس من قبيل استرجاع الماضي. ولكن هذه المصاعب تواجه كل إنسان وليس القائمين على التخطيط وحدهم. صحيح أنه إذا كانت معلومات المخطِّط أو قناعاته مستندة إلى نقل غير كامل، فإن ذلك سوف يشكل مصدراً إضافياً للخطأ. ولكن تلك، مرة أخرى، هي مشكلة هايك!
وكما ذكر أعلاه، فإن آلية السوق تخفِّض بالفعل مساحة الرسالة المطلوبة، بيد أن ادعاءاتها قائمة على افتراض وجود بيئة كلاسيكية. ففي مناخات غير كلاسيكية، وحيث هنالك قيم مهمة غير قيمة الكفاءة في الأداء، فإن بالإمكان تقديم حجة بعدم كفاية عمليات السوق، وربما في صالح دور حكومي. ولكن لا يجوز أن يعتبر ذلك مرادفاً للتخطيط الحكومي. وفي الحقيقة، فإن هذا الدور يمكن أن يقتصر على تقدمة وتنفيذ ما يمكن تسميته بـ”قوانين اللعبة”. وبالأخص، قد يشمل ذلك خلق حقوق ملكية من خلال حقوق نشر أو براءة ملكية أو اختراع. إن خلق مثل هذه الحقوق يشكل تدخلاً حكومياً في عملية السوق الحر، ولكن لا يشكل ما أسميه بـ”التخطيط المركزي”. والصيغة الأخيرة ربما يجب أن تُخصَّص لنمط من التدخل الذي يمكن تسميته بـ”الاستهداف الجزئي”، والتي تكون السياسة الصناعية أو مراقبة الأسعار أو التقنين أمثلة عليها، والتي تتخذ الحكومات من خلالها قرارات تتصل بالإنتاج، والانفاق، وأسعار سلع معينة أو مجموعة من السلع.
ومع ذلك، فإن من المهم التمييز بين التخطيط المركزي الشمولي (الذي تجري محاولته في الاتحاد السوفييتي) من ناحية، وعناصر من تخطيط تلحق باقتصاديات السوق الحرة (كما نراه عادة في البلدان الغربية) من ناحية أخرى. هكذا، يجب أن نعترف بأن ما بين الاقتصاد الحر والاقتصاد المركزي الشمولي (الاستهداف الجزئي) مساحة من الاحتمالات الممكنة، بعضها يشمل استهدافاً جزئياً، وبعضها الآخر تدخلاً حكومياً بقوانين اللعبة (وبدون عنصر التخطيط أو الاستهداف الجزئي).
شخصياً، فإنني أتفق في الرأي مع البروفيسور كيرزنر بأن دولة كبيرة حديثة هي فوق الحجم الأمثل حتى تكون وحدة قابلة للاستهداف الجزئي. أسباب قناعتي—بالإضافة إلى حقل المعرفة الذي أشار إليه البروفيسور كيرزنر—لها علاقة بإحباط الحوافز الشخصية نحو الإبداع أو الكفاءة،[8] بسبب نمط تخطيط جزئي، كما هو الحال في الاتحاد السوفييتي أو الصين. ولكن ذلك لا يعني بأن النظام الحر يشكل حلاً عالمياً شاملاً.
وبالأخص، ما زال يتوجب تقديم الدليل (كما هو الادعاء في الصفحة 417) بأن “التنافس بين الشركات من أحكام ومجالات مختلفة تتجه نحو إظهار الحد الأمثل لمثل ذلك (التنظيم المركزي).”
ففي مناخ كلاسيكي ربما يكون ذلك صحيحاً، ولكن من حق المرء أن يتساءل، على سبيل المثال، عما إذا كان التوجه نحو الاندماج الذي يجري حالياً في الولايات المتحدة من شأنه منطقياً أن يدفع الاقتصاد إلى مزيد من الاقتراب من الأداء الأمثل. إذا كانت النتيجة هي الاحتكار، فإن عدم الكفاءة سوف تتبع.
دعوني أقدم اعتراضاً آخر حول الكلمة الختامية في دراسة كيرزنر، والقائلة بأن دعاة السياسة الصناعية أو التخطيط المركزي، إنما ينطلقون بالضرورة من انعدام الإدراك بمشكلة المعرفة (دعاتها المخلصون غير الواعين كلياً لمشكلة المعرفة). في رأيي، فإن انعدام تقدير أهمية الحوافز يشكل مسألة أكثر خطورة. (الصين هي مثل على اقتصاد يدار مركزياً، وقد اعترفَتْ بأهمية الحوافز وبمنافع الإدارة اللامركزية). إن بعض الدعاة يرون السياسة الصناعية كحل يأتي في المرتبة الثانية، بالنظر للعيوب القائمة في الأسواق المحلية والدولية، وعلى الرغم من الصعوبات الناشئة عن مشكلة المعرفة. يستطيع المرء أن يختلف مع الرأي القائل بأن هذه قضية تأتي في المرتبة الثانية، ولكن دون أن يُتهم دعاتها بعدم الوعي بمثالبها.
إن قضية الدور المناسب للأسواق وللتدخل الحكومي هي قضية معقدة، ومن وجهة نظري، فإن الحل لا يكمن في أيّ من الطرفين المتعارضين. التحليل الموضوعي، والذي تُعتبر دراسة البروفيسور كيرزنر مساهمة مهمة لها، يُظهر المزايا والنواقص للحلول القائمة على طرفي نقيض؛ إنه يشير إلى نقاط القوة في اقتصاد السوق، مثلما يشير إلى تلك النواقص التي تبرر البحث عن وسائل مؤسسية إضافية تشمل تدخل القطاع العام. والأرجح بأن الأجوبة لن تسر الأيديولوجيين في كلا النقيضين.
