كم كان مكلفاً ومدمراً لنا جميعاً (كأفراد ومجتمعات ودول) وعلى مديات زمنية طويلة بقاء وهيمنة مثل هذه النظم العربية المغلقة والمفلسة والمتكورة على مصالحها، ومصالح رموزها ونخبتها ودوائرها الخاصة، ومراكز قواها السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية الخفية منها والظاهرة التي بنتها بالاستناد اللاشرعي واللاقانوني على كم هائل من مفاهيم وسلوكيات الردع والضبط والقمع والعنف السافر مادياً ومعنوياً..
والكلفة الباهظة تجدرت واتسعت وامتدت بالطبع على مدار عقود وسنوات عديدة مضت، إلى أن ظهرت نتائجها المدمرة وارتسمت نهاياتها المأساوية من خلال هذا الفشل الكبير والمدوي لمجمل خطط واستراتيجيات التنمية البشرية والاقتصادية التي اعتمدتها وسارت عليها تلك النظم المفلسة والتي لم تكن الغاية منها سوى تكريس نشوء ونمو طبقة سياسية واقتصادية واجتماعية طفيلية جديدة غنية متوحشة مفصولة عن مجتمعاتها الغارقة في بحر لجيّ لا قرار له من الفساد والإفساد والاستبداد..
وهنا نسأل:
إذا ما كان مجرد بقاء تلك النظم يزيد من الكلفة المدفوعة من قبل الأمة والمجتمعات العربية إلى درجة تأخرها وتقهقرها على المستويات والأصعدة السياسية (استبداد وقمع) والاقتصادية (تخلف ومعدلات نمو متدنية وبطيئة) والعلمية (لا اختراعات ولا مكتشفات ولا بحث علمي..)، فما هي الكلفة التي ستدفع (ويبدو أنها بدأت تدفع بالفعل) للخلاص من تلك النظم والسلطويات العربية القاهرة التي أعلنت سافرة ومن دون أي خجل أن زوالها يعني دمار مجتمعاتها؟..
في الواقع لابد من الإقرار بأن مجتمعاتنا، وطالما أنها تعيش في قلب الفشل والحطام المادي والمعنوي منذ عقود، ولم تشم عبير ونسيم الحرية الحقيقية إلا بعد خروجها للشارع وصراخها المدوي في وجوه نظمها وفراعنتها، فإنه لم يعد يهمها أن تكابد وتعاني وتدفع المزيد من التكاليف وفواتير الإصلاح والتغيير، وتتحمل الكثير من الأعباء والأثمان الباهظة من دمها ودموعها ومستقبلها للتخلص من وجود وبقايا وجود تلك النظم العقيمة ورمي ثقافتها السلطوية المدمرة.. خاصة مع وجود حالة غير طبيعية لدى هؤلاء الحكام وزبانيتهم وجلاوزتهم تتمثل في هذا التمسك الهوس الجنوني بالحكم والسلطة واستمرار الهيمنة على العباد والبلاد، والتشبث الشديد بمصالحهم وكراسي الحكم في بلدانهم.. أي أنهم يرفضون الرحيل تحت أي مسمى، وهم يشتغلون فقط على ما يتقنونه من فنون وأساليب التهديد والوعيد القديمة والجديدة، ويمارسون الحروب ضد أبناء مجتمعاتهم للبقاء الأبدي في جنة السلطة بالرغم من رفض شعوبهم لهم، كما وينكرون على الناس حقوقهم ومطالبهم القائمة على إعادة الاعتبار الشرعي والتاريخي والحقوقي والإنساني لقيم الحرية والعدالة والمساواة والكرامة وغيرها من القيم الإنسانية العالية والرفيعة..
إن هذه النظم العنيفة المكروهة التي أصبحت تتمثل في أذهان شعوبها بصور شتى من سلوكيات الشيطنة والأبلسة والغولنة (من الغول والتغول)، ستذهب من دون أدنى شك إلى مزابل التاريخ، وسنتذكرها جميعاً فقط من زاوية الاعتبار والمواعظ والدروس والعبر التاريخية بأن نعلم أبناءنا ثقافة المحبة والتسامح والحرية التي لم تعرف تلك النظم طريقاً إليها بالرغم من كونها (أي الحرية) إحدى الشعارات واللافتات والعناوين العريضة التي رفعتها تلك النظم واشتغلت عليها طويلاً، فأنتجت بدلاً عنها الكبت وكم الأفواه وسحق الناس، وبناء مئات السجون والمعتقلات، مع عشرات آلاف القتلى والضحايا ومئات آلاف المفقودين والمشردين والمنفيين والمهجرين، إضافة إلى هدر كبير وإفساد عريض في الثروات والموارد الطبيعية التي هي ملك الناس جميعاًَ وليست ملك مسجل لهذه الفئة أو تلك الزمرة أو ذاك الحاكم.. إنها بالفعل نظم تسلطية بنت دولاً فاشلة على صعيد معيشة الناس، وقمع الحريات، واستيلاء أجهزة الأمن على كل شيء، ومصادرة مظاهر وقيم وأفكار الحياة الجميلة لصالح قوى الرعب والإكراه..
