peshwazarabic10 نوفمبر، 20101

المؤسسات هي القيود التي استنبطها الإنسان، والتي تنظم التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وتتضمن قيوداً غير رسمية (العقوبات، والمحظورات، والعادات، والتقاليد، ولوائح السلوك)، وقوانين رسمية (الدساتير، والقوانين، وحقوق الملكية). وعبر التاريخ، تم استنباط المؤسسات بواسطة أشخاص كانوا قادرين على تأسيس النظام، وتقليص مستوى عدم اليقين في التبادل. وهي إلى جانب القيود الاقتصادية المعيارية، تحدد الخيار المعلن، وتقرر بناء عليه تكاليف العملية والإنتاج، وبالتالي، الربحية والجدوى الاقتصادية جراء المشاركة في النشاط الاقتصادي. كما أنها تتطور بشكل متزايد، لتصل بذلك الماضي مع الحاضر والمستقبل؛ والتاريخ نتيجة لذلك هو إلى حد كبير قصة التطور المؤسسي التي لا يمكن فهم الأداء التاريخي للاقتصادات فيها، إلا بصفته جزءاً من هذه القصة المسلسلة.
توفر المؤسسات هيكل الحوافز لاقتصاد ما؛ وعندما يتطور هذا الهيكل، يشكل اتجاه التغير الاقتصادي نحو النمو، أو الركود، أو التراجع. وهدفي في هذا المقال التوسع في إلقاء الضوء على دور المؤسسات في أداء الاقتصادات، وتوضيح تحليلي الشخصي من زاوية اقتصادية تاريخية.
فما الذي يجعل تقييد التفاعل البشري مع المؤسسات ضرورياً؟ يمكن تلخيص المسألة بشكل بليغ في سياق نظري للعبة ما. فالأفراد متعاظمو الثروات سيجدون أن التعاون مع لاعبين آخرين جدير بالاهتمام عندما يتم تكرار اللعبة، ويمتلكون معلومات كاملة حول الأداء السابق للاعب الآخر، ويكون هناك عدد قليل من اللاعبين. ومن الصعب أن يدوم التعاون عندما لا يتم تكرار اللعبة (أو تكون هناك نهاية لها)، وعندما تكون المعلومات حول اللاعبين الآخرين غير مكتملة، وهناك أعداد كبيرة من اللاعبين.
تعكس هذه الأقطاب المتنافرة أوضاعاً اقتصادية متضادة في الحياة الواقعية. وهناك العديد من الأمثلة حول مؤسسات التبادل البسيطة التي تفسح المجال أمام التعامل متدني التكلفة بموجب الشروط السابقة. بيد أن المؤسسات التي تتيح التعامل والإنتاج متدنيي التكلفة في عالم التخصص وتقسيم العمل، تحتاج إلى حل مشاكل التعاون البشري بموجب الشروط السابقة.
يتطلب الأمر وجود موارد لتحديد وتنفيذ اتفاقيات التبادل. وحتى لو كان لكل شخص نفس الهدف الوظيفي (مثل تعظيم أرباح الشركة)، فإن التعامل سيستنفذ موارد أساسية؛ ولكن في سياق سلوك الأفراد لزيادة الثروة، والمعلومات غير المتسقة حول قيمة مساهمة ما يجري تبادله (أو أداء العناصر)، تعتبر تكاليف العملية محدداً خطيراً للأداء الاقتصادي. إن المؤسسات وفاعلية التطبيق (إلى جانب التقنية المستخدمة)، تحدد جميعها تكلفة التعامل. والمؤسسات الفاعلة ترفع مستوى المنافع المتأتية من الحلول التعاونية أو تكاليف التراجع، لاستغلال الشروط النظرية للعبة. فضمن بنود تكلفة العملية، تقلل المؤسسات تكاليف العملية والإنتاج لكل عملية تبادل، بحيث يمكن تحقيق المكاسب المحتملة من التجارة. إن كلا من المؤسسات السياسية والاقتصادية هي عناصر رئيسية في أية منظومة مؤسسية فاعلة.
إن التركيز الرئيسي للكتب على المؤسسات وتكاليف العملية انصب على المؤسسات بصفتها حلولاً فعالة لمشاكل المؤسسات في الإطار التنافسي (ويليامسون 1975؛ 1985). وبناء عليه، يُنظر إلى تبادل الأسواق، أو منح الامتيازات، أو التكامل العمودي في هذه الكتب على أنها حلول فعالة للمشاكل المعقدة التي تواجه الرياديين في ظل الشروط التنافسية المتنوعة. وفي ضوء قيمة هذا العمل، فإن مثل هذا المنهج يستبعد المحور الرئيسي لهذا المقال: توضيح الأداءات المتباينة للاقتصادات عبر الزمن، وفي عالمنا الحالي.
فكيف يحقق اقتصاد ما الأسواق الفاعلة التنافسية التي تم افتراضها في المنهج السابق؟ إن القيود الاقتصادية الرسمية أو حقوق الملكية يتم تعيينها وتطبيقها من قبل المؤسسات السياسية، وتأخذ الكتب هذه الأمور على أنها أمور مسلم بها. بيد أن التاريخ الاقتصادي هو إلى حد كبير قصة الاقتصادات التي فشلت في إخراج مجموعة من القوانين الاقتصادية للعبة (مع التطبيق)، التي تحفز النمو الاقتصادي المستدام. إن المسألة الجوهرية لتاريخ الاقتصاد والتطور الاقتصادي هي تعليل تطور المؤسسات السياسية والاقتصادية التي تخلق بيئة اقتصادية تحدث إنتاجية متزايدة.
المؤسسات والحصول على المكاسب من التجارة
سيكون لدى العديد من القراء فكرة إلى حد ما على الأقل حول الاقتصاد التاريخي على مر الزمن على انه سلسلة من القصص المرحلية. إذ كان ينظر إلى الاقتصادات الباكرة على أنها تبادل محلي داخل قرية ما (أو حتى في مجتمع صيد وتجمع بسيط). تدريجياً، توسعت التجارة إلى خارج حدود القرية: أولاً إلى المنطقة، على الأرجح إلى اقتصاد أشبه ما يكون بسوق خيرية؛ ومن ثم إلى مسافات أبعد، بواسطة قوافل معينة أو طرق بحرية؛ وبالنهاية إلى شتى أنحاء العالم. وفي كل مرحلة، انطوى الاقتصاد على زيادة التخصص وتقسيم العمل، وعلى تقنية اكثر إنتاجية على نحو مستمر. لقد تم استنباط قصة هذا التطور التدريجي من الاكتفاء الذاتي المحلي، إلى التخصص وتقسيم العمل، من المدرسة الألمانية التاريخية. وعلى أية حال، لا يوجد مؤشر في هذا البحث أن التطور التاريخي الحقيقي للاقتصادات كان بالضرورة بموازاة تسلسل مراحل التبادل المذكورة هنا.[1]
أبدأ بالتبادل المحلي داخل قرية، أو حتى مجتمعات تبادل الصيد والتجمع البسيطة (التي فيها اجتمعت النساء بينما ذهب الرجال إلى الصيد). إن التخصص في هذا العالم بدائي، وتتسم معظم بيوت الأفراد بالاكتفاء الذاتي. وتوجد تجارة القرية صغيرة الحجم ضمن شبكة اجتماعية “كثيفة” من القيود غير الرسمية التي تسهل التبادل المحلي، أما تكلفة هذا التعامل في هذا السياق فهي متدنية. (رغم أن التكاليف المجتمعية الأساسية للمؤسسة القبلية أو القروية قد تكون مرتفعة، ولكن لا يتم عكسها في التكاليف الإضافية لعملية التعامل). ويملك الأشخاص فهماً شخصياً جداً لبعضهم البعض، ويشكل تهديد العنف قوة دافعة مستمرة للمحافظة على النظام بسبب تأثيراته على الأعضاء الآخرين في المجتمع.
