كان للمؤسسة العسكرية وجنرالاتها دور إشكالي في حكم عدد من الدول العربية، أثار ولا زال يثير سجالات ووجهات نظر متناقضة تتلخص في ثنائية الرفض المطلق والتسليم بلا شروط بأحقية الجنرالات أو الجنرال الحاكم في القيادة. ويستدعي أنصار ضرورة حكم العسكر مبرراتهم من أن عمليات التغيير الثورية قادها عسكريون أنجزوا انتصارات باهرة لشعوبهم ومجتمعاتهم مشيرين بذلك إلى ونستون تشرشل والجنرال ايزنهاور على سبيل المثال، متناسين أن البريطانيين الذين صفقوا لتشرشل بعد النصر في الحرب العالمية الثانية لم يمنحوه أصواتهم أو تفويضاً مطلقاً في أول انتخابات برلمانية بعد الحرب. وغالباً ما تتم الإشارة إلى تجربة عسكر تركيا، الذين تدخلوا في شؤون الدولة حين أصبحت سفينة الدولة في رأيهم يحدوها الخطر، وانتهوا إلى أن يكونوا «بيضة القبان» للحفاظ على الدستور وتطبيقه.
ويؤكد أنصار حكم العسكر أن المؤسسة العسكرية في البلاد العربية هي أكثر المؤسسات أو المؤسسة الوحيدة الأكثر وطنية وتنظيماً مقارنة ببقية المؤسسات المدنية إن وجدت. ولذلك تحاط بجنرالاتها بهالة من القداسة والتبجيل بغض النظر عن إخفاقات هذه المؤسسة في حماية الوطن والمواطن في آن معاً. ولعل إطلالة سريعة على تاريخ الحروب العربية-الإسرائيلية تفيد أن الهزائم لم تدفع الجنرالات لاستخلاص العبر ونقد الذات فلم تشكل لجنة واحدة للتحقيق في هزيمة يونيو 1967، ومازالت وجهات النظر متضاربة حول سياقات وأهداف خطاب تنحي الرئيس جمال عبد الناصر وأيضاً حول “انتحار “المشير” عبد الحكيم عامر.
كما أن الانتصارات العسكرية الجزئية في حرب أكتوبر1973 من تدمير خط بارليف في سيناء وخط آلون في الجولان لم يترجمها الجنرالات إلى مكاسب سياسية، بل على النقيض من ذلك انقلبت تلك انتصارات الجنود الشجعان وتضحياتهم الجسيمة إلى هزائم سياسية ونجاحات إسرائيلية في تحقيق الأهداف السياسية لحرب 1967 ضمنتها خطوات وإجراءات “الرئيس المشير”، وكرسها “صاحب الضربة الجوية الأولى” في حرب أكتوبر1973 بحكم تسلطي مديد كبح، تحت شعارات مختلفة مقرونة بفساد كبير وهدر للثروات وارتهان للخارج أسس نهضة حضارية تليق بمصر وثقلها التاريخي الاستراتيجي.
بالمقابل، يسوق الرافضون لحكم العسكر مبررات كثيرة لرفضهم تمتزج بالتهكم والسخرية وجعل مصطلح العسكر مرادفاً لمعاني القمع والجهل والتخلف، وتقديمهم بصورة الطواويس المزدانة بنياشين حروب بونابرتية فاشلة أو دونكيشوتية. وأن كل ما يفهمونه من أدوات الحكم، هو العنف وكم الأفواه وخنق الحريات وملاحقة رواد الفكر من الديمقراطيين والمتنورين من أبناء الشعب. وأن الضرب بيد من حديد هو شعارهم دائماً، لضمان بقاء كراسيهم ومناصبهم ومصالحهم .
ومن مبرراتهم في الحالة السورية على سبيل المثال، أن الجنرالات قادوا في سورية منذ سنة 1949 حتى العام 2000 نحو 22 انقلابا وحركة تمرد أو عصيان وخاضوا صراعات مع الحكام المدنيين في الحكومات والبرلمانات وحزب البعث، فضلا عن انقساماتهم وصراعاتهم داخل المؤسسة العسكرية نفسها. وتنازل في 12 يناير 1958، أربعة عشر ضابطاً، يرأسهم رئيس الأركان العامة، عن استقلال سورية لصالح “ضرورة الإسراع بإقرار البناء الأساسي للوحدة الشاملة مع مصر، والمباشرة بتنفيذه فوراً، وتخطي جميع العقبات المصطنعة، من دستورية أو سياسية أو اقتصادية”( من مذكرة المجلس الأعلى للقوات المسلحة السورية، في 11 يناير 1958 إلى الرئيس جمال عبد الناصر). ثم انقلبوا على دولة الوحدة مع مصر. ويضاف إلى ما سبق الكلفة العالية للمؤسسة العسكرية لجهة حصة الإنفاق العسكري من الميزانية العامة للدولة.
ولعل أبرز انتقادات الرافضين لحكم العسكرتاريا وكذلك المطالبين بتحييد الجيش عن نزاعات أهل الحكم والشعب تتمحور حول سلبيات عسكرة المجتمع وظاهرة تحول الجيش من جيش حامي للوطن إلى درع للسلطة الحاكمة خلال العقود الخمسة المنصرمة تحت ذرائع تتعلق بالسيادة وكون ذراع ضارب للدولة التي هي في جوهرها أداة قهر طبقي.
وثمة مفارقة غريبة في المشهد السوري تثير الشكوك حول ركائز خيمة الاستقرار العتيدة، تتمثل في أن الانقلابات العسكرية السورية كانت في غالبيتها بلا دماء أو انقلابات بيضاء أوصلت الجنرالات بسلاسة إلى السلطة، بينما سلكت جميع أشكال الاحتجاجات والعصيان المدني الشