يعتبر موضوع الجيش من القضايا الأساسية في العالم العربي والتي تترك ظلالها التأثيرية الكبرى على مسيرة تقدم وتطور المجتمعات العربية، وذلك لحساسيته وأهميته في التأثير على استقرار وتنمية هذه المجتمعات. باديئ ذي بدء تحدد ” مهمة الجيش في الدفاع عن الوطن والمحافظة على سيادة وحماية الدستور والقانون، ويستبعد استخدامه في حل المشاكل والنزاعات الداخلية، ولتحقيق هذه المهمات من الطبيعي أن يكون موقع الجيش داخل الثكنات العسكرية وأن تنحصر واجباته في الدفاع عن الحدود وأرض ووحدة الوطن، وبذلك يصان النظام الديمقراطي ويحمي من مخاطر الجنوح نحو السلطة والتآمر ” العميد نجيب الصالحي – الجيش والتحول الديمقراطي في العراق.
ولكن الجيش لم يحافظ على مهمته الأساسية والوحيدة ( الحفاظ على أرض وحدود وسكان الوطن) وإنما تعدى ذلك إلى الدخول في المنازعات والحروب الداخلية والأهلية في أكثر من قطر عربي وشرق أوسطي، وظاهرة الانقلابات العسكرية ودخول الجيش في معترك السياسة ظاهرة معروفة في العالم العربي. إن ” ضعف الحياة السياسية وحداثة السلطة الديمقراطية وبروز الفئات الوسطى المدينية والفلاحية وبخاصة في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم قد أدى إلى ابراز المؤسسات العسكرية الأقوى القادرة على التغيير، فنشأت الانقلابات العسكرية الناجحة والفاشلة – كما يراها د. أحمد برقاوي – كما أنمت دوره في الحفاظ على على السلطة القائمة، وهكذا صار الجيش جزءا أساسيا من الحياة السياسية ليتحول في النهاية إلى محدد لمصير السياسة فاختلطت لديه المهمة الوطنية في الحفاظ على السيادة والمهمة السلطوية في الحفاظ على السلطة وتكونت النخبة العسكرية التي استلمت السلطة في النهاية ” أحمد برقاوي – الحرية والديمقراطية – ورقة نقاشية .
والمسألة لم تقف عند حدود الخمسينات والستينات وإنما استمرت إلى أيامنا الراهنة بالرغم من فشل الجيوش العربية في معاركها مع اسرائيل ابتداء من حرب 1948 إلى حرب 1967 وحتى أحداث غزة الأخيرة إذ لم تقم الجيوش العربية بأي دور خارجي ناجح فهي إما أن تخوض الحروب وتخسر أو لا تخوض الحروب بالمطلق.
وما يلفت النظر حقا أن الجيوش العربية تتدخل في الشؤون الداخلية والمنازعات الأهلية بحيث تبتعد الحلول السياسية للعديد من القضايا الداخلية المتعلقة بالحريات والإثنيات والاقتصاد والتنمية والبطالة، فحتى تظاهرة سلمية للمطالبة بلقمة الخبز يمكن لها أن تقمع بالجيش إذا خرجت عن السيطرة الأمنية.
و يمكننا الاستشهاد بحالات واقعية حدثت في العالم العربي وتركت آثارا سلبية ضارة على مستقبل عدة أقطار عربية ففي العراق حدثت حروب داخلية ( وخارجية) كثيرة مما أنهك الجيش العراقي بفضل سياسات خاطئة وذلك باقحام هذا الجيش في منازعات داخلية مزمنة وغير محسوبة العواقب وكانت النتيجة الغزو الخارجي واحتلال العراق وما آل اليه الشعب العراقي من تكبده لخسائر كبيرة ومما أحدث من آثار كبرى بالترافق مع تنامي ظاهرة الإرهاب والتطرف والتفجيرات وتنامي الطائفية السياسية والمذهبية وكذلك ما حدث في السودان من تدخل الجيش في الجنوب السوداني، وما حدث في دارفورووقوع مجازر كبرى هناك أدى إلى إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر حسن البشير بتهمة ارتكابه جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وما أحدث ذلك من ضجة سياسية وإعلامية إقليمية ودولية قوية لا زالت أصداؤها تتردد وتترك بصمات تأثيرية على مستقبل السودان واستقراره في المديين القريب والبعيد.
ولا ننسى الصومال واليمن وغيرها من الدول العربية التي يأتي تدخل الجيش في الشؤون الداخلية لها ليفاقم الأزمات الداخلية عوضا عن النأي بالجيش عن هذه المنازعات، والاعتماد على السياسة والحوارات السياسية في حل هكذا منازعات يرى الدكتور طيب تيزيني أن الجيش أراد أن يقوم بوظائف الأحزاب والقوى السياسية المجتمعية فأخفق في وقت حشر فيه كذلك موقعه السابق، خسر الموقع العسكري وأخفق في الإجابة عن المسائل الاجتماعية الجديدة، وبدأت المجتمعات العربية تعيش هذه الحالة المضطربة : مجتمع عسكري لا ينتج عسكريا ولا مدنيا.
وهكذا نرى كيف أن الجيش أصبح الآن صمام الأمان للأنظمة العربية بحيث يعتبر مطرقة هذه الأنظمة مرفوعة على الشعوب التي ضحت في معارك النضال والاستعمار والصهيونية وأدت واجباتها كاملة ولكنها فقدت حقوقها في التنمية والتعليم والمشاركة السياسية والاجتماعية والإعلامية وهي إن فكرت في أي تحرك مدني أو نهضوي تواجه بالجيش لقمعها بدلا من أن يكون هذا الجيش حاميا لها من التحديات والتدخلات الخارجية مما أوقع المجتمعات العربية في حالة من الركود النهضوي والنوم الثقافي والبؤس السياسي فأضحت غير محمية حتى من القوة الأساسية التي من المفترض أنها أنشئت لحمايته وهي “الجيش” .
© منبر الحرية، 08 يونيو/حزيران 2009