وبامتداد التجارة إلى خارج حدود القرية الواحدة، على أية حال، فإن احتمالات الصراع بشأن التبادل تزداد. وينمو حجم السوق وتزداد تكاليف العملية بشكل حاد، بسبب تغير الشبكة الاجتماعية الكثيفة؛ وبناء عليه، ينبغي تخصيص موارد أكثر للقياس والتطبيق. وفي ظل غياب الدولة التي طبقت العقود، فإن المبادئ الدينية فرضت في العادة معايير السلوك على اللاعبين. غنياً عن القول، أن فعاليتها في تخفيض تكاليف التعامل اختلفت بشكل واسع، اعتماداً على الدرجة التي تم فيها الاعتقاد أن هذه المفاهيم ملزمة.
إن تطور التجارة لمسافة أبعد بواسطة القوافل أو الرحلات البحرية الطويلة يقتضي انفصالاً حاداً عن سمات الهيكل الاقتصادي. ويستلزم تخصصاً جوهرياً في عملية التبادل بين الأفراد الذين تقتصر حياتهم على التجارة وتطور المراكز التجارية التي يمكن أن تكون أماكن تجمع مؤقتة (كما كانت المعارض الأولى في أوروبا)، أو مدن أو بلدات أكثر ديمومة. وتعتبر بعض اقتصاديات الحجم—على سبيل المثال في زراعة المزارع—من سمات هذا العالم. ويبدأ التخصص الجغرافي في الظهور كسمة رئيسية، كما يحدث فضلاً عن ذلك بعض التخصص الوظيفي.
شكّل نمو تجارة المسافات الطويلة أطول مشكلتين مميزتين لتكلفة العملية. المشكلة الأولى هي مشكلة الوكالة الكلاسيكية، والتي قابلها تاريخياً استغلال القريب في التجارة لمسافة أبعد. أي أن تاجراً مقيماً يقوم بإرسال قريب له يحمل بضاعة للتفاوض بشأن البيع والحصول على عائد للبضاعة. وعملت تكلفة قياس الأداء، وقوة روابط القربى، وسعر البضاعة المرتدة، على تحديد نتيجة مثل تلك الاتفاقيات. وعندما نما حجم وكمية التجارة، أصبحت مشاكل الوكالة معضلة كبرى بشكل متزايد.[2] وتضمنت المشكلة الثانية تفاوض وتطبيق العقود في المناطق الأجنبية من العالم، حيث لا توجد وسيلة متاحة بسهولة للوصول إلى اتفاق وتطبيق العقود. ولا يعني التطبيق تطبيق مثل تلك الاتفاقيات فقط، إنما أيضاً حماية السلع والخدمات على الطريق من القراصنة، وقطاع الطرق، وما إلى ذلك.
وتم حل مشاكل تطبيق الاتفاقيات على الطريق بقوات مسلحة تحمي السفن أو القوافل بعد دفع مكوس أو أموال للمجموعات التعسفية المحلية. نموذجياً، استلزم التفاوض والتطبيق في المناطق الأجنبية من العالم تطور المقاييس والتدابير المعيارية، ووحدات للحساب، ووسيلة للتبادل، وكتّاب عدل، وقناصل، ومحاكم للقانون التجاري، ووجود مقاطعات لتجار أجانب محميين من جانب أمراء أجانب مقابل عائد معين. وبتخفيض تكاليف المعلومات، وتوفير حوافز للعقود فإن إنجاز هذا الشكل المعقد من المؤسسات، والمنظمات، والأدوات، جعل هذا التعامل وهذه المشاركة في التجارة بعيدة المسافة ممكناً. وعمل مزيج من الهيئات الطوعية وشبه القسرية، أو على الأقل الهيئات التي تستطيع بفاعلية أن تتسبب في نبذ التجار الذين لم يلتزموا بالاتفاقيات، على تمكين التجارة بعيدة المسافة من أن تحدث.
ويستلزم هذا التوسع للسوق مُنتِجين أكثر تخصصاً. نتج عن اقتصاديات الحجم بدايات المؤسسات المنتجة ذات التسلسل الهرمي، التي لديها عاملون بكامل الوقت، سواء في مكان مركزي، أو في خضم عملية إنتاجية متسلسلة. وتبرز البلدات وعدد من المدن المركزية، ويظهر الآن التوزيع الوظيفي للسكان، إضافة إلى ذلك، حصلت زيادة أساسية في نسبة القوى العاملة المشتركة في عملية التصنيع، وفي تقديم الخدمات، رغم استمرار التفوق التقليدي في الزراعة. وتعكس مراحل التطور هذه أيضاً تحولاً مهماً باتجاه تمدن المجتمع.
ومثل تلك المجتمعات تحتاج إلى تطبيق فعال وغير شخصي للعقود، لأن الروابط الشخصية، والقيود ذات الصفة الطوعية، وعمليات النبذ لن تعود فاعلة في الوقت الذي تبرز فيه أشكال أكثر تعقيداً وغير شخصية من التبادل. ليس الأمر أن هذه البدائل الشخصية والاجتماعية غير مهمة؛ إنها ما زالت مهمة حتى في عالم اليوم المتبادل الاعتماد. ولكن في غياب التعاقد غير الشخصي الفعال، فإن المكاسب من “الارتداد” كبيرة على نحو يكفي لإحباط تطور التبادل المعقد. وهناك مثالان يتعاملان مع تأسيس سوق لرأس المال، ومع التفاعل بين المؤسسات والتقنية المستخدمة.
ويستلزم سوق رأس المال وجود حماية لحقوق الملكية عبر الوقت، ولن يتطور ببساطة في الوقت الذي يستطيع فيه القادة السياسيون مصادرة الممتلكات اعتباطياً، أو تغيير قيمتها جذرياً. إن ترسيخ التزام ذي مصداقية لحماية حقوق الملكية على مر الزمن يقتضي إما حاكماً يمارس الليونة وتقييد استخدام القوة التعسفية، أو تقييد سلطات الحاكم لمنع المصادرة الاعتباطية للممتلكات. كان البديل للأول هو النجاح على نحو نادر لفترة طويلة في مواجهة الأزمات المالية الأزلية للحكام (كنتيجة إلى حد كبير للحروب المتكررة). بينما استلزم الأخير أزمات إعادة هيكلة جوهرية لحكومة الدولة، كما حدث في إنجلترا نتيجة الثورة العظيمة عام 1688، والتي تمخضت عن سيادة البرلمان على التاج.
واستلزمت التقنية المرتبطة بنمو التصنيع زيادة رأس المال الثابت في المصنع والمعدات، وإنتاجا غير متقطع، وقوة عمل منظمة، وشبكة مواصلات متطورة، وبشكل مختصر، اقتضت مصنعاً فاعلاً وأسواقا للمنتج. ويوجد تحت شبكة أسواق مثل تلك، حماية لحقوق الملكية، والتي تستلزم حكومة دولة، ونظاماً قضائياً يسمح بالتعاقد بتكاليف متدنية، وقوانين مرنة تتيح نطاقاً واسعاً من الهياكل المؤسسية، وتأسيس هياكل حوكمة معقدة للحد من مشاكل الوكالة في المؤسسات ذات التسلسل الهرمي.
وفي المرحلة الأخيرة، وهي المرحلة التي نلاحظها في المجتمعات الغربية المعاصرة، ازداد التخصص، وتطلبت الزراعة نسبة بسيطة من قوى العمل، وامتدت الأسواق لتشمل شتى أنحاء البلاد وشتى أرجاء العالم. وتنطوي اقتصاديات الحجم وجود مؤسسة كبيرة الحجم، ليس فقط في التصنيع، إنما أيضا في الزراعة. ويعيش كل فرد بتوليه وظيفة متخصصة، وبالاعتماد على شبكة واسعة من الأقسام المتشابكة الصلات لتوفير الكم الهائل من السلع والخدمات التي تلزمهم كأفراد. ويتحول التوزيع الوظيفي لقوى العمل تدريجياً من هيمنة التصنيع إلى هيمنة ما يطلق على أنها خدمات في النهاية. وأصبح المجتمع مدنياً بشكل ساحق.
وفي هذه المرحلة النهائية يقتضي التخصص زيادة نسبة موارد المجتمع التي يجب أن تشترك في التعامل، بحيث يتزايد قطاع التعامل ليشكل نسبة كبيرة من الناتج القومي الإجمالي. والواقع أن التخصص في التجارة، والتمويل، والأعمال المصرفية، والتأمين، فضلاً عن التنسيق البسيط للنشاط الاقتصادي ينطوي على نسبة متزايدة من قوى العمل.[3]
وتبرز من الحاجة، بناء على ذلك، أشكال عالية التخصص للمؤسسات التي تؤدي العملية. ويقتضي التخصص الدولي وتقسيم العمل مؤسسات ومنظمات لحماية حقوق الملكية عبر الحدود الوطنية بحيث يمكن أن تنشأ أسواق رأس المال (فضلاً عن أنواع أخرى من التبادل) مع الالتزام الجدير بالثقة من جانب اللاعبين.
يبدو وكأن هذه المراحل النظامية تندمج الواحدة في الأخرى في قصة متسلسلة من التعاون المتطور. ولكن هل هي كذلك فعلاً؟ وهل أن أي ترابط ضروري يعمل على نقل اللاعبين من أشكال التبادل الأقل تعقيداً إلى تلك الأكثر تعقيداً؟ إن ما يتعرض للخطر في خضم هذا التطور ليس فقط ما إذا كانت تكاليف المعلومات واقتصاديات الحجم، إلى جانب تطور التطبيق المحسن للعقود، ستتيح وتشجع بالفعل أشكال تبادل أكثر تعقيداً، إنما أيضاً ما إذا كانت المؤسسات تملك الحافز لامتلاك المعرفة والمعلومات التي ستحثها على التطور في اتجاهات أكثر إنتاجية من ناحية اجتماعية.
في الحقيقة، لا يوجد سبب ضروري عبر التاريخ لأن يحدث هذا التطور. وبالفعل، فإن معظم الأشكال الأولى للمؤسسات التي ذكرتها في هذه الأقسام ما زالت قائمة في يومنا هذا في مناطق من العالم. وما زالت هناك مجتمعات قبلية بدائية قائمة؛ إذ ما زالت السوق [The Suq] (اقتصادات السوق الخيرية التي تشترك في التجارة الإقليمية) تزدهر في مناطق عديدة من العالم، وفي حين أن تجارة القوافل قد اختفت، إلا أن زوالها (فضلاً عن التقليص التدريجي لأهمية الشكلين الآخرين من التبادل “البدائي”) عكس قوى خارجية وليس تطوراً داخلياً. وفي المقابل، أحدث تطور التجارة الأوروبية لمسافات بعيدة تطوراً تسلسلياً لأشكال أكثر تعقيداً من المؤسسات.
وسيبحث باقي هذا البحث أولاً فيما تبدو أشكالا بدائية للتبادل التي أخفقت في التطور، ومن ثم التطور المؤسسي الذي حدث في بداية أوروبا الحديثة. وسوف يحاول القسم الختامي للبحث أن يذكر سبب تطور بعض المجتمعات ومؤسسات التبادل، وعدم تطور بعضها الآخر، وأن يطبق إطار العمل ذلك في سياق التطور الاقتصادي في النصف الغربي من الكرة الأرضية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر.
عندما لا تتطور المؤسسات
في كل نظام تبادل، يكون لدى ممثلي السوق حافزاً لاستثمار وقتهم، ومواردهم، وطاقتهم في المعرفة والمهارات التي ستعمل على تحسين مركزهم المادي. ولكن في عدد من الأوضاع المؤسسية البدائية، فإن نوع المعرفة والمهارات التي ستجدي نفعاً لن ينتج عنه تطور مؤسسي باتجاه اقتصادات أكثر إنتاجية. ولتوضيح هذه الحجة، أعتبر أن هناك ثلاثة أنواع بدائية من التبادل—المجتمع القبلي، واقتصاد إقليمي مع تجارة السوق الخيرية، وتجارة القوافل لمسافات بعيدة—التي من المحتمل أن تتطور.
وكما أشرنا سابقاً، فإن التبادل في مجتمع قبلي يعتمد على شبكة اجتماعية كثيفة. وتصف إليزابيث كولسون (1974: 59) الشبكة كالتالي:
إن المجتمعات التي يعيش فيها هؤلاء الأشخاص جميعاً كان يحكمها توازن دقيق للقوى، وهذه القوى معرضة دائماً للخطر، ولا يجب أن تؤخذ كأمر مسلم به: كان كل شخص مشتركاً باستمرار في حماية مركزه الخاص في الحالات التي توجب عليه فيها أن يثبت نواياه الحسنة. ويبدو أن الأعراف والعادات مرنة ومنسابة بالنظر إلى أن الحكم على ما إذا كان شخص ما قد فعل ما هو مناسب أم لا يختلف من حالة إلى أخرى… غير أن سبب ذلك كان أن الفرد هو الذي تجري محاكمته وليس الجريمة. وفي ظل هذه الشروط، فإن الاستهزاء بالمعايير المقبولة عموماً يعادل الادعاء بسلطة غير شرعية، ويصبح جزءاً من الدليل ضد المرء.