ملاحظات
[1] لقد عمّق هايك (1979: 190) فهمنا لمشكلة المعرفة المتشتتة والتي تذهب إلى حد أبعد من “الاستفادة من المعلومات المتعلقة بالحقائق الراسخة التي يمتلكها الأفراد.” هو الآن يؤكد على مشكلة استخدام القدرات التي يمتلكها الأفراد لاكتشاف المعلومات الراسخة. وهذا يقود هايك إلى توضيح أنه لأن الشخص “سيكتشف ما يعرفه أو يمكنه أن يكتشف ذلك فقط عندما يواجه مشكلة حيث سيساعده ذلك،” فإنه قد لا يكون قادرا أبدا “على أن ينقل كل المعلومات التي يحصل عليها.” لقد قام البروفيسور لافوي أيضا من خلال عمل له لم يتم نشره، وبناء على أفكار من أعمال مايكل بولاني، بالتأكيد على الصلة المتعلقة بالحقيقة الضمنية للمشكلة الاجتماعية للانتفاع بالمعرفة المتشتتة. إن البحث الحالي يتوصل إلى استنتاجات مماثلة ولكن من بداية مختلفة إلى حد ما.
[2] نتجنب هنا شرح أي من الصعوبات المعروفة المحيطة بـِ: (أ) مفهوم التسلسل الهرمي للأهداف الاجتماعية المشابه بتصنيف الأهداف الفردية؛ و(ب) المفاهيم ذات العلاقة بالكفاءة الاجتماعية والاختيار الاجتماعي.
[3] أستاذ روجنتس للاقتصاد في جامعة مينيسوتا.
[4] نظرية كوز، كما أفهمها، فقط تقوم باستكشاف أبعاد طرح فرضية مفادها أن العناصر الاقتصادية التي تمتلك المعلومات وتعمل في السوق دون قيود اقتصادية ستصل إلى تخصيص باريتو الامثل. بيد أن الأسعار الموحدة في ظل الاحتكار أو احتكار القلة لا تلبي هذه الفرضية.
[5] حسب التعريف المعتاد، السلع العامة هي ذلك الصنف من السلع أو الخدمات التي تتواجد باستعمالها من قبل الشخص (أ) لا يتعارض مع احتمال استعمالها من قبل الشخص (ب) (ويمكن للحكومة أو القطاع الخاص تزويد هذا الصنف من السلع).
[6] العوائد المتزايدة هي حالة خاصة لعدم انحداب سلسلة احتمال الإنتاج.
[7] إني أؤكد كلمة “نظريا” لأنه لا البروفيسور كيرزنر ولا أنا نحاول معالجة البيّنات التجريبية فيما يتعلق بالاداء الحقيقي للأنظمة الاقتصادية المختلفة.
[8] البروفيسور كيرزنر يعترف بدور الحوافز في البحث عن المعرفة. وإني اشير ها هنا إلى حوافز السلوك الكفؤ على ضوء المعرفة المتوفرة.
مجلة كيتو، المجلد 4، رقم 2 (خريف 1984).
© معهد كيتو، منبر الحرية 12 تشرين الثاني 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

ملخص إجرائي
يعتبر علم الاقتصاد وللوهلة الأولى، بالنسبة للإنسان العادي، تعبيراً مبهماً، فهو يتألف من مجموعة من الأفراد يكون الشغل الشاغل لكل منهم التركيز على أهدافه الخاصة، غير مكترث بما تنطوي عليه المصلحة العامة. إذ ليست هناك سيطرة أية وكالة مركزية لتسيطر بل لتراقب على قرارات الإنتاج والتبادل المستقل التي لا حصر لها، والتي يتخذها هؤلاء الأفراد الذين لا حصر لهم. ولا غرابة في أن اقتصاد السوق لا يبدو سوى غابة من الصراعات والنشاطات الفردية غير المتناسقة. ووفقاً لهذا المنظار، فان تنظيمات الدولة لا تسد سوى حاجة بسيطة وواضحة ألا وهي تقديم جزءاً يسيراً من التنسيق في هذا الخضم الهائل من العماء الفوضوي. إن ما نحتاج إليه بشكل واضح لإنقاذ الناس من النتائج الكارثية الناجمة عن سعي كل فرد خلف مصالحه والتي تولد تضارباً مع مصالح أخرى لأفراد آخرين هو الإرشاد المتأتي من وكالة تتمتع بالقوة اللازمة والمعرفة والدافع لتبني التوافق أو التنسيق.
