لا أدري إن كان طرح السؤال الوارد أعلاه كعنوان لهذا المقال صحيحاً من الناحية
المعرفية بالصورة التي صيغ بها.. إذ هل من الممكن والصحيح (أو حتى المعقول) –بالمعنى الموضوعي- أن تمتلك جملة من الطروحات المفاهيمية والاعتقادات الروحية الغيبية (أو ما اصطلح على تسميتها بالثقافة الإسلامية) القدرة على التأثير والفعل المباشر في عالم كبير متحول ومتغير؟ عالم لم يعد يقيم وزناً للروحانيات والأديان ومختلف الافتراضات الوهمية اللامنظورة بقطع النظر عن أمكنة إنتاجها وانتشارها وتواجدها في الماضي أو في الحاضر أو حتى في المستقبل؟!!.
وإذا كان طرحنا وتساؤلنا السابق صحيحاً –إذ من حق المثقف النقدي طرح الإشكالية ومحاولة الإجابة عليها- نعود لنسأل مجدداً عن ماهية تلك القدرات والمعايير والأسس التي يختزنها الإسلام –كدين حاكم على القلوب ومهيمن على الأفئدة في عالمنا العربي والإسلامي- في داخل منظومته الفكرية الاعتقادية لكي يتمكن من خلالها من الانسجام مع العصر الراهن، والتكيف مع عمعايير ومقتضيات الحداثة، وضرورة الانخراط الجدي العملي في عملية الإصلاح الديني والثقافي والسياسي في عالمنا العربي والإسلامي؟!…
في الواقع نحن –بمعنى من المعاني- لسنا خارج العصر، ولا يمكننا الانغلاق على ذاتنا، كما أنه لا يمكن إلا أن نتواجد في صلب حركية الحياة الهادرة، بصورة وبأخرى، مهما رفضنا وكابرنا ثقافياً وحضارياً، فنحن نعيش حالياً في مجتمعاتنا حياة حديثة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى من حيث التعامل الشكلي والمظهري مع مقتضيات (ونتاجات) الحداثة والثقافة الغربية التي ينبغي على العرب والمسلمين –بادئ ذي البدء- الاعتراف بعلو كعبها، وبقدرتها وفاعليتها، وأخيراً الإقرار الكامل غير الناقص بانتصارها (ثقافةً وحضارةً وأدوات) على كل الحضارات والثقافات الأخرى.. فنحن نتعامل بالانترنت، ونسافر بالطائرات، ونعمل وفقاً للكثير من المعايير والقوانين الإدارية والاقتصادية الحديثة التي أبدعتها الثقافة الغربية، ونتواصل تفاعلياً وتبادلياً مع مختلف بقاع الأرض، وتخضع كثير من حكوماتنا ونظمنا السياسية لمؤسسات وهيئات ومنظمات دولية اقتصادية وسياسية وثقافية متعددة نشأت وصيغت في الغرب الذي نكرهه ونذمه ونشتمه على منابرنا الدينية والسياسية ليلاً ونهاراً.. الخ.. إذاً نحن لسنا متخلفين في أساليب الحداثة ووسائلها وطرقها.. ومجتمعاتنا العربية لا تعيش حياة القرون الوسطى بل هي مجتمعات خاضعة بشكل أو بآخر لقوانين ونظم الحداثة العالمية ذاتها.. ولكن الخطر والخطأ في الموضوع هو أننا فهمنا الحداثة مجرد نقل لمنجزات الآخر وتقنياته واختراعاته الكبيرة، لا صنعاً واستنباتاً لها في تربتنا المحلية، وإنما استهلاكاً وشراءً.. وهذا لاشك أمر مهم وعظيم، ولكنه غير كاف لاستنبات وخلق وصنع الحضارة والحداثة العلمية.. وهذا ما ندعوه بالحداثة القشرية أو الحداثة الكسيحة التي تقوم على استهلاك متزايد لمنتجات وثمار الحداثة الناشئة والمتطورة والمزدهرة خارجها دائرتنا الحضارية العربية على الرغم من أننا ساهمنا في الماضي في التأسيس لها بصورة وبأخرى كما يزهو ويتباكى على أطلالها كثير من عتاة الأصوليين (من المتدينين وغير المتدينين). كما أننا عجزنا حتى الآن عن زرع شجرة الحداثة عندنا وبما يناسب “مجالنا وسياقنا الحضاري الإسلامي” على حد تعبير بعض الإسلاميين المعتدلين. فلم نفتح ورشات لها خاصة بنا وبشروط وجودنا، لا ورشات المعرفة الزمنية، المدنية، الإنسانية، ولا مواقع البحث العلمي والتطور الفكري الحر. ولا ورشة الدولة الحديثة (دولة الحق والقانون) التي وعدنا الناس بتحقيقها فكانت النتيجة أن أنشأنا –عوضاً عنها- دولة التعسف والإكراه والغلبة.