إن تأثيرات تحليل كولسون، فضلاً عن تحليل ريتشارد بوزنر في اعتباره للمؤسسات البدائية (1980)، هو أنه كان ينظر إلى الانحراف والابتكار على أنهما تهديداً لاستمرار بقاء المجموعة.
وهناك شكل آخر للتبادل كان قائماً لآلاف السنين، وما زال قائماً إلى يومنا هذا في شمال إفريقيا والشرق الأوسط وهو السوق [The Suq]، حيث توجد فيها تبادلات واسعة الانتشار وغير شخصية نسبياً، مع تكاليف تعامل عالية إلى حد ما. وتتمثل الخصائص الرئيسية للسوق في العدد الوافر من المؤسسات صغيرة الحجم، واشتراك ما نسبته 40 إلى 50 في المائة من قوى العمل في المدينة في عملية التبادل هذه؛ وفي التكاليف الثابتة المتدنية المتعلقة بالإيجار والآلات؛ وفي التقسيم الدقيق جداً للعمل؛ وفي العدد الذي لا يحصى من الصفقات الصغيرة التي تعتبر كل واحدة منها بشكل أو بآخر مستقلة عن اللاحقة؛ وفي الاتصال وجهاً لوجه؛ وفي السلع والخدمات غير المتجانسة.
لا توجد مؤسسات متخصصة لجمع وتوزيع المعلومات عن السوق، أي لا توجد مؤشرات أسعار، وتقارير إنتاج، ووكالات توظيف، وأدلة مستهلكين، وما إلى ذلك. أما أنظمة المواصفات والمقاييس فهي معقدة وموحدة المعايير بشكل غير تام. وتبدو مهارات التبادل متطورة بشكل مفصل ومدروس، وهي المحدد الرئيسي لمن يزدهر في السوق. كما أن المساومة حول الشروط المتعلقة بأية ناحية أو شرط من شروط التبادل فهي منتشرة، وعنيفة، ومتواصلة. فالشراء والبيع غير مميزين فعلياً، وهما في الأساس نشاط واحد؛ وينطوي التبادل التجاري على بحث مستمر عن شركاء معينين، وليس مجرد عرض السلع أمام الجمهور العام. واشتمل تنظيم النزاعات على شهادات من جانب شهود يعتمد عليهم كانوا شاهدين على القضايا الفعلية، وليس على ثقل قوانين المنافسة القضائية. وكانت الضوابط الحكومية على نشاط السوق هامشية، وغير مركزية، وعلى الأغلب خطابية.
وفي الملخص، فإن الملامح الرئيسية للسوق [The Suq] هي (1) تكاليف قياس عالية؛ (2) جهود متواصلة في التواصل مع الزبائن (تطور علاقات التبادل المتكررة مع الشركاء الآخرين، مهما كانوا غير مناسبين)؛ (3) المساومة المكثفة عند كل هامش. وفي جوهرها، فإن اللعبة هي في زيادة تكاليف التعامل على الطرف الآخر لعملية التبادل. ويجني المرء النقود بحصوله على معلومات أفضل من تلك التي حصل عليها خصمه.
ومن السهل إدراك سبب النظر إلى الابتكار على أنه يهدد استمرار البقاء في مجتمع قبلي، بيد أن الأصعب فهمه هو سبب استمرار هذه الأشكال “غير الفاعلة” من المساومة في السوق. وقد يتوقع المرء، في المجتمعات التي نعرفها، أن المنظمات الطوعية ستتطور للحماية من المخاطر ومستوى عدم اليقين المتعلقة بمثل هذه المعلومات غير المتسقة. ولكن، تلك هي المسألة تحديداً. إن ما تفتقد إليه السوق [The Suq] هي الأساسيات الجوهرية للمؤسسات التي ستجعل مثل تلك المؤسسات الطوعية قابلة للحياة ومربحة. وتتضمن هذه الأساسيات هيكلاً قانونياً فاعلاً، ونظام محاكم لتطبيق العقود التي بدورها تعتمد على تطور المؤسسات السياسية التي ستخلق مثل ذلك الإطار. وفي غيابها، لا يوجد حافز لتغيير النظام.
والشكل الثالث من التبادل، تجارة القوافل، يوضح القيود غير الرسمية التي جعلت التجارة ممكنة في عالم كانت الحماية فيه أساسية، ولم تكن هناك دولة منظمة قائمة. ويعطي كليفورد غيرتز (1979: 137) وصفاً لتجارة القوافل في المغرب في بداية القرن:
بالمعنى الضيق، فإن الزيتاتا (من الكلمة البربرية تازيتات [TAZETTAT]، وتعني قطعة صغيرة من القماش)، عبارة عن غرامة مرور، أي مبلغ يدفع للسلطة المحلية… من أجل الحماية عند عبور المواقع التي توجد فيها مثل هذه السلطات المحلية. ولكنها في الحقيقة، أو بالأحرى كانت، أكثر بقليل من مجرد دفع مبلغ. لقد كانت جزءاً من طقوس أخلاقية كاملة معقدة، أو عادات بقوة القانون، ووزن العقوبة—التي تمحورت حول علاقات الضيف-المضيف، الزبون-النصير، الملتمس-المقدم إليه الالتماس، المنفي-الحامي، المتضرع-الإله—والتي جميعها تشكل بطريقة أو بأخرى حزمة مجتمعة في الريف المغربي. إن دخول العالم القبلي جسدياً يفرض على التاجر الجوال (أو وكيله على الأقل) أن يدخله ثقافياً أيضاً.
ورغم التنوع الواسع لأشكال معينة تظهر من خلالها ذواتهم، فإن خصائص الحماية في المجتمع البربري في أعالي ووسط جبال أطلس واضحة وثابتة. إن الحماية شخصية، وغير مؤهلة، وصريحة، وينظر إليها على أنها إعطاء شخص معين شهرة رجل آخر. ربما تكون الشهرة سياسية، أو معنوية، أو روحية، أو حتى صفة شخصية خصوصية، أو على الأغلب الأربع نقاط التي ذكرت جميعها مرة واحدة. بيد أن العملية الأساسية هي أن الرجل الذي يعمل على ’قف وتكلم – قُم وقال، كما ورد في العنوان الكلاسيكي‘ لأولئك الأشخاص قائلاً: “هذا الرجل يخصني، فإذا أسأت إليه أهنتني، فإذا أهنتني فسوف تتحمل النتيجة.” ومنح البركة (البركة المشهورة)، وحسن الضيافة، والملجأ، والممر الآمن، هي متشابهة في هذا الأمر: فهي تقع على الأرجح، على الفكرة المتناقضة نوعاً ما بأنه رغم أن الهوية الشخصية هي فردية إلى حد بعيد في كلا من جذورها وتعبيراتها، إلا أنه بالإمكان دمغها على ذات شخص آخر.
وبينما يجد شيوخ القبائل أن الأمر مربحاً لدى حماية قوافل التجار، لكنهم لا يملكون القوة العسكرية ولا الهيكل السياسي لتمديد، وتطوير، وتطبيق حقوق ملكية اكثر استدامة.
