نبيل علي صالح27 نوفمبر، 20110
لم تتمكن النخب السياسية العربية التي استلمت الحكم بعد عهود الاستقلال الشكلي، وكونت دولاً تحديثية قامت على منطق الغلبة وعقلية الهيمنة والاستئثار من ولوج طريق الحداثة بمعناه الحقيقي المرتكز على بنى مفاهيمية ثقافية بعد، بالرغم من كثرة ما اشتغلت وما قامت به.....

    لم تتمكن النخب السياسية العربية –التي استلمت الحكم بعد عهود الاستقلال الشكلي، وكونت دولاً تحديثية قامت على منطق الغلبة وعقلية الهيمنة والاستئثار- من ولوج طريق الحداثة بمعناه الحقيقي المرتكز على بنى مفاهيمية ثقافية بعد، بالرغم من كثرة ما اشتغلت وما قامت به تلك النخب –ومعظمها ذات طابع أمني أو ذات خلفية وامتداد عسكري بحث- من محاولات التحديث القسري القشري الفارغ التي أدخلوا فيها مجتمعاتهم وشعوبهم منذ أكثر من ستين سنة، ولم تنجح إلا بتكوين دولاً متشظية الانتماءات المذهبية والطائفية والجهوية، مغطاة بحجاب بسيط من علمنة مستبدة فارغة من مضمونها ومعناها الحقيقي القائم على الحرية والديمقراطية والتعددية..الخ.. سرعان ما تلقي (تلك المجتمعات المقموعة ذات الانتماءات القبلية المتناحرة) حمولتها العفنة، وتتقيأ موروثاتها الفكرية الصراعية، كما ظهرت لنا في المثل العراقي الذي قامت أمريكا –كبلد محتل- بكشف الغطاء (قسرياً لا طوعياً) عن المعالم والمواصفات والطبائع الحقيقة التي يتقوم بها وعليها المجتمع العراقي، والتي انفجرت إلى السطح، وتمظهرت في خلافات مذهبية وتناحرات وصدامات طائفية وحالة الحرب الأهلية شبه الدائمة المتنقلة من مدينة إلى مدينة، ومن حي إلى آخر، ومن مسجد ومعبد وكنيس إلى آخر..

ويبدو لي أن من أهم أسباب تعثر الحداثة العربية، هو عدم توفير بنية تحتية ثقافية لها، واقتصار الموضوع برمته على محاولات استهلاكية من هنا وهناك لنقل وشراء منتجات ومظاهر الحداثة الغربية فقط، دون الذهاب بعيداً إلى فهم وإدراك المعطى والمناخ الثقافي وجدلية الأفكار التي رافقت التطور الغربي منذ بداياته الأولى، وكذلك دون حدوث أية مساجلات معرفية وشعورية وحفريات نقدية حقيقية جريئة في مجمل التراث الهائل من الأفكار التراثية والآداب والفنون والنصوص والوقائع والأحداث والتواريخ التي لا تزال تتحكم بمصائرنا ووجودنا، ومن دون أن يكون لنا أية مسؤولية أو دور في صنعها وإنتاجها.

طبعاً لا بد من التنويه هنا بأن التراث الغربي كان بمثابة الوقود الحقيقي لقطار الحداثة الغربية الذي انطلق بقوة بعد صدام معرفي وعملي واسع حدث مع الثقافة التقليدية السائدة آنذاك، وانتهى الأمر إلى انتصار قيم الإنسان والعقل، وتحقيق حضارة زاهية مشدودة إلى قيمة الإنسان كفرد مقدس له وحده من خلال عقله –وليس من خلال النص الديني- الحق الكامل، وعليه المسؤولية في التنظيم والبناء والإعمار وإنتاج الحضارة المادية بكل أبعادها وتجلياتها.

فعلى المستوى الفكري إذاً كان العقل هو محك الفكر والعمل، وكانت التجربة هي مقياس الصدق والنجاح في المستوى العملي، وأما على المستوى السياسي فقد كانت الفكرة الديمقراطية إحدى أهم الأفكار التي أنتجتها مخيلة الإنسان كآلية سياسية لإدارة الشأن العام وتسيير مختلف شؤون المجتمع بصورة سلمية بعيدة عن العنف المادي والرمزي، وإقامة نظم سياسية على أساس تداول السلطة وليس تأبيدها لصالح هذا أو ذاك.. وأما على المستوى العملي فقد ركزت الحداثة على الليبرالية من حيث كونها إطلاق لحريات الناس بصورة كاملة على مستوى التعبير عن الرأي وعلى مستوى حقهم في التنظيم السياسي وعلى مستوى إفساح المجال للحافز الفردي لكي ينطلق في مختلف مجالات التنمية الاقتصادية.

