شاع في العالم العربي خطابٌ نمطي تبريري يستند إلى مقولة المؤامرة لفهم وتفسير طبيعة ما يجري من تحولات بنائية دخلها العالم العربي متأخراً، حتى أصبح من الممكن إطلاق نعت (الظاهرة) بالمعني السوسيولوجي الدقيق على خطاب المؤامرة، الأمر الذي يحتاج إلى تأويل.
ينطلق المقال من مقولات يحاول البرهنة عليها، وهي: يحمل خطاب المؤامرة رؤية معرفية للإنسان والمجتمع العربيين، إذ يراهما وفق رؤية معرفية كامنة غير معلن عنها تكشف عن تصورات معينة للوجود السياسي. وتتسم هذه التصورات المضمرة بأنماط ثابتة وجوهرانية، فالمضمر هنا هو أن بنية المجتمع العربي تتسم بالركود والثبات، والسرمدية، تعيد إنتاج ذاتها، وتدور في حلقة دائرية مغلقة من التطور، لا مجال لتحولات نوعية من نظام مجتمعي إلى نظام مجتمعي آخر. وفق هذه المقولة، فالإنسان العربي خارج التاريخ، وخارج الصيرورة الكونية، يتسم بفرادة استثنائية. وترى الرؤية المعرفية هذه، أن عقل الإنسان العربي عاجزٌ عن إدراك العالم وتحديد خياراته، فهو عقيم معرفياً، بحاجة إلى عقل يدرك بدلاً منه، ويحدد له خياراته وطريق الهداية والرشاد. هذه التصورات هي تمظهرات لوعي يشتق معرفته من مصادر ذاتية، أي وعي ذو اتجاه واحد لا يرتد إلى نفسه. كما يخدم خطاب المؤامرة مصالح طغمة ترتبط ببنية السلطة المحافظة، ويستبعد إدراك الآخرين ويهمل مصالحهم. ويؤدي هذا النمط الخطابي وظيفة معينة هدفها الأسمى هو استبقاء النظام الكائن، وإعادة سيادته على الواقع، وإبقاء وتقوية الحاكم أبدياً على السلطة، فضلاً عن مقاومة التغيير المنشود. أما المواطن فلا قيمة له ويترك لمصيره المشؤوم. وأخيراً، يعكس خطاب المؤامرة في هذه المرحلة الثورية، التي دخلها العالم العربي أزمة وجود، فهو يعكس مجموعة من العوائق والمشكلات والعراقيل والتوعكات التي تعاني منها الأنظمة الحاكمة ومن دار في فلكها من الطبقات المستفيدة، والتي تشل حركته العادية وتخلخل صيرورته، وتجعله محدود القدرة والفعل، غير مستجيب بشكل فعال لمجمل المطالب والغايات والمقاصد، التي من المفترض أن يسير في اتجاه تحقيقها. وعليه فهو خطاب مأزوم ويعبر عن أزمة هيكلية تمس صميم وجوده، وغير متسق مع احتياجات ومطالب الوجود السياسي العربي، وما خطاب المؤامرة إلا أحد ميكانيزمات الدفاع عن صيرورة وجوده الزمانية والمكانية.
وسوف يتم تفكيك نظام خطاب المؤامرة من خلال جملة من التساؤلات، نراها تشكل نظاماً يلملم المشتت ويجمع المتفرق داخل خطاب المؤامرة، وتجعل منه بنياناً قائماً، وهي على النحو التالي:
1- من هم الفواعل المتشاركة في خطاب المؤامرة؟
إنه الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي ومن يدور في فلكه الذي يروج مجموعة من الأفكار السطحية والمتهافتة حول المؤامرات التي تحاك ضد البلدان التي خاضت شعوبها ثورات متتالية ضد الأنظمة العربية الحاكمة، وأن القيادات السياسية المتحكمة في مفاصل النظام السياسي هي من تتصدى لهذه المؤامرة بالحكمة والتعقل والذكاء الاستثنائي. هنا افتراض، أو إن شئت الدقة، مسلمة مضمرة، تصور الطرف المتلقي (الشعب) كأنه قاصر لا يمتلك أهلية الفهم والإدراك، يمكن التلاعب به وتغريره، وطرف آخر (الفاعل الرسمي أو الأنظمة الحاكمة وأتباعها) يصور نفسه بالرشد والذكاء، طرف عاقل مطلع على الأمور ما ظهر منها وما بطن، يتحدى العالم بغية حماية شعبه، وطرف قاصر ضعيف الإدراك بحاجة لمن يرشده إلى طريق الصواب.
