إن التمعن و التوقف على تداعيات الحرب الأخيرة على غزة يؤكد وجود انقسام و اهتراء في الموقف العربي. موقف يحمل في طياته جذور تراكمات انهزامات ليست وليدة اللحظة. فهذه ليست المرة الأولى التي تعجز فيها الدول العربية على اتخاذ موقف موحد وقوي يشرح الرؤية العربية و يدافع عنها في المحافل الدولية. كيف يمكن أن نفسر هذا الضعف في الموقف العربي؟ و ما هي المسببات و الجذور التي تحكمت لحد الآن في مساره ؟ و ما هي الحلول التي يمكن أن تخرج المنطقة العربية من هذه الظرفية المتردية ؟
دعونا نبدأ بالمساندة القوية التي يتمتع بها الموقف الإسرائيلي لدى غالبية إن لم نقل كل الدول الغربية. إن هذا الأمر يرجع بالطبع إلى مرسبات المحرقة التي تعرض لها اليهود على أيدي النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. فهذا الموضوع لا زال يلقي بظلاله على الحياة السياسية و الإعلامية و يضفي حساسية مفرطة على أي انتقاد يوجه لإسرائيل في أوروبا و الولايات المتحدة. لكن و مع حتمية و بديهية هذا الأمر.
هناك عامل آخر لا يمكن استبعاده. إن الدول الغربية تساند إسرائيل أيضا، لأنها تمتلك النظام السياسي الأقرب و الأمثل للمنظومة الغربية. لذا فهي (أي إسرائيل) تقدم نفسها على أنها واحة من الديمقراطية وسط صحراء قاحلة من الإستبداد. أي بكل بساطة أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. تلك الدولة التي تصارع في جبهة متقدمة للدفاع عن العالم الحر.
صحيح أن إسرائيل استغلت بذكاء هذا الموضوع لتحقيق أطماعها في المنطقة. و صحيح أيضا أن هذا الطرح تحيط به هالة إيديولوجية واضحة المعالم و لكن الواقع الذي لا يمكن إنكاره ( ورغم كل التحفظات التي يمكن أن نضعها عليه و المتعلقة بالحقوق المدنية و السياسية لما يسمى بعرب 48، و تأثير الأحزاب الدينية و العسكرة المفرطة للدولة) هي الطبيعة الديمقراطية لهذا النظام. أي أنه يعرف تناوبا حقيقيا على السلطة و معارضة قوية و صحافة لا تتردد في انتقاد الحكومات المتعاقبة إذا ما أخلت بواجبها نحو الشعب. و الأهم من ذلك أن إسرائيل تتوفر على جهاز قضائي مستقل يكفي هنا أن نذكر أنه في ظل الجو المشحون للحرب و المساندة القوية للرأي العام لها فقد استطاع الآلاف من العرب و مناصري السلام التظاهر ضد الحرب و لمساندة غزة حاملين الأعلام الفلسطينية في قلب تل أبيب بعد موافقة المحكمة العليا على ذلك.
أما في الأنظمة العربية فالرؤساء ينتخبون بنسبة 99% ، و يورثون أبناءهم قبل رحيلهم و في بعض الأحيان يغيرون الدستور لإضافة ولاية ثالثة و رابعة. أما الصحافة المستقلة فإن وجدت فهي تصارع القيود و الأحكام القضائية الجائرة من أجل البقاء. و القضاء يبقى في غالب الأحيان خاضعا للسلطة التنفيذية و لا يتمتع بالاستقلالية إلا في حالات نادرة.
