عن محمد حسين فضل الله: مشاكسة فكرية واحترام للآخر

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

غيب الموت في أوائل هذا الشهر السيد محمد حسين فضل الله. وكما يحدث عندما يسقط رجل جريء مثله، سرعان ما نكتشف كم مثّل علامة مضيئة في واقع إسلامي/عربي يتعطش للتجديد والبناء. إن أساس نجاح فضل الله ارتبط بقدرته على الربط بين الإسلام من جهة وتمكين الضعفاء والمهمشين في المجتمع مقروناً بالمقاومة ومناصرة القضية الفلسطينية من جهة أخرى. وغيابه المفاجئ ترك فراغاً كبيراً، لكن اجتهاده وجهاده سيكونان حتماً حافزاً لذوي الرؤى الإسلامية المجددة.
التقيت السيد محمد حسين فضل الله عام ١٩٧٦ من خلال والده المرحوم السيد عبد الرؤوف فضل الله الذي توفي عام ١٩٨٤. كان السيد عبد الرؤوف في ذلك الوقت إمام مدينة بنت جبيل عاصمة جبل عامل، وإمام سائر القرى والبلدات في جنوب لبنان. كنت حينها في أوائل العشرينات من عمري خريجاً جديداً في الجامعة أبحث عن فرص المقاومة الجادة في زمن العمل الفدائي في مدينة بنت جبيل الحدودية قرب فلسطين المحتلة بالتحديد. نشأت حينها بيني وبين المرحوم السيد عبد الرؤوف فضل الله، وعلى رغم فارق السن والتجربة، صداقة هي مجال اعتزازي. حينها عرفني إلى العائلة فرداً فرداً وعلى أبنائه السيد محمد علي والسيد محمد جواد، وصولاً إلى ابنه السيد محمد حسين فضل الله الذي كان قد قطع شوطاً في مسيرته.
وفي لقائي الأول بالسيد محمد حسين فضل الله اكتشفت بيسر وسهولة ذلك الرابط الخاص بينه وبين والده العلامة السيد عبد الرؤوف فضل الله. كان والده قد هاجر إلى النجف من بلدته بنت جبيل/عيناتا لتلقي العلوم الدينية ثم عاد إلى لبنان بعد غيبة طويلة عام ١٩٦٦. حمل عبد الرؤوف فضل الله فكراً منفتحاً تجاه الآخرين وتجاه الطوائف الإسلامية الأخرى، واتجاه التنوع والسلام بين الديانات. وكان زاهداً في حياته شديد التواضع والورع. وتعلمت منه في مرحلة مبكرة من تجربتي الإنسانية والفكرية الكثير عن ذلك التصالح الهادئ والمسالم الذي يمكن إيجاده بين الدين والحياة وبين واقع الإنسان والإيمان.
في سلوك فضل الله الأب انفتاح تلقائي على الآخر. ففي بنت جبيل في سبعينات القرن الماضي، وعلى رغم عدم سعيه إلى ربط السياسة بالدين وقف عبد الرؤوف فضل الله بقوة ضد الطائفية ومع المقاومة، وقف ضد الإساءة للمسيحيين في الجنوب ومع مقاومة التعامل مع إسرائيل، وقف بقوة ضد سلوكيات المقاومين الخاطئة ومع المقاومين الذين ميزوا أنفسهم بالتضحية والجدية والمحافظة على أرواح وممتلكات الناس وحقوقهم.
وفي المقابل كان السيد محمد حسين فضل الله يقول: انه تعلم العقل المنفتح من أبيه لأنه عندما تتلمذ على يده كان يطلب منه أن يعطي وجهة نظر معاكسة في كل موضوع. إذ يقول له: العلم يتطور بالاعتراض والاختلاف والتساؤل. من هذا المنطلق تعلم السيد محمد حسين من والده مبادئ المشاكسة الفكرية مع احترام للآخر.
ومع بداية تعرفي إلى السيد محمد حسين فضل الله في العام ١٩٧٦-١٩٧٧ كان قد خرج من تجربة نضالية وإنسانية صعبة، وسط لهيب الحرب الأهلية اللبنانية في منطقة النبعة. تحدث السيد في تلك الفترة الحساسة عن المقاومة وعن الإسلام الحضاري، والتجديد والعقلانية، وقد التف حوله عدد من الشبان ممن آمنوا بفكره وأطروحاته ووجدوا فيه داعية للمقاومة والإصلاح وللملائمة بين الدين والحياة والحرية والعدالة. كان آخر لقاء لي مع السيد محمد حسين عام ١٩٨١ في محاضرة له مع مجموعة صغيرة من الحاضرين في جنوب لبنان عن الثورة الإسلامية والتغيرات الجديدة في منطقتنا وعلاقة كل هذا بالمقاومة.
إن هذا التاريخ الشخصي والأسري والعلمي جعل فضل الله مهيئاً لأن يكون احد الذين صنعوا بيئة المقاومة بعد الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢. فهو أول من أعلن رفضه لاتفاق ١٧ أيار المعقود بين إسرائيل ولبنان تحت الحراب الإسرائيلية. وأول من طرح فكراً متماسكاً للمقاومة الإسلامية وأصدر كتابه «المقاومة الإسلامية آفاق وتطلعات». إن أكثر من تأثر بالسيد هم شبان جنوب لبنان وبيروت، وأيضا شبان «حزب الله» وهو في بداياته. لم يكن للحزب في أواسط الثمانينات قائد محدد، لهذا نظر شبان الحزب في بداياته إلى فضل الله بصفته رمزاً فكرياً لمقاومتهم ضد الاحتلال الإسرائيلي، ونتجت من هذا محاولات عدة لاغتياله وتصفية فكره ودوره.
