عن اليسار والأصوليين وشيطنة أمريكا: القراءة في كتاب واحد

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

أحيا انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة آمالاً عريضة بالتغيير في العالم أجمع. وعلى قاعدة هذه الآمال العريضة تجرأ بعض المفكرين والمحللين الأمريكيين إلى اعتبار انتخابه مثابة ترميم السمعة الأمريكية في العالم. تلك السمعة التي يرى فرنسيس فوكوياما أنها تضررت أشد الضرر في عهد الرئيس جورج بوش الابن. والحديث عن السمعة في هذا المجال يتصل بدور الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، من ناحية أولى، أقله بالنسبة للأمريكيين أنفسهم، لكنه أيضا يتصل اتصالاً وثيقاً، من ناحية ثانية، بحظوظ التغيير في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
مروحة هذا التغيير المرتقب واسعة جداً. حيث يعقد البعض أمالاً كبيرة على أصول باراك أوباما الإفريقية، بوصفها إن لم تكن انتماء بالدم إلى عالم ثالث مغرق في أزماته، فهي على الأقل معرفة ملموسة بأحوال هذا العالم ومشكلاته العميقة والمعقدة. إلى آخرين يظنون إن تحدر الرئيس المنتخب من صلب أب مسلم سيجعله يولي العالم الإسلامي جل عنايته، هذا إذا لم ينحز إلى قضاياه ويعبر عن مصالحه وهو يشغل أعلى موقع في دائرة القرار الأمريكية. وبين هذا وذاك، ثمة في العالم من يعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية ستكون في ظل حكم أوباما أكثر قرباً وتفهماً لمفاهيم العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات، وهذه تعابير ملطفة يجهر بها يساريو العالم اليوم لتحل محل تعابير ومفاهيم الاشتراكية والشيوعية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
لكن الحريصين والمتشائمين في أمريكا وخارجها يرون أن هذه الآمال ليست مبالغاً فيها فحسب، بل أنها لا تمت إلى الوقائع بصلة من الصلات. حجة هؤلاء المفحمة، أن الولايات المتحدة الأمريكية أولاً وآخراً، هي دولة تدافع عن مصالحها، وان مصالحها الحيوية، داخلاً وخارجاً، تفرض عليها أن تبقى في موقع مختلف ومناقض تماماً لهذه الآمال. والحق أن المسألة التي ينبغي مناقشتها في هذا السياق لا تتعلق بحظ هذه الفئة من المتشائمين أو تلك الفئة من المتفائلين من الواقعية والصحة. بل أن الأمر يتعدى مجالي الصحة والواقعية إلى مجال أكثر دقة يتعلق تعلقاً مباشراً بصحة المفاهيم التي يقيس أهل الفئتين على أساسها أراءهم ويعلنون مواقفهم.
الفئة الأولى تفترض أن أصول الرئيس المنتخب العرقية والدينية والجغرافية سوف تتغلب على حبال الوقائع التي تشد أوباما إلى مواطنته الأمريكية وتالياً إلى الأحكام التي تفرضها رئاسته للولايات المتحدة، بوصفه المخول بالدفاع عن مصالحها أولاً وأخيراً. وفي هذا التمني الذي يبديه البعض حيال حتمية غلبة الأصول على الوقائع، ما يجافي منطق الأنظمة الديموقراطية برمتها، التي يصعب الإفلات من قيودها المحكمة، والتي تستبعد ثورات التغيير وتكبل الانقلابات الكبرى بألف قيد وقيد. فيما تسمح للتغيرات البطيئة أن تمر عبر قنواتها منذرة بتغييرات طفيفة يمكن أن يؤدي تراكمها على مر الزمن إلى تغييرات ملحوظة. والحق أن مثل هذا الرأي لا يملك حظاً من الوجاهة قد يدفع أي كان إلى صرف الوقت في مناقشته، فأوباما ليس إفريقيا ً اسوداً وليس مسلماً، بالمعنى الذي يكون عليه رجل مسلم يعيش في كينيا ويخضع لمترتبات العيش هناك. فهو في نهاية الأمر واحد من الذين تدرجوا في مدارج السياسة الأمريكية وتعلم في مدارسها وتخرج من أحد حزبيها الكبيرين، ولم يأت من مجهول غامض لا تاريخ له ليسكن البيت الأبيض ويقود السياسة الأمريكية.