2- ما هي تمثلات أطراف الخطاب؟
لأطراف أي خطاب تمثلات مشتركة للمعايير والتخطيطات والسيناريوهات والأدوار التواصلية في عملية (التبادل) التواصلي بين أطراف التواصل الخطابي، لكل طرف هويته يقوم بدور معين في النسق التواصلي (فعل- رد فعل). ولكن الحاصل أن هذه القاعدة، يصعب تماهيها بالكامل في خطاب المؤامرة، حيث نجد أن الحوار التواصلي بين أطرافه (المرسل- المستقبل) مفقود، بل إن الحاصل هو أن الخطاب ليس تواصلياً يتضمن فاعلين يدخلان في عملية تبادل تواصلي، وإنما بين هويتين منفصلتين مكتملتين، تفترضان ضمناً غياب التبادل والتفاهم المشترك، ليس هنا فعل – رد فعل، وإنما فعل أحادي قاطع متعال يستبعد الطرف الآخر ويطمسه ويهيمن عليه، ويمسي خطابه واحدياً قاهراً، يصور نفسه كأنه يتمثل الكل والعام، ويغيب الخاص الذي لا وجود له، إنه الكلي الذي يطمس الحدث، والمتعالي الذي ينكر الواقع ويتجاوزه، يمسي ذاتاً كلية الحضور. وتنتفي هنا التغذية الراجعة، حيث سيادة الأحكام النهائية القاطعة الثابتة، تنفي الآخر وتهمشه وتقصيه من عملية التفاعل التواصلي، ليس هنا إلا الذات المتعالية الكاملة. فتغيب الاستجابة الطبيعية ضمن نظام يعيد للمعطى جزءاً من نتائجه، فينقطع سير الفعل التواصلي الطبيعي والسليم، وينتفي التعديل والتقويم وتصحيح مسار العمل الجماعي ليستجيب إلى هوية الفاعلين في ممارسة أدوارهم داخل نسق التواصل الإنساني، وتحديد ما يمكن أن يفعلوه معاً، أي أهداف التفاعل وتصوّرها بطريقة تجعلها تزداد توافقاً، تمكن الوصول إلى أهداف مشتركة لتحديد مسار العمل الجماعي، وإعادة بناء وجودهم. لكن خطاب المؤامرة ينفي هيكلة العمل التواصلي، أي ينفي المشاركة الجماعية، يلغي المعنى، والتأثير المتبادل بين الفاعلين، تنتفي العلاقة بين الدال والمدلول، فلا يحصل المعنى ولا تتحصل المعرفة، ولا تضبط الهوية، فتغيب سياسات المعايير المشتركة، ويبقى الفعل التواصلي مصوباً بلا أهداف جماعية، وبلا تعديل أو تصويب لتعرجات عملية التواصل، وبلا مشروع محدد الغايات، لأنه يبدأ من أعلى ولا يرتد إلى ذاته.
