الخصوصية على مستوى الجماعات والشعوب هي مفهوم يمتد ليتسع لعدة أنماط تراثية وحضارية وثقافية وغيرها والصفة الأكثر وضوحا لها هي الانطلاق من محاولة وضع علامات فارقة مميزة لتلك الجماعة عن غيرها .. من زاوية أخرى يمكن اعتبار الخصوصية كمنتوج ومؤثر في نفس الوقت لوعي جمعي ساعد في تشكيله العديد من العوامل المتشابكة وعلى امتداد الزمن ..
هذا عن التعريف .. أما عن استخداماته وهو جوهر الموضوع .. فقد عانى مفهوم الخصوصية كغيره من المفاهيم التي تتصف ببعض الغموض والقابلة للتطويع والمط من محاولات استلاب وتهجين وتغيير مسار باختلاف الهدف ومصدر الاستخدام ..
فمثلا .. عندما يتحدث سدنة المؤسسات الرجعية ( سياسية أو دينية ) عن الخصوصية فغالبا يكون الهدف هنا هو الارتداد إلى لحظة تراثية معينة والتوقف عندها .. أو كحائط صد أمام دعاوى الحداثة والتطوير والعقلنة أيضا .. قد يكون التشدق بالخصوصية بمفهومها السلبي هو علامة ضعف أو عجز أو حتى انهزام .. وغالبا ما يتولد أيضا الهجوم المضاد لها من قبل عباد الحداثة .. وهم المسار المواز لعباد التراث .. ووجه الشبه هنا هو الجمود والفشل في إنتاج مقولات حداثية تنويرية تتميز بالأصالة والمعاصرة في آن واحد ..
عندما يتحدث بعض العقلانيين التنويريين عن الخصوصية الثقافية لمجتمعاتنا المأزومة يكون التوجه هنا نحو مفاهيم تغيب عن الوعي الملتاع من أية محاولة لتفهم الماضوي وعقلنته والمندفع دوما نحو الاغتراب والانفصال والإقصاء ..
تلك المفاهيم الغائبة أو المغلوطة هي الاحتياجات الخاصة بكل مجتمع وطبيعة تركيبته الاجتماعية والسياسية وارتكازاته التاريخية وغيرها ..
وتكون الدعوة هنا إلى موائمة الخصوصية ليست ارتدادا أو مراوغة حداثية و إنما بناء عقلاني سليم وأعمق تم تأسيسه على فهم طبيعة المجتمع النازح نحو التغيير .
التنوير ما بين عبّاد التراث وعبّاد الحداثة ..
وعلى الجانب الآخر .. تكون الدعوة إلى ( استيراد ) الأشكال سابقة التجهيز من مقولات الحداثة والتنوير مغرقة في السذاجة وعلى خلفية من جهل بحركة التاريخ ومتطلبات التطور ..
فكل وأي حراك اجتماعي وتنوير عقلاني بأي مكان وزمان هو مسار محكوم بعوامله الخاصة ومتطلبات مرحلته وخصوصيته التي تتحول هنا إلى هوية وعلامة فارقة تحدد له أهدافه وآليات تحققه من أجل ما سبق وغيره الكثير وبالتوازي مع فشل الوعي باللحظة الراهنة وهي من ركائز التنوير الأصيلة كانت المراوحة العربية فكريا شعبيا ونخبويا ما بين عبادة الحداثة وعبادة التراث ..
بعبارات أكثر وضوحا .. فان الخصوصية هنا ( في مسارها العقلاني الايجابي ) لا تعني الجمود .. بل تعني ضرورة إنتاج المجتمعات لآليات تطورها بنفسها وبما يتسق مع متطلباتها واحتياجاتها .. وفي نفس الوقت .. بما لا يتعارض مع خط التطور البشري فكريا وإنسانيا .. وإن أضاف له يكون الخروج من الحرية إلى التحرر .. وهو ما أشك أن مجتمعاتنا بنفس الأنماط السلبية من التعاطي سواء من عباد التراث أو عباد الحداثة سوف تبلغه فضلا عن بدء السير في طريقه .. ويبقى الحل كما أراه في ضرورة تبني مسار تنويري عام وشامل وهذا للأسف أيضا يسير في اتجاهه المعاكس أشكال الحكم السلطوية التي تكرس للماضوي وأحيانا تمجده .
الخصوصية هنا ليست ( صفات ) بل ( احتياجات ) .. ليست ( وفرة ) بل ( افتقاد (
لذلك وبالتأمل في مفهومها الإيجابي الذي يطغى عليه استنكار واقع الحال المزري الذي نعاين وقائعه كمجتمعات عربية ( وهو حق ) لاكتشفنا أن ما هو موجود من صفات تميز مجتمعاتنا المأزومة من فقر وجهل وتخلف وغيرها هي بالتأكيد موجودة ومستفحلة لكنها هنا توجد كصفات أو أمراض اجتماعية وفكرية يضلع التنوير والحداثة بالقضاء عليها .. بينما يكون موقع كلمة ( الخصوصية ) هنا هو الآلية والطريقة التي تتواجد بها تلك الأمراض الاجتماعية .. وتكون الدعاوى إلى مراعاتها عند العلاج هي تفهم ذلك التموضع لها من اجل النجاح في إيجاد حل سليم يتمتع بالموائمة .
