نوح الهرموزي27 أبريل، 20121
حسب العديد من المفكرين فإن العداء للحكومات أصولا في الطبيعة البشرية، وأخرى من تاريخ الحكومات والتجارب المتعددة التي أبانت عن تغول الحكومات واستبدادها وطغيانها. لقد جعل هذا الإرث العلاقة بين الأفراد والحكومات علاقة صراع ومواجهات غير منتهية، وحولها إلى طريقة للتحرر من القيود والأغلال والإكراه.....

بقلم: رشيد أوراز*

نجد أثرا لهذا الكره في كتابات الأقدمين، حتى ما قبل تشكل الدولة. لكن العصر الحديث أبان عن ازدراء الناس للحكومات بشكل متزايد، وعن تمردهم المستمر على كل أشكال الإكراه شرقا وغربا. لقد مكننا ذلك لأول مرة من أن نرى كرها للسياسة، حتى من طرف الأفراد العاديين ممن لا يستطيعون تقديم مبررات لذلك. لكن ألا يشكل هذا الكره جزءا من طبيعتنا البشرية؟

إن المطلع على نصوص فلاسفة الحرية، التي تضمنها كتاب (التشكيك في السلطة) الصادر عن دار رياض الريس، ضمن سلسلة مفاهيم الليبرتارية وروادها، سيجد ما يكفي من التفسيرات لهذه الوضعية القديمة الجديدة. لقد ركز هؤلاء بشكل أساسي على أن “للأفراد الحق في تحديد خياراتهم وتحقيق أهدافهم بشكل مستقل”، وهذا ما لا يسمح به وجود حكومات ترغب في توسيع أحجامها والتدخل في حياة الأفراد بشكل مستمر وموسع.

فمنذ العهد القديم، وبقدر ما كان الاستبداد –وهو أحد أشكال الحكومات الأكثر تغولا- بقدر ما كان شديدا، بقدر ما كانت مواجهته شديدة ومترسخة في أعمال كثير من الفلاسفة ورجال التاريخ العظماء. لقد قال داعية الحرية الإنجليزي توماس بين (1737-1809) مثلا أن “الرجال الذين يشعرون بأنهم قد ولدوا ليحكموا وأن الآخرين ولدوا ليطيعوا، سرعان ما تستبد بهم الوقاحة، والعالم الذي يتصرفون فيه يختلف ماديا إلى حد كبير عن العالم على إطلاقه، بحيث لا تتوفر لهم فرصة تذكر لمعرفة المصالح الحقيقية للآخرين…” إن هذا الوضع الذي يصفه توماس بين يفتح مجالا للصراع من أجل الحرية، ويجعل من السلطة هدفا مشروعا للتشكيك، بل مكروهة لأنها تحد حقيقي للحرية.

أما أليكس دي توكفيل (1805-1859)، الذي سخر جزءا كبيرا من جهوده في فحص ومعالجة موضوعات الحرية والديمقراطية، فقد عقد مقارنة خطيرة بين استبداد الأباطرة واستبداد النظام الديمقراطي الحديث. لقد بين دي توكفيل أن “طغيان الأباطرة كان عنيفا لكن مداه كان محدودا”، بينما يبدو الاستبداد في ظل الأنظمة الحديثة “أكثر شمولا وأقل وطأة، سيهين الناس لكنه لن يعذبهم” ويعتقد دي توكفيل أن الديمقراطية ليست حماية للأفراد من تغول الحكومات، فهو القائل بأن “الحكومات الديمقراطية قد تصبح عنيفة وحتى قاسية في فترات معينة من الهياج الشديد أو الأخطار الكبرى” وقد أبان التاريخ فيما بعد صحة الرؤى الثاقبة لدى توكفيل.

يعتبر دي توكفيل رجلا دقيق الملاحظة، وذو قدرة متميزة على وصف أحوال الأفراد والأنظمة، ما يجعلنا نعتقد أنه أمعن النظر كثيرا قبل أن يكتب أن “إرادة الإنسان لم تحطم، بل جرى تليينها وثنيها وتوجيهها. نادرا ما يكره الرجال على التصرف، ولكنهم دائما يمنعون من التصرف: قوة مثل هذه لا تدمر ولكنها تحول دون الوجود، إنها لا تستبد بهم، ولكنها تضغطهم، وتضعفهم، وتخمد جذوتهم، وتجعلهم ذاهلين، حتى يتحول كل شعب إلى ما لا يزيد على قطيع من الحيوانات المرعوبة المكدودة والحكومة فوق كالراعي”، إن هذا الحال لوحده سيجعل من السلطة في نظر أي فرد حر مصدرا للشر، وكيانا يُكره ويُواجه مثل أي عدو آخر. لكن ما الذي سيكونه انطباعنا لو علمنا أن دي توكفيل نفسه يقر أن “معاصرينا يرغبون في البقاء أحرارا”؟ سنكون ربما مؤمنين أن كره السلطة هو فعلا جزء من طبيعتنا البشرية، فلا جدوى لأن تقود بالإكراه أناس يرغبون في التصرف كأحرار.