التطور المؤسسي في بداية أوروبا الحديثة
على النقيض من العديد من أنظمة التبادل البدائية، كانت التجارة بعيدة المسافة في بداية أوروبا الحديثة من القرن الحادي عشر إلى القرن السادس عشر عبارة عن قصة مؤسسات أكثر تعقيداً بشكل تسلسلي، والتي أدت في النهاية إلى نهضة العالم الغربي. دعوني أولاً أصف بشكل مختصر الابتكارات، ثم استكشف بعض مصادرها المتضمنة.
فالابتكارات التي خفضت تكاليف العملية اشتملت على تغييرات مؤسسية، وأدوات، وأساليب معينة، وخصائص تطبيق عملت على تخفيض تكاليف المشاركة في التبادل عبر مسافات بعيدة. وقد حدثت هذه الابتكارات عند ثلاثة هوامش من التكاليف: (1) تلك التي زادت من حركة رأس المال؛ (2) تلك التي خفضت تكاليف المعلومات؛ (3) وتلك التي وزعت المخاطر. ومن الواضح أن الفئات متشابكة، ولكنها تزود وسيلة مفيدة لتمييز ملامح تخفيض تكلفة التعامل. إن لجميع هذه الابتكارات أصولها في الأزمنة الأولى، وتمت استعارة معظمها من مدن الدول الإيطالية في العصور الوسطى أو الإسلام، أو البيزنطينيين، ومن ثم التوسع فيها.
ومن بين الابتكارات التي عززت حركة رأس المال، الأساليب والوسائل التي تطورت لتجنب قوانين الربا. إن تنوع الوسائل البارعة عملت على تورية الفائدة في عقود القروض، وتراوحت من “جزاءات على السداد المتأخر” إلى التلاعب بأسعار التبادل (لوبيز وريموند 1955: 163)، إلى الأشكال الأولى من الرهن العقاري، لكنها كلها زادت من تكاليف التعاقد. إن تكلفة قوانين الربا لم تتمثل في كونها جعلت كتابة العقود لتورية الفوائد معقدة وتشكل عبئاً فقط، بل أيضاً في أن تطبيق مثل تلك العقود أصبح مشكلة على نحو أكثر. وعندما زاد الطلب على رأس المال، وأصبح التهرب أكثر عموماً، انهارت قوانين الربا تدريجياً، وتم السماح بمعدلات الفائدة. ونتيجة لذلك، تراجعت تكاليف كتابة العقود، وتكاليف تطبيقها.
والابتكار الثاني الذي حسن حركة رأس المال، والذي تلقى الاهتمام الأكبر، كان تطور ورقة التبادل (أمر بالدفع يحمل تاريخاً، لنفرض 120 يوماً بعد الإصدار، عادة ما كان يكتبه البائع ضد مشتري سلع مستلمة)، وبالتحديد تطور أساليب وأدوات تسمح بتفاوضها فضلاً عن تطور أساليب الخصم. قابلية التفاوض والخصم بدورهما اعتمدا على خلق مؤسسات تسمح باستخدامهما، وتطور مراكز يمكن أن تحدث فيها مثل هذه الفعاليات: أولاً في المعارض، مثل معرض شامبين الذي لعب دوراً مهيمناً في التبادل الاقتصادي في أوروبا القرنين الثاني والثالث عشر؛ ومن ثم بواسطة البنوك؛ وفي النهاية بواسطة بيوت المال التي يمكنها أن تتخصص في الخصم. ولم تكن هذه التطورات وظيفة مؤسسات معينة فقط، إنما أيضا مقياس لحجم النشاط الاقتصادي. ومن الواضح أن الحجم المتزايد جعل مثل تلك التطورات المؤسسية ممكناً. وإضافة إلى اقتصاديات الحجم اللازمة لتطور أوراق التبادل، فإن إمكانية التطبيق المحسن للعقود كانت مهمة، بالإضافة إلى العلاقة المتشابكة بين تطور أساليب المحاسبة والتدقيق واستخدامها كدليل في تحصيل الديون وفي تطبيق العقود (ياني 1949؛ واتس وزيمرمان 1983).
وهناك أيضاً ابتكار ثالث أثر في حركة رأس المال، نشأ من المشاكل التي ارتبطت بالمحافظة على سيطرة الوكلاء المشتركين في التجارة بعيدة المسافة. وكان القرار التقليدي لهذه المشكلة في العصور الوسطى وبدايات الأزمنة الحديثة استخدام روابط القربى والعائلة لإلزام الوكلاء بالقوانين. ولكن مع نمو حجم ونطاق إمبراطوريات التجارة وتمدد السلوك الحذر ليشمل آخرين غير القربى فيما يتعلق بالقوانين اقتضى تطور إجراءات محاسبية أكثر توسعاً لمراقبة سلوك الوكلاء.
وكانت التطورات الرئيسية في مجال تكاليف المعلومات هي طباعة أسعار السلع المتنوعة، فضلاً عن طباعة أدلة وفرت معلومات حول الأوزان والإجراءات، والجمارك، وأجور الوساطة، وأنظمة البريد، وعلى وجه الخصوص، أسعار التبادل المعقدة بين الأموال في أوروبا والعالم. ومن الواضح أن هذه التطورات كانت تعتمد بشكل رئيسي على حجم التجارة الدولية، وبناء عليه، نتيجة لاقتصاديات الحجم.
وكان الابتكار الحاسم في هذا السياق تحوّل عالم عدم اليقين إلى مبدأ المخاطر. وأعني بعدم اليقين هنا حالة لا يستطيع المرء فيها تأكيد احتمالية حدوث حدث ما، وبناء عليه، لا يستطيع الوصول إلى وسيلة للتأمين ضد هذا الحدوث. بينما تتضمن المخاطر، من ناحية أخرى، المقدرة على اتخاذ قرار تأميني لاحتمالية حدوث حدث ما، وبناء عليه التأمين ضد هذه النتيجة. وفي العالم المعاصر، فإن التأمين وتنويع المحفظة المالية هي أساليب لتحويل عدم اليقين إلى المخاطر، والتقليص، بناءً عليه، من تكاليف التعامل بواسطة تخصيص صندوق تحوط ضد المتغيرات. وفي العصور الوسطى وبداية العالم الحديث، حدث نفس التحول بالتحديد. فعلى سبيل المثال، تطور التأمين البحري من عقود فردية متشتتة تغطي دفعات جزئية مقابل خسائر العقود التي أصدرتها شركات متخصصة. وكما وصف دو روفر (1945: 198) قائلاً:
بحلول القرن الخامس عشر، تم تأسيس التأمين البحري على أسس متينة. وأصبحت صياغة السياسات نمطية فعلياً وتغيرت بشكل بسيط خلال الثلاث أو الأربع مائة عام التالية… وفي القرن السادس عشر، كانت الممارسة الشائعة فعلياً استخدام النماذج المطبوعة المزودة بمساحات بسيطة فارغة لكتابة اسم السفينة، واسم الربان، ومبلغ التأمين، والقسط، وعدد قليل من البنود الأخرى التي كانت تميل للتغير من عقد إلى آخر.
