على خلفية الزالزال التغييري التونسي

peshwazarabic18 يناير، 20110
قدم لنا الحدث التغييري في تونس نموذجاً صريحاً وواضحاً عما يمكن أن تتمخض عنه دولة الاستبداد العربي أو أية دولة أخرى يحكمها نظام قمعي بوليسي، لا هم له سوى البقاء في الحكم وديمومة الكراسي والنهب العاري لثروات مجتمعه، ومن ثم توريث السلطة لأولاده وأحفاده.

قدم لنا الحدث التغييري في تونس نموذجاً صريحاً وواضحاً عما يمكن أن تتمخض عنه دولة الاستبداد العربي أو أية دولة أخرى يحكمها نظام قمعي بوليسي، لا هم له سوى البقاء في الحكم وديمومة الكراسي والنهب العاري لثروات مجتمعه، ومن ثم توريث السلطة لأولاده وأحفاده.
ومن الطبيعي جداً أن تقود مثل هذه السياسات الظالمة وانسداد الآفاق وتفاقم الاحتقانات السياسية التي أفضت إليها ممارسات وسلوكيات دول القمع والاستبداد إلى جعل المجتمع عرضة للحرب الأهلية، وبوتقة للصراعات الداخلية خاصة مع انعدام أفق الحل الديمقراطي المنشود ومحاولة بعض رموز السلطة القديمة المتورطة في الخراب والدمار والفساد طرح الوعود على الناس بإحداث تحولات سياسية حقيقة.
وهكذا لاحظنا في تونس الخضراء كيف أدت أعمال السلطات المتعاقبة المستبدة على مدار أكثر من خمسة عقود من الزمان –لم تبدأ مساوئ الحكم فقط منذ 23 سنة- إلى حدوث هذا الانفجار والانتفاضة الشعبية العارمة، وخروج الناس من الطبقة الوسطى التي ينتمي إليها معظم الشباب العاطل عن العمل والباحث عن شغل وعمل وحرية وكرامة وطنية (وهي شعارات الانتفاضة التونسية المرفوعة) إلى الشارع بهدف الضغط على السلطة القمعية وإجبارها على تبني خياراته الاجتماعية والسياسية، ووصوله إلى قناعة أنه شباب مستعد للموت والتضحية في سبيل تحقيق طموحاته التغييرية وتغيير أوضاعه الاجتماعية، وبناء نظام جديد يحكم بالعدالة والحرية والديمقراطية والتعددية السياسية.
وفي ظني أن هذا الانفجار الشعبي الهائل قد فاجأ الكثيرين حتى نحن جمهور المثقفين، باعتبار أن تونس كانت بلداً مستقراً وهادئاً، وكانت سمعتها الخارجية تقوم على أساس أن نظامها صحيح ديكتاتوري يواجه بقوة موجات الأصولية الإسلامية، ولكن شعبها ومجتمعها يعيش حالة من الاكتفاء الاقتصادي المقبول، وهذا هو الشيء الوحيد الذي كان يتباهى به نظام الحكم في تونس طيلة عقود أمام الدول الأخرى خاصة الدول الغربية، من أن بلده مستقر ويعيش حالة رخاء وتنمية جيدة.. ولكن الذي تبين لاحقاً أن هذا الاستقرار الظاهري لم يكن أكثر من حجاب غير سميك كشف عن حقائق من الظلم والتهميش السياسي والاجتماعي، وأنه استقرار هش لا يقوم على قاعدة صلبة من تنمية اقتصادية حقيقة وسياسة اجتماعية ناجحة، بل كان مجرد قناع زائف ظهرت بعد نزعه بقوة الجماهير الغاضبة سلسلة طويلة من الإحباطات والغضب واليأس والفقر والاستبعاد والاستئصال السياسي والاجتماعي.
