بالنسبة إلى الحمائيين والمصابين بالرهاب و الهلع من الصين، فإن الأنباء التي تقول إن الصين ستتفوق على ألمانيا لتصبح أكبر البلدان المصدرة في العالم هي أنباء تنذر بنظام عالمي جديد غير مرغوب فيه، لكن هذا الشعور والذي هو أكثر من كونه علامة على القوة الاقتصادية الصينية المتصاعدة، إنما هو شهادة على تراجع الحواجز الاقتصادية والسياسية والطبيعية والتكنولوجية أمام الإنتاج. ولقد بدأت الحواجز تزول مع ابتداءً التحرير الواسع لقواعد التجارة والاستثمار بعد الحرب العالمية الثانية، وأخذت المداخيل في الارتفاع في مختلف أنحاء العالم. إن انفتاح الصين على الغرب في عام 1978، وسقوط جدار برلين في عام 1989، وسقوط الاتحاد السوفييتي بعد ذلك بسنتين، وانهيار الشيوعية كنموذج للبلدان النامية، وظهور عصر الشحن بالحاويات وانتشارها الواسع، وتكنولوجيا النظام العالمي لتحديد لمواقع GPS، وعرض السلع و الخدمات في الوقت المناسب والإنجازات الرائعة في مجال المعلومات، والنقل، و ثورات الاتصالات كل ذلك أدى إلى نشوء تقسيم عالمي للعمل، والإنتاج يتحدى التحليل التقليدي و يجعل تقنيات المحاسبة التي تتعلق بالتجارة مضلِّلة إلى حد كبير.
لم يعد الاقتصاد العالمي منافسة “بيننا وبينهم”، أو بين شركات الإنتاج “لدينا” و “لديهم، والذي حدث بدلاً من ذلك، بسبب الاستثمار عبر الحدود والإنتاج وسلاسل التوريد عبر البلدان، هو أن المصنع حطم جدرانه وهو يمتد الآن عبر الحدود والمحيطات. لقد أضحت المنافسة في غالبيتها في عصرنا الراهن منافسة بين العلامات التجارية الدولية أو الإنتاج وسلاسل التوريد التي تتحدى الهوية الوطنية. لكن ما علاقة كل ذلك بوضع الصين كأكبر بلد مصدر في العالم؟
تعتمد الغالبية العظمى من الصادرات الصينية بصورة هائلة على الواردات من بقية أنحاء العالم. فالحديد يأتي من أستراليا، والرقائق الدقيقة من تايوان أو كوريا الجنوبية أو سنغافورة، وبرامج الكمبيوتر من فرق العمل في ريدموند( موقع شركة مايكروسوفت في ولاية واشنطن الأمريكية)، والتصاميم الجديدة من كامبردج في ولاية ماساتشيوستس الأمريكية، أو في بريطانيا، أو من مدينة تولوز في فرنسا، والاستثمارات من مجموعة من الشركات التي مقرها نيويورك أو ساو باولو أو جوهانسبرج. أصبحت الصين أكبر بلد مصدر في العالم بسبب التقسيم العالمي للعمل أساسا، تقسيم ساعد على تقليص الفقر وخلق الثروة رغم أن إنتاج الصين ذو قيمة مضافة أدنى. إن المكونات الداخلة في تصميم أجهزة آي بود وآي فون (من شركة أبل للكمبيوتر) يتم تجميعها في الصين، لكن القيمة المضافة للتصميمات المعدة في كاليفورنيا أهم للشركة من حيث قياس التكاليف والأرباح. شركة إيكو Ecco الدانمركية لديها مصانع أحذية في مختلف مناطق آسيا، لكن أهم منتجاتها من الأحذية ما تزال تصمَّم وتصنع في أوروبا، حيث الجودة مضمونة والقوة العاملة تتمتع بتدريب عال، وتتلقى أجوراً أعلى. لم تصبح الصين من البلدان الرئيسية في التجارة العالمية بفعل الصدفة، فقد استثمرت واستفادت من الواقع الجديد للإنتاج وسلاسل التوريد العالمية منذ عام 1983 . وأزالت من جانب واحد العوائق أمام التجارة، حيث أدركت أنها كانت تؤذي نفسها بذلك بالدرجة الأولى.