إذاً نحن لا زلنا مجتمعات حديثة (بالمعنى الظاهري إلى حد ما)، تخضع لسلطة الأعيان والأتباع وكل مظاهر العشائرية والقبلية البغيضة. ولم نطور أيضاً بما فيه الكفاية ربما مسألة الفرد كذات، أو الفردية الحرة والمسؤولة.. وهنا قد يسأل أحدهم عن تحديد مسؤولية ذلك التأخر والتقهقر؟!.
في الحقيقة وعلى الرغم من التسليم بدور ومسؤولية العامل الخارجي في ما وصل إليه حال العالم العربي من تخلف وانحطاط سياسي واجتماعي واقتصادي (بالرغم من وجود بعض المواقع والنقاط الإيجابية المضيئة هنا وهناك)، إلا أن هناك وعياً متزايداً بأن الكوارث التي يعيشها ليست كلها ناجمة عن المخططات والمؤامرات والأطماع والتدخلات الأجنبية وحدها (مع العلم أن لغة المصالح وسياسة المناورات وحبك المؤامرات هي القانون الحاكم في العلاقات بين الدول والسياسات الدولية في كل زمان ومكان)، وأن الكثير منها يعود إلى عجز النخب السياسية الحاكمة عن إيجاد الحلول الملائمة لتناقضات مزمنة كامنة في بنية وثقافة المجتمعات ونظم الحكم العربية.. وترتب على إهمالها وتراكمها نجاح القوى الخارجية في تعميقها واستغلالها إلى أن وصلت الأمور إلى نقطة الانفجار أو أنها انفجرت بالفعل كما هو الحال في دول عربية كثيرة.. فالبطالة (والعطالة العقلية) وتعثر الإصلاح السياسي والخلل الرهيب في توزيع الثروة والمداخيل تحولت إلى أمراض مستوطنة في جسدنا، وراحت تنخر في عظام معظم دولنا العربية لتشكل قنابل موقوتة قابلة للانفجار في جسدها في أية لحظة.
من هنا وبالنظر إلى ما تقدم من تحليل، نؤكد على مجموعة الملاحظات الفكرية التالية في سياق ضرورة قبولنا وتبنينا لأفكار الحداثة التي نعتقد أن الإسلاميين –على وجه الخصوص- لن يقبلوها بسهولة ويسر وهدوء قد توفرها الدعوة المستمرة لاعتماد الحوار العقلاني في قبول الآخر والوصول معه إلى القناعات الوطنية السلمية المشتركة التي نتمنى أن تسود بين كل فئات وتيارات المجتمع العربي:
1- إن المؤسسة الدينية الرسمية وغير الرسمية المسيطرة –ظاهراً أم باطناً- على كثير من مناخات العمل الاجتماعي والثقافي والسياسي في العالمين العربي والإسلامي هي أصل الداء وجذر العطالة، باعتبارها توفر القاعدة الفكرية والحاضنة الدعوتية ومن ثم الملاذات الآمنة لكل قوى الموت في كل دعاويها وأفكارها التي تهدف من خلالها إلى سحق الآخر، والانقضاض على مجمل الأفكار الحداثوية النيرة التي تطالب باعتمادها وتطبيقها مختلف الحركات والنخب العقلانية المنتشرة بكثرة في عالمنا العربي والإسلامي أو في خارجهما.. ولذلك فإن تلك المؤسسات الرثة والبالية مطالبة قبل غيرها -أكثر من أي وقت مضى- بأن تنفض عنها غبار التخلف (أو تسمح لغيرها بنفض الغبار عنها، وعدم ادعاء امتلاك الحقيقة المقدسة المتعالية والمفارقة للزمان والمكان) وادعاء التمسكن والعفة الفكرية والعملية من فورها، وأن تبادر مباشرةً للخروج من كهوف الماضي ومغاور التاريخ القديم الذي تعشش فيه خفافيش الفكر، وتنفتح على الحياة والعصر بأن تخرج إلى ضوء الشمس وتتنفس الهواء الطلق والنقي في ساحة الحياة الرحبة والواسعة من دون حواجز ومغاليق فكرية وفتاوى دينية من هنا وهناك، وأن تعترف بحاكمية العقل (لا حاكمية الفتوى والنص) والحوار والانفتاح على الآخر، وإطلاق خطاب ديني عصري واضح يعتمد على عنصر النقد الفاعل البناء وليس التلقي والقبول والتسليم والإذعان الكامل لترهات وأباطيل أتباع الوعظ المسجدي والكنسي العتيق.