3- ما آليات الحجب والستر في خطاب المؤامرة ؟
يمارس خطاب المؤامرة حجباً ثنائياً، يحجب ذاته الحقيقية ويتوارى خلف مقولات تخفي ماهيته، ويحجب ما يتكلم عليه، أي ما يتصور أنه الحقيقة المتعالية. فهو يحجب طبيعة السلطة الاستبدادية، ويخفي حقيقة التمركز الذاتي حول الحقيقة والعقيدة والهوية والذاكرة التي يدافع عنها، وهي حقيقة خاصة وشخصية، أو حقيقة جزئية وفردية، ويقدمها بوصفها الحقيقة الكلية والعامة أو المجردة. وهكذا، ففي الوقت الذي يحجب الخطاب ذات الفاعل ويستغرقه في الذات الجماعية أو الكلية المزعومة، يخفي مبنى قوله، أي ما يسكت عنه في أنه يدافع عن الذات المتعينة وليست المجردة، والفردية وليست الكلية، والخاصة وليست العامة، يخفي شهوته بالسلطة، ويدافع عن مصلحته الفردية، يدافع عن مرجعيته، عن سلطانه، ويتصرف إزاء الطرف المتلقي، وهنا هو الشعب الثائر، بوصفه أولى منه بنفسه، يمارس سلطته عليه، يمثل مصدر النهي والأمر، يمارس سلطته على غير ما هو، يدعو ويمارس الاستبداد في الواقع، ويدعو إلى ممارسة الحرية، يخفي ذاته وراء بنية استبدادية، يمارس إمبرياليته وراء تصورات خطابية لا تنفك تحجب حقيقة الخطاب، يتفوه بالحرية من وراء بنية استبدادية. والحجب الثاني الذي يمارسه خطاب المؤامرة، هو ما يبغي إيصاله، أو ما يتكلم عنه وما يتصور أنه الحقيقة ذاتها التي لا يعلمها إلا هو، ويحولها إلى شيء أحادي مطلق يتعالى على حديثه، يدعي أن المستهدف هو الوجود الجماعي العروبي أو القومي أو الإسلامي، من قِبل الآخر الصهيوني أو الغربي الإمبريالي أو الصليبي، وما يقوم به الفاعل أو الخطاب بالذات المدافعة عن كينونة الجماعة ووجودها الزماني والمكاني، دعوى لالتحام الفردي بالكلي، والخاص بالعام، والشعب بالنظام.
4- ماهية الإدراك ومصدر المعرفة في خطاب المؤامرة
يستبطن خطاب المؤامرة منظومة معرفية ذات سمات معينة، تجد مركزها في الذات المطلقة، تجد مرجعيتها في إطار الواحدية، تأخذ مصادر المعرفة من الذات المتعالية المنفصلة عن الموضوع، ليست المعرفة هنا تمثلاً للموضوع كلياً أو جزئياً، أو هي علاقة تفاعل جدلي بين الذات والموضوع، وإنما هي معرفة تُغّيب الموضوع وتدور حول ذاتها ولذاتها، إذ تلتقي حول الذات الأبعاد الجزئية والفردية، ولا تراها في تواصلها مع سياقها التاريخي الموضوعي الكلي، تلغي الموضوع لحساب الذات، والعقل لحساب الحدس، وتغرق في خطاب الخصوصية والتفرد، وتضفي عليها صفة الإطلاق، وتصبغ على موضوعها صبغة النسبي والمزيف، وتفرض الذات على الموضوع قسراً، بحيث يصبح المواطن العربي مدمجاً مع غيره في كتلة واحدة صماء لا تمايز فيها. وهنا يتحول الموضوع إلى كتلة مصمتة بلا كينونة وبلا هوية متوحدة بالذات المتعالية، وفق شروطها ورهاناتها ومنطق اشتغالها. وطبقاً لهذا المنظور، فإن السلطة والطاعة والخضوع إنما ينحسر لها حتماً ومطلقاً أبداً في إطار عقيدة جامحة، وهو ما يشكل إطار التعامل مع موضوعها الذي هو الأمة المحكومة لها أبداً، فالخضوع داخل شبكة العلاقات الاجتماعية ليس مرتبطاً بالشرعية ودولة القانون والمواطنة ومجمل قيم الحداثة السياسية، وإنما يتمركز حول هذه الذات المتعالية التي يستسلمون لطاعتها بالإكراه أو من دونه. ليست المعرفة هنا انعكاساً لشيء ما في الوعي، أو هي تتشكل وفق عملية تفاعل جدلي وإنما هي تدور في الذات وحولها بمعزل عن موضوعها، إدراك متعال غير تجريبي، وإنما فطري محض، من دون ترابط التصورات الإنسانية والاحتفاظ بها وإعادة تقويمها، فهي حالة فطرية تتمركز على مصالح الذات الشخصية، وليست على مصلحة الكل أو مصلحة الآخر أو المجتمع، إنها مثالية مغرقة في ذاتيتها، إذ يملك أصحاب هذه الخطاب والمدافعين عنه، وعياً ذا اتجاه واحد لا يرتد إلى نفسه. يترتب عل كل ذلك، استبداد سياسي، ودولة كليانية أو شمولية، يتوحد فيها الشعب (الموضوع) مع الحاكم (الذات)، وتمسي الدولة هي ذات الحاكم، والحاكم إلى الأبد. ويمسي المجتمع مختزلاً في الدولة، والدولة مدمجة في بنية النظام، والنظام متوحداً مع الحاكم، ويمسي النظام أقوى من الدولة والمجتمع والحاكم أقوى منهم جميعاً. وهكذا يستأثر الحاكم بالمؤسسات السياسية ويسخرها لصالحه، أما المواطن فهو ضعيف، ملحق، فقير، متهالك.