أما الرأي الثاني الذي ينكر كل احتمال تغيير في ظل رئاسة أوباما، فيبدو في حقيقة الأمر متناقضاً مع المنطق الذي ينطلق منه. مثل هذا الرأي يبنى في كل مكان من العالم على قاعدة قناعة بأن الولايات المتحدة الأمريكية بسبب موقعها ومصالحها، هي الدولة التي يجدر باليساريين مقاتلتها على طول الخط، لأنها تمثل واقعاً، وعملياً هي خلاصة التعسف الرأسمالي الذي يعيث فساداً في مجتمعه وفي العالم طولاً وعرضاً. هذا الرأي الذي لا يشذ عن الإيمان به يساريو الولايات المتحدة أنفسهم، يفصح أن التغيير ممكن في كل مكان من العالم، إلا في الولايات المتحدة. وأن الولايات المتحدة الأمريكية محكومة بأن تبقى، إلى حين هزيمتها النهائية، شيطان الرأسمالية الذي لا يرحم. ورغم أن الحكم في روسيا مثلاً ليس اقل رأسماليةً ولا أقل اعتماداً على اقتصاد السوق من الولايات المتحدة، إلا أن هؤلاء الذين يشيطنون أمريكا لا يتورعون عن إبداء رغبتهم بعودة العملاق الروسي لينافس أمريكا على حكم العالم وقيادته وهزيمتها أن أمكن. فالرأسمالية الروسية والفوضى الاقتصادية المتوحشة التي تسير السوق الروسية لا تخيف هؤلاء ولا تجعلهم يفكرون في ما يدعون إليه مرتين. هؤلاء اليساريون على ما نعلم هم ورثة كارل ماركس الذي كان ركناً أساسياً من الأركان الفكرية الثلاثة، (ماركس، نيتشه وفرويد) التي أحلت التاريخ محل الغيب، وقدمت الوقائع على الأحلام، بل سعت في ما سعت إليه ( أي هذه الأركان الثلاثة) إلى عقلنة الأحلام نفسها، وأخضعتها إلى تقنيات التأويل التي نعرفها ونجيدها اليوم. لكن هؤلاء اليساريون، يخالفون منطق التأويل برمته حين يتعلق الأمر بالولايات المتحدة، فيمنعون عنها كل احتمال تغيير، وينصبونها عدواً أبدياً لأفكارهم وتطلعاتهم، لا لسبب يتعلق بنظامها السياسي، وهو نظام له ما يناظره في أنحاء العالم كله، ولا لعلة كامنة في ديموقراطيتها، وهي ديموقراطية متقدمة على ما يعترف الجميع. بل لأن يساريي اليوم، على غرار الأصوليين المذهبيين يريدون شيطاناً ليرجموه. ومن دون وجود هذا الشيطان واستحالة إصلاح حاله، لا تستقيم دعاويهم ولا تعود افكارهم قابلة للتداول.
والحال هذه، لا يعود مستغرباً أن يعلن نعوم تشومسكي، احد المع نجوم اليسار في العالم أجمع، بعد زيارته أمين عام حزب الله في لبنان السيد حسن نصر الله، بعيد انتهاء حرب تموز العام 2006، انه تعلم من هذا الأخير الكثير. ذلك أن الكتاب الذي يقرآن فيه له غلاف واحد. لكن ما ينبغي التأكيد عليه في هذا المجال هو أن السيد نصر الله لا يقرأ في رأس المال.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 13 ديسمبر 2008.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018