إن تطورات العصر والحياة تقتضي البحث عن بدائل للأفكار العقيمة غير المنتجة، وإبداع أفكار وأدوات جديدة تحظى بقبول عامة الناس قبل أن تحظى بقبول نخبة الأمة، لأن الطريق إلى العقل والتطبيق يمر بالقلب أولاً وأخيراً. وولاية الفقيه فكرة دينية تاريخية من جملة أفكار مطروحة ومتداولة، ولا يمكن اعتبارها عقيدة دينية مقدسة، بل هي رؤية ظنية قابلة للطرح والنقاش والحوار بشأنها بين المفكرين والعلماء سيما أن هناك مراجع كبار سبق أن رفضوها وامتنعوا عن تأييدها ووجهوا لها سيوف النقد الإسلامي العلمي من أمثال العلامة الراحل محمد مهدي شمس الدين والمرجع العلامة السيد محمد حسين فضل الله والمرجع السيد علي السيستاني الذي يؤمن بولاية الأمة على نفسها وليس بولاية الفقيه على الأمة، حيث أنه –في هذه الحالة- تصبح الولاية الدينية للمرجع نوعاً من الاستبداد الفكري والسياسي المؤدي حتماً إلى ممارسة مختلف طرق ووسائل الضغط والقسر والظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي تحت زعم حماية الحقيقة والعقيدة المقدسة و”الحفاظ على بيضة الإسلام”.
وهذا النوع من الاستبداد الديني أشد خطورة من أي نوع آخر، لأنه استبداد يغلف نفسه بستار الدين والنصوص الدينية المقدسة التي يؤمن بها الناس، وتلهب مشاعرهم، وهنا تكمن الخطورة في أن يتحول الدين إلى مجرد قناع أو غطاء لممارسة شتى ألوان الكذب والنفاق والقسر والإكراه ومن دون وجود أي رادع من أخلاق أو قيم أو قانون.
إن الدعوة الملحة لقادة الجمهورية الإسلامية الكبار إلى الخروج من الفتنة الداخلية أولاً، ومن ثم التواصل مع الأجيال الطالعة، ومحاولة فهم طبيعة تفكيرها ونظرتها للأمور، والوقوف عند مطالبها وهواجسها وأسئلتها الهائلة المطروحة أمامها، فجيل الثورة يختلف عن جيل وأجيال ما بعد الثورة، واستعمال وسائل الضغط والقسر لا ينفع دائماً مع جيل الشباب الطامح والمتمرد والراغب في التغيير، والباحث عن العمل والمستقبل.. كما ونطالبهم بإعادة الاشتغال على تصويب ونقد الأفكار والنظريات السياسية و”الفكرية-الدينية” السائدة عندهم، والتي سبق أن حذر من عدم الوقوف أمام أسئلتها الملحة قادة كبار من الجيل المؤسس للثورة من أمثال الإمام الخميني نفسه والشيخ مطهري والدكتور بهشتي (اللذين استشهدا في بداية الثورة، وكانا يحذران دوماً من تلطي علماء ورجالات الدين وراء العمامة والجبة والنص).. بالإضافة إلى خاتمي وكروبي ورفسنجاني وكثير من علماء ومراجع الحوزة العلمية في إيران، وفي خارج إيران.
إن كل منظومة فكرية عقائدية تحتاج على الدوام -مع تغير الأيام والظروف وتحول الأدوار والمواقع (اختلاف الأزمنة والأمكنة)- إلى إصلاح وتجديد وتطوير متواصل يحفظ لها الأصل، ويجدد لها الإطار بما يتناسب مع المستجد المتغير.
من هنا يأتي تأكيدنا الدائم في هذا السياق، على أنّ أي مسعى للخروج من الأزمات العميقة المستديمة والمقيمة منذ أمد التي تعاني منها إيران وباقي مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً (والتي نعتقد بضرورة انخراط مفكري ومثقفي إيران أكثر في إبداء الرأي النقدي حولها) بما فيها أزمة عدم وجود قاعدة نقدية موضوعية هادفة كبيرة تحظى بتأييد جماهيري واع واسع, أقول: أي مسعى للخروج من المشاكل والأزمات والتحديات القائمة والمستمرة لابد وأن يبدأ بإصلاح واقعنا المعيشي، وقبله نظرتنا إلى السياسة بحد ذاتها. أي أن نعمل على تطوير أدائنا وممارستنا السياسية الجماعية من خلال توفير الأجواء المناسبة لإعطاء فرص المبادرة والمساعدة المشتركة لجميع الناس في المشروع النهضوي الكبير لإعادة الاعتماد على قدرات إنساننا الذي يشكل ركن وقاعدة وهدفية النهوض والبناء.
