قطر دولة عربية خليجية حديثة العهد في كل شيء، باعتبارها إحدى المشيخات الخليجية التي استقلت في العقود الأخيرة من القرن الماضي، وأعطيت فيها كرسي الحكم لعائلة آل ثاني، وأميرها حالياً هو الشيخ حمد الذي تمكن من إبعاد والده عن سدة الحكم، بعد ثورة بيضاء بسيطة غير مكلفة تمت بمساعدة بعض الأصدقاء الدوليين من هنا وهناك في تسعينيات القرن الماضي..
ولا تزال هذه الإمارة تثير الكثير من الجدل والنقاش السياسي الحامي والساخن أحياناً- خاصة بعد استلام الشيخ حمد دفة الحكم السياسي مع وزير خارجيته المعروف بمكره ودهائه وربما أريحيته السياسية!!- حول بعض مواقفها السياسية غير المتوازنة وغير الطبيعية بحسب المعايير التي يعتمدها هذا الفريق أو ذاك ممن يرفضون تلك السياسات، فمن فتح مكاتب تجارية إسرائيلية اقتصادية وبدء مرحلة وئام وشبه صلح وتطبيع اقتصادي مع إسرائيل (قيل أنه أقفل بعد عدوان غزة2009)، إلى إقامة أكبر قاعدة عسكرية أميركية على أراضيها (قاعدة السيلية)، إلى استضافة وإقامة مختلف الأساطيل العسكرية الأميركية والغربية، وتوقيع معاهدة دفاع مشترك مع أمريكا.. الخ، وفي نفس الوقت استضافة كثير من رموز وقوى ما يسمى بالمقاومة والممانعة العربية (قومية ودينية، علمانية وأصولية)، من الشيشان وغير الشيشان، إلى تبنيها ودفاعها عن كثير من مواقف إيران وصداقتها معها، إلى صداقتها مع حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية، إلى إنشائها لقناة الجزيرة الإعلامية الفضائية التي تعتبر –بحسب الكثير من المراقبين والخبراء- معقل من معاقل الفكر الأصولي بمختلف تياراته ومشاربه الدينية الإخوانية والقومية، وقد استطاعت هذه القناة وعن جدارة كاملة أن تحقق ما عجزت عن تحقيقه كل وزارات الإعلام العربية على مستوى النقاش والحوار حول قضايا وإشكاليات ثقافية وسياسية، كان الحديث عنها من المحرمات مما أهلها لتكون المركز الإعلامي العربي الأول، وهي تحتل إلى الآن على أقل تقدير المرتبة الأولى بين كثير من القنوات الفضائية على صعيد المشاهدة والاتساع والاستقطاب وسعة الانتشار.
ولكن وبالرغم من كل ذلك، تبدو قطر بالفعل –ربما بسبب الثروات والأموال الواقعة تحت سيطرة وهيمنة شيوخها وأمرائها، وربما بسبب عمق صداقتها مع الكبار دولاً وحكومات ومنظمات وشخصيات مؤثرة- قادرة على ملاعبة هؤلاء الكبار في داخل ساحاتهم وملاعبه،م لا بل وتوجيه بعض الانتصارات واللكمات الخفيفة ولكن المؤثرة على وجوهم..
من هنا، ليس شيئاً بسيطاً أو قليل القيمة أن تفوز دولة وإمارة قطر العربية الخليجية الصغيرة بملف تنظيم كأس العالم لكرة القدم (مونديال 2022)..
وليس أمراً صغيراً أبداً أن تقتنص قطر ملف التنظيم (ممن؟) من فم الأسد الأميركي الجريح اقتصادياً والمتراجع سياسياً..
وليس أمراً هيناً أن تفوز هذه الإمارة بشرف التنظيم بعد منافسة حامية الوطيس مع العملاق الأمريكي، الذي لا تأتي قطر شيئاً تجاهه على أي مستوى من المستويات السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية..الخ.