ونحن نجد أن هؤلاء الناس –في مختلف أنحاء وطننا العربي الكبير- الراغبين بحدوث التغيير والساعين إليه والمشاركين بقوة فيه، والمنتفضين ضد نظمهم المستبدة يقدمون لنا –من جهة- صوراً حية واقعية أصيلة عن هذه الطاقة النوعية الكامنة المختزنة في تلك المجتمعات والتي كنا نشك حتى وقت قريب بوجودها وظهورها وانبثاقها بعد تغييب قسري طويل لها، ومن جهة أخرى نجدهم يمارسون أرقى أنواع الحراك السلمي الحضاري التواق لمعانقة قيم الحرية والكرامة والديمقراطية، والمتطلع لبناء دولة القانون والمؤسسات المدنية، والمعبر أيضاً عن لا شرعية النظم التي تجثم فوق صدور تلك المجتمعات منذ عهود.. فشرعية تلك الأنظمة -التي لم تنجح في شيء أكثر مما نجحت في زيادة خصومها والراغبين بزوال طغيانها واستبدادها- ما كانت ترتكز على قناعات الناس من أبناء مجتمعاتها، ولم يكن أهل الحكم والسلطان فيها يفكرون بهم أصلاً أكثر مما كانوا يفكرون ويحتاطون ويأخذون بالاعتبار موافقة ورضى الدول الإقليمية ومراكز القرار والدولية الأخرى على وجودهم ممارساتهم، وبالتالي فهي لم تكن تحظى بالتأييد والشعبية الطوعية، بل اعتمدت بصورة دائمة وكلية على استخدام العنف البدائي العاري والقوة الباطشة القائمة على التوجس والقمع والتخويف وتعميم ثقافة الفوبيا من أجهزتها الإكراهية المرعبة، مضافاً إليه الحفاظ على توازنات بقائها في أداء وظائف وأدوار مرسومة بدقة لها من خلال تلك العلاقات المتمحورة حول التجاذب والتكامُل مع الولايات المتحدة ومع غيرها من القوى الدولية هنا وهناك.
ولكن الشعوب –في مواجهة تلك الوظائف والأدوار ومجمل السياسات الوطنية الداخلية الفاشلة- بدأت تتحرك وتقول كلمتها، وهاهي تحاول من جديد إعادة السياسة الحقيقة إلى حضن مجتمعاتها بعد أن أبعدت وعزلت عنها، وبعد أن أخذتها تلك النظم من ساحتها إلى ساحات فئوية طبقية ضيقة لا تعبر عن مصالح المجتمعات والشعوب والأوطان بمقدار ما تعبر عن مصالح حلقات مجتمعية أقلوية مصلحية انتهازية محدودة رهنت وجيّرت الكل لخدمة الجزء..
من هنا اعتقادنا الجازم بأن النصر والنجاح الباهر والكبير سيكون من نصيب هذه الشعوب المغلوبة على أمرها، لأنها وبمنطق التاريخ تطالب بالعدالة وإحقاق قيم الحق والحريات والمساواة، وهي تتوق للديمقراطية والحياة المدنية الحرة، وأساس هذه الديمقراطية هو سيادة الشعب ومن ورائها سيادة الدولة واستقلالها أو استقلال قرارها الوطني.