ولكن الملاحظ عندنا نحن في داخل اجتماعنا السياسي العربي أن العرب لم ينفتحوا على الحداثة بمعناها الحقيقي كما ظهر في الغربي تحت حجج وذرائع وتبريرات واهية لا أساس لها من الصحة العقلية أو العلمية أو الواقعية.. بينما ساروا كما ذكرنا في طريق التحديث أي محاولتهم تطوير المجتمعات العربية بشيء من مظاهر الحداثة كما سلف القول.. ومن دون الدخول المباشر إلى جوهر الحقيقة الحداثوية وهو العقل والحرية.. بل بقي عنصر الاستبداد حاضراً بقوة في كل مظاهر وأنماط وأشكال التحديث القسرية التي تبنتها وأقامتها الدولة العربية الحديثة منذ حوالي سبعة عقود.. ومن المعلوم أن الاستبداد كما قال عنه الكواكبي هو أصل كل فساد، إذ يضغط على العقل فيفسده ، يلعب بالدين فيفسده، ويغالب المجد فيفسده، ويقيم مكانه “التمجد”.. كيف لم ننتبه أن الاستبداد أس الفساد وهو الكلمة المفتاح لكل حياتنا العربية فى هذه اللحظة؟!!

فمجتمعاتنا العربية محكومة بالفساد والاستبداد، ولا تزال تهيمن عليها ثلاث سلطات رئيسية هي:

أ- السلطة الرسمية (الحاكمة): التي تعمل على تطويع وقسر الفرد (وبخاصة الفرد المثقف)، واعتقال فكره وعقله لصالح مقولاتها القبلية بمختلف الوسائل الترغيبية والترهيبية (معنوياً ومادياً)، كمحاولة شراء ضميره وقلمه، أو محاربته بلقمة الخبز أو بالعزل والاتهام والسجن أو بالنفي والاستبعاد من خلال اتباع سياسة ” القمع البوليسي الأمني والفكري الأيديولوجي”.

ب- سلطة العادات والتقاليد الاجتماعية: التي أضحت مع مرور الزمن ديناً قائماً لوحده. أصبح له دعاته ومناصروه في كل حدب وصوب.

ج ـ السلطة الدينية المزيفة (وعاظ السلاطين): المتحالفة مع مراكز السلطة السياسية والأمنية من أجل الوصول إلى المصالح الذاتية المشتركة التي لا يمكن أن تتسع دوائرها إلا من خلال الإبقاء على حالة التخلف الفكري والنفسي، وتكريس واقع التبعية والاستلحاق التي يرزح تحته أبناء المجتمع كلهم.

وحتى نتمكن في داخل مجتمعاتنا المأزومة بهيمنة العصائب الثلاث المذكورة، من تفكيك عراها وتحطيم مكوناتها، وضخ الأمل في نفوس الناس بحدوث تقدم عملي وصناعي مستقبلي لاحق، وليس مجرد قشور حداثية لا تغني ولا تسمن من جوع، فإن الأمر مرهون –ليس فقط بمدى قدرتنا الفكرية والعملية على الاستجابة الفاعلة لتطورات الحياة والزمن- وإنما مرهون أيضاً -وبشكل أساسي- إلى ضرورة إحداث تغييرات هائلة على صعيد الحكم والسلطة والمشاركة والحرية …الخ. لأننا لن نستفيد من أي تطور عملي يمكن أن توفره الحضارة الحديثة إلا إذا ساهمنا وشاركنا في إنتاجه وإبداعه، ومن باب أولى فهمه ووعيه.

ونحن لا يمكن أن نطور العلم وننتج منجزاته الحديثة مع وجود واتساع قاعدة عقلية القبيلة المتحكمة بوجودنا، والتي يعمل أصحابها على تدمير أي فرصة لربط –مجرد ربط- البلاد العربية بتيارات التقدم العلمي والتقني..

إننا نتصور أن غياب السياسة الصحيحة وغياب الإدارة السياسية الملتزمة هما تعبيران عن غياب المصلحة في الإصلاح لا غياب القدرة أو الإمكانية عليه. ومصدر ذلك هو أن المنطق المحرك لهذه النظم ليس النفع العام، ولكن الحفاظ على النظام، وعلى المصالح الخاصة التي تقف وراءه.

إننا نعتقد أنه عندما تفشل الدولة في كسب ثقة (ورضا وود) أفرادها ومواطنيها، ومد جسور التعاون معهم، والعمل المستمر على تحقيق مصالحهم وطموحاتهم  وتطلعاتهم من خلال اعتماد مشروع استنهاض سياسي واجتماعي يعبر عن آمالهم وعن نسيجهم الحضاري، بما يحفزهم للمشاركة الشاملة في عملية التنمية الفردية والجماعية.. أقول: إن عدم تحقيق كل تلك الآمال التي تتناقض مع مصالح النخبة السياسية الحاكمة العامة على أهداف ذاتية معاكسة تماماً لأهداف الجماهيرسيحول الدولة (وقد تحولت فعلياً) –عندما تعمل على ترسيخ شعاراتها ووجودها– إلى مجموعة إقطاعات ومزارع خاصة لها أفرادها وأزلامها الدائرين في فلكها، وعندئذ تطفو على السطح ظاهرة جديدة التشبيح السياسي والاجتماعي التي لها دعائمها ورموزها الذين يعملون على تحويل الدولة إلى مجموعة ارتهانات واستثمارات ربحية نفعية خاصة.

© منبر الحرية،27 نونبر/تشرين الثاني2011

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018