بعد مرور أكثر من عقدين من الزّمن على انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، وما رافق ذلك من أحداث وتبدّلات دولية متسارعة، يبدو أن العالم لم يرس بعد على نظام واضح المعالم، بالرغم من التبشير الذي أطلقته الولايات المتحدة في بداية القرن الماضي ببزوغ “نظام دولي جديد”.
ذلك أن وجود نظام دولي يفترض توزيعا للنفوذ والقوة بين مختلف الفاعلين الأساسيين في الساحة الدولية خلال مرحلة معينة، ووجود ضوابط دولية تستند إلى المؤسسات وقوة القانون، ترسّخ العدالة لا الفوضى.
فبعد سيادة نظام دولي عكس موازين القوى السائد الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية وترجمت ضوابطه في ميثاق الأمم المتحدة، عرف العالم تحولات متسارعة كشفت قصور وعجز مبادئ القانون الدولي عن مقاربة الأوضاع الدولية الجديدة، وهو الأمر الذي فتح المجال واسعا لظهور عدّة ممارسات انفرادية، تتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة (أزمة لوكربي، التدخل في الصومال، كوسوفو، أزمة الخليج الثانية، احتلال العراق، العدوان الإسرائيلي المتكرر على الأراضي المحتلة بفلسطين…) هذه الوضعية دشنت لواقع دولي طرحت بشأنه مجموعة من الإشكالات بشأن حقيقة هذا النظام في ظل أزمة القانون الدولي وقصور الأمم المتحدة.
ينطوي “النظام الدولي” على أكثر من دلالة، فبالإضافة إلى كونه يعبّر عن شكل لتوزيع القوة والسلطان بين مختلف القوى الدولية الكبرى. فإنه يحيل في بعض دلالاته إلى سيادة العدل ووجود قواعد ثابتة تحكم التفاعلات الدولية. ومن شروط قيام هذا النظام، ضرورة وجود نوع من التوازن بين القوى الدولية الرئيسية فيه وإقرارها بوجوده.
في أعقاب انهيار المعسكر الشرقي ونهاية الصراع بين الشرق والغرب، عملت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها على استثمار هذه الأوضاع والتحولات في تأسيس علاقات دولية مبنية على مفاهيم جديدة خدمة لمصالحها.
ففي غمرة هذه التحولات الدولية، برزت الولايات المتحدة الأمريكية كقطب مهيمن على الساحة الدولية، وقامت هذه الأخيرة بالترويج ل”نظام دولي جديد”، “متحرر من الإرهاب، قوي في البحث عن العدل وأكثر أمنا في طلب السلام ومبني على التعاون والإخاء ومواجهة الأخطار المحدقة بالسلم والأمن الدوليين وتعزيز دور الأمم المتحدة”.
وبالموازاة مع ذلك، برزت مقولات سياسية و”أكاديمية” حاولت إيجاد تفسيرات لهذه المتغيرات والتنبؤ لنوع وطبيعة الصراعات العالمية المرتقبة، من قبيل مقولة “نهاية التاريخ” ل”فرانسيس فوكوياما” ومقولة “صدام الحضارات” ل”صامويل هانتنغتون” التي اختزلت الصراعات المقبلة في الجوانب الدينية والثقافية، ومقولة “الفوضى الخلاقة”..
وقد أثار “التبشير” الأمريكي بهذا النظام عندئذ مجموعة من ردود الفعل في الأوساط السياسية والأكاديمية، تراوحت بين رأي يؤكد أصحابه صحة وجود هذا النظام، ويعتبرون أن ذلك من الحقائق السياسية الدولية، ويعتقدون بأن هناك ما يكفي من المستجدات الفكرية والسياسية الدولية التي تدل على وجوده، ويعتبرون أن هذا الأخير مختلف كثيرا عن النظام الدولي القديم.
ورأي ثان، يشكّك رواده في صحّة وجود هذا النظام، ويعتبرون أن كل ما جرى في العالم من تحولات ملحوظة خلال السنوات الأخيرة، لا يصل إلى مستوى بناء “نظام دولي جديد”، وإنما يظل مجرد متغيّرات وأوضاع دولية جديدة.
وبين الرأي الأول القاضي بوجود هذا النظام، والرأي الثاني الذي ينفي ذلك، نجد رأيا ثالثا حاول التوفيق بينهما، وهو يؤكد من جهته على أن هذا النظام هو في أحسن الأحوال، نظام لا يزال قيد التكوين ويمر الآن بمراحله التأسيسية الأولى.
إن النظام “المثالي” الذي بشرت الولايات المتحدة ببزوغه يظل نظاما أمريكيا صرفا، ويفتقر للصفة الدولية، طالما صيغت معالمه بعيدا عن مختلف القوى الدولية الصاعدة، وتحكمت في مساره هذه الدولة خدمة لمصالحها ومصالح حلفائها وضدّا على مصالح الدول الأخرى التي ظلّت في غالبيتها مجرد موضوع له، وليست طرفا فاعلا فيه.
ذلك أن الواقع الدولي الحالي يبرز بشكل جلي أن العالم يمر بفترة عصيبة من تطوره.. ويظل الشيء المؤكد هنا هو أن العلاقات الدولية أضحى يتحكم فيها منطق القوة أكثر من مقتضيات القانون الدولي المعتبرة ضابطا مفترضا لهذه العلاقات.
إن غياب ضوابط دولية تحمل قدرا من التوافق بين جميع دول العالم بشماله وجنوبه، تؤطر هذه التحولات، وعدم فعالية المؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة في انتزاع حقوق الضعفاء في مواجهة الأقوياء، من شأنه أن يراكم سوابق قد تهدد بانهيار القانون الدولي برمته ويسهم في انتعاش مقولات صدام الحضارات ومظاهر التطرف وتصاعد أعمال “الإرهاب” على امتداد مناطق مختلفة من العالم..
ويمكن القول إن السبيل الأساسي والأول لوقف هذه الانحرافات وعقلنة التدخل وضبط اختلالات الواقع الدولي في اتجاه تطوير وتفعيل القانون الدولي بشكل يأخذ مصالح المجتمع الدولي برمته، ينبغي أن ينطلق من إصلاح الأمم المتحدة باعتبارها الهيئة العالمية الكفيلة والمؤهلة قانونيا بإدارة الصراعات الدولية.
© منبر الحرية،6 يناير/كانون الثاني 2011
بعد مرور أكثر من عقدين من الزّمن على انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، وما رافق ذلك من أحداث وتبدّلات دولية متسارعة، يبدو أن العالم لم يرس بعد على نظام واضح المعالم، بالرغم من التبشير الذي أطلقته الولايات المتحدة في بداية القرن الماضي ببزوغ "نظام دولي جديد".