كما أن ما جرى في تلك البلدان المغلقة لم يعد مقبولاً، ولم يعد بمقدور تلك المجتمعات أن تتحمل أكثر التكاليف المدمرة من حياتها ومستقبلها ومن أمنها واستقرارها.. بالرغم من أن تلك المجتمعات مستعدة حتى اللحظة للتضحية بالمزيد المزيد ودفع الغالي والرخيص للخلاص من عهود الظلم والتوحش الذي أذيقت فيه الأمرّين من صنوف القتل والقهر والعذاب، وبدء عهد الحريات والمدنية والديمقراطية في بلدانها، حيث أنها (أي الناس) باتت تعتقد بأن تكاليف إزالة (وكنس) تلك الأنظمة المتخلفة هي أقل بكثير من تكاليف بقائها.. وهذا الوعي توصلت الشعوب إليه جراء تجاربها الحية مع تلك النظم على مدار عقود وعقود، كما أنها أصبحت مطلعة على حقائق الأمور، وسياسة الحجب والإخفاء والتزييف والتضليل باتت مكشوفة بالكامل من دون تجميل أو تعديل.
ولهذا وبما أن تطورات العلم وانتشار العولمة الإعلامية وتوسع شبكات التواصل الاجتماعي بين الناس قد فتح المجال أمام الإنسان للاطلاع الحي المباشر والسريع على كل شيء، والوقوف الواعي المتأمل أمام كل الأحداث والتغيرات بتفاصيلها ودقائق أمورها، فقد رأى الناس ما حدث في تجارب الشعوب الأخرى (الغربية والشرقية على حد سواء) من تطورات مذهلة انعكست إيجاباً على مستوى معيشة تلك الشعوب، ودخلها العالي المرتفع، وعلى مستوى تنميتها الاقتصادية التي سجلت أرقام نمو عالية، وعلى مستوى حرياتها الكاملة، وحياتها السياسية القائمة على الفرد الحر والتداول السلمي للسلطة، وإشاعة أجواء السلام المجتمعي، والتسابق في خدمة الصالح العام.. وهكذا انطلق هؤلاء الناس في مجتمعاتنا لعربية ليقارنوا بين تجارب تلك الدول المتطورة النامية وبين نظمهم القمعية وواقعهم الفاسد المنقسم والمتفكك والمتخلف في كل شيء.. فماذا كانت النتيجة؟ كانت أن هناك نخباً محلية ضيقة الأفق وسيئة التربية والنشأة ذات ارتباطات إقليمية ودولية وذات صلة وثيقة بالسلطة من خلال مقومات الثروة وركائز ومفاصل القوة، هي التي تهيمن على كل خيرات وثروات البلاد، بينما تركت وهمشت قطاعات واسعة من أبناء المجتمعات العربية. وقد تزايدت تلك الظاهرة في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، مع التوجه لتبني آليات السوق والتجارة الحرة، وتراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، وازدياد البطش ومختلف آليات القمع، والاستبداد، وغياب الحقوق والحريات، مع شيوع انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، وتركيز مؤسسات وهياكل السلطة في يد نخب ضيقة مرتبطة بالحزب أو بالشخص أو بالأسر الحاكمة.
وهكذا توصل كثير من الناس في عالمنا العربي إلى قناعة عملية راسخة بأن السبب في معاناتهم وفقرهم وتخلفهم وتقهقرهم هو وجود تلك النخب والطبقات ومراكز القوى، وبقاء حكامهم ومن ورائهم وجود هذا العدد الكبير من قوى وأجهزة الأمن الواسعة الصلاحيات والمحمية بالقوانين والأنظمة الممسكة بتلابيب دولهم من الأعلى إلى الأسفل، مما منعها -ويمنعها باستمرار- عن التطور والنمو وتلبية متطلبات واحتياجات شعوبها السياسية وغير السياسية، ومواكبة تطورات الحياة المعاصرة، ويمنع الناس من أخذ حقوقهم ومكتسباتهم في العيش الحر الآمن الكريم..
وهنا جاءت وتفجرت لحظة الثورة في حالة تجل راق لقيم الوعي الإنساني، وانتفضت الشعوب العربية في اتجاه تحقيق وجودها، وثارت لكرامتها المفقودة وحريتها الضائعة، وباتت تسكن في الشارع سعياً لنيل وانتزاع مطالبها وحقوقها الاستقلالية، ويبدو أنها لن تعود مرة أخرى لبيوتها وعملها ما لم تلبى تلك المطالب المتركزة كما نذكر دائماً حول الحرية والكرامة بالتحديد، وليس عل الأكل والخبز والعمل، لأن هذا كله يأتي لاحقاً بعد الخلاص من تلك النظم ومحاسبة أركانها ورموزها.
© منبر الحرية، 9 غشت/اب2011
One comment
kji rachid
18 أغسطس، 2011 at 1:04 م
article mérite des compliments voire des encouragements
merci bien pour notre rédacteur yamanien