وبالطبع، منذ آدم سميث ولحد الآن، دأب الاقتصاديون على رفض هذه النظرة الساذجة للسوق. على الرغم من الاختلاف الشاسع في تقييماتهم لفوائد التنظيم الحكومي، كان رجال الاقتصاد قد أرغموا على أن يأخذوا تلك التنظيمات بعين الاعتبار ضمن إطار السوق، وبأساليبهم المتنوعة، والتي تعكس—بالنسبة لسميث—النتائج الحميدة للـ “اليد الخفية”. وفي غمرة الجدالات الحديثة الدائرة حول التنظيم، جاءت الانتقادات الأكثر شهرة للتنظيم الحكومي مقترنة بنموذج “كلاسيكي محدث”. كما ستقدم هذه المقالة أيضاً وجهة نظر تشكك، على نحو جاد، بوظائف التنظيمات، ولكنها متأتية من نموذج نمساوي. كما يتوجب علينا أن نحدد، وبشكل حذر، بعض الاختلافات بين هذين المنظارين، ولكننا قد نصف جوهر الاختلاف بشكل موجز. فالتنظيم الحكومي، بحسب المنظور الكلاسيكي المحدث الشهير، موضع شك لأن النتائج غير المقيدة لعملية السوق الحر هي حميدة، في إحدى مظاهرها. ومن ناحية أخرى، وحسب المنظور النمساوي، تعرض التنظيم الحكومي للانتقاد على أساس النظر المعمق المتعلق بالشخصية الحميدة (نسبياً) لعملية السوق الحرة. على الرغم من أن كليهما يرفضان وجهة النظر الساذجة القائلة بأن السوق فوضوي، فإن هنالك الكثير من التباين بين هذين النوعين من الانتقادات الموجهة للتنظيم الحكومي. كما يجب أن نلاحظ أن كليهما، سواء كانا مبنيين على “نتائج حميدة” أو “عملية حميدة”، فإن المعيار العام لتحديد مدى جودة ولطف ما هو حميد هو مدى تلبيته لبعض الأهداف المحددة. فهنالك، في الواقع، بعض الغموض النظري الإشكالي الذي ينطوي عليه هذا المعيار، ولكننا قد نتجنب الخوض في هذا الأمر في ورقتنا هذه. والأمر ببساطة هو أن الخبير الاقتصادي، من خلال التشكيك بالتنظيم الحكومي، لا ينادي بضرورة أن يكون هناك هدفاً أخلاقياً حميداً خلف عملية السوق أو نتائجها. والقضية ذات العلاقة هي التأثير الذي من خلاله يقوم النظام بخدمة أهداف المشتركين من الأفراد.
نتائج السوق
ينبع تقييم النتائج الحميدة للتنظيم الحكومي من الاعتقاد بأن الأسواق يمكن في كل الأوقات أن نفترض بأنها في توازن تنافسي أو قريبة منه. يُنظر إلى نظام السوق على أنه كفوء لدرجة أن يضمن وفي كل الأوقات أن تكون الأسعار عند المستوى الضروري تقريباً لترتيب أسواقها الخاصة. بعيداً عن الفوضوية، ينظر إلى السوق على أنه مؤسسة تنسيقية هائلة، تستطيع أن تساوي بين المشترين المفترضين مع البائعين المفترضين ضامنة في الوقت ذاته أن تتم كل فرص التبادلات ذات الفائدة للطرفين والممكنة التحقيق بنجاح. يُنظر إلى الإخفاقات التي يزعم أن تُلاحظ في تخصيص السوق للموارد، حسب وجهة النظر هذه، على أنها إخفاقات حسب رأي أولئك الذين لا يتفقون مع تفضيلات المستهلك، أو الذين يفشلون في فهم الضغوطات التي لا مفر منها والتي تفرضها الشحة. وحتى لو كنا مهيأين لتبرير دوافع المنظمين على أنها لاتتسم بالأنانية وعدم الانحياز، للعبث بالنتائج الحميدة المنسوبة للسوق والتي يجب أن تحرف مسار الإنتاج، وتخصيص الموارد، من القنوات التي تم تعيينها حسب تفضيلات مشتركي السوق أنفسهم (في ضوء هبات الموارد المعطاة) إلى القنوات المفروضة بشكل عشوائي والتي هي “أقل حسناً”. وحسب وجهة النظر هذه، فإن التتابع الدقيق لأحداث السوق والتي يمكن الحصول من خلاله على توازن بين الأسواق، وضمنها، هو أقل أهمية من الظرف الذي بموجبه يكون توازن من هذا النوع قد أُنجز تقريباً مسبقاً.
ومن أجل الاستنتاج بأن نتائج السوق هي حميدة حقاً، فإن وجهة النظر هذه تعتمد بشكل كبير على افتراض وجود أسواق تنافسية مثالية. إن التوازن الحاصل بين الأسواق، وضمنها، هو التوازن السوقي التنافسي الأمثل—وهو التقييم المفضل للتوازن التنافسي من قبل اقتصاد الرفاه الذي يعلم الاستنتاجات المضادة للتنظيم ويخبرها حول وجهة النظر هذه. ولا عجب بأن رجال الاقتصاد الداعمين لسياسات الحكومة التنظيمية—وبدون الحاجة إلى رفض وجهة نظر التوازن في السوق ولا نظريات الرفاه المرتبطة بالتوازن—كانوا قادرين ببساطة على الإشارة إلى الإفتراضات الخاصة جداً، والتي هناك حاجة لها قبل النطق بقرار حول السوق الذي يفتقر إلى تدخل الدولة. ولعل أهم تلك الافتراضات هو التنافس المثالي—أي أن السوق يتألف من مشترين وباعة صغار العدد يمثل سعر السوق لهم بياناً من البيانات غير المتأثرة بالتسعيرة أو المخرجات أو قرار الشراء لأي واحد منها. يفشل هذا الافتراض الخاص في التلاؤم مع حقائق الأسواق المعاصرة. وهذا حقيقي تماماً حيث أن العديد من الاقتصاديين—وبسبب الاعتماد على أساس توازن السوق—نظروا بصورة عامة بعدم ارتياح للتنظيم الحكومي، كما أنهم اعتبروا رغم هذا كله أنه من المستحسن أن تتدخل الحكومة لضمان تقريب معقول لظروف التنافس المثالية.
