ليساعدني الله، هذه الجملة والعبارة التي لم تفارقني أبدا منذ وجدت نفسي هنا في الأرض الأمريكية، طبعا لم تكن دهشتي بذلك الحجم الذي كنت أتصوره، لأن قراءاتي وثقافتي عن عظمة وقيم الديمقراطية الحاضرة دوما مع الهواء والماء والخبز، جاءت متوافقة مع كل المشاهدات ولحظات الاكتشاف المثيرة كل دقيقة وزمن ومكان…
هاي… مع الابتسامة الحاضرة في وجوه الأمريكيين، والإعلانات التي تصل إلى مدى حرصهم على كرامة وفرح الحيوان، ولهفتهم على الكلاب خاصة، فيما تجد أن الحياة هادئة وتسير بعفوية دون إزعاجات وإرهاصات رمادية.
في أوكلاهوما سيتي أول ولاية أخذتني في أحضانها، بطبيعتها المجنونة، ما بين برد وحرارة، وربيع وصيف يستيقظ وقت ما يشاء، كان صوت صديقتي من واشنطن يربطني باللغة العربية وبأشياء جميلة أخفيتها في جسد قصيدة من ورد، فيما كان صديقي الكردي يسامرني في وحدتي، هنا وحيدا داخل جدران بيضاء، ونهارات لا ضوضاء فيها، ولا فوضى، ولا الشرق المغبر في صحراء الحزن والألم.
شهر كامل حولني من شاعر وصحفي وسياسي، إلى طفل أمريكي يحبو داخل معمعة الزمن والمكان، طليقا، عليه أن يتعلم المشي والأبجدية والاعتماد على النفس، شهر دون أنترنت وأخبار وسياسة، لقد تحولت إلى روائي، أكتب ذاتي، وأرسم بالحبر وجمر الحب تفاصيل اللوحة الجديدة، وأبدأ بترميم صلصال الروح من وحل الماضي، ولكن فكرة واحدة لم أستطع أن أفكر بمسحها.. لأن القلب والعقل متلازمان أحيانا في التشبث بحزن قد يجعلك تبدو فرحا هنا.. في وطن الآباء الأولون.
أعلام تزين مداخل البيوت، تهمس في الأذن مدى محبتهم لوطنهم العظيم، لأنهم بوجيز العبارة مواطنون دون درجات، أقصد هم كل شيء في الوطن، مساواة وقوانين تجعلك تشعر أنك قديس حقا، وما عليك سوى ممارسة الحرية وصناعة مادة الحب والأمل والعمل والحياة كلها دفعة واحدة، دون تمييز أو غبار أو ظلم أو هلوسات شيطانية….
هذه أمريكا .. التي يتمنى الكثيرون في شرقنا موتها، ويهربون من حقيقة أنهم أنفسهم هائمون في صناعة الموت وظلم النفس والإنسان، والتبعية في الحياة والعقل والدين والحلم لأصحاب العروش والعمامات السوداء، والإبداع في فن الظلم والطغيان، وقهر فكرة التطور والعيش بكرامة وحرية تحت جنح القانون والعدالة. لكن أمريكا لم ولن تموت بالدعاء والسحر والشعوذة والأصولية المجنونة، وأخيرا بالمحصلة نجد الجميع يمدون بأصابعهم نحوها سعيا لنيل الرضا، الأعداء منهم والأصدقاء؟
كل شيء هنا مختلف، الوجوه ببراءتها، السماء.. النوارس .. الشجر..الأحلام .الكلاب مألوفة في تقاسيمها وحنونة، فيما شرقنا الكلب والإنسان سواء، دون حقوق، والشوارع نظيفة دون أن تلمح أحد ما ينظفها، ثقافة الوعي بالنظافة وحماية البيئة هي التي تبقي الحياة نظيفة، أيضا الجلوس في الستار بوكس وشرب القهوة مع العصافير شيء ممتع، تلك العصافير التي تجلس بالقرب منك، بدفئها وحنانها، لا تخشاك، لأن عشها وصغارها وهي في أمان ولها ضمان على الحياة.
كل شيء يسير بانتظام وبعفوية، دون مصادمات، وكأنك في كوكب آخر، لا أدري حتى هنا كانت النصيحة الأولى من الأصدقاء الشرقيين : ( ابتعد عن مخالطة العرب) لا أدري لماذا، أعتقد أن الشرقي يأتي هنا ولا يستطيع أن يتطهر من بقايا الفوضوية وغبار الألوان الرمادية، ولهذا يعيشون في شروخ وابتعاد، والمحاولة لأن يتحول إلى مواطن أمريكي، ولكن صعب جدا، قد يكون كل شيء أمريكيا داخل الإطار المصطنع، مع بقاء رائحة الفم وطعم الذاكرة عروبة وشرقية سلحفاتية، وممارسة الحرية بشكل مشوه ومرضي .
يحتاج المرء لسنوات لأجل أن يندمج ضمن المجتمع الأمريكي، إتقان اللغة، والإبداع في العمل، وتعاطي الحرية الإنسانية بتوازن وعقلانية متسلسلة، إلى جانب الإرادة التي تدفعك إلى أن تكون ذاتا فاعلة ومؤثرة، شاعرة ومستشعرة، وتفتح أجنحتك أمام الريح الأمريكية لتحلق في طياتها حرا، فأنت إنسان هنا، والقانون هو الحامي بعد الله، والوطن خلق لأجلك، يحبك لتحبه، يعطيك لتشكره، ولهذا أمريكا عظيمة، والسر هنا.
الحرية ليست أن تلبس وتأكل البيتزا والهمبرغر وتجلس في الستار بوكس، أو تنام كل ليلة مع شقراء، أو تحظين برجال هم أشبه بالوجبات السريعة، فلا مكان، ولا وقت لأن تغلب هذه الأشياء على عملك والفرص التي تنتظرك، الحرية هي أن تبحث عن الإنسان في كل الأشياء والأماكن، لتصل إلى إنسانيتك، وحين تعود إلى وطنك الأم ستعمل لأجل الإنسان وخلاصه بصدق تحت وازع الوطن والقانون.
تسير الحياة سريعة، وهادئة، ولا مهرب من عيش المقاربة والتأسف على حياة أحبائنا ممن ظلوا هناك وراء السياج القاسي، ووجه الاختلاف بين أمريكا والشرق يكون حاضرا، هنا أنت كل شيء، وهناك في الشرق نحن لاشيء. وحين نحلم أن نفكر بذلك، يقمعك الجميع بسياط أو فتوى أو لعنة…
أمريكا… حلم لم ينتهي فصوله، ولوحة ملونة عليك أن ترسم نفسك داخلها، وتعود يوما إلى أرض الجذور، لتغير عن المكان هناك كل التراكمات الأزلية الملوثة، وتفتح القبر، وتخرج الإنسان من جسد الصمت والخنوع، والولاء للآلهة الأرضية، وتبدأ بالبذرة الأولى، حرية الإنسان لأجل خدمة الإنسان، وحينها حتما سيكون الجميع حاضرا أمامك، الوطن والقانون والأحلام والقصائد.. تضحك..تغني.. تصرخ.. تحب وتعشق دون خوف
هذا ما همست به الأرواح السالفة في أعماقي، وكذلك ذاكرة الشمس
ويلسون بمبادئه… مارتين لوثر… كوخ العم توم.. عصافير واشنطن…. صديقتي الأمريكية الشاعرة… والشوارع بطقوسها الشعرية …
© منبر الحرية، 19 فبراير 2009