كانت الساعة تقترب من السادسة والنصف صباحًا، كنت نائمًا كالعادة، وجاء صوت صراخ قاطعًا هدوء الصباح، فما كان منى إلا أن هرعت نحو الشرفة بدقات قلب سريعة وعينين مفتوحتين، محاولا التعرف عما يدور بالشارع، رأيت رجلين ممسكًا كل منهم بالآخر وفي حالة عراك، أحدهم كان يغطى وجهه الدماء، صراخ النساء وسباب الرجال كان يتعالى، تأسفت لحالهم ولم أستطع أن أفعل المزيد. دخلت مرة أخرى لغرفتي محاولا الإمساك بطرف النوم ولكنه كعادة هذه الأيام يهرب دون عوده.
بعدها بساعات سألت أختي لماذا كان هذا العراك، كان ردها لي “ده كان علشان طابور العيش”. تختلف المواقف كلية حين تقرأ عنها في الصحف وحين تحياها، فحين تحياها تتعدى كونها مجرد كلمات وسطور في جريدة وإنما تبقى عالقة في الذاكرة بصورتها كما هي لا تتحرك.(كان هذا الموقف في صيف عام 2009) عاد هذا المشهد إلى ذهني مع الأخبار العديدة التي يتم نقلها حول معارك تتم للحصول على أنابيب البوتاجاز أو صور للسيارات المتوقفة بالساعات أمام محطات الوقود.
يبدو منطقيًا لمن هم في مثل حالتي الانضمام المباشر لصفوف المطالبين بسياسات زيادة الدعم ولوم الدولة على عدم توفيرها لخبز كاف، وأن دماء الرجل التي أسيلت أو ربما حياته التي كانت قرب قوسين أو أدنى من الانتهاء تمت بسبب تقاعس الدولة عن عدم توفير ما يلزم من حياة كريمة للمواطنين، وأن أرى في أطروحات الاقتصاد الموجه الذي تقدمها النخب المصرية – على اختلافها – مخرج للحفاظ على حياة القطاعات الأفقر في المجتمع.
بينما يبدو اختيار الإيمان بأفكار الرأسمالية بعيد تماما عما عايشته، خاصة في ظل خطاب عام يرحب بتدخل الدولة في كافة نواحي الحياة، وتجدر السخط على أفكار السوق الحر في ظل غموض يكتنفها وسوء تفسير يُقدم لها، والذي يتمثل أفضلها في “التيار الليبرالي المصري” الذي يرى أن الرأسمالية نوعين، أحدهما حميد وهى الرأسمالية الوطنية والآخر خبيث وهى الرأسمالية الغربية.
ولما كان ذلك غريب للمقربين مني، فكانت الأزمة الحالية للطاقة فرصة طيبة للحديث حول كيف أنني أجد في الرأسمالية حل منطقي لمشاكل الفقر وخروج من سيطرة السياسيين على حياة الأفراد وإعطاء الأفراد أكبر مساحة من الحرية الفردية.
لنقل أن الرجلين المتعاركين هما ” أحمد السباك” والآخر “محمود الجناينى”. أحمد يتقاضى أجره باليومية ولا ينتظم فيه نتيجة طبيعته وأيضا لحالة المعمار التي تتحرك ببطء مما أثر على دخله بشكل سلبي، أما محمود فبحكم عمله لا يوجد لديه يومية وإنما حسب العمل المطلوب منه ومؤخرًا تقلص حجم المتعاملين معه بعد اقتناع عدد منهم أن الاستهلاك شيء معيب ويجب التخلص منه، وأن على الناس الاستهلاك في أضيق الحدود وفي الأمور الرئيسية للحياة وبالطبع لم يكن التشجير شيء منها. دفعتهم حالة كل منهم إلى هذا العراك.
المطالبين بزيادة الدعم، يتلخص موقفهم في أن على الدولة توفير دعم أكبر لما تحتاجه هذه الطبقة، وفي هذا الطريق على الدولة أن تحصل مبالغ أكبر من الأغنياء لصالح هذه القضايا. يبدو ذلك غاية في العدل، ولا ضرر منه على الإطلاق، ولكن في الواقع هناك من المشاكل التي تسببها سياسات الدعم ما ينتهي بها إلى أضرار للفئات المستفيدة ودونها من فئات أخرى.
في حالة الدعم، ولان الدولة لا يمكنها أن توفر النقود المطلوبة للدعم إلا من خلال المواطنين، فذلك يعنى بالضرورة أن عليها فرض ضرائب أعلى، مما يعنى أمر من اثنين إما زيادة في نسبة البطالة أو زيادة في الأسعار وفي الحالتين سيكون أكبر المتضررين هم القطاعات الأفقر، ولكن الحديث عن نسب الضرائب العليا حديث غير.
رجوعًا إلى توضيح الضرر من سياسات الدعم، حين تقوم الدولة بدعم منتج ما، فهذا يعنى التدخل في ألية تسعيره، مما يعنى ذلك ثلاثة أمور:
أولا: زيادة في نسبة استهلاك الموارد الطبيعية، ففي حالة أحمد ومحمود السابق ذكرهما، فإذا كان سعر الخبز هو جنيه واحد طبقًا لسعر السوق، وقامت الدولة بدعمه ليبقى خمسون قرشًا، سيزيد ذلك من نسبة استهلاكه من قطاعات أكبر لرخص ثمنه، أو لاستخدامه كعلف للحيوانات، أو لبيع الدقيق في السوق السوداء لان أصحاب المخابز سيحصلون على فائدة أكبر أو إذا كان المخبز حكومي سيستفيد القائم على إداراته بدخل مادي أكبر، وهذا كله سيعنى بالضرورة إلى استهلاك وإهدار الموارد الطبيعية. وعدم توافر الخبز إلى الفئات المستهدفة.