كيف يمكن إذن للأنظمة العربية أن تصدر موقفا قويا يعبر عن موقف شعوبها في هذه القضية و غيرها و هذه الشعوب لا تستشار و لا يسمح لها بإبداء رأيها و لا تستطيع أن تحاسب حكوماتها. في المقابل هناك موقف مناقض للموقف العربي، اتخذته دولة إقليمية غير عربية. هذه الدولة هي تركيا التي كان لها و منذ بداية هذه الحرب موقف ثابت و قوي. لقد انتقد وزيرها الأول إردوغان الهجوم الإسرائيلي بوضوح و دون لبس رغم عضوية بلده لحلف الشمال الأطلسي و ارتباطها بمعاهدات سياسية و عسكرية مع إسرائيل. كما غادر منتدى دافوس الإقتصادي احتجاجا على ما اعتبره تزييفا للحقائق من طرف الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز. و هو الأمر الذي لم يستطع القيام به الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى الذي كان حاضرا في نفس الندوة رغم أن القضية الفلسطينية تمثل قضية مركزية في المؤسسة التي يتولى أمانتها العامة.
إن موقف إردوغان يمثل رأي غالبية الشعب التركي الذي اختار حزبه لتسيير دفة الحكم مرتين في انتخابات (2002 و 2007)، أي أن قوة موقفه نابعة من فوة و شرعية تمثيليته لشعبه. ليس لأنه ذلك الزعيم المنقذ الملهم الذي يتماهى مع تطلعات شعبه، و لكن لأن حكومته خارجة من صناديق الاقتراع و ستعود للاحتكام إليها من جديد بعد انتهاء ولايتها. لذا فهي تحترم رأي من أدلوا بصوتهم لصالحها و تعبر عنه و تدافع عنه داخليا و خارجيا.
قوة الموقف التركي يمكن أن تفسر أيضا و في ظل الأزمة العالمية الراهنة و التباطؤ الذي يشهده النشاط الإقتصادي في أوروبا و الولايات المتحدة، بدينامكية اقتصاد هذا البلد و الصحة الجيدة التي يتمتع بها منذ بداية العقد الحالي. وضعية ناتجة عن إصلاحات هيكلية و عميقة للإقتصاد و ليس عن ارتفاع ظرفي للعائدات النفطية كما هو الحال في بعض الإقتصاديات العربية.
إن عدم قدرة الجانب العربي على اتخاذ موقف قوي و ثابت يدافع عن مصالحه الإستراتيجية إبان هذه الحرب و غيرها لا ينجم فقط عن اختلال موازين القوة العسكرية لصالح إسرائيل. لأن هذا الأمر يتغير بتغير موازين القوى الدولية. أما الثابت فهو مسار التقدم السياسي و الإقتصادي في العالم العربي. مسار لم يبرح مكانه منذ عقود.
لقد آن الأوان للبلدان العربية، شعوبا و نخبا و حكاما، أن تبادر للخروج من دوامة الهوان التي ما فتئت تدور في رحاها. خروج لن يمر إلا عبر إصلاح هيكلي للمنظومة المؤسساتية السياسية و الإقتصادية. إصلاح يمنح المواطن العربي الحق في الإدلاء برأيه لاختيار و محاسبة حكوماته بكل نزاهة و شفافية. لأنه من المخجل حقا أن تصنف المنطقة العربية من طرف المنظمات المختصة كأكثر المناطق التي تسود فيها الأنظمة الاستبدادية. إصلاح يرفع عن الصحافة كل القيود و يجعل منها تلك السلطة التي تراقب ما تقوم به الحكومات من أعمال. فتفضح ما يخل بالقانون منها و تشيد بما يحترم المصلحة العامة. أما القضاء فبدونه لا يستقيم شيء في الدولة لأنه عماد الحكم الرشيد. و بدون إصلاحه لا يمكن القيام بأي إصلاح اقتصادي جذري لأن “دولة الحق والقانون” هي اللبنة الأساسية التي ترسي دعائم الملكية والحرية الاقتصادية و اقتصاد السوق.
هذا هو مسار التغيير الذي يمكن أن يصالح الأنظمة العربية مع شعوبها و يمنحها القوة للتعبير عن مواقفها بثبات في المحافل الدولية. إن احترام الدول العربية لرأي شعوبها سيضفي قوة و شرعية على تمثيلية مؤسساتها السياسية. و سيجعل الدول الأخرى و على رأسها الدول الغربية تستمع لمواقفها و تحترم قضاياها.
© منبر الحرية، 01 أبريل 2009