وإذا ما أردنا أن ندخل إلى طبيعة محددات (والنتائج التي أدت إليها سياساتها الظالمة) هذا النظام السياسي المشابه والمعبر عن معظم النظم السياسية العربية التي تأسست على قاعدة روح القهر والطغيان والحرمان، فإنه يمكننا تثبيت النقاط (والمنجزات العظيمة!!) التالية:
1-قامت تلك النظم القبلية العشائرية (باعتبار أنها تقرب منها أبناء عشيرتها وقبيلتها من الأخوة والأخوال والأصهار وغيرهم) بإحداث قطيعة شبه كاملة بين الدولة كظاهرة مهمتها بناء نظام سياسي وسلطة عادلة لخدمة الناس، وبين المجتمع كموضوع لعمل الدولة على مستوى التنمية والتطور والتقدم وتحقيق العدل والأمن والأمان، الأمر الذي حول الدولة التحديثية العربية إلى دولة خاصة بالنخبة السياسية الحاكمة. ولم تتمكن الدولة من التحول إلى دولة مواطنيها الأحرار الشرفاء، أي أنها باتت دولة منفصلة كلياً عن المجتمع المهمش والمدمر، والأمة المقصية والمستبعدة كلياً عن ساحة الفعل والإبداع الحضاري، أي عن تقرير مصيرها بيدها.. وهنا يصح القول أنها دولة ضد المجتمع وضد الأمة. والدليل على ذلك: انتشار مظاهر الفساد السياسي والاقتصادي والأخلاقي والديني الواسع في مجتمعاتنا العربية والإسلامية الحديثة نتيجة انسداد الأفاق، ونفاذ الطاقات، وتعاظم المشاكل، واشتداد التوترات، واستعار الانتفاضات، وضعف إمكانيات التقدم والتراكم الأمر الذي أدى إلى استمرار وبقاء الأزمة، وتنامي آلية العنف والعنف المضاد التي تقوم -إذا ما تتبعنا منابعها الحقيقية- في انسداد النظام السياسي القائم، ورفض النخب الحاكمة المسيطرة التخلي عن أي جزء من السلطة المطلقة التي يتمتعون بها، والاعتراف بأن السلطة ليست حكراً أبدياً على فئة أو طبقة أو نخبة، وليست ملكية خاصة.. لتكون النتيجة المنطقية لكل ما تقدم هو وقوعنا تحت ظل العوالم المختلفة، وتبعيتنا للآخر، ودوراننا في فلك الحضارات الأقوى (راجع: في الدولة الحديثة القطرية والقومية، وعناصر نقدها، برهان غليون، صحيفة الحياة اللندنية، 28 /8 /1997م).
2-عجز الدولة العربية عن إقامة علاقات قانونية متوازنة -بالنسبة للشعب المدني المهمش والموجود- خارج دائرة السلطة أو الحكم، باعتبارها دولة قهرية غير قانونية في كل مواقعها حيال أكثرية مواطنيها ومجتمعها المنهوب والمقصي.
وقد قاد هذا النزوع السلطوي المجنون للنخبة الحاكمة -في استمراريتها على رأس الحكم وتحكمها بمفاصل القرار- إلى تزايد الرغبة الشعبية في تدمير النظام القائم (كما حدث في تونس مؤخراً) بعد أن يتلاشى أو يموت كلياً الأمل في إصلاحه، أو العمل على إيجاد حلول ناجعة (لأزماته) من داخله، والقيام ببعض الإصلاحات الاجتماعية والسياسية فيه (الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي وقبل أن يهرب ويلوذ بالفرار قال في أحد خطاباته الأخيرة التي وجهها للناس المحتجين: الآن علمت!! وسوف أطور، وسوف أوظف العاطلين، وأعدكم بكذا وكذا، ولن أترشح للانتخابات المقبلة..وو…الخ.. تصوروا لم يعلم على مدى 23 سنة من حكمه وسياساته الأمنية الجائرة أن شعبه يموت من الجوع والحاجة الماسة للشغل والحرية والكرامة.. هكذا هي النظم الديكتاتورية لا تعرف ولا تعلم أن سياساتها هي لب المشكلة وهي أصل العلة إلا بعد أن تضرب على رأسها من الأعلى).. كل ذلك كان نتيجة تفاقم حالة الاستبعاد والتهميش  المنظم لمختلف قطاعات الشعب، وانعدام الوزن للعديد من الفئات والشرائح الاجتماعية الشعبية وغير الشعبية.
3-حدوث مزيد من الانكسارات والهزائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية [فساد التخطيط السياسي العام والخاص، وعقم الممارسة السياسية العملية، وسوء استخدام العمل الإداري اليومي (تفشي الفساد الإداري). وبناء حداثة ديكتاتورية غير عقلانية مستهلكة، وغير قادرة على النمو أو الإنتاج]. أي بناء حداثة هشة وقشرية ورثة كما أسماها برهان غليون ذات مرة بـ”الحداثة المغدورة”..