ليس من الضروري أن نقتات على التساؤلات التي يمكن أن يطرحها المناصرون للتنظيم الحكومي، أو التي طرحوها ضد وجهة النظر هذه (فيما يتعلق بصلة الافتراضات الضرورية لوجهة النظر هذه في أن تكون معقولة وضرورة أن تكون الأطروحة، القائلة بأن الأسواق تتوازن بنجاح، صادقة). أما الآن فسنتوجه إلى المنظور النمساوي لتحليل التنظيم.
السوق كعملية
وحسب وجهة النظر الثانية هذه لا يزعم أحد أنه، وتحت أي ظرف، يمكن للسوق أن يصل إلى مجرد اقتراب من حالة التوازن. لقد حدث جدل فقط على أنه حيثما لم يتم تحقيق ظروف التوازن، فإن هذا الظرف بذاته يخلق الدوافع من أجل التغييرات النظامية التي تميل إلى إقصاء اللاتوازن الموجود. إن القضية المضادة لتنظيم السوق (حتى من قبل حسني النية من موظفي الخدمة المدنية) تستند على تكهنات حول هذه العملية التصحيحية، وحول شخصيتها الحميدة. وقبل أن تقود هذه العملية التصحيحية إلى أي تنسيق مشترك بوقت طويل، كان من الممكن أن تحدث تغييرات في البيانات الأساسية للسوق (كتفضيلات الأفراد وهبات الموارد والتكنولوجيا المتوفرة) وأن تحول الحالة الافتراضية لتوازن السوق (المعرف حسب صلته بالحالة الابتدائية للبيانات) إلى شيء غير ذي صلة تماماً. ولكن التباينات بدورها تُنشّط وعلى الدوام التغييرات في هذه الأنساق الموجودة لتخصيص الموارد.
إن التأكيد على خصائص عملية صناعة السوق، بدلاً من النموذج التخصيصي الذي يتم عن طريق العملية، يسلط الضوء على عدم الترابط الكلي لأفكار المدينة الفاضلة (الطوباوية) ذات التنسيق المثالي. ووفق هذه النظرة لاقتصاد السوق، فإن الحكم على نظام اقتصادي عملي وواقعي في ضوء معيار التنسيق المثالي لا يعني فقط أن تعامل إمكانية التنسيق المثالي بجدية مفرطة (وبذلك تعامل الأسواق بتوازن كامل) وهذا بحد ذاته سوء فهم كبير للمشكلة الاقتصادية الأساسية التي تواجه المجتمعات المتمدنة. والحقيقة هي، كما أشار هايك قبل أربعة عقود خلت، أن المشكلة الاقتصادية التي تواجه المجتمع تتكون من الحاجة إلى ضمان أن تسهم نتف المعرفة المتوفرة للأشخاص المنعزلين أو المفردين، في القرارات ذات العلاقة، والتي تؤثر على النمط المجتمعي لتخصيص المورد. إن محاولة قياس النجاح الذي يتعامل بموجبه المجتمع مع مشكلته الاقتصادية، وبمعيار يعكس نمطاً ملائماً لمعرفة غير محدودة لمركزية افتراضية، هو أشبه بمحاولة تقييم كفاءة نمط التخصيص لموارد نادرة، وذلك عن طريق مقارنة نتائجها مع تلك التي يمكن تصورها لعالم تتلاشى فيه الندرة أو الشحة: إن المشكلة بمجملها هي كيفية الانسجام مع الندرة أو الشحة على نحو ممتاز. وعلى نحو مماثل فالمشكلة الاقتصادية-الاجتماعية هي كيفية الانسجام مع لامركزية المعرفة التي لامناص منها.
بعد أن اطلعنا على عدم ترابط استخدام معيار المعرفة المطلقة، والتعقيدات التي تتكون منها المشكلة الاقتصادية التي تواجه المجتمع عندما تؤخذ عواقب التغيير المشكالي في البيانات الأساسية في الحسبان، يصبح من الواضح وجوب إيجاد القياس المعياري، بدلاً عن التنسيق المثالي. تقترح وجهة نظر “العملية” بأن القياس الأمثل يجب أن يفتش عنه في المقدرة التي تعزى لعملية السوق والتي تكون خدمتها على شكل “إجراء اكتشافي” (العبارة لهايك). يرى هايك أن ما يحدث خلال عملية السوق من تفاعل للقرارات الفردية، هو أن المشاركين يكونون ميالين إلى اكتشاف النواحي ذات العلاقة لكل القدرات والرغبات. وهنا يبدو أن لدينا محكّاً مفاهيمياً ذا علاقة، يمكن من خلاله تقييم كل من عملية اقتصاد السوق، وسياسة التوصيات التي تصنع لتعديل تلك العملية (أي عملية اقتصاد السوق). ولا داع لأن يكون سؤالنا: هل إن نتائج عملية السوق هي على نحو لا يمكن اكتشاف شيء بعدها، أو إنها قريبة من ذلك؟ بل علينا أن نسأل: هل بإمكان البنية المؤسساتية (أو تعديلات مقترحة عليها) أن تحفز التدفق المهم والثابت للاكتشافات المتبادلة (الصحيحة)؟ فإلى المدى الذي يمكن أن تكون فيه الإجابة على هذا السؤال بالإثبات ممكنة، يمكننا أن نقول بوجود عملية “حميدة”. وإلى المدى الذي يعزز فيه التعديل المقترح نزعة النظام لتحفيز الاكتشافات (الصحيحة)، فإنها تمثل مقترحاً “حميداً”. من ناحية أخرى، إذا كان المقترح يعيق أو يشوه إجراء الاكتشاف، فهو مقترح “ضار”.