وبالمقابل، إنه لأمر غير مفهوم أن يقول أوباما (رئيس أكبر وأعظم دولة في العالم نافست قطر على استضافة المونديال المذكور): “إن تنظيم قطر وعدم فوز أمريكا بلده بالتنظيم هو أمر سيء وخاطئ للغاية”.. بل كان من الضروري –قياساً بموقعه المتقدم على رأس كبار ساسة العالم- أن يهنئ ويبارك لقطر –كبلد من العلم الثالث- هذا الانتصار الكبير المتحقق للمرة الأولى في الشرق الأوسط، وأن يتقبل الخسارة الطبيعية جداً بروح رياضية، سيما وأن بلده سبق لها أن استضافت مونديال عام 1994م، ولكنها السياسة وقلة الحيلة وربما العجز، هي التي جعلته يتنقل من حالة فشل سياسية إلى حالة فشل أخرى في أكثر من ملف دولي، فمن خسائره المكلفة في أفغانستان والعراق إلى خسارته السياسية الانتخابية المؤلمة الأخيرة (خسر حتى مقعده كسيناتور عن ولاية الينوي).. ولا ندري ربما لا يكون محظوظاً فيخسر –كما تشي وتؤكد كل التقارير واستطلاعات الرأي- انتخابات عام 2012 الرئاسية، هذا إن تم ترشيحه أصلاً من قبل حزبه الديمقراطي بعد فشله الذريع في معالجة أكثر من ملف دولي، وعلى رأسه تحريك عجلة ملف السلام العربي الإسرائيلي المتوقف منذ عدة سنوات، ويبدو أن تكليف الرئيس السابق بيل كلينتون –المعتاد على سياسة الخسائر خاصة مع زوجته هيلاري- بترؤس الفريق المكلف بتقديم ملف أمريكا لاستضافة مونديال 2022، لم يكن ذا فأل حسن على أميركا .
ويبدو أن أمريكا قد تأثرت كثيراً بفعل أزمة الاقتصاد العالمي التي ضربت أرجاء العالم كله منذ العام 2008، وربما أن الذي زاد في تعميق جرحها ومآسيها، وفاقم مشكلاتها ومعاناتها دولياً هو زيادة حجم تدخلاتها السياسية والعسكرية المباشرة في كل مكان، مما جعلها تدفع الأثمان والتكاليف الباهظة في كثير من دول العالم نتيجة تلك التدخلات، فمن حرب أفغانستان إلى حرب العراق إلى أزمات السودان وأفريقيا إلى أوروبا وملف درعها الصاروخي، إلى العلاقات المتأزمة نسبياً مع روسيا البوتينية، إلى ملفات الشرق الأوسط المعقدة (ومناخاتها الحارة ما بين نسائم السلام ولهيب الحرب المتوقعة!!!)، أجل لقد تورطت أمريكا في ملفات عسكرية عديدة جعلتها تفتقد القدرة على إدارة شؤون العالم لوحدها منفردة كما كان يحدث في السابق..
وقد كان في السابق يسيطر نوع من التفكير السياسي في العالم مفاده أن الفشل الحتمي سيكون من نصيب أي موقع أو أية جهة تفكر –حتى مجرد تفكير- في مواجهة تلك القوة الأميركية الضاربة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً (يصل الناتج القومي الأمريكي إلى أكثر كمن 9 تريليونات من الدولارات سنوياً، وتبلغ ميزانية وزارة الدفاع لوحدها حوالي 700 مليار دولار!!) أو حتى على مستوى مجرد رفض تعاليمها وسياساتها وضغوطاتها..
وبالفعل، يبدو أن هناك من بدأ يتجرأ على ذلك حالياً، فمن تهريب مئات الوثائق العسكرية والسياسية بالغة السرية، ونشرها على موقع “ويكيليكس” الذي يديره صحفي استرالي ملاحق وهارب، إلى رفض روسيا إقامة درع صاروخي في مواجهتها، إلى تمرد كثير من القوى الدولية عليها هنا وهناك في العالم..
وهكذا وصلت الأمور إلى حد أن يرفض الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا FIFA) ملف استضافة أمريكا لمونديال2022 ويعطي الفوز إلى دولة قطر التي لا تشكل شيئاً تجاه أميركا في أي مجال من المجالات كما ذكرنا، لا بل ربما تكون المساحة التي تشغلها القاعدة العسكرية الأميركية المتواجدة في قطر والتي يمكن مشاهدتها من نوافذ قناة الجزيرة القطرية، أكبر من مساحة الدولة ذاتها!!..
أفتح هنا هلالين لأقول: عندنا مثل شائع يقول “عندما تسقط البقرة تكثر سكاكينها”.. ويبدو أن هذا المثل ينطبق إلى حد ما على الفيل أو الأسد الأميركي الجريح.. فـ”ويكليكس” تضربه بلكمات “وثائقية” من هنا كما أسلفنا، وقطر تلاقيها بضربة فنية محكمة من هناك.. مضافاً إلى ما تلقاه (ويتلقاه) هذا الفيل الجريح من ضرب عسكري في كل من أفغانستان والعراق، وضرب سياسي في الشرق الأوسط، وتركيا، وروسيا وأوروبا وغيرها..