4-نزع السياسة من المجتمع باعتبارها فاعلية اجتماعية ومجتمعية حرة، ومجالاً عمومياً للمجتمع، وهي أحد أرقى الأشكال التنظيمية لوحدة المجتمع، الأمر الذي أدى إلى تغييب قسري كامل لدور المجتمع وجماهير الأمة الواسعة في عملية التداول السلمي للسلطة، وممارسة السياسة، والتعبير عن الرأي (انعدام الحريات العامة بكافة أنواعها السياسية والإعلامية والفكرية).
5-تحميل الشعب كامل المسؤولية عن أي فشل سياسي وتنموي حدث، أو قد يحدث، في المجتمع بالرغم من تقييده وتغييبه عن ساحة القرار أساساً.
6-ضمان أمن النخب السياسية بأي أسلوب كان، والحفاظ على استقرارها وثباتها في مراكزها ومناصبها العليا، حيث تعمد هذه النخب -لكي تضمن بقاءها واستمرار نموذجها السلبي التسلطي- إلى شن حروب أهلية كامنة، بل وحروب أهلية صريحة، ضد مواطنيها -كما هو الحال في العديد من البلدان العربية والإسلامية- بواسطة أجهزة العنف والعسف المتعددة وما أكثرها، حيث تمتلك كل منها أجهزتها الأمنية، وصلاحياتها الواسعة الخاصة بها، وتمارس المراقبة من دون أن تخضع لأي رقابة، أو محاسبة، أو مساءلة حكومية، أو سياسية بأي شكل من الأشكال.
7-مواجهة أي تغيير سياسي أو ثقافي يمكن أن يفكر فيه أبناء الأمة ونخبتها المفكرة، بقوة الحديد والنار والمعتقلات والقتل الفردي أو الجماعي.. لأن المترفين، وهم الطبقة الحزبية القبلية العشائرية التقليدية المحافظة (مالية وعسكرية وأمنية مهيمنة على واقع المجتمع والناس سياسياً واجتماعياً واقتصادياً) لا يرغبون مطلقاً بتغيير –أو على الأقل بإصلاح- الواقع من حولهم في أي جانب من الجوانب.. لأن مبدأ التغيير السياسي والفكري إذا اخترق بنية الدولة المستبدة الظالم فإنه سوف يؤدي إلى تدمير ونسف كثير من البنى والأسس التي يرتكز عليها هؤلاء في فَرْض هيمنتهم وتسلطهم واستبدادهم، وتحكمهم بالبلاد والعباد.
ولهذا نجد أن الطبقات السياسية المسيطرة والحاكمة -في أي مجتمع- تعمل على تجميد هذا المجتمع، وترفض أن ينفذ التغيير إلى داخله، لأنهم يشعرون أنه إذا ما اهتزت بعض القواعد في المجتمع -على مستوى القيم أو الفكر- فربما تقوم هناك ثورة تنسف كل القواعد التي يرتكزون عليها في تضليل الناس، وتزييف وعيهم وإبعادهم –طوعاً أو كرهاً- عن ضرورة التغيير الصحيح والحقيقي المأمول والمنتظر في المجتمع، وبالتالي إبقاء هذا المجتمع رهينة للسكون والجمود والتخلف الدائم حفاظاً على مصالحهم ومنافعهم المادية الخاصة.. كما حدث في تونس الصفراء التي باتت حالياً تونس الخضراء.. ولكن الذي حدث، والذي لم تكن تتوقعه السلطات الحاكمة التي لا تتعلم ولا تعتبر ولا تتعظ من دروس التاريخ والحياة، ولا تتعلم حتى تأكل الضرب على رأسها من داخل مجتمعها، هو أن القوى الحاملة لهمّ التغيير والمحتجة على الظلم والاستبعاد السياسي والاجتماعي هي التي تمكنت (وستتمكن في أي مجتمع مستبد به آخر) من خرق بنية السلطة الظالمة.. وستعمل على إحداث تغييرات هائلة على صعيد الحكم، والسلطة، والمشاركة، والحرية.. الخ..
من هنا وحتى تقوم دولة القانون والمؤسسات العادلة لابد وأن يتم نسف مكونات وقواعد ومفاهيم دولة التسلط المبنية على ترسيخ كيانها الذاتي، وحفظ بقاء نظام قائم على مفاهيم القمع والضبط والردع عبر تمويل ودعم احتياجاتها الأمنية من خلال نهب أموال الشعب، وسرقة ثروات الأمة (خاصة النفطية منها) وغيرها.. والمجتمعات العربية بالنتيجة هي التي تدفع الثمن الباهظ لتلك السياسات الفاشلة للنظم السياسية العقيمة والضعيفة الأفق التي تقوم على تعقيم الإنسان، وشل قدراته، وسحق طاقاته، والتي ليس لها مبرر وجود سوى خدمة مصالح الفئات والطبقات التي تسيطر عليها.