وبالتأكيد فإن تبني طريقة العملية لا يعني أننا لسنا مهتمين بالنتائج. ومع ذلك فإن الفاعلية التي تحفز العملية عن طريقها الاكتشافات يمكن أن يتم قياسها، بشكل جزئي، عن طريق ملاحظة النتائج. ولكن حتى وإن كانت الحال على هذا النحو، لا تتم الإشارة إلى النتائج بسبب الرغبة المطلقة في نمط التخصيص الذي تستعرضه، ولكن بسبب مدى الاكتشافات المعمولة سلفاً والتي تفصح عنها. فلنر كيف أن اقتصاد السوق، ومن خلال منظور العملية، ينسق نشاطات المشاركين.
السوق كإجراء اكتشافي
تتخذ القرارات في اقتصاد السوق بشكل مستقل من قبل المشاركين بالسوق كمستهلكين أو مالكي موارد أو منتجين أو أصحاب مبادرة. وتتخذ هذه القرارات على أساس ما يعتقده الأفراد كأفضل الخيارات المتوفرة لديهم. وبما أن المتوفر من الخيارات هي ذاتها نتائج خيارات الآخرين الفردية، فإن قرارات الأفراد تتم على أساس تقييم قرارات الآخرين المتوقعة. ومن الواضح أن تكون هذه التقييمات محتملة الخطأ بدرجة كبيرة أو صغيرة. قد يقدم المشترون أسعاراً عالية لاعتقادهم الخاطئ بأن لا أحد مستعد للبيع بسعر أقل. فالبائعون يعرضون البيع بأسعار مخفضة لأنهم يعتقدون بأن لا أحد مستعد للشراء بأسعار أعلى. ويحجم المنتجون عن إنتاج مادة ما لاعتقادهم الخاطئ بأن الموارد المطلوبة لإنتاجه لا يمكن الحصول عليها إلا بكلفة ستضع المنتج بعيداً عن متناول المستهلكين المحتملين. أو قد ينتجون مادة أخرى بسعر مرتفع لاعتقادهم بأن المشترين المحتملين متلهفين أكثر لشرائه وهلم جرى.
إن كل قرار خاطئ من تلك القرارات سيميل إلى حدوث عواقب معينة، وبصورة منتظمة، فالمغالاة في الظن بإعجاب المستهلكين بالمنتج سيترتب عليه خسائر في السوق. فعندما يبالغ مُنتِج ما في كلف الإنتاج، أو يبخس تقدير منتَج ما لدى المستهلك، فإنه يتجاهل الفرص لكسب الربح مما من شأنه جذب المزيد من أصحاب المبادرة. وكنتيجة لتلك الأنواع المعروفة من خبرات الكسب والخسارة، فإن المشاركين في السوق يتعلمون تقييم حدود المعاملات ذات الربح المتبادل الممكن مع شركائهم بدقة أكثر.
لاحظ إننا لا نقول بأن هذه الإخفاقات واكتشافات الربح تستبعد كل الأخطاء التي تم ارتكابها. نحن نقول فقط بأن نشاط السوق المبني على الخطأ يولد الباعث والخبرة التي تميل إلى تشخيص مكان ارتكاب الخطأ، وتحفز نشاطات أقل خطأً. سيتعلم البائع المحبط في توقعه تحقيق كسب كبير أن بإمكانه توقع أسعاراً منخفضة في أحسن الأحوال. أما البائع الذي يتقبل سعراً أقل من السعر المدفوع من قبل المشترين الآخرين في السوق، فيساعد في خلق موقفٍ يباع فيه المنتج ذاته بسعرين مختلفين—وهكذا يقدم الفرصة لتنبيه أصحاب المبادرة للشراء ضمن حدود السعر الواطئ وبيعه بالسعر العالي. إن مثل هذه الفرص الواضحة المعالم من أجل كسب خالص، تميل إلى جلب الانتباه، فيتم استغلالها ولذلك تستبعد—في خلال مسيرتها التي يكون فيها الخطأ الأولي ذاته قابل للتصحيح. ولهذا التتابع صفة شعرية تقريباً:1) تتجلى الأخطاء ذاتها في خلق فرص الربح أو النكسات المجربة، 2) تميل فرص الربح إلى أن تستغل وتكتشف، وتميل الإخفاقات إلى إعطاء المشاركين في السوق، ولا سيما المتفائلين منهم، معلومات أكثر واقعية، وتتوحد هذه الميول من أجل: 3) إقصاء الأخطاء الابتدائية (وفرص الربح والإخفاقات التي تتولد). وهنا يتوفر الباعث من أجل اكتشاف متبادل عن طريق تبعات الاكتشاف الابتدائي لهفوات وإخفاقات السوق.
الربح، المبادرة، وعملية الاكتشاف
من الأهمية بمكان أن نلاحظ الدور الذي يلعبه في عملية السوق هذه الربح الصافي من المبادرة. تظهر فرص الربح الصافي باستمرار وكأنها أخطاء يرتكبها المشاركون في السوق في هذا العالم المتغير. وتنشأ السمة العابرة لتلك الفرص، والتي لا يمكن تفاديها، من ميل السوق الهائل لجعل أصحاب المبادرة يلاحظون ويستغلون ومن ثم يستبعدون تلك الاختلافات في السعر الصافي. إن التناقض في فرص الربح الصافي يكمن بالتحديد في أنها تبرز بصورة مستمرة، ولكنها ومع ذلك تتلاشى باستمرار في الوقت ذاته. إن عملية الخلق والهدم المستمرة لفرص الربح الصافي هي التي تصنع الجراء الاكتشافي للسوق.