وكان المثال الآخر حول تطور المخاطر الاكتوارية القابلة للتحقق بشأنها، مؤسسة الأعمال التي وزعت المخاطر إما بواسطة تنويع المحفظة المالية، أو مؤسسات سمحت لأعداد كبيرة من المستثمرين المشاركة في الأنشطة المحفوفة بالمخاطر. فعلى سبيل المثال، كان “الأمر” عقداً يستخدم في التجارة بعيدة المسافة بين شريك مقيم وشريك فاعل رافق السلع. وتطور من أصوله اليهودية، والبيزنطية، والإسلامية (يودوفيتش، 1962)، وحتى من جانب الإيطاليين، إلى (إنجليش ريجيوليتيد كومباني)، وأخيراً (جوينت ستوك كومباني)، حيث قدم بذلك قصة ثورية حول تحويل المخاطر إلى عملية مؤسسية.
تطورت هذه الابتكارات بالتحديد، إلى جانب أدوات مؤسسية معينة، من التفاعل بين قوتين اقتصاديتين جوهريتين: اقتصاديات الحجم المرتبطة بنمو حجم التجارة، وتطور آليات محسنة لتطبيق العقود بتكلفة أقل. وتجري هذه العلاقة السببية في الاتجاهين. أي أن الحجم المتزايد للتجارة بعيدة المسافة زاد من معدل العائد للتجار من استنباط آليات فاعلة لتطبيق العقود. وفي المقابل، خفض تطور مثل تلك الآليات تكاليف التعاقد، وجعل التجارة أكثر ربحية، وبذلك زاد من حجمها.
كانت عملية تطوير آليات تطبيق جديدة عملية طويلة. ففي حين أن عدداً من المحاكم قد عالجت النزاعات التجارية، إلا أن تطور آليات التطبيق من جانب التجار أنفسهم هي التي تعتبر مهمة. ويبدو أن قابلية التطبيق كان لها بداياتها في تطور لوائح السلوك الداخلية في النظام الودي لتجار النقابات المهنية في العصور الوسطى، وكان يتم تهديد الأشخاص الذين لم يمتثلوا للوائح بنبذهم. وتمثلت الخطوة الأخرى بتطور القانون التجاري. لقد حمل التجار لدى القيام بالتجارة بعيدة المسافة لوائح سلوك تجارية، بحيث تم تمرير قوانين بيسان إلى اللوائح البحرية الخاصة بمرسيليا، وأعطت أوليرون ولوبيك القوانين إلى شمال أوروبا، وبرشلونة إلى جنوب أوروبا، ومن إيطاليا جاء المبدأ القانوني للتأمين وأوراق التبادل (ميتشل 1969: 156).
وزود تطور أساليب محاسبية أكثر تعقيداً والسجلات العدلية دليلاً لتأكيد الحقائق أثناء النزاعات. وشكل المزج التدريجي للهياكل الطوعية لتطبيق العقود بواسطة مؤسسات التاجر الداخلية مع التطبيق الذي فرضته الدولة جزءاً مهماً من قصة زيادة قابلية تطبيق العقود. كما أن التطور الطويل للقانون التجاري من بداياته الطوعية، والاختلافات في القرارات التي كانت موجودة في كلا من القانون العام والقانون الروماني، يشكلان جزءاً من القصة.
وكانت الدولة لاعباً رئيسياً في هذه العملية بأكملها، وكان هناك تفاعلاً مستمراً بين الحاجات المالية للدولة ومصداقيتها في علاقتها مع التجار والمواطنين بشكل عام. وعلى وجه الخصوص، تأثر تطور أسواق رأس المال بشكل مهم بسياسات الدولة، حيث أنها إلى حد ما كانت مقيدة بالتزامات بأنها لن تصادر الممتلكات، أو تستخدم القوة التعسفية لزيادة عدم اليقين، وبدلاً من ذلك، جعلت تطور المؤسسات المالية وخلق أسواق أكثر كفاءة لرأس المال ممكناً. وكانت عملية تقييد السلوك الاعتباطي للحكام، وتطور القوانين غير الشخصية التي ألزمت بشكل ناجح كل من الدولة والمؤسسات التطوعية، جزءاً رئيسياً من هذه العملية برمتها. وأصبح تطور العملية المؤسسية التي أصبح بالإمكان بواسطتها تدوير الدين الحكومي جزءاً من سوق رأس المال النظامي، كما أن إمكانية تمويله بمصدر منتظم من الضرائب شكلت جزءاً مهماً من ذلك (تريسي 1985؛ نورث ووينغاست 1989).
وتم ضم هذه الابتكارات المتنوعة والمؤسسات معاً في هولندا، في أمستردام تحديداً، لكي تخلق سَلَف مجموعة الأسواق الحديثة الفاعلة التي تتيح المجال أمام نمو التبادلات والتجارة. واجتذبت سياسة الهجرة المفتوحة المغامرين. وتم تطوير أساليب فاعلة لتمويل التجارة بعيدة المسافة، وأيضاً تطوير أسواق رأس المال وأساليب الخصم في بيوت المال والتي خفضت تكاليف سندات تأمين هذه التجارة. وكان تطوير الأساليب لتوزيع المخاطر وتحويل عدم اليقين إلى مخاطر تأمينية قابلة للتحقق بشأنها، فضلاً عن خلق أسواق الحجم الكبير التي أفسحت المجال أمام تخفيض تكاليف المعلومات، وتطوير مديونية حكومية قابلة للتفاوض، جميعها تشكل جزءاً من هذه القصة (باربر 1949).
قصص متناقضة للاستقرار والتغيير

تمضي هذه القصص المتناقضة للاستقرار والتغيير إلى قلب الأحجية التي تعلل التغييرات في الظروف الاقتصادية الإنسانية. ففي الحالات السابقة، لن يحفز النشاط المتعاظم من جانب اللاعبين زيادة المعرفة والمهارات التي ستعدل الإطار المؤسسي لتحفيز إنتاجية أكبر؛ وفي الحالة الأخيرة، يشكل التطور قصة متناغمة للتغيير المتزايد الذي تم تحفيزه بواسطة المكاسب الشخصية، لكي تحققه التغييرات النظامية والمؤسسية التي زادت الإنتاجية. فما الذي ميز السياق المؤسسي لأوروبا الغربية عن الأمثلة الأخرى؟ لقد كانت الإجابة التقليدية من جانب المؤرخين الاقتصاديين هي المنافسة بين الوحدات السياسية الأوروبية المشتتة التي أبرزتها التقنية العسكرية المتغيرة والتي أجبرت الحكام على السعي للحصول إلى عوائد أكثر (بعمل مساومات مع الناخبين) من أجل الاستمرار في البقاء (نورث وثوماس 1973؛ جونز 1981؛ روزنبيرغ وبريدزيل 1986). لقد شكل ذلك بالتأكيد جزءاً من الإجابة؛ فالمنافسة السياسية من أجل البقاء في بداية أوروبا الحديثة كانت بدون شك أكثر حدة عنها في مناطق أخرى من العالم. ولكنها إجابة جزئية فقط. فلماذا جاءت النتائج متناقضة داخل أوروبا الغربية؟ ولماذا تراجعت إسبانيا، أعظم قوة في أوروبا القرن السادس عشر، في حين أن هولندا وانجلترا تطورتا؟
للبدء في الحصول على إجابة (وهذه بداية فقط)، علينا أن نبحث عميقاً في جزأين رئيسيين من الأحجية: العلاقة بين الإطار المؤسسي الأساسي، الذي جاء نتيجة الهيكل النظامي، والتغير المؤسسي، وبين الطريق الاعتمادي الطبيعة للتغير الاقتصادي الذي جاء نتيجة العوائد المتزايدة التي كانت سمة الإطار المؤسسي.
