انتشرت في الآونة الأخيرة –تحديداً خلال العقد الأخير- مظاهر استثمار المال العربي في مجال الدراما والفن. حيث أصبحنا نرى ونشاهد كل ما هب ومن دب من أصحاب الرساميل الكبرى يتنطع للدخول إلى دنيا وقطاع الفن والإنتاج الفني من أوسع أبوابه، في محاولة ربما من هؤلاء لإثبات ذواتهم وقدراتهم ومواهبهم (الخلاقة!) في عالم الفن والدراما والتمثيل إلى جانب مواهبهم وإبداعاتهم في مجالات العمل والاقتصاد الأخرى.. فطالما أن المال موجود ومتوفر فكل شيء يمكن تأمينه وجلبه وإخضاعه، لأن القوة والسطوة هي لصاحب المال والسلطة، وليست لصاحب العقل والعلم والمعرفة!!..
وللأسف هذه هي طبيعة العقلية العربية –البسيطة لا المركبة، الساذجة لا المعقدة، الريفية لا المدينية- التي لا تزال قائمة بالرغم من المظاهر الحداثية المبهرة، وهي لا تزال تتعاطى مع أية قضية –بسيطة أم مركبة- بنوع من العقلية البدائية الصحراوية التي تظهر من خلال ضخها للمال العاري أو استعمالها للعنف العاري (رمزياً كان أم عضوياً) بصورة مستمرة ودائمة في مواجهة أي شيء.. لأن المهم بالنسبة لأصحاب تلك الأموال (ممن يخضعون لتلك العقلية) هو الشكل والاسم والمظهر الخارجي فحسب، ولا اعتبار قائماً –في كثير من الأحيان- لقيم العلم والفكر والتخطيط العلمي الممنهج والمدروس..
والموضوع هنا لا يتعلق فقط بالفن بل ينسحب إلى كل مجال من مجالات العمل والحياة، حيث تجد أن رجل الأعمال العربي الفلاني اشترى هذا النادي الرياضي الخاسر أو الواقع تحت أزمة مديونية بقيمة 350 مليون دولار، أو يمكن أن نقرأ أن تلك المؤسسة العربية اشترت مثلاَ متاجر هارودز المشهورة بحوالي 2,2 مليار جنيه استرليني، أو أن الشيخ الفلاني أمر بتشييد أعلى برج في العالم.. ولحقه شيخ آخر من هناك –كنوع من رد الفعل العاطفي- ليأمر ببناء برج آخر أعلى من برج “شقيقه”.. وهكذا دواليك.. وكأن الحضارة الحديثة –بقيمها ومظاهرها ومعالمها وقواعدها وركائزها وأسسها- تشترى من السوق بالمال الوفير وبطريقة العرض والطلب.. وليست في حاجة إلى عملية استيلاد عميقة وتربية وتنشئة علمية طويلة الأمد تبدأ من الجذور، من تغيير أساليب التفكير وطبيعة المعارف والقناعات والقيم السائدة والمسيطرة، أي أنها تبدأ من استنبات لبذورها الأولى في داخل التربة الصالحة لنموها ونمو المدنية، وليس شراء منتجاتها ومظاهرها الخارجية فحسب التي قد تتعرض للانهيار والزوال السريع مع أية فتنة دينية أو سياسية أو قبلية تقع هنا وهناك..
وحتى لا نستطرد كثيراً نعود لموضوع الدراما والفن، حيث لاحظنا كيف انطلق رأسمال المال العربي –خاصة الخليجي منه- ليستثمر في قطاع الفن والإنتاج الدرامي، وبدأ أرباب وسلاطين المال العربي يتسابقون ليس لضخ المال في مجالات العلم والتعليم والبحث العلمي وبناء معاهد العلوم التطبيقية وغيرها.. بل لاستقطاب واجتذاب كبار نجوم الدراما العربية من الممثلين والمخرجين للمشاركة في عمل تلفزيوني أو سينمائي أو لإنتاج مسلسل أو فيلم أو أي لون آخر من ألوان المسرح والفنون.. وبدأت الأجور ترتفع إلى أرقام ومعدلات خيالية.. فهذا الممثل وصل أجره عن المسلسل الواحد إلى حوالي 6 مليون دولار عن المسلسل الواحد، وذاك المخرج –المتصدي لعمل تمثيلي صحراوي من تأليف أحد شيوخ القبيلة العربية الكبار- وصل أجره إلى 5,5 مليون دولار.. وهكذا هي الأجور في حالة ازدياد سنوية..