صحيح أن السياسات التجارية الصينية بعيدة عن كونها سياسات ممتازة، لكنها قامت بالتحرير بسرعة وعلى نطاق لا يستهان به، وهو أمر من شأنه تفسير الدور البارز للصين في الإنتاج والتوريد على المستوى العالمي، والسبب في ذلك هو التجارة متعددة الأطراف مع بقية العالم، على الرغم من الحجج التي تطرحها جماعات الضغط المناهضة للصين في أروقة الاتحاد الأوروبي، أو في نيودلهي وواشنطن.
لكن تظل هناك مشكلة حول حساب من هو الطرف الذي يكسب أكبر المبالغ من الصادرات. تُشحن البضائع المتوسطة التصنيع إلى الصين من بلدان مثل اليابان وتايوان وسنغافورة وأستراليا والولايات المتحدة، ثم يتم تجميعها (أو ربما إخضاعها لعمليات تحويل تضيف من قيمتها) في الصين، ويتم تصديرها بعد ذلك، وحين تغادر هذه البضائع موانئ شنغهاي أو تيانجين أو جوانجدونج للتصدير، فإن القواعد المحاسبية البسيطة للتجارة تنسب القيمة الإجمالية بخصوص الصادرات المذكورة إلى الصين، حتى حين تكون القيمة الصينية الكامنة في تلك البضائع تشكل نسبة بسيطة.
هذا المنهج المحاسبي يفسر السبب في الارتفاع الكبير للصادرات الصينية على مدى العقود الماضية، في الوقت الذي تطور فيه تقسيم العمل وتكاثرت فيه سلاسل التصنيع. في دراسة قام بها في الفترة الأخيرة مجموعة من الاقتصاديين في جامعة كاليفورنيا، خلص الباحثون إلى أن القيمة الصينية المضافة في جهاز آي بود 30G من أبل تشكل فقط 4 دولارات من إجمالي التكلفة البالغة 150 دولاراً، ومع ذلك فإن المبلغ الإجمالي بكامله يقيد على أنه صادرات صينية، وهناك دراسات حديثة أخرى تقدر أن إجمالي القيمة الصينية المضافة في جميع المنتجات المصدرة من الصين يبلغ في المتوسط بين 35 و 50 بالمائة، وهي نسبة كبيرة، لكنها أقل بكثير مما يمكن أن تنطوي عليه الأرقام الإجمالية للصادرات.
ما يؤيد ذلك الملاحظة التي جاءت في الفترة الأخيرة على لسان فولكر ترايَر، وهو اقتصادي لدى غرفة الصناعة والتجارة الألمانية: “حين تنمو الصين، فإن هذا يدفع الاقتصاد العالمي، وهذا أمر جيد لألمانيا ذات الاقتصاد الموجه نحو الصادرات كذلك.” وحين ندرس المكانة الجديدة للصين كرائدة للصادرات العالمية، فإن من المهم أن نفهم معنى ذلك. هذه البيانات تتحدث بلغة مقنعة للغاية عن فضائل الاعتماد الاقتصادي المتبادل على نحو يفوق الحديث عن قوة الصين وحدها من حيث الصادرات، فهي تؤمن فرصاً لكل شخص لينضم إلى الاقتصاد العالمي، تماماً كما شهده الجزء الناجح في اقتصاد دبي الممثل في منطقة التجارة الحرة التي لم تتأثر بتداعيات الأزمة الأخيرة.
دانييل إيكنسون هو المدير المشارك لمركز دراسات السياسة التجارية، التابع لمعهد كيتو، ومؤلف “لم يعد الأمر نحن في مقابل هم” أليك فان جيلدر هو مدير للمشاريع لدى شبكة السياسات الدولية IPN.
© منبر الحرية،08 أبريل /نيسان 2010