في الروايات المؤسسية التي ذكرت سابقاً، عكس اتجاه وشكل النشاط الاقتصادي من جانب الأفراد والمؤسسات الفرص التي أنتجها الإطار المؤسسي الأساسي للعادات، والمبادئ الدينية، والقوانين الرسمية (وفعالية التطبيق). وسواء ندرس إطار التجارة في السوق [The Suq] أو في معارض شامبين، ففي كل حالة كان التاجر مقيداً بالإطار المؤسسي، فضلاً عن القيود التقليدية الشائعة في النظرية الاقتصادية.
ففي كل حالة كان التاجر يستثمر في الحصول على المعرفة والمهارات التي تزيد من ثروته. ولكن في الحالة السابقة، كانت المعرفة والمهارات المحسنة تعني الحصول على معلومات أفضل حول الفرص، وامتلاك مهارات مساومة أكبر من تلك التي يملكها التجار الآخرون، حيث أن الفرص المربحة جاءت من كون المرء مطلع بشكل أفضل، وكونه مساوماً أكثر مهارة من التجار الآخرين. ولم يحفز أي من النشاطين التغيير في الإطار المؤسسي الأساسي. وفي المقابل، في حين أن التاجر في المعرض الأوروبي في العصور الوسطى كان سيربح من غير شك من الحصول على مثل هذه المعلومات والمهارات، إلا انه سيكسب أيضا من استنباط طرق لإلزام زملائه التجار، لتأسيس محاكم للتجار، لتحفيز الأمراء على حماية السلع من قطاع الطرق مقابل عائد ما، ولاستنباط طرق لخصم أوراق التبادل. واستثماره في المعرفة والمهارات كان سيعمل تدريجياً وبشكل متزايد على تغيير الإطار المؤسسي الأساسي.
لاحظ أن التطور المؤسسي لم يستلزم فقط وجود مؤسسات طوعية عملت على توسيع التجارة وجعلت التبادل أكثر إنتاجية، بل أيضا على تطور الدولة لتتولى حماية وتطبيق حقوق الملكية، في الوقت الذي جعل فيه التبادل غير الشخصي تطبيق العقود مكلفاً بشكل متزايد بالنسبة للمؤسسات الطوعية التي افتقرت إلى وجود قوة قسرية فعالة. واستتبع القسم الآخر من التطور المؤسسي تقييد السلوك الاعتباطي للدولة إزاء النشاط الاقتصادي.
إن اعتمادية الطريق هي أكثر من مجرد عملية متراكمة للتطور المؤسسي، والتي يوفر فيها الإطار المؤسسي ليوم أمس الفرصة المعدة لمؤسسات يومنا هذا وللمغامرين المختلفين (سياسياً أو اقتصادياً). وتتألف المصفوفة المؤسسية من شبكة متبادلة الاعتماد من المؤسسات، ومؤسسات سياسية واقتصادية تالية تتميز بعوائد هائلة متزايدة.[4] أي أن المؤسسات تدين بوجودها إلى الفرص التي وفرها الإطار المؤسسي. وينشأ الخروج عن الشبكة بسبب تكاليف الإنشاء المبدئية (مثل الإنشاء الجديد للدستور الأمريكي في عام 1787)، وتأثيرات التعلم الموصوفة سابقاً، وتأثيرات التنسيق بواسطة عقود مع مؤسسات أخرى، والتوقعات المقتبسة الناشئة عن انتشار التعاقد الذي اعتمد على المؤسسات القائمة.
عندما تتطور الاقتصادات فعلاً، بناء على ذلك، فلا شيء بشأن العملية يدعم النمو الاقتصادي. لقد كانت الحالة عموماً أن هيكل الحوافز الذي قدمه الإطار المؤسسي الأساسي يخلق فرصاً للمؤسسات التالية لكي تتطور، بيد أن اتجاه تطورها لم يكن لتعزيز الأنشطة التي تزيد الإنتاجية. بدلاً من ذلك، تمت زيادة الربحية الخاصة عن طريق خلق احتكارات، وبتقييد عملية الدخول وحركة عوامل الإنتاج، والمؤسسات السياسية التي رسخت حقوق الملكية التي أعادت توزيع الدخل بدلاً من زيادته.
والتواريخ المتناقضة لكل من هولندا وانجلترا من الجهة الأولى، وإسبانيا من الجهة الأخرى، عكست مجموعة الفرص المختلفة للاعبين في كل حالة. ولتقييم التأثير المنتشر لاعتمادية الطريق، دعنا نمدد الرواية التاريخية لإسبانيا وانجلترا لتشمل التاريخ الاقتصادي للعالم الجديد والتناقض المذهل في تاريخ المناطق شمال وجنوب نهر ريو العظيم.
ففي حالة شمال أمريكا، تم تشكيل المستعمرات الانجليزية في القرن الذي كان فيه الصراع بين البرلمان والتاج قد وصل إلى مرحلة الذروة. وتمت موازاة التنوع الديني والسياسي الموجود في البلد الأم بمثيله في المستعمرات. وكان التطور العام باتجاه السيطرة السياسية المحلية ونمو الجمعيات واضحاً كذلك. وبالمثل نقل سكان المستعمرات السيطرة على الأرض بطريقة الامتلاك الشائعة وغير المقيدة (رسوم بسيطة لحقوق الملكية) وحماية حقوق الملكية في أسواق عوامل الإنتاج والمنتجات.
وشكلت الحرب الفرنسية الهندية من عام 1755 إلى 1763 نقطة حاسمة مألوفة في التاريخ الأمريكي. وأحدثت الجهود البريطانية لفرض ضريبة متواضعة جداً على رعايا المستعمرات، فضلاً عن كبح لجام الهجرة باتجاه الغرب، رد فعل عنيف أدى بواسطة سلسلة من الخطوات، اتخذها أفراد ومؤسسات، إلى حدوث الثورة، وإعلان الاستقلال، وبنود الاتحاد الفيدرالي، والقانون الشمالي الغربي، والدستور، كلها سلسلة من التعبيرات المؤسسية التي شكلت نمطاً تطورياً متسقاً رغم عدم استقرار العملية. وبينما خلقت الثورة الأمريكية الولايات المتحدة، إلا أن تاريخ ما بعد الثورة جلي فقط بلغة استمرار القيود المؤسسية الرسمية وغير الرسمية التي تم نقلها قبل الثورة وتم تعديلها بشكل متزايد (هيوز 1989).