وإذا ما سألنا: لماذا حققت قطر هذا الانجاز؟ وعلى ماذا ارتكزت؟ وماذا لديها من إمكانات وثروات؟
في اعتقادي يمكن القول، الدول نوعان على مستوى الحجم والإرادة السياسية، دول كبيرة الحجم والمساحة، ولكنها فاقدة للجدية والإرادة السياسية الحقيقية الحرة، ودول صغيرة بحجمها ومساحتها، ولكنها تمتلك وتحوز على رؤية سياسية مع إرادة سياسية حقيقية لتنفيذ تلك الرؤية بحسب إمكاناتها المتاحة، ويمكن أن توظفها في غير موقع وملف لتبرز قوة سياسية يمكن أن يعتد برؤيتها وبرأيها ووزنها المعنوي المهم والمؤثر في عالم الكبار، وهذا هو حال قطر، كما نعتقد ونخمّن، فقطر كدولة صغيرة لديها الكثير من الموارد والثروات، وتتميز قيادتها المنفتحة على العالم، بوجود العزم والإرادة السياسية الجدية للدخول في كثير من الملفات والتحديات وربما المغامرات هنا وهناك..
وهذا ما وفر لتلك الدولة الصغيرة الكثير من الراحة السياسية والاستقرار الأمني والفعالية الاقتصادية، بحيث تحولت إلى واحة خليجية آمنة تعيش حالة قوية من الرخاء والرغد والهدوء على كل المستويات والأصعدة، أي أن الهدوء السياسي ومحاولة تجفيف منابع التوتر مع الدول المجاورة والبعيدة، وعدم مخاصمة أحد، حتى إسرائيل، أعطى ووفر لها الوقت والزمان اللازم للانتباه والالتفات إلى الداخل للعمل والبناء والإنجاز والتشييد وهذا ما أهلها لتكسب استضافة كأس العالم للعام 2022..
وفي أول تصريح لأمير قطر الشيخ حمد بعد الفوز بالاستضافة قال: “هذا اليوم هو من أحلى أيام العرب، ونتمنى أن توفق قطر لتنظيم البطولة بنجاح، ليفرح كل أبناء الدول العربية الذين سيأتون إلى قطر خلال البطولة، لقد كانوا يعتبرون أن قطر لا تستطيع فعل أي شيء لأنها دولة صغيرة مساحة وسكاناً، واليوم أثبتنا لهم أن قطر قادرة على أن تفعل أي شيء”..
طبعاً هذا التفوق القطري لم يقتصر فقط على الولايات المتحدة، بل تعداه إلى أكبر دول العالم اقتصاداً ومساحة وسكاناً، كاليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا.
وملف قطر الذي تم إعداده -لمن يريد الاستزادة المعلوماتية طبعاً- يتضمن تقديمات استثنائية شبه إعجازية، تقدم للمرة الأولى في تاريخ كأس العالم بحسب تأكيد وإشادة كل المراقبين والخبراء في عالم كرة القدم، حتى أنه تم بالفعل تجاوز عثرة درجات الحرارة المرتفعة خلال الصيف في تلك الإمارة، وذلك عبر تجهيز الملاعب -المنوي إنشاؤها لاحقاً- بأجهزة تبريد عالية الجودة وصديقة للبيئة (بفضل استخدام التكنولوجيا المتطورة التي جعلت نسبة الانبعاث الكربوني صفر بالمائة 0 %)، وذلك بفضل التقنيات المستدامة وأنظمة التبريد في الملاعب ومناطق التدريب والمتفرجين، حيث سيكون بمقدور واستطاعة اللاعبين والإداريين والجماهير التمتع ببيئة باردة ومكيفة في الهواء الطلق لا تتجاوز درجة حرارتها 27 درجة مئوية، إضافة إلى إقامة بنية تحتية مجهزة بأحدث المواصفات والتقنيات، إلى شبكات للمترو والقطارات تصل قطر بجيرانها بسهولة وأمان، ناهيك عن إمكانية مشاهدة3 مباريات يومية لمن يرغب وهو أمر غير مسبوق. من دون أن ننسى سهولة إقامة المنتخبات المشاركة والجماهير القادمة من الخارج، وعدم تكبدها مشقات السفر من منطقة إلى أخرى..
هذا وقد رصدت قطر ميزانية ضخمة بعشرات مليارات الدولارات لتنفيذ كل ما قدمته في ملفها على الأصعدة كافة، وستقام مباراتا الافتتاح والختام على استاد “لوسيل” الذي لم يبدأ العمل فيه حتى الآن، وتتسع مدرجاته لـ86 ألف متفرج، وسيكون محاطاً بالمياه وستستغرق عملية بنائه 4 سنوات، إذ من المتوقع انتهاء العمل فيه عام 2019م.
ووفقا للملف القطري، ستعمل قطر على تجديد 3 استادات وبناء 9 استادات أخرى، وستتوزع ملاعب البطولة على سبع مدن قطرية..