5- ما تصورات الأمة في ذهنية خطاب المؤامرة؟
يترتب على ماهية الإدراك ونسق المعرفة في خطاب المؤامرة، نتائجٌ خطيرة، تدور حول تصورات ذهنية تلصق بالأمة والإنسان العربي القابع تحت نظم حاكمة لا ترى إلا خطاب المؤامرة كتبرير لوجودها، ولإعادة تكريس شرعيتها المفقودة، وإنكار لواقعها الحقيقي الذي يبغضها. فطالما أنها تؤمن بوجود مؤامرة خارجية ترمي إلى تقويض النظام وهدم الدولة، فهذا لا يعني إلا استبعاد وعي الأمة والمواطن العربي وإنكار لحاجاته ومطالبه الإنسانية، وكأن الطبيعي الذي ينسجم مع طبائع الإنسان العربي هو أن يقبل من يحكمه مرة واحدة والى الأبد، أما إن تحركت الشعوب ضد أنظمتها وثارت عليها فهذا ليس من شيم الإنسان العربي وطبائعه. فهو حسب منطوق هذا الخطاب خارج التاريخ، لا بل خارج الإنسانية، له خصوصيته المتفردة حتى اقتربت هذه الخصوصية إلى حد أن تنزع عن الإنسان العربي إنسانيته وحاجاته الطبيعية. فالديمقراطية ومجمل قيم التنوير والحداثة تخالف (طبائعه) الثابتة التي تشكلت واكتملت منذ عصر التدوين ولا تزال حتى تاريخه. فالمواطن العربي، وفق هذا المنظور، هو حيوان اقتصادي خالص لا يهمه إلا إشباع غرائزه، وطالما أن الاقتصاد الريعي والنفطي أشبعها فلماذا يطالب بحقوقه السياسية؟ ولماذا يثور إذن طالما أنه يعيش في بحبوحة اقتصادية؟ وعندما يثور تصبح ثورته غير مفهومة. وهنا يتم اختزال أبعاد الوجود الإنساني في بعد اقتصادي غريزي محض، كأن ليس للإنسان العربي حاجات أخرى كالحقوق السياسية، هنا ثمة تسوية بين الإنسان والأشياء. وهكذا، يضمر الخطاب صورة ذهنية مصمتة ومكتملة لبنية الشخصية العربية، حيث تتسم هنا بجوهر ثابت لا تتغير، فالنتيجة المترتبة على خطاب المؤامرة أن بنية المجتمع العربي بنية سرمدية، ثابتة، راكدة، تعيد إنتاج الركود والتخلف وتدور في حلقة دائرية مغلقة من التطور، لا مجال لتحولات ديناميكية تحمل التحول، أو التغيير تماماً كخطاب الاستشراق العنصري. هذه الصورة الذهنية، لا يقدر لها أن تستوعب التحولات الثورية في العالم العربي إلا وفق مقولة المؤامرة التي تمارس التعتيم والحجب والإنكار لطبيعة التحولات التي شهدها المجتمع العربي في العقود الأخيرة، فضلاً عن التحولات العالمية في عالمنا المعاصر من (ثورة الميديا) وتدفق الفضاء المعلوماتي، الذي ساهم بتشكيل العقل التواصلي، أي التواصل بين الشعوب والثقافات والتجارب واللغات والسياق الكوني الذي يشكل الركن الأساسي في إتمام النشاط التواصلي عبره، ناهيك عن طبيعة الأنظمة العربية الحاكمة وإخفاقها في مسيرة التطور والتحديث.