وقد اتسعت هذه الظاهرة –على وجه الخصوص- بعد صعود موجة الاستهلاك غير المسبوق في مجتمعاتنا العربية وخاصة الخليجية منها، حيث توافرت رؤوس أموال هائلة نتيجة الفساد السياسي والاقتصادي وضخ كميات كبيرة من الطاقة الخام في أسواق العالم بعوائد مالية هائلة صبت بمعظمها في جيوب القلة من أبناء تلك المجتمعات التي تمكنت –كي نكون منصفين- من تحديث بعض البنى التحتية لبلدانها وبناء شبكات طرق متطورة حديثة، ومنشآت وعمارات وأحياء جديدة بالكامل.. مع تطوير آليات عمل مؤسساتها وإداراتها لتلائم الحداثة والمدنية الشكلية (طبعاً)، والكثير من المعايير والنظم الحياتية المعاصرة..
كما وأنشئت لهذه الغاية –باعتبار أننا نتحدث عن دخول المال لقطاع الدراما- الكثير من شركات الإنتاج الدرامي التمثيلي في عدد غير قليل من البلدان العربية خاصة في دول الخليج التي أطلقت بعض دولها أيضاً مهرجانات سينمائية احتفالية سنوية تدعى إليها كبار نجمات ونجوم الفن والدراما والسينما من دول العرب والعالم..
وإذا كان الفن التمثيلي هو أحد أهم الفنون المهمة المعبرة عن تطور المجتمعات، وهي جزء من ثقافتها، واهتمامها بالفكر ومختلف الآداب الإنسانية المعبرة عن طبيعة تفكيرها وطموحاتها وأحلامها وتطلعاتها وآمالها المستقبلية.. فإنه بات عند بعض العرب نوعاً من القنوات والمسارب التي يراد من خلالها تبييض الكثير من الأموال التي جمعت بطرق غير مشروعة..
وقد يتخيل البعض أننا ضد استثمار الناس لأموالها في أي مجال من المجالات العملية في الحياة، أو أننا لسنا مع دعم الفن وضخ الأموال في شركات لتطوير عمل الدراما والفنون التمثيلية وكثير من الجوانب المتعلقة بالفنون والآداب…
والواقع أننا لسنا كذلك، بل من حق كل إنسان يمتلك رأس مال معين أن ينميه ويزيده ويراكمه.. ولكن ليس بالطريقة الفوضوية والعبثية الخالية من أية ضوابط ومعايير ممنهجة وواضحة كالتي نشاهدها في الكثير من بلادنا العربية، حيث يمكن رؤية نماذج وحالات للأسف مضحكة ومحزنة في الوقت عينه، فقد نجد طبيباً بشرياً عنده عيادة، يعمل في مجال التطوير العقاري، أو قد نجد مهندساً مدنياً يستثمر أمواله في مجال الطب والمشافي الخاصة.. أو قد نجد إنساناً أمياً جاهلاً لا يفك الحرف يعمل في مجال التعهدات والمقاولات فقط لأن هؤلاء معهم رأسمال يريدون زيادته وتنميته بأي صورة كانت..
أو قد نجد رجل أعمال معه فائض مال وفير يريد استثماره في مجال الفن، وهو لا يفقه شيئاً فيه، فيؤسس لشركات إنتاج فني ودرامي، ويبدأ باستقطاب الفنانين والفنانات والممثلين والممثلات (بدفع أجور خيالية لهم)، وتبدأ المسلسلات بالإنتاج والعمل والظهور، وللأسف الكثير منها يؤسس لقيم وعادات وتقاليد عتيقة عفى عليها الزمان وغير قادرة على العيش والتأثير الإيجابي في الحياة، فهذا المسلسل يقدم المرأة على أنها مجرد “عبدة” للرجل، وذاك الفيلم يتعاطى مع قيم الرجولة والقوة والشهامة بنوع من السذاجة البدوية القديمة التي لا تصرف في مسالك زمننا المعاصر.. وهكذا..