ونحن نعتقد أنه عندما تفشل الدولة في كسب ثقة أفرادها ومواطنيها، ومد جسور التعاون معهم، والعمل المستمر على تحقيق مصالحهم وطموحاتهم وتطلعاتهم من خلال اعتماد مشروع استنهاض سياسي واجتماعي يعبر عن آمالهم وعن رغبتهم في العيش بسلام وأمن وراحة ورفاه اقتصادي وصحي جيد ومتطور، بما يدفعهم ويحفزهم باستمرار للمشاركة الشاملة في عملية التنمية الفردية والجماعية. أقول: إن عدم تحقيق كل تلك الآمال الكبرى سيعيد ترسيخ ما هو معروف عن دولتنا العربية من كونها دولة الشخص والفرد والحزب الواحد كما كانت حالة تونس، كدولة لها مجموعة إقطاعات ومافيات حقيقية لها أفرادها وأزلامها الدائرين في فلكها، وعندئذ تطفو على السطح ظاهرة جديدة هي ظاهرة التشبيح السياسي والاجتماعي التي لها دعائمها ورموزها الذين يعملون على تحويل الدولة إلى مجموعة مزارع واستثمارات ربحية نفعية خاصة.
وأخيراً فإن ما حصل في تونس الخضراء من ثورة الياسمين البيضاء، يحسب للداخل الشعبي التونسي، وهو جاء نتيجة نضالات طويلة متراكمة منذ عود طويلة دفع ثمنه كثير من الناس والضحايا الأبرياء، ولم يكن فقط وليد ساعته.. بل يبدو أن الأمور تطورت بسرعة في الآونة الأخيرة حتى حانت لحظة التغيير وانفجار الأوضاع في وجه النظام القمعي الذي كان قائماً.
وهذا ما يجب أن نعيه جميعاً –كخاصة لتجربة الانتفاضة التونسية- خاصة بالنسبة لمن هم في مواقع القرار السياسي والمراكز القيادية العليا في العالم العربي ممن يستبدون بشعوبهم ويمارسون العنف ضد أبناء مجتمعاتهم، وهو أن الناس تمتلك قوة وطاقة جبارة كطاقة النهر والبحر الهادر الذي يمكن أن يطيح بكل شيء أمامه، ولهذا أليس من الأفضل تنظيم وبناء كل تلك المواهب والطاقات البشرية المبددة والمشتتة والمضيعة عند أبناء مجتمعاتنا في أسواق البطالة والعطالة والسقوط في أحضان الأيديولوجيات العدمية والظلامية.. أليس من الضروري تنظيمها في سياق عقد سياسي إنساني ديمقراطي يمنح الجميع فرص وحرية التعبير عن معتقداتهم وآرائهم وأفكارهم وطموحاتهم في ساحة الحياة ليتنفسوا الهواء النظيف.. أليس من الأجدى أن نعمل بداية على تنظيف دواخلنا من عناصر التخلف، وتحطيم هيكله الذي نقبع في ظله، وإجراء تغيير جذري شامل كأفراد، وفي مجتمعاتنا كنظام علاقات، وأسس تعامل، وتوزيع قوى وطرائق معينة في الحياة، وفي المعيشة والتفكير بهدف بناء المجتمع الذي تسوده قوانين موضوعية تطبق على الجميع.. مجتمع يرتكز على العقل والمنطق والعلم في إدارته ومؤسساته المدنية. مجتمع يكف مثقفوه وأبناؤه عن البحث عن مثال وحيد للحرية والعمل السياسي والاجتماعي، يصلح للتعميم على الأمم كلها. مجتمع يسعى إلى أن نؤمن عملياً بفكرة الحوار وتجسيد معاني وقيم ثقافة التشارك والتسامح، والاعتراف بالأخطاء. وهذا يتطلب ربما أن نعيد التفكير ببديهيات العمل السياسي والفكري وطبيعة الثقافة السائدة، لأن هذا هو بداية الطريق الذي يجب أن نسلكه لإقامة نظم حياتية إنسانية بكل ما تحمله كلمة “إنسانية” من معاني وتعابير وافرة وواسعة.
‎© منبر الحرية،17 يناير/كانون الثاني 2011

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018