ثانيا: التأثير على الصناعات المرتبطة، في حالة ذهاب عدد من صغار التجار إلى استبدال علف الحيوانات بالخبز، نتيجة رخص ثمنه عن العلف، سيؤدى هذا بتجار العلف إلى رفع الأسعار لتعويض الخسائر من الاستهلاك القليل، مما سيجعل تكلفة تربية الدواجن على التجار الكبار أعلى وسيعنى ذلك ارتفاع أسعار الدواجن على الموطنين مما سيؤدى بالضرورة لارتفاع سعرها على الفئات التي استهدفها الدعم في بادئ الأمر.
ثالثا: زيادة في حجم الدولة، في حالة ذهاب أصحاب المخابز والعاملين في الدولة إلى بيع الدقيق في السوق السوداء، ستضطر الدولة إلى التعامل مع هذه المشكلة، عن طريق محاولة وضع مراقبين أكثر على عملية توزيع وإنتاج الخبز، مما سيؤدى إلى ارتفاع مصاريف الدولة وسيؤدى هذا بالطبيعة إلى فرض مزيد من الضرائب وسيعود هذا بنا إلى زيادة في الأسعار أو زيادة في البطالة.
على الجانب الآخر تقدم سياسات الرأسمالية والليبرالية الكلاسيكية على السواء في هذا الشأن، أمرين:
أولا: ضمان المنافسة بين أصحاب المخابز ومنتجي الخبز مما سيعنى بالضرورة، زيادة نسبة طلب العمل على “أحمد” و “محمود” لعملهم في بناء المخابز أو منازل أصحابها أو العاملين بها أو دون ذلك من الأعمال مما سيرفع من دخلهم وسيؤدى ذلك إلى ضمان حصولهم على نسب الخبز التي يحتاجونها، وسيؤدى هذا بمنتجي الخبز إلى تقديم أنواع مختلفة من الخبز بأسعار تناسب جميع الفئات الغنى والفقير على السواء وسيرفع ذلك نسبة الضرائب نتيجة زيادة نسبة الأعمال وتقليل نسب البطالة نتيجة زيادة نسبة المخابز التي ستتنافس لتوفير خدمة الخبز للمواطنين. ويكون دور الدولة الوحيد هو ضمان عدم وجود أي ممارسات احتكارية.
ثانيا: العمل الفردي والطوعي لمساعدة الفئات الغير قادرة، بمعنى أوضح، تنطلق الليبرالية الكلاسيكية من أن على الأفراد تحمل المسؤولية طوعًا لا قسرًا، وأن كل محاولات دفع الأفراد إلى تحمل المسؤولية بشكل قسري يؤدى إلى نتيجة عكسية، وفي هذا الشأن يبقى على الأفراد المهتمين إقناع أكبر قدر من المواطنين بالمساهمة في رفع معاناة الآخرين سواء في الخبز أو غيره من المشكلات، ومع ارتفاع دخل الأفراد نتيجة زيادة أعمالهم والتوسع فيها سينعكس ذلك على نسبة المتبرعين وزيادة نسبهم.
إن الحالة الأولى نتائجها واضحة، سواء في الواقع أو التاريخ أو النظرية ذاتها، والحالة الثانية بالمثل.
ختامًا سيبقى هناك فقراء وسيعانى الكثير من البشر مادامت البشرية على سطح البسيطة، يبقى همنا الأكبر هو تقليل مساحة المعاناة، لأنها لن تلغى.
محمد فاروق كاتب من مصر,
© منبر الحرية،29 يناير/كانون الثاني2012
One comment
محمد
18 فبراير، 2012 at 12:47 م
طيب بعيدا عن كل الحكاية دي مفيش حل واقعي طلع من المقال, الكلام عن المنافسة طيب مه في منافسة فعلا ف المخابز و النتيجة كانت ان 4 ترغفة بقوا بجنيهة.
تاني حاجة الجملة جات صريحة ان الحل هو ف التبرع و عمل الخير الاختياري من الاغنياء يعني دور الدولة و الناس يكون الف بالفقراء ع الاغنياء تقلهم والنبي ادولهم رغيفين.
طيب مهو امريكا اكبر الدول رأسمالية و القائمة ع التبرع شفنا فيها مظاهرات اللي بتقول ده غلط وحتي الاغنياء طلعوا حملة Tax Me عشان يخلوا الحكومة تزود عليهم الضرائب.
وبعدين كده احنا بنتعامل مع المجتمع برومانسية ولا اكننا عايشين ف يوتوبيا ماركس, ان الغني الحلو اللي بيحب الفقير و بيحب عمل الخير هيتبرع كل شوية ب”جزء” من فلوسه للناس الكادحه وكله يعيش ف تبات و نبات.
اعتقد ان الرؤية الوردية للسلام الاجتماعي ده و تبادل الفلوس بالسهولة دي نوع من انواع اليوتوبيا, ومن وجهة نظري هو اعتراف كامل بان الرأسمالية عاجزة عن توفير الغذاء ع سبيل المقال للجميع وبتقول ادي سنه الحياة.