مثال لتوضيح ما سبق ..
كان المجتمع الأوروبي يتصف في مرحلة ما قبل عصر التنوير بالرجعية والظلامية والخضوع لسلطان الكنيسة بالتحالف مع الإقطاع .. هذا الوضع المعين أنتج آليات تنويره وتطوره المتمثلة في الثورة الصناعية والعقلية التي توازت مع إطلاق عصر التنوير لصرخته الأشهر (كن جريئا في استخدام عقلك) بينما وعلى الجانب الآخر لن نجد أبدا هذا الوضع التاريخي و الاجتماعي متحققا بأي شكل من الأشكال بمجتمعاتنا العربية .. فنحن لسنا كيانات منتجة بالمعنى الأصيل الذي كانت عليه الدول الأوروبية وقتها. بينما تحور الإقطاع لصورة مؤسسات وأفراد ينتسبون للرأسمالية ( بوجهها الإستغلالي ) وبمزاوجة مع مؤسسات رجعية سياسية أو دينية … وهذا كله على خلفية من هيمنة خارجية وتحديات هوياتية بل ومواقعة احتلال واستنزاف مادي ومعنوي. هذا الاختلاف .. هو المقصود بالخصوصية .
الوعي باللحظة الراهنة ..
إن القول باستحالة أن نستطيع كمجتمعات وشعوب عربية إنتاج حداثة وعصرنة تتميز بالأصالة والمعاصرة هو قول يتعارض مع الحداثة ذاتها التي تؤمن بشيء اسمه الحراك والتطور .. ليس فقط بالمفهوم الديالكتيكي بل وأيضا بالمفهوم التنويري كأفراد ثم كشعوب .
ولا تعني دعاوى ضرورة التمثل بالخصوصية المجتمعية هو الانغلاق أو الإقصاء أو التقوقع على الذات. لا تعني التحريم أو التخوين أو الوقوف على طرف الحلبة من المجتمعات المتحضرة التي تصوغ لنا للأسف حتى مقدراتنا فضلا عن وقائع حياتنا اليومية الاستهلاكية وأحيانا الفكرية ..
ولا تعني أبدا عدم الالتفات إلى تجارب الشعوب التي هي في الأساس إرث إنساني عظيم وملهم ..
بل تعني محاولة فهم عميق لطبيعة مجتمعاتنا وتركيبته المعقدة المتشابكة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وذلك من أجل النجاح في إنتاج طرائق ناجحة للخروج من عصور ظلام عربية طالت كثيرا. أما عن دعاوى نقل التجربة كما هي .. فالأمر هنا لا يتعلق برفضي أو قبولي أو رفض وقبول المجاميع .. فهو بالأساس مستحيل منطقيا لمغايرة الزمان والمكان والوضع التاريخي ..
وهناك فارق كبير ما بين أن نتبنى مثلا التنوير أو الحداثة وغيرها .. وبين ان نتبنى نفس الآليات التي استطاعت تلك المجتمعات أن تحقق أهدافها بها ..
الأول .. أي تبني المفاهيم والطرائق التطورية مع إعادة إنتاج آلياتها ووسائل تحققها هو حق .. وهو ما يجاهد كل عقلاني حر إلى بلوغه وتسييده بمجتمعه المأزوم ..
بينما الثاني .. أي تبني نفس الآليات والطرائق لهو فضلا عن استحالته إنما يمنح مؤشرا مرعبا على عدم الوعي باللحظة الراهنة وهو ما سيأتي إليه الحديث الآن .
الوعي باللحظة الراهنة ببساطة هو الوعي الذي يستطيع استقراء الحاضر وتجاوز الماضي من أجل محاولة إنتاج المستقبل وهو مقابل لما يسميه البعض ( الوعي الأصولي ) وهو كما يتضح من اسمه الوعي الذي يعاني من التوقف عند نقطة تراثية معينة ..
ولذلك أيضا كان الاشتقاق الصادم ( عبادة الحداثة ) وذلك لأن هؤلاء أيضا إنما توقف وعيهم عند نقطة إحداثية ما لن تلبث أن تنتقل بدورها بحكم حركة التطور الى التراثي والماضوي
الوعي باللحظة الراهنة هو الوعي المعنى بالتنوير .. أو ان شئنا الدقة بحمل مشاعله .. وذلك لأنه قادر على الابتكار والإبداع لا النقل والإتباع ..
أي تغيير مجتمعي هو وليد التثوير في شتى مناحي الحياة .. والتثوير هو منتوج تنويري بحت .. وهنا التنوير يتجاوز مفهومه المعرفي لينسكب على كافة طرائق و آليات التعاطي الإنساني مع الحياة حتى الشخصية أو الاجتماعية فهو مرادف دوما للتطور ولكن الإرادي لا المحتوم.
© منبر الحرية، 22 سبتمبر/أيلول 2009