إنها العملية التي تجعل أصحاب المبادرة يتماشون مع التغيرات في تفضيلات المستهلكين، وضمن التقنيات المتوفرة والموارد المتاحة. وكما لاحظنا فإن فرص الربح تعكس فروقات الأسعار. بل إن هذه الفروقات في السعر تعكس الخطأ المرتكب في الماضي. بيد أن فرصة الربح المتحققة على هذا النحو تمارس قوة جذب هائلة على يقظة أصحاب المبادرة. بينما قد يظهر الخطأ بذاته وبصورة عامة كمحفز للتصحيح الذاتي، كما أن الخطأ الذي يولد فرص الربح الصافية يجعل أصحاب المبادرة أكثر دراية بتلك الفرص وهكذا فهو يحفز الإقصاء الذاتي.
إن اعتقادنا بوجوب عدم تشويه فرص الربح الصافي التي سيتم الانقضاض عليها من قبل أصحاب المبادرة لتوحي بأن جميع فرص الربح الصافي قد تم اقتناصها مسبقاً وفي كل الأوقات حتى قبل ظهورها؛ إن هذا الخطأ شائع جداً بيننا. ومن ناحية أخرى، يجب أن لا يوحي الوجود الدائم للخطأ بعدم وجود قوى نظامية في السوق تميل إلى إقصاء الخطأ. إن القوة الدافعة لعملية السوق في الاكتشاف المستمر للخطأ المستمر على الظهور هو الإدراك أو الحذر التجاري. إن الحقيقة هي أننا (سواء كنا رجال اقتصاد أو أطباء نفسيين أو رجال أعمال) نعرف القليل جداً عن مصادر وطبيعة الدراية التجارية، ولكننا نعرف ما يكفي لفهم أن السوق يعتمد عليها لمقدرتها المتميزة للعمل كإجراء اكتشاف اجتماعي. وإذا ما توجب على السوق الحر أن يعتمد على عملية الاكتشاف التجاري لحسن نواياه الاجتماعية، حسب ما نفترض في هذه المقالة، يتوجب علينا إذن، كصناع سياسات أن نفهم بعمق الأوجه الحساسة لهذه العملية، وأن نأخذ كل خطوة من شأنها أن تجنبنا التشويه والإعاقة.
لا يقتصر الإدراك التجاري على ملاحظة فروقات الأسعار الموجودة سلفاً. فالإدراك التجاري يذهب إلى أبعد من استغلال الفرص المتاحة من أجل المضاربة الفورية في الأسواق اليومية. إن صاحب المبادرة الاستكشافي الذي يتوقع ارتفاعاً في سعر مادة ما، فيشتري الآن وبالسعر المنخفض من أجل حصد ربح صاف عند بيع المادة غداً أو بعد عشرين عاماً، فهو بذلك يعمل على محفز “درايته” أو إدراكه لغياب التنسيق بين ما هو متوفر اليوم وما يمكن الحاجة إليه غداً أو بعد عشرين عاماً. إذا ما اتضح أن صاحب المبادرة التكهني هذا صائب، فإن غياب التنسيق هذا سيُرى على أنه ناشئ عن أخطاء أولئك الذين فشلوا في توقع ميول السوق المستقبلي بشكل صحيح.
وقد نوغل في الإسهاب في الأمر. وقد لا يمكن ملاحظة فرصة الربح الوقتي أو السريع من قبل المضارب ولكنه في الحقيقة قد يخلقها. إن صاحب المبادرة ذا الخيال الواسع والخلاق الذي يشتري موارد اليوم بثمن بخس من أجل تسويق فكرة جديدة تماماً، الغد أو بعد عشرين عاماً من الآن، قد عمل على جلب تخصيص لموارد المجتمع وإدخالها في تنسيق أعظم مع الاحتمالات الحقيقية التي تكشفها عبقريته المبدعة. ومن منظار تاريخي، إن ما سيتم الكشف عنه على أنه “أخطاء” الأجيال السابقة الذين لم يحلموا بالاكتشافات الهائلة “المنتظر” تحقيقها قد تم “تصحيحها” من خلال العملية الإبداعية للخلق التجاري المبادِر. ولا يهم فيما إذا ظهر الإدراك التجاري في هيئة وعي بفرص الربح أو فرص المضاربة الصافية أو فرص الإبداع التقني أو التسويقي فإنه ذلك الإدراك الذي يدفع باتجاه عملية الاستكشاف التصحيحي للسوق.
المنافسة والمبادرة

يجب أن نلاحظ إضافة الى ذلك، أن عملية الاسكتشاف المبادر تشكل عملية تنافسية أساسية. وهذه المسألة تتطلب توضيحاً موجزاً.
وكما شاهدنا فإن المحرك الأساس لعملية السوق يتأتى من تنفيذ الاكتشافات المبادِرة. ومن أجل هذا التنفيذ، من الضروري بالطبع أن يكون أصحاب المبادرة أو أصحاب المشاريع أحراراً لكي يتمكنوا من العمل على اكتشافاتهم—بغض النظر عن كيفية خدمة هذا الأمر لمصلحة الذين لم يقوموا بهذه الاكتشافات بأنفسهم. وتتطلب حرية الفعل هذه أن لا يقوم أحد بمنع أي صاحب مبادرة من الولوج في أي مضمار تجاري يريد. فحرية الدخول مشروعة كشرط أساسي لأجراء الاكتشاف للسوق.