2- إن الإصلاح المطلوب تطبيقه والسير به داخلياً القائم على رؤى حداثية مستنيرة، والمنطلق من ترتيب أوضاع بيوتنا الداخلية أفضل وأقوى وأمتن من أي إصلاح خارجي مفروض لن يأتي إلينا إلا نتيجة الغياب المتعمد لانطلاقة مناخ الإصلاح الطبيعي في المجتمعات والشعوب بما ينبع منها ويتفق مع تقاليدها ويرتبط بهويتها التاريخية التي نعتقد باستحالة انسجامها مع العصر، ما لم تبنى –من جديد- على رؤية متحركة وفاعلة غير جامدة ومعبرة عن نبض العصر وتسارع الحياة.
3- الإصلاح الحقيقي المطلوب الذي يستمر ويبقى هو فقط الإصلاح الذي يتم بالطرق السلمية الديمقراطية مع رفض كامل لمنطق الثورة في العملية السياسية الإصلاحية، لأن مفاجآتها كثيرة وردود فعلها معقدة ونتائجها غير مضمونة.. بينما الإصلاح التدريجي الثقافي والتربوي الفردي والاجتماعي المدروس وفقاً لخطة زمنية معلنة هو السبيل الأفضل للانتقال نحو الغايات والتطلعات الكبرى للأمم والشعوب. وتستطيع نظم عربية كثيرة أن تتواءم مع التطورات المقبلة بشرط أن تستوعب حقائق العصر وأن تمضي نحو المستقبل بخطى ثابتة، بدلاً من اجترار وترديد شعارات خادعة مزيفة صالحة فقط –إلى حد ما- للاستهلاك المحلي بهدف المماطلة والتسويف ومحاولة إلغاء التغيير وإجهاض الإصلاح بالرغم من كونهما سنة وقانون وناموس كوني (التغيير أو الحركة هو الثابت الوحيد في الحياة).
4- نحن عندما نؤكد على ضرورة سلوك طريق الحداثة واعتماد قيم التنوير العقلي للخروج من الأزمات الراهنة، فإننا لا نعفي الحداثة نفسها –كما تبنتها ونقلتها نخبنا السياسية والفكرية السلطوية إلى بلداننا العربية، وفرضتها بالقسر والإكراه على مجتمعاتنا القديمة- من مسؤولية الأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية. مما يستدعي –بعد وصول مشروع الحداثة العربية ذاتها إلى طريق مسدود- إعادة دراسة ونقد هذه الحداثة بذاتها، وتقييم مفهومها (وما آلت إليه نتائجها وتطبيقاتها) حتى يمكن إعادة إطلاق مسارها من جديد بشكل أكثر قوة وديناميكية وتأثيراً.. لأن عملية النقد هذه ستؤدي بالضرورة لفهم حقيقة انتشار المد الديني الأصولي من حيث هو نتيجة طبيعية لفشل مشروع الحداثة العربية ذاتها قبل غيرها (فشل التحديث العربي).
5- إذا وصلنا –في سياق نقد الحداثة والتحديث العربي- إلى مرحلة نقد التراث بمختلف عناوينه وتراكماته الفكرية التاريخية، نتساءل: كيف يمكن الاتفاق في هذه الحال على مسألة نقد هذا الكم الهائل من مختلف إشكاليات النصوص والتأويلات الدينية الخاصة بها والهادفة إلى تجديد الفكر والهوية لتصبح منفتحة مستوعبة تواصلية مع الذات ومع الآخر، من دون الاتفاق حول الغايات والقيم الأساسية التي سوف تحكم إعادة بناء المجتمعات العربية المفككة أو اجتماعاتها السياسية؟!.