وإذا ما أردنا أن نتحدث عن الاستثمارات والمنافع والعوائد الاقتصادية التي ستنجم عن استضافة قطر للمونديال العالمي المذكور في العام 2022، فقد أشارت تقارير خبراء الاقتصاد إلى أنه ستتحقق حالة نمو غير مسبوقة في اقتصاديات رياضة كرة القدم في المنطقة إجمالاً يبلغ حجمه 14 مليار دولار.
وفوز قطر بشرف تنظيم الحدث العالمي الكبير سيرفع قيمة حقوق البث التلفزيوني في المنطقة بنسبة 30% لتصل إلى 550 مليون دولار.
وهكذا يظهر لنا أن تنظيم كأس العالم ليس فقط مجرد حدث رياضي عابر يأتي ويذهب، ويتسابق فيه اللاعبون لركل كرة صغيرة هنا وهناك من ملعب أخضر لا تتعدى مساحته أكثر من 32 ألف متر مربع، بل أصبح هذا الحدث كرنفالاً دولياً وحدثاً عالمياً وكونياً بامتياز ذي أبعاد اقتصادية وعوائد مادية كبيرة على البلد الذي يحظى بشرف تنظيمه أيضاً، فضلاً عن كونه حواراً حضارياً عملياً بين كثير من شعوب وحضارات وثقافات العالم التي تتفاعل إنسانياً وتتواجد عملياً في موقع واحد وبقعة جغرافية واحدة تتبادل من خلالها الأفكار وتتلاقح المفاهيم، ويطلع فيها الناس -من مختلف المشارب والانتماءات والحضارات- على عادات وطبائع وثقافات بعضهم البعض في وحدة إنسانية متنوعة جميلة،وهذا ربما له آثار إيجابية على مستوى المساهمة في تخفيف حدة التوتر والتباعد بين الشعوب والأمم المختلفة، بما يؤدي لاحقاً إلى تحقيق مزيد من التواصل البشري الذي يلغي الفواصل والحدود والتمايزات..
نعم، لقد أصبحت كرة القدم لغة عالمية مثل الموسيقى (لغة العالم)، لأن اللعب الجميل الانسيابي في الملعب هو مثل الموسيقى العالمية الكلاسيكية يفهمها الجميع، ويعشقها الجميل، لأن الجمال بعد إنساني..
وما حدث من خلال الموافقة على ملف قطر لاستضافة مونديال 2022م، هو نوع من الدخول الآسر إلى التاريخ المستقبلي الكوني ومن أوسع الأبواب الإنسانية، وهو نوع من العملقة الاستثنائية، وقطر اليوم باتت مثل عروس تتهيأ وتتجهز للتزين بكل ألوان وتنوعات وجماليات العالم لتزف إلى عريسها القادم في العام 2022 بأبهى حلة وأجمل عنوان..
أخيراً، مبروك لقطر الفوز بالاستضافة التي ستدخلها مع المنطقة العربية عموماً باباً جديداً من أبواب الحضور العالمي المطلوب لما بعده أيضاً، ولعلها تفتح كذلك كثيراً من الأبواب والنوافذ المغلقة في عقول وطرائق تفكير مجتمعاتنا العربية المهمومة والمهمشة والمغيبة التي لا تزال تعتاش أو تعيش على أضغاث أحلام الفوز والانتصار التاريخي المجيد الدائم على الآخر في كل شيء، وتدّعي أشياء وأمور ليست فيها، ولا قبل لها بها، وربما تحفز تلك الاستضافة -والدخول للعصر الكوني من باب كرة القدم- العقول النائمة المقفلة على أفكارها وتعقيداتها وعقمها وشبه عجزها عن الانفتاح على الحياة والعصر والإنسان الآخر..
وهكذا ربما نحقق بالرياضة، ما عجزنا عن تحقيقه بالسياسة، وقد نحقق بالاقتصاد ما عجزنا وفشلنا –كنظم وتيارات- عن تحقيقه بالوسائل والآليات السياسية، وفي ظني أن حالة الجمود السياسي والتخشب الثقافي التاريخي العربي -على مستوى انعدام آفاق التغيير وفقدان آمال الإصلاح السياسي والعملي المعرفي والعلمي في عالمنا العربي- ليس له من حل سريع وفوري إلا من خلال إغراق تلك المجتمعات العربية بثقافة الحرية واقتصاد الرفاه بما فيها إغراقهم بما يمكن أن نسميه بالاقتصاد الرياضي..
جربوا هذا الحل، لعل وعسى!؟.. وربما يكون مدخلاً فعالاً لحلحلة الكثير من تعقيدات وعلائق السياسة العربية المتخبطة التي عجز الجميع –موالاةً ومعارضةً- عن فك رموزها وطلاسمها وعقدها ومبهماتها التاريخية والمعاصرة..
© منبر الحرية،5 دجنبر/كانون الأول 2010