لقد بات من السهل رؤية كيف يجب أن تكون حرية دخول أصحاب المبادرة أو المشاريع اليقظين، الذين يعتقدون أنهم اكتشفوا فرصاً للربح الصافي، مصدر قلق لأولئك الذين منعت “أخطاؤهم” خدمة المستهلكين على نحو أفضل مما كان. أما بالنسبة للذين يبيعون بأسعار مرتفعة (في الوقت الذي تتوفر فيه المادة بسعر أقل)، فإن المنافسة بين المضاربين في الأسعار تعني نهاية سريعة لأسعارهم المرتفعة. (أما هؤلاء الذين يشترون بأسعار منخفضة، فإن هذه المنافسة من المضاربين تعني تهديداً مشابهاً). وبالنسبة للذين يستخدمون موارد شحيحة لإنتاج منتوج لا يحتاجه المستهلك أكثر من حاجته لمنتوج ثانوي (يمكن إنتاجه بنفس الموارد)، لا يتم تصنيعه الآن، فإن منافسة أصحاب المبادرة الذين أخذوا يعرضون سعرهم من أجل تلك الموارد النادرة لغرض إنتاج المنتوج الثاني يجب أن تبدو تهديداً تنافسياً أشد خطورة. وسيبدو من المرغوب فيه، لكل من يشعرون بالتهديد، منع أولئك أصحاب المبادرة المجددين ومحطمي التقاليد والمندفعين، من الدخول في هذه الأسواق الموجودة وتشويشها. من الواضح أن محرك الاكتشاف المضاربي يعمل على شكل عرقلة مستمرة للحياة الهادئة التي قد يتم التمتع بها من قبل الذين يتابعون أنماطاً معينة (مغلوطة جزئياً) لسلوك السوق.
وبالمعنى الذي يفهم به رجال الأعمال معنى المنافسة، فإن عملية الاكتشاف المضاربي في السوق هي تنافسية بالأساس: فهي تعمل فقط بقدر لا يسمح فيه بحماية أي شخص في السوق من دخول القادمين الجدد. إن حرية الدخول لا تجعل الداخلين المحتملين أكثر وعياً بالـ”هفوات”—مناطق الربح الكبير—فحسب؛ بل إن الوعي بهذه الحرية سيجعل من المتواجدين في السوق أكثر إدراكاً ويقظة لتهديدات الداخلين المحتملين. عندئذٍ، سيفتش المتواجدون في السوق عن طريقة لمنع الدخول بواسطة إجراء تعديل “مبادِر” على أنشطتهم.
ولتحفيز يقظة أصحاب المبادرة بهذه الطريقة—أي لضمان سمة التنافس لعملية السوق—لسنا بحاجة إلى التخمين بأن السوق، ولأجل أية مادة معينة، يحتوي أصلاً على الكثير من المشترين والباعة. كما أننا بالتأكيد لسنا بحاجة إلى التخمين بأن كل مشارك في السوق ينظر إلى نفسه على أنه غير قادر على اختيار عروضه للأسعار—كما افترضت الاصطلاحات التقليدية للاقتصاديين التقنيين بأن ذلك ضروري لوجود ظروف تنافسية كاملة. كل ما نحن بحاجة إلى تخمينه هو أنه ليست هناك عقبات إضافية للسوق لكي تمنع دخول المنافسين المحتملين في أي اتجاه كان من اتجاهات المحاولة. وعند مناقشة الخواص الحميدة التي عزوناها لعملية السوق، والتي تعتمد على سمة السوق التنافسية، لا نعني بأن تلك الخواص تعتمد على نتيجة العملية التنافسية التي دخل خلالها العديد من المشاركين في السوق لكي يحالوا إلى عاجزين. إن ما نقوله هو أن الشروط التي تحفز عملية المنافسة—أي الغياب الكامل للقيود المؤسساتية—تميل إلى ضمان عملية اكتشاف متبادل.
التنظيم الحكومي: عقبة أمام عملية الاكتشاف

نحن الآن في وضع أفضل لمشاهدة كيف أن النظرة النمساوية للسوق، التي تحدثنا عنها فيما تقدم، قد تؤدي إلى وضع انتقادي للتنظيم الحكومي، وكيف يختلف الأساس لمثل هذا الوضع عن ذلك الرأي المألوف، أي الدفاع الكلاسيكي الجديد عن السوق الحرة. قد نضع الأمر بصورة موجزة: من أجل تنسيق ناجح معقول ضمن نظام لامركزي لاتخاذ القرارات، فإن عملية الاكتشاف التي يشكلها وعي أصحاب المبادرة التنافسي من أجل الربح، لهي أمر في غاية الأهمية. قد تستند المحاولات الهادفة للتحسين بالتنظيم المباشر على معلومات خاطئة (وذلك لأن المنظمين لا يستطيعون الإفادة من عملية الاكتشاف للسعي خلف الربح)، ومن الممكن أن تشوه عملية اكتشاف السوق الدقيقة أو تغلقها.