لقد انطلقت الثورة التقنية والصناعية (وما رافقها من إنجازات علمية هائلة) نتيجة انبثاق وتفجر بركان معرفي وثقافي تنويري كبير –كما ذكرنا– قادته مجموعة كبيرة من النخب والمفكرين والفلاسفة والمجددين الكبار، ولئن حدث هذا التحول الذي عرفته مجتمعات الغرب الأوروبي بفضل ذلك المناخ الثقافي التنويري فإننا نسأل: هل يمكن لثقافتنا العربية الدينية أن تتمثل (وتستفيد وتستثمر) بما أنجزته الثقافة الأوروبية الحديثة حتى تتمكن من إحداث النقلة النوعية المتوخاة داخل المجتمعات العربية والإسلامية؟!! وإذا كان لكل أمة ثقافتها الخاصة فلا يعني هذا أن مستوى الثقافة واحد لكل الشعوب، لكن هذا المستوى يختلف من شعب إلى آخر بسبب تنوع وتعدد درجات الثقافة ومستويات الوعي في مراتب الرقي والتكامل.
ومن المعروف سابقاً أنه قد شاع على صعيدنا العربي –في بعض المفاصل الزمنية القليلة– تأويل منفتح ومتسامح (عقلاني) للدين، منسجم مع ذاته، ومتفاعل مع الحضارات الكونية الأخرى، انطلق أساساً من خلال بعض اللمحات واللفتات والرؤى العقلانية القليلة والبسيطة غير المتجذرة، ولكن المهمة والمؤثرة التي أبدعها بعض حكمائنا وفلاسفتنا القدامى نتيجة انفتاحهم وتفاعلهم الخلاق مع بعض الثقافات الأخرى التي كانت سائدة آنذاك.. ولكن بدءاً من عصر الانحطاط أخذ يسود التأويل الظلامي الجامد والمنغلق والمتعصب للدين والتأويل الديني، فأنتج هذا الفهم التأويلي كماً كبيراً من الأفكار والكتب والمراجعات الفكرية لا تزال تأثيراتها واضحة وجلية حتى الآن. وغني عن القول هنا أن الثقافة العربية هي بطبيعتها ثقافة تأصيلية، فيها إمكانات هائلة للنظر والوعي والنقد والبناء المعرفي الحضاري، إلا أن حاجتها للتجدد في عالم التحول والتغير والتنوّر يفرض عليها مزيداً من المساهمة الفاعلة لتتمكن من أداء دور صحيح وسليم ومعافى بما يكفل لها الارتقاء في سلم الرقي والتقدم كباقي حضارات وثقافات الشعوب والأمم.. طبعاً نحن ومن باب الرجاء والأمل نحاول البناء والتأسيس، ولكن الواقع القائم صعب ومعقد، ولذلك لا يكفي أن نأمل ونرجو بأن تمتلك ثقافتنا نظرياً القدرة على البناء والنمو والتصاعد بل لا بد من الاعتقاد أن شرط النمو هنا هو في مدى قدرة ثقافتنا على الدخول في حوار ونقد مع مسببات أزمة وجودنا الراهنة مع أنفسنا أولاً قبل الآخر.
إذ لم يعد مقبولاً أبداً اليوم أن تراوح هذه الثقافة العربية الإسلامية في مكانها ليجتر أصحابها مقولات ومفاهيم خارج نطاق الحياة والعصر.. أو أن تكتفي بترداد أغاني الماضي التليد وانجازات العصور القديمة، بل عليها أن تواكب حركات التقدم الذي وصلت إليه الثقافات الأخرى وأن تتفاعل بشكل خلاق ومبدع مع كل الانجازات العلمية والفكرية التي ساهم بها مثقفو الأمم الأخرى.
وهنا نؤكد دائماً على أن تجاوز هذه الإشكالية قائم على مسألة نظرية بسيطة لكن معقدة وهي: أن نعمل على الاستفادة من ثقافتنا وحضارتنا العربية بما يتلاءم ويتناسب مع حاجات مجتمعاتنا الراهنة المتغيرة ومن دون أن نكون أسرى لقيم الماضي، ومستغرقين في مناخاته القديمة، وأن نأخذ بمعطيات الحاضر ونساهم في تطويره بما يمكننا من استشراف المستقبل.