لنتحول الآن إلى الحالة الإسبانية (والبرتغالية) في أمريكا اللاتينية. ففي حالة الأنديز الأسبانية، جاء الغزو في نفس الوقت الذي بدأ فيه نفوذ البرلمان يتراجع، وكانت المَلَكية الإسبانية، والتي مثلت كرسي السلطة في إسبانيا، تُرسِّخ بثبات السيطرة البيروقراطية المركزية على إسبانيا والأنديز الإسبانية. وفرض الغزاة ديناً موحداً، وإدارة بيروقراطية موحدة على مجتمع زراعي قائم فعلياً. وفصّلت البيروقراطية كل ناحية من نواحي السياسة العامة، السياسية والاقتصادية. وكانت هناك أزمات متكررة بشأن مشكلة الوكالة. واستلزم سلوك زيادة الثروة من جانب المؤسسات والرياديين (سياسياً واقتصادياً) الحصول على السيطرة ، أو النفوذ، على الآلية البيروقراطية. وفي حين اتضح أن حروب القرن الثامن عشر من أجل الاستقلال في أمريكا اللاتينية كانت صراعاً للسيطرة على البيروقراطية والسياسة اللاحقة كما كان الحال بين سيطرة المستعمرات المحلية والسيطرة الإمبريالية، إلا أن الصراع كان مصبوغاً بالنغمة التوافقية الأيديولوجية التي نبعت من الثورات الأمريكية والفرنسية. وجلب الاستقلال دساتير مستوحاة من الولايات المتحدة، بيد أن النتائج كانت مختلفة جذرياً. وعلى النقيض من تلك الخاصة بالولايات المتحدة، كان للبرامج الفيدرالية لأمريكا اللاتينية، والجهود لحل المركزية أمراً مشتركاً فيما بينها بعد الثورات. غير أنه لم ينجح أي منها. وميزت العودة التدريجية لبلد تلو الآخر إلى السيطرة البيروقراطية المركزية أمريكا اللاتينية في القرن التاسع عشر.
إن الطرق المتشعبة التي أسستها بريطانيا وإسبانيا في العالم الجديد لم تتقارب رغم وساطة عوامل التأثيرات الأيديولوجية المشتركة. ففي الأولى، تطور إطار مؤسسي يسمح بالتبادل غير الشخصي المعقد اللازم للاستقرار السياسي، فضلاً عن التقاط المنافع الاقتصادية المحتملة من التقنية الحديثة. وفي الثانية، ما زالت العلاقات “ذات الصفة الشخصية” المفتاح الرئيسي للكثير من التبادل السياسي والاقتصادي. إنها عواقب إطار مؤسسي متطور أنتج نمواً اقتصادياً شاذاً في أمريكا اللاتينية، ولكن دون وجود استقرار سياسي أو اقتصادي، ولا تحقيق فرص التقنية الحديثة.
على الأرجح أن يثير مخطط المقارنة الجارية أسئلة أكثر من الإجابات حول المؤسسات والدور الذي تلعبه في أداء الاقتصادات. فتَحْتَ أية ظروف يصبح الطريق معكوساً، مثل انتعاش إسبانيا في الأزمنة الحديثة؟ وما هو الأمر المتعلق بالقيود غير الرسمية والذي يعطيها مثل هذا النفوذ المنتشر على خصائص الاقتصادات على المدى الطويل؟ وما هي العلاقة بين القيود الرسمية وغير الرسمية؟ وكيف يطور اقتصاد ما القيود غير الرسمية التي تجعل الأفراد يقيدون سلوكهم بحيث يجعلون الأنظمة السياسية والاقتصادية فعالة للتطبيق على الغير؟ من الواضح أن أمامنا شوط طويل نقطعه للحصول على إجابات كاملة، بيد أن الدراسة المعاصرة للمؤسسات توفر الأمل بالحصول على فهم جديد دراماتيكي حول أداء الاقتصاد والتغير الاقتصادي.
ملاحظات

[1] في مقال كتب منذ عدة سنوات (نورث 1995)، أشرت إلى أن العديد من الاقتصادات الإقليمية تطورت منذ البداية كاقتصادات للتصدير، وبنت تطورها حول قطاع التصدير. إن هذا الأمر يقارن وعلى نقيض من نظرية المرحلة القديمة للتاريخ المستنبط من المدرسة الألمانية التاريخية، والذي كان فيه التطور يحدث دائماً من مرحلة الاكتفاء الذاتي المحلي إلى مرحلة التطور التدريجي للتخصص وتقسيم العمل. لقد حصل هذا في ظل هذا النمط الأخير المذكور هنا، رغم أنه ربما لن يصف التطور المحدد الذي حصل في الحقيقة.
[2] لقد “حلّ” التجار اليهود في حوض البحر الأبيض المتوسط إبان القرن الحادي عشر مشكلة الوكالة نتيجة للعلاقات المجتمعية الوثيقة فيما بينهم، والتي قللت من تكاليف المعلومات، ومكنتهم من العمل كمجموعة من أجل نبذ والثأر من الوكلاء الذين انتهكوا لوائحهم التجارية.
[3] إن قطاع التعامل (تلك نسبة من تكاليف التعامل التي تدخل السوق وبناء عليه تصبح قابلة للقياس) الخاص باقتصاد الولايات المتحدة كان 25 في المائة من الناتج القومي الإجمالي في عام 1870 و45 في المائة من الناتج القومي الإجمالي في عام 1970.
[4] طوّر مفهوم اعتمادية الطريق بريان آرثر (1988، 1989) وبول ديفيد (1985) لاستكشاف طريق التغير التقني. وأعتقد شخصياً أن للمفهوم قوة توضيحية مكافئة في مساعدتنا على فهم التغير المؤسسي. وفي كلتا الحالتين، تعتبر العوائد المتزايدة المفتاح الرئيسي لاعتمادية الطريق، ولكن في حالة التغير المؤسسي، فإن العملية أكثر تعقيداً بسبب الدور الرئيسي للمؤسسات السياسية في العملية.
مجلة المفاهيم الاقتصادية، المجلد 5، العدد 1 (شتاء 1991)، الصفحات 97-112.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 18 تشرين الأول 2006.

One comment

  • Omar A.K El-joumayle

    9 أبريل، 2012 at 8:03 ص

    المقال ممتاز لعالم اقتصاد مرموق ولكن اعتقد أن الترجمة غبر موفقة لأنها غير مفهومه باللغة العربية وتحتاج إلى مراجعة شاملة ولابد بان انوه بهذا الصدد إلى احتمالية أن تكون الترجمة قد تمت من شخص غير متخصص في علم الاقتصاد وغير مطلع على مستجدات الاقتصاد المؤسسي الجديد تحديدا وختاما أن انطباعي المذكور قد تأتى لكوني قد قرأت معظم إعمال البروفسور دوغلاس ولكن باللغة الانكليزيه مع خالص التمنيات بالموفقية والنجاح

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018