في نفس المنحى، يعتقد الفيلسوف البريطاني جون استيوارت ميل (1806-1873) أن حجم الحكومة سبب رئيس لمواجهتها، إذ يقول أن “كل عمل يضاف إلى الأعمال الأخرى التي تمارسها الحكومة أصلا يؤدي إلى توسيع انتشار تأثيرها على الآمال والمخاوف ويحول بشكل متزايد عددا أكبر وأكبر من الجزء النشط والطموح من الجمهور إلى متطفلين على الحكومة…”، إن ما كتبه استيوارت ميل خلال القرن التاسع عشر، نراه اليوم يتحول من تطفل إلى مواجهة عنيفة أحيانا، بين الأفراد وحكومات متغولة، بين من يبحثون عن تحقيق الأهداف الفردية المشروعة ومن يعتقد أن بإمكانه تعويض إرادات وتوحيدها وتوجيهها قسرا.

هذه الأفكار عبر عنها الكاتب الأمريكي إتش. إل. مينكين (1880-1956) بشكل واضح لما كتب يقول أن “الرجل العادي يرى بوضوح بأن الحكومة شيء يقع خارج ذاته وخارج عمومية حياة رفاقه من الرجال الآخرين، أي أنها سلطة منفصلة ومستقلة وغالبا معادية، وهي فقط جزئيا في نطاق سيطرته ولديها القدرة على إلحاق الضرر به”. إن مينكين يعتقد بوجود “إحساس عميق بالعداء بين الناس والحكومة”، إحساس يخلق عدم الثقة، ويحول رجال الحكومة إلى “مستغلين ولصوص ورجال عديمي الجدوى”.

ربما لم تعالج علاقة الأفراد بالدولة بغزارة واستفاضة من طرف شخص آخر، كما قام بذلك الأكاديمي موراي روثبارد (1926-1995). إنه يعتبر “الحكومة والحكام والموظفين فوق القانون الأخلاقي العام”. ويعتقد روثبارد أن “الليبرتاريين يعتبرون الدولة المعتدي الأكبر والأبدي والمنظم ضد أشخاص وأملاك الناس”. ثم يلقي نظرة على التاريخ ليستنتج أن “النسبة الساحقة من جميع أعمال الاسترقاق والجريمة في تاريخ العالم قد تمت على أيدي الحكومة”.

يمكننا أن نخلص من خلال أفكار المفكرين الليبراليين الخمسة أن لعداء الحكومات أصولا في الطبيعة البشرية، وأخرى من تاريخ الحكومات والتجارب المتعددة التي أبانت عن تغول الحكومات واستبدادها وطغيانها. لقد جعل هذا الإرث العلاقة بين الأفراد والحكومات علاقة صراع ومواجهات غير منتهية، وحولها إلى طريقة للتحرر من القيود والأغلال والإكراه.

يتحول كره الحكومات وازدراؤها المنتشر في كل مكان تقريبا، وهو في اعتقادنا قاسم مشترك بين الأمم الحرة المتقدمة وغيرها المستبدة المتخلفة، يتحول إلى سلوك مفهوم، من ناحية طبيعة الأفراد ومن الناحية التاريخية. إذ تحفل الذاكرة الإنسانية بروايات شتى من الاستعباد والطغيان السلطوي، ولن ينتج ذلك سوى ميلا فطريا نحو التحرر من سلط هذه الحكومات، والانعتاق من ديكتاتوريتها الصامتة أحيانا والظاهرة أحيانا أخرى.

* كاتب من المغرب

منبر الحرية،26 أبريل/نيسان2012

نوح الهرموزي

الدكتور نوح الهرموزي: أستاذ الاقتصاد في جامعة ابن طفيل في القنيطرة بالمغرب.


One comment

  • mostafa

    28 أبريل، 2012 at 8:47 ص

    so nice mr.rachid i agree with the last idea

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018