والنصوص الدينية والحضارية مليئة –كما نعلم جميعاً- بالأفكار والطروحات المهمة التي تحض وتدعو وتؤكد على أن الإنسان هو غاية الوجود، وهو خليفة الله في الأرض، وبالتالي فلا بد من الإنصات إلى مطالب وآراء وهموم وطموحات وتطلعات هذا الإنسان، والعمل الدائم على إعطائه حقوقه الإنسانية الطبيعية كاملةً، لكي يتمكن من تمثُّل دوره الاستخلافي الحقيقي على الأرض، ويجترح معجزة النهوض والإثمار الحضاري، حيث أنه لا يمكن ولا يعقل أصلاً أن يدعو الله –كما جاء في كل الأديان منذ فجر التاريخ والخليقة وحتى الآن- الإنسان ليكون خليفةً له من دون وجود وسائل وأدوات وأفكار تلبي طموحاته وتستثمر طاقاته وتنمي مواهبه بالصورة الأجمل والأكثر قدرة على الفعل والإنتاج، بعد أن تحرض أجمل ما فيه من قيم ومشاعر وأحاسيس خلاقة ومبدعة.
.. من هنا –وانطلاقاً مما تقدم- يبدو لزاماً على القيادة في إيران القيام بمراجعات نقدية صارمة وشاملة ليس فقط للمسالك العملية والممارسات والسبل التي سلكتها الثورة وأبناؤها، ولكن أيضاً للأفكار والشعارات الثورية ذاتها بعد مرور حوالي ثلاثة عقود على اندلاع الثورة، لأن المراجعة والنقد عنصران أساسيان للنمو والتطور والامتداد وتحقق الآمال والغايات النبيلة، وإلا فإن احتمال تزايد الضغوط الشعبية الداخلية قبل الخارجية (وبالتالي زيادة معاناة المجتمع والناس هناك) كبير نسبياً، وهذا سيؤدي بالنتيجة وبالضرورة إلى تحول شعارات الثورة والجمهورية الإسلامية إلى عبء حقيقي يقض مضاجع الشعب الإيراني.. بحيث أن إيران (كدولة ونظام وحكم إسلامي جمهوري) بدل أن توظف كل طاقاتها في بناء الداخل ومواجهة مشاريع الدول الخارجية –من موقع القوة لا الضعف- تضطر إلى الدخول في مواجهات غير محسوبة النتائج مع شعبها الذي وقف مع الثورة ودافع عنها وناضل طويلاً في سبيل الحفاظ عليها وتجديدها قبل أن يعتريها اليأس وتعلوها علامات الشيخوخة.
إن قوة الثورة –بغض النظر عن شعاراتها وغاياتها- هي في مقدار ما يمتلكه رجالاتها وقادتها من فعالية عقلية تجديدية واستعداد نفسي لتقبل التغيير والتكيف مع مستجدات الواقع وتطورات الحياة والوجود ولزوميات العيش الزماني والمكاني في الحياة.. وبالتالي الاستجابة لحاجات الناس والمجتمع الجديدة المتنوعة والكثيرة.. وهنا بالذات تكتسب الثورات قوتها ودلالاتها الحقيقية على مستوى العمل والإصلاح وإنجاز الأهداف وتحقيق الطموحات والانفتاح على الحياة والواقع والناس.. أي من خلال تحولها (أي الثورات) إلى نظم للحكم المؤسساتي والإداري المدني المتصالح مع الناس والعصر..
وأخيرا نكرر ونؤكد على أن نظم الحكم الحقيقية الصالحة للحياة لا يمكن أن تكتسب فعاليتها –بدورها- إلا من خلال ما تمتلكه من قدرات ذاتية وموضوعية تؤهلها وتجعلها قابلة ومستعدة عملية –ومن دون خسائر تذكر- للانسجام مع الواقع والتكيف مع المطالب المتجددة والتحديات المتسارعة الهائلة.
© منبر الحرية، 25 يونيو/حزيران 2009