لنفترض أن الحاجة للتنظيم قد تأكدت على أساس ظاهرة “غير مرغوب فيها” ناجمة عن السوق غير المنظم. فعلى سبيل المثال، إن أسعار بعض البضائع المعينة ينظر إليها على أنها “عالية جداً” (كأسعار الحليب للمستهلكين؟)، أو “واطئة جداً” (كأسعار الحنطة التي يستلمها الفلاحون؟). أو ينظر إلى الكمية المتوفرة لمنتوج معين على أنها “واطئة جداً” (العناية الطبية؟) أو “عالية جداً” (كاللُعَب غير الآمنة”؟) وهلم جرى. فلنتخيل بأن صانعي القرارات الحكومية لا يحفزون إلا عن طريق الحافز لأن يعملوا نسقاً لظاهرة ما تعكس بصدق تفضيلات المستهلكين، (والتي يعتقدون أنها تُحبط بالسوق الحر الذي يفتقر إلى التنسيق). من المفترض أن تكون مناقشتنا قد وضحت بأن أولئك المسؤولين ذوي العقلية المكرسة للعامة والناكرين لذاتهم يفتقرون للوسائل التي تمكنهم من الاستجابة للتفصيلات التي لا حصر لها (للمستهلكين ومالكي الموارد) والتي قد لا يكونوا على دراية بها بصورة مباشرة. ليست هناك طريقة يعرفون بها الكمية “الصحيحة” أو السعر “الصحيح” لأي منتوج أو مورد معين. ليس هناك (نظير للباعث التجاري لاكتشاف فرص الربح الصافي) ما يمكن أن يقودهم إلى اكتشاف مكامن الخلل في التنسيق وبشكل منتظم.
وإن ما هو أكثر جدية هو حقيقة أن السيطرة الحكومية على الأسعار والكميات ونوعيات إنتاج المخرجات وتوظيف المدخلات، قد تقوم عن غير قصد بمنع أو حجز الأنشطة التي لم تكن قد خطرت ببال احد. وبينما يمكن أن تكون هذه الأنشطة الممنوعة أو المعطلة أنشطة نافعة من الناحية التجارية (ربما يكون ذلك ناتجاً من التغييرات غير المتوقعة في البيانات)، فإن احتمالية اكتشافها تكون حينها قد اضمحلت بالكامل. وبالتالي كانت عملية الاكتشاف التلقائي للسوق الحرة، حتى وإن لم تكن قصدية بالضرورة، مخنوقة ومشوهه إلى حد ما.
لقد لاحظنا مسبقاً مدى أهمية المقدرة على الدخول غير المقيد لأصحاب المبادرة الباحثين عن الربح بالنسبة لعملية الاكتشاف المبادِر التنافسي. ومما لا مناص منه هو أن قيود الحكومة التنظيمية تمنع هذا الدخول. إن القيود من هذا النوع هي قيود ضد التنافس. فهي تميل إلى إحباط الاكتشافات التي تولدها العملية التنافسية. حتى عندما يكون تنظيم الحكومة (مستوحى ربما على شكل نموذج مغلوط “للتنافس” حيث يكون فيه كل حجم مهم مشكوك فيه بحد ذاته) مصمم لـ “الإبقاء على التنافس” (على سبيل المثال عن طريق منع الاندماجات)، وهذا أيضاً يجب أن يعتبر شكلاً من الأشكال التي لا تساعد على التنافس. لأن هذا مثلاً قد يغلق العملية المبادِرة التي يمكن أن يكتشف بها الحجم الأمثل للشركة المنتجة.
من السهل على مسؤولي الحكومة المؤهلين أن يتصوروا أن بإمكانهم معرفة ما هو جيد للاقتصاد. ولكن من المحتمل أن يعني هذا أن في الاقتصاد المعقد جداً في زمننا الحاضر يكون من السهل للأفراد ذوي النية الحسنة أن لا يدركوا جهلهم بأمور معينة. أما بالنسبة لأصحاب المشاريع الخاصة، فإن وسيلة إيصال المعلومات الغير مشتبه بأنها مفقودة توفرها جاذبية فرص الربح الصافي الذي تولده معلومات الفرص المفقودة تلك. ليس المنظمون وحدهم غير قادرين على الاستفادة من الاكتشافات المستوحاة من الربح: فتدخلهم المباشر في السوق يمكن أن يحبط ويخنق ويشوه عملية الاكتشاف الحميدة اجتماعياً والتي تعتمد على حرية الدخول في فروع النشاط الذي لم يتم التأسيس لقبوله اجتماعياً لحد الآن.
ويتبع ذلك أن التأثيرات الضارة للتنظيم (والتي تم الحكم عليها من منظور تفضيلات المستهلك، وليس عن طريق القوانين المتبناة عشوائياً للأهمية الاجتماعية) ليس بالضرورة أن تكون موجودة في الفشل الواضح (كما يعبّر عنه مثلاً في النقصان وغياب التنسيق الواضح). وقد تتمظهر التأثيرات الضارة للتنظيم في حالات حيث يكون هناك غياب للتنسيق لا يعلم به احد. إن النقطة التي نريدها هي أن التنظيم يمكن أن يكون مسؤولاً عن هذا الغياب في التنسيق الذي لم يتم اكتشافه. إن ما يثير العجب في السوق التنافسي المبادِر هو مقدرته في إلهام نشاطات تنسيقية لا يتم الكشف عنها في غياب السوق.
في الحقيقة، إن “اليد الخفية” للسوق الحرة هي خفية ايضاً من حيث أن مشاكل التنسيق نفسها والتي تسعى إلى حلها هي مشاكل خفية حتى على أعلم العلماء المخلصين، أو على المنظمين الحكوميين أنفسهم.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 28 كانون الثاني 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018