وكأني بتلك الأموال التي تنتج تلك الأعمال الفنية مجرد مزيد من الأموال العربية المهدورة على طريق إعادة إحياء قيم بدائية “بدونة الأخلاق وتصحيرها“..
وتبرز هنا مشكلة أخرى أمامنا وهي أنك لا تجد لدى الكثير من رجال الأعمال العرب هذه الهمة والحافز والضمير الذاتي الذي يمكن أن يدفعهم لضخ أموال على طريق العلم والمعرفة والبحث العلمي والمساهمة في بناء الركائز الحقيقية للتطوير والبحث العلمي..
وأنا هنا أتساءل –مثل كثيرين من الناس- ما معنى، وما هو الهدف، وما هي الفائدة المرجوة مثلاً من شراء منشأة تجارية في قلب أوروبا بقيمة 2 أو 3 مليار جنية استرليني؟ وما هي المساهمة الحقيقية لمثل هذه الصفقة في تطوير مجتمعاتنا العربية؟ ربما تكون مجرد إضافة شخصية ورصيد ذاتي لصاحب عملية الشراء فقط..
والأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يصل إلى وجود أموال عربية تقدر بترليونات الدولارت مخزنة في البنوك الغربية لا يستفاد منها في تحديث وتطوير وتقدم مجتمعاتنا العربية التي أنهكها الجوع (للحرية) والعطش (للعلم) والمرض (المعنوي أكثر من المرض العضوي)، وهدها التخلف الثقافي والمعرفي والتأخر الحضاري عن العالم كله!؟..
إن بلادنا العربية بحاجة ماسة لاستثمارات كثيرة في قطاع العلم والبحث العلمي، أكثر من حاجتها لأموال ضائعة على طريق العرض والاستعراض الشخصاني هنا وهناك.. وليس بالفن وحده يعيش ويتطور الإنسان، بل هو جزء من كل..
وهؤلاء الممثلون والممثلات والفنانون ممن أصبحوا يعيشون في أبراج عاجية بعد ضخ تلك الأموال على طريقهم، لا تنقصهم لا المهرجانات ولا حفلات التكريم، وليسوا بحاجة لمزيد من الدروع والأضواء المسلطة عليهم أكثر مما هي عليه الآن.. ولكن المشكلة هي في الواقع تطال أناساً آخرين من كثير من أولئك الجنود الحقيقيين المبدعين من كوادرنا وطاقاتنا العاملة في مواقع حيوية واستراتيجية تبني وتطور أوطانها وبلدانها من مهندسينا وأطبائنا ومخترعينا ومكتشفينا ووالخ.. هؤلاء للأسف –من أعمدة البناء والتطوير المجتمعي الحقيقي- منسيون وشبه مغيبون، ولا أحد بشأنهم، ولا أحد يقترب منهم، أو يتذكرهم “بشيء” درع تكريمي من أي معدن كان.. أو احتفالية تذكر الناس بهم.. وتلقي حزمة ضوء على أعمالهم وإنتاجيتها مثل ما يحدث في باقي البقاع العالمية،
أما الفنانون ونجوم التلفزيون فما شاء الله الكل يتسابق لـ”تمسيح” جوخهم ومخملهم، ولتسليط مزيد من الشهرة والأضواء عليهم..
وفي النهاية لا بد من التنويه بأننا نحترم الفنون، ونقف مع الفن بمختلف ألوانه، كما أننا نقدر العطاءات المتنوعة التي يقدمها الكثير من هؤلاء الفنانين، خاصة المبدعون منهم من ذوي الأهداف والطموحات الخلاقة ممن يركزون على نوعية منتقاة من صور النقد الموضوعي العلمي للكثير من مواقع النقد السياسي والفكري والاجتماعي الهائلة المتوافرة بكثرة في اجتماعنا الديني والسياسي العربي، وللكثير من موروثاتنا وتقاليدنا السلبية المهترئة البالية.. أما محاولة كثير منهم تكريس قيم قديمة وواقع سلبي تراثي غير منتج، فهذا أمر يحتاج لمراجعة ونقد مستمرين..
© منبر الحرية،2 سبتمبر/أيلول2011