ويبدو لي أن أهم ما نحتاج إليه في هذا الطريق الطويل هو الثقافة التنويرية، ثقافة العقل والعلم والوعي الحضاري.. حيث لم يعد مقبولاً الاكتفاء بالنشاطات الثقافية الشكلية التي لا تمت إلى الجوهر بل علينا أن نساهم في عملية البناء الفكري الصحيح والمتين الذي يصوب سهامه إلى مكامن الجهل في زوايا مجتمعاتنا المتعطشة إلى نور العلم والمعرفة وهذا ما يتطلب توفير كل المقومات والإمكانات عن طريق إيجاد مناخ يكفل حرية البحث العلمي والإنتاج الأدبي والنقد السياسي، بما يؤهل مجتمعاتنا لأن تكون رائدة في ثقافتها منسجمة مع ماضيها مترقبة لمستقبلها الواعد..
وتلك هي مسيرة الثقافات عبر التاريخ وخلال العصور فالتواصل الثقافي بين الأمم أشبه بسلسلة ذات قنوات متداخلة كل قناة تأخذ مما قبلها وتعطي ما بعدها، هكذا كان حال ثقافات الأمم الغابرة من مصرية ورومانية وفارسية ويونانية وعربية إسلامية مروراً بثقافة أوروبا في عصر النهضة والتنوير وانتهاء بالثقافة المعاصرة التي نعيش في رحاب نتاجها الذي يرفد الإنسانية بعوامل الرقي والإبداع لما فيه خير البشرية جمعاء.
إننا نعتقد ونؤكد –في اعتقادنا- على أن لا بديل لنا كعرب عن الانخراط في الواقع المعاصر، والاهتمام بكل أحداثه ووقائعه وشؤونه المختلفة.. وهذا يتطلب البحث الجدي منا عن مضامين معرفية جديدة، بما يؤهلنا للانخراط الجدي والحقيقي في مقتضيات عصرنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يقلل من الخسائر التي علينا دفع أثمنتها نتيجة فواتنا التاريخي، ريثما تتوفر شروط عامة للتحرر والانعتاق في المستقبل.
فنحن لسنا وحدنا في هذا العالم، كما أننا لسنا مركزه، أو غايته، أو منتهاه.. بل نحن أمة مثل باقي الأمم والحضارات.. لها ما لها وعليها ما عليها.. إننا أمة من جملة أمم وثقافات، لا يمكن أن نتكور على أنفسنا ونتقوقع ونعيش من دون جيران وأصدقاء ومصالح وتوترات ومناخات باردة أو ساخنة وغيره كما ذكرنا آنفاً.. ولا نستطيع أن ننعزل عن أية تأثيرات وتطورات قد تحدث في العالم الذي نعيش فيه.
ومن أجل ذلك، تظهر أهمية الإصلاح والتجديد الديني والثقافي، وتهيئة الأرضية المناسبة لنمو بذرة الديمقراطية السياسية والاجتماعية والفكرية –إذا صح التعبير- كمهمة عاجلة وفورية تأتي في رأس أولويات التجديد الحضاري السليم.. فمسألة التقدم تستدعي مقولات جديدة: المجتمع المدني، الديمقراطية، الدولة الحديثة، المواطنة، وهذا كله يمكن اختصاره بمقولة واحدة هي: الحكم الصالح. وتبدو أهمية ذلك إذا أدركنا أننا، بشكل عام، لا نملك لغة سياسية حديثة، منظمة ومؤسسة، في بنانا السياسية والثقافية، إذا بقينا خارج تسلسل وتاريخ الأحداث والتغيرات التي تعصف بالعالم المعاصر.
إننا نعتقد أن الدور الأساسي منوط بالفاعل الفردي في كل تلك الأحداث والتطورات المفروضة أو المرغوبة مستقبلاً، وهو دور يقتضي الارتقاء بشروط حياة الإنسان وثقافته وفكره وشعوره الأخلاقي القيمي، باعتبار أن ذلك هو القضية الرئيسية التي تستحق بذل العرق والجهد، في ما وراء الانتماءات القومية والاعتقادات المذهبية والولاءات الجماعية والمناطقية والجهوية. والمدخل الرئيسي لتجديد الفلسفة الإنسانية، هو باب الحرية، والحرية فقط، بالمعنى الفردي والاجتماعي والسياسي.
© منبر الحرية، 12 فبراير 2009