من جهة أخرى، لم يؤيد فضل الله نظرية ولاية الفقيه، فهو تفهم هذه الولاية في إيران ضمن حدود حماية النظام الإسلامي، على رغم تأكيده بأنها غير متضمنة بالفقه الإسلامي، لكنه من جهة أخرى لم يرَ أن ذلك النموذج (ولاية الفقيه) يمكن تعميمه في لبنان أو العراق وبقية مناطق التواجد الشيعي والإسلامي. فهو لم يعتبر أن لبنان المتنوع دينياً ومذهبياً مؤهل ليكون جمهورية إسلامية كإيران، وحتى آخر لحظة في حياته أصر مع جميع التيارات العراقية التي جاءت لرؤيته على ضرورة إنصاف السنّة في العراق. ظل يردد بأنه يجب أن لا تكون هناك غلبة لفريق على حساب فريق آخر في الحكم في العراق. كان بطبعه وفطرته وجذور عائلته وما تعلمه عن أبيه وحدوياً: يوحد بين متناقضات قائمة بين طوائف وبين فئات مختلفة في وطنه لبنان وفي وطنه العربي والإسلامي الأوسع.
وتميَّز السيد محمد حسين فضل الله بجرأته على مراجعة الكثير من الثوابت التي تحد من حريات المسلمين وقدرتهم على التأقلم مع عناصر الحياة. لقد بحث في الواقع النفسي والسياسي والإنساني الذي يتحكم بمواقف وسلوكيات الأفراد، مما جعل اجتهاده رحيماً ومسهلاً للحياة. إن مقدرة السيد محمد حسين فضل الله على الإلمام بالأوضاع الاقتصادية والسياسية والمعنوية والتاريخية وتعمقه بالفكر الإنساني والفلسفي والنفسي، أغنى اجتهاده وساعده على التوصل إلى فتاوى ودراسات أنصفت المرأة وساوتها مع الرجل وعمقت من حقوقها. إن فتاويه حول ضرب المرأة وحول جرائم الشرف جعلته نموذجاً لحضارية الإسلام. الإصلاح الديني والإسلام الحضاري هما جوهر أبحاثه ومؤلفاته الغزيرة.
لقد أفتى السيد محمد حسين فضل الله بحرمة جرائم الشرف تحت كل الظروف، وأفتى بحرمة جرائم الثأر واعتبرها عدواناً وإفساداً في الأرض، وأفتى بحق المرأة في أن تكون وزيرة وفي موقع الإفتاء، وأفتى بجواز ارتداء المرأة المسلمة الشعر المستعار (الباروكة) في حال اضطرارها إلى التخلي عن الحجاب كما حدث في فرنسا، وأفتى بحرمة ضرب الرأس في عاشوراء وأنها مظهر من مظاهر التخلف في استعادة الذكرى. كما أفتى حول الإجهاض والسماح له ضمن حدود السلامة قبل تكوّن الجنين، وبتحريم إثارة أي حديث مذهبي، ولا سيما بين السنّة والشيعة في الكويت في ما يتصل بالإساءة إلى صحابة النبي وزوجاته، وهو نفسه دعا إلى الاعتماد على العلم في محاولته توحيد المواقيت بين المسلمين الشيعة والسنّة في رمضان والأعياد. وأفتى بحرمة التفجيرات التي تستهدف المدنيين سواء في المغرب أو في المملكة العربية السعودية، وبتحريم التنازل عن حق الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم. لقد ساهم فضل الله من خلال فتاويه (وهذه بعض منها فقط) في التعامل مع المرأة بمساواة واحترام قلما وجدناه بين فقهاء المسلمين المعاصرين.
لم يكن غريباً أن فضل الله الذي بدأ في النبعة قبل الحرب الأهلية وانشأ فيها مسجداً وتجمعاً ثقافياً استمر في سعيه لبناء المؤسسات طوال الثمانينات وحتى وفاته. لقد أنجز حوالي ٣٠ مؤسسة منها المدارس والمؤسسات الصحية ومستشفى ومراكز ثقافية ومعاهد لرعاية المعوقين ومؤسسات لرعاية كبار السن والعجزة وغيرها من المؤسسات. وحول إيمانه بالناس وبحقوقهم إلى مؤسسة اجتماعية إنسانية ثقافية تعليمية متكاملة. هذا المنحى الإنساني هو نفسه الذي دفع فضل الله إلى إعلان رأيه في كل قضية مست الإنسان وحقوقه.
في كتاب الصحافية اللبنانية منى سكرية الصادر عام ٢٠٠٧ مقدمة كتبها رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سليم الحص عن السيد محمد حسين فضل الله قال فيها: «نحن المعجبين به ليس لكونه الجامع بين المذاهب الإسلامية بل لكونه الرافض للعصبيات الطائفية، وهو الداعية للوحدة الوطنية بين المسلم والمسيحي… وإعجابنا مضاعف به لكونه رجل العمل الإنساني والاجتماعي بامتياز».
المصدر: الحياة
‎© منبر الحرية،31 تموز/يوليو  2010

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018