شعرت بتناقضات عديدة عند مشاهدتي الرئيس السابق حسني مبارك مع نجليه علاء وجمال في قفص الاتهام الأسبوع الماضي. دار في رأسي شريط طويل من التاريخ المصري والعربي. تساءلت وأنا أمام التلفزيون: هل هذا معقول؟ ثم تداركت قائلاً: ألا يستحق الشعب المصري أن يحاكم من أخطأ في حقه؟ فكرت للحظة في كل من سُجن ظلماً في عهد مبارك لمجرد إبداء رأي أو قول كلمة. فكرت في كريم عامر الطالب الجامعي والمدون المصري الذي تعرفت عليه أثناء قيامي بدورة تدريبية في مصر عام ٢٠٠٦ وكان في العشرين من عمره. ثم ما أن انتهت الدورة ببضعة أسابيع إلا واعتقل بتهمة الإساءة لمبارك وازدراء الأديان في مقال كتبه في مدونته. سُجن كريم في عهد مبارك أربع سنوات ونيف مر إبانها بصنوف من التعذيب والإهانة والحرمان والحبس الانفرادي، كل ذلك لأنه كتب مقالاً في مدونته.
ثم وجدت نفسي أعود بذاكرتي إلى الدعوات الشهيرة التي وجهتها مكتبة الإسكندرية في الأعوام ٢٠٠٣ و ٢٠٠٤ حول الإصلاح في العالم العربي. تلك كانت دعوات علنية هدفها حشد الرأي العام المصري والعربي لصالح الإصلاح. هكذا قلت لصديق مصري كان أول من وجه إلي الدعوة للمشاركة «إنني لست متحمساً لهذا المؤتمر، إذ يبدو أن الجدية تنقصه». فأردف صديقي قائلاً: «إنها دعوة حقيقية. تعال وسترى وضعاً مختلفاً».
حضرت مؤتمر الإصلاح لأرى حديثاً عن الإصلاح بقي في جله على ورق، بل على العكس سارت مصر في الاتجاه المعاكس للإصلاح الذي وعد به الرئيس السابق مبارك. كان عقد المؤتمرات بما فيها مؤتمر دافوس الشهير الذي عقد في شرم الشيخ كما وفي البحر الميت في الأردن جزءاً من عملية تمويه مارستها الأنظمة بهدف تخفيف الضغوط الدولية والأميركية وتأمين موازنات الدعم من الكونغرس الأميركي. وما أن انتهت ضغوط عهد بوش الابن في السنوات ٢٠٠٢ حتى ٢٠٠٤ إلا وتراجع النظام في مصر عن الإصلاح.
وبينما الرئيس ونجلاه في المحكمة، جاءني اتصال من صديق ينبهني إلى ضرورة فتح التلفزيون لرؤية المحاكمة. وإذا بنا نتحدث عن المحاكمة. سألني: ما رأيك بالمحاكمة؟ فكرت قليلاً ثم قلت له: «ليته أصلح عندما قال انه سيصلح، لربما كان سيتحول إلى الأب الروحي للإصلاح في مصر والعالم العربي. لو فعلها لكان تفوق على ناصر والسادات مجتمعين».
لكن صديقي أردف: «القادة العرب مختلفون، وهم ليسوا مثل خوان كارلوس أو قادة البرازيل والأرجنتين العسكريين. يصعب أن يبرز بين القادة العرب من هو بمواصفات غورباتشوف او مانديلا. ربما لو أراد احدهم الإصلاح لمنعته البطانة المحيطة والأبناء الطموحون والأقرباء المستفيدون والزوجات المتربصات. والقادة العرب في معظم الحالات لا يسمعون لأحد ولا يقرأون ولا يتابعون ولا يقبلون بالنصح ولا يحترمون شعوبهم أو الرأي المخالف لهم. ثقافتهم بشكل عام لا تقبل الشراكة والمناصفة والمقاسمة». ثم أردف صديقي: «لا اقصد كل واحد منهم، لكن هذا حال الأغلبية كما ترى».
وأنا أشاهد مسلسل المحاكمة تذكرت سلوكيات النظام المصري المتشابهة مع الكثير من الأنظمة العربية السلطوية. فمبارك ومعه ابنه جمال ومعهم وزير الداخلية حبيب العادلي اعتقدوا أن تشديد القبضة الأمنية والحد من أنشطة الوسطيين والمعتدلين والأحزاب المستقلة سيساعدهم على تفادي مصير أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية. ما لم ينتبه إليه مبارك أن ضرب القيادات الوسطية افقد الوسط كل مصداقيته وساهم في ثورات بلا قيادات. من سخريات الوضع أنه عندما أراد عمر سليمان أن يتفاوض مع من يمثلون الميدان والثوار لعقد صفقة إنقاذ لم يجد من يتفاوض معه، مما ساهم في استمرار الثورة وصولاً لسقوط مبارك. هكذا سقط النظام من جراء سياساته القصيرة النظر.
المحاكمة في مصر لم تحاكم مبارك الإنسان بل مبارك الرئيس الذي أساء استخدام صلاحياته المؤتمن عليها والذي قام بتسليم جزء كبير منها منذ عام ٢٠٠٠ لابنه جمال في شقها السياسي ولابنه علاء في شقها الاقتصادي. هكذا قلت لنفسي: لماذا لا يحاكم على سوء استخدامه لصلاحياته، فالذين قتلهم إبان الثورة وقبلها وسجنهم إبان حكمه على أفكارهم وبسبب مدوناتهم ومواقفهم لن يرتاحوا أكانوا أمواتا أم أحياءا إلا بمحاكمة تلك السلوكيات الطائشة. عبر المحاكمة برزت إلى الواجهة حقوق ألوف المصريين ممن ظلمهم نظام مبارك لأنهم مارسوا حقاً إنسانيا طيبيعياً في التعبير عن رأيهم.
إبان المحاكمة تساءلت: ماذا لو كان مبارك من نوع الرؤساء الذين يرفضون إدخال أبنائهم في طريق عملهم، ويشعرون بالحساسية لكل استغلال نفوذ من المحيطين؟ ماذا لو كان مبارك قد دفع ابنه بعيداً عن أية شبهة وتأكيداً لكل قانون؟ ماذا لو سعى كل من جمال وعلاء للتعامل وكأنهم ليسوا أبناء رئيس انطلاقاً من أن موقع الرئاسة للشعب كله وأنهم يجب أن يقفوا من الموقع نفس المسافة التي يقف منها أي إنسان آخر؟ هل النزاهة في هذا المجال مستحيلة؟ ولماذا تكون مستحيلة وقد رأينا نزاهة شبيهة في زمن عبد الناصر وفي زمن السادات وفي زمن رؤساء كثر في العالم على رغم من أنهم لم يكونوا رؤساء منتخبين؟ ونتساءل: ألم يكن بإمكان مبارك أن يرى أن نظراءه في دول الغرب بل وحتى في إسرائيل لا يقومون بما يقوم به من توريط عائلته في السياسة إلى الحد الذي أصبحوا لصيقين بالموقع الرئاسي، فان ذهب ذهبوا، وان حوكم حوكموا؟
في يوم المحاكمة عبر صديق آخر عن رأي مختلف: «ليته هرب كما فعل التونسي». فقلت له: «ربما لم يهرب لأنه مقتنع بأنه لم يقم بشيء خاطئ، وهو لا يعرف ما نسب إليه وما لم ينسب إليه لأنه ربما لم يكن مهتماً بمعرفة كل شيء يتعلق بمنصب الرئاسة. ربما لم يهرب أيضا لقناعة بأنه يسيطر على الوضع من خلال الجيش ولعدم فهم طبيعة الثورة ومعناها. ربما امتلك القناعة بأنه عائد بعد فترة».
تساءلت: هل تشعر المحاكمة المرشحين للرئاسة في مصر بمدى مسؤولية الكرسي الرئاسي ومدى زواله؟ ربما تضع المحاكمة ضريبة مختلفة على كرسي الرئاسة؟ نعم كانت محاكمة أليمة في جانب إنساني يتعلق بمبارك ونجليه ولكنها ضرورية للانتهاء من مرحلة والبدء في أخرى. ربما في المحاكمة إشارة بأن مرحلة تاريخية انقضت وأخرى جديدة قد بدأت أساسها دولة القانون وهيبة القضاء ومسؤوليات كرسي الرئاسة.
المصدر: الحياة
© منبر الحرية،16 غشت/اب2011