ولا يمكن لمنطوق خطاب المؤامرة أن يستوعب كل ذلك؛ لأنها مقولة تشتغل وفق صورة ذهنية ونظرة إلى العالم العربي، لا تولد إلا العقم الفكري والمعنوي. فثوران الشعوب ضد نظمها لا يعود إلى هذه الأخيرة، وإنما إلى فعل خارجي يتآمر على النظام الممانع الصلب الذي يتصدى للمشروع الكوني الإمبريالي الساعي لإلغاء الأمة الواحدة، والوحدة العربية وتحرير فلسطين، وما إلى ذلك من شعارات يتوارى خطاب المؤامرة خلفها لإعادة مركزة ذاته. وهذا يرتب عدم الاعتراف بقواعد ومرجعية تؤطر الفعل في الوجود السياسي، بل تصبح إرادة الأعلى أو الملك أو الرئيس هي القانون وهي المرجعية، ولا يخضع للمساءلة ولا للمحاسبة، ولا للمراقبة من أي نوع، وما على الأدنى أو المواطنين سوى الطاعة والامتثال. هكذا يقترب خطاب المؤامرة من التأليه، فهو يرهب الناس بالتعالي والتعاظم. ويتصور أصحاب الخطاب والمنافحون عنه من الحكام والملوك ومن حالفهم، أن بغيابهم تنتهي الحياة، وبانهيار أنظمتهم ينهار المجتمع، فحيوية الشعب من حيوية الحاكم، فهنا يتم التوحيد بينه وبين الناس في هوية واحدة، ويصبح الكل في واحد، وأي نقد لسلوك الواحد أو هجوم على سياسته، هو نقد وهجوم على البلد بأسره، لأنه هو البلد، واستهداف هذا البلد أو ذاك يعني، وفق هذا الخطاب، إحداث زلزال في المنطقة، وأن حرباً ضد هذه الدولة أو تلك تعني حربا شاملة.
6- كيف يتصور خطاب المؤامرة العالم؟
النظرة إلى العالم هي مجمل المعايير والقيم والتصورات التي تشكل مرجعاً لجماعة معينة في فترة تاريخية معينة، وهي صورة ذهنية عن الوجود أو الواقع الاجتماعي ترشد التوقعات وتحدد المواقف وتؤطر الفعل.
ولخطاب المؤامرة تصوره للعالم، وهو تصور رأسي، إذ يتجسم فيها علاقة ثنائية، طرف أعلى وآخر أدنى، الأعلى أكثر قيمة وشرفاً وعلماً وهداية ورشاداً، والأدنى أقل قيمة وأقل علماً وأقل معرفة. الأعلى معصوم من الخطأ، مقدس، على صواب مطلق، والأدنى يخطئ، وهو مدنس، وبحاجة إلى من يرشده إلى طريق الصواب. الأعلى يحكم، ويأمر وينهي، وعلى الأدنى السمع والطاعة والامتثال مطلقاً. ويظهر هذا التصور الرأسي في لحظات الضعف وعدم الثقة بالذات، وهذا ما نجده بالفعل من انتشار وهيمنة خطاب المؤامرة في لحظات الأزمات والخطر والتحديات الوجودية، وهو ما يعكس انعدام الثقة، وغياب العقل، أي غياب التمييز بين الحق والباطل، أو الخير والشر، أو في المعرفة السليمة، أو ملكة الرؤية النقدية، أو في إدراك الواقع.. إلخ من معاني العقل.
وهكذا تسير الحياة وفق هذا الخطاب من دون اقتناع ومن دون أمل حقيقي، ويمسي الفكر بلا قيمة، يحل محله الاستبداد والطغيان والعنف الجسدي والمعنوي، ويستوي الخير والشر، ويتفشى الانحلال، والنتيجة المؤكدة هي الهزيمة البشعة. وهكذا فالنتيجة المترتبة على التصور الرأسي لخطاب المؤامرة هي الاستبداد والطغيان ومن ثم غياب الحرية، وبغياب الأخيرة يغيب العقل والتفكير، وبالتالي الهزيمة الحتمية.
إضافة إلى التصور الرأسي، ثمة تصور آخر، وهو التصور الهرمي للوجود، حيث يوجد في القمة الملك أو الأمير أو الرئيس ولا يوجد سواه، والباقي هم مأمورون. فالحاكم يمثل الكل والباقي ما هم سوى أجزاء ملحقة به، فالكل واحد جامع مانع، فهو الأصل وما سواه يدنو من العدم، هو الأعلى وعامة الناس هي الأجزاء المتعددة المتشابهة، المتراصة المتجاورة، هم مأمورون، رعايا، ذرات تراب. هو الواحد والمؤله، والخير، والجمال، والحب، واليقين، والمقدس، والقمة. والقاعدة أو عامة الناس، مخلوقات أدنى، هم الحس، والعرفان، والمدنس، والقبيح. وهكذا، ويعكس خطاب المؤامرة تصوراً ثنائياً للوجود، بينهما تناقض وتنافر لا يجتمعان، حق مقابل باطل، أعلى مقابل أدنى، جميل مقابل قبيح، كامل مقابل ناقص، فضيلة مقابل رذيلة، لا تعايش بينها ولا انسجام، إذ بينهما هوة ساحقة. ويتولد عن ذلك انفصام وانفصال، بينهما عزلة أبدية. وهذا ما يفسر العنف والعنف المضاد بلا رحمة أو شفقة فليس هناك ما يربط بينهما. ويترتب على ذلك خلل في علاقة الذات مع الغير، فتختل علاقة النحن، وتتحول علاقة المجتمع بالدولة إلى إقصاء، ويتحول الأفراد إلى كتلة مادية صماء خالية من المشاعر والعواطف والقيم الإنسانية، يستوي فيها الإنسان مع الأشياء. وتتفشى ثقافة المكر والحقد والتشكك والضغينة ولغة التكفير والتخوين والإقصاء. هذه التصورات للعالم يحتكرها الخطاب ويوظفها بغية إعادة إنتاج نفس البُنى والأوضاع والتراتُبيَّات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية القائمة.
7- النتائج الأخلاقية المترتبة على خطاب المؤامرة ؟
يترتب على كل ما ذكر أعلاه نتائج أخلاقية، إذ يتولد عن مصدر اشتقاق المعرفة الذي يسم خطاب المؤامرة، أي الوعي ذو الاتجاه الواحد، أو إن شئت ملكة الإدراك والفهم التي تسير باتجاه واحد من أعلى إلى أسفل ولا يرتد إلى الوعي مرة أخرى، وافتقاد الخطاب إلى النسق التواصلي الطبيعي، فضلاً عن تصوره الرأسي والثنائي، نقول يتولد عن ذلك، نظام سياسي كلياني أو شمولي، يعمل في خدمة أجزاء معينة من المجتمع ويخصها وحدها بالامتيازات، ويسلب المواطنين حريتهم، ويفقدهم فرديتهم، واستقلالهم وتمايزهم، ويؤدي إلى عجن المواطن مع غيره من المواطنين في هوية واحدة، ليتحول الجميع إلى قطيع من الغنم. فيغيب الآخر من أفق الأنا، ويتحول إلى شخصية مستبدة تريد أن تفرض رأيها على الغير، لأن الفكر في خطاب المؤامرة (يسير باستمرار من طريق واحد من أعلى إلى أسفل ولا يرتد أبداً ليكون حواراً بين شخصيات متكافئة)، وهو ما ينتج نظاماً مضاداً للعلاقات التواصلية الإنسانية والعاطفية. وغياب التواصل بين الدولة والمجتمع، أو بين أصحاب الخطاب وموضوعه، أو تصبح درجة التواصل في أدنى مراتبها، من حيث القوة والتشابك والعلاقات، هو ما يولد انعزال المجتمع عن الدولة، وتقوم العلاقة بينهما على العداء أو إيثار العزلة والضغينة، فينتشر الفساد والزبائنية. وتختفي في هذا النظام المتمثل في خطاب المؤامرة، القيم الأخلاقية التي تميز الإنسان عن الحيوان باعتباره كائناً أخلاقياً. وهكذا، يحل الكذب محل الصدق، والرياء والنفاق محل الإخلاص والوفاء، والجبن محل الشجاعة.. إلخ.
وفي الختام، نطرح التساؤل التالي: أليس ما يتضمنه خطاب المؤامرة من تصورات مضمرة، والتي بيناها أعلاه، هو أخطر من المؤامرة ذاتها – بافتراض وجودها- على الأمة العربية؟
منبر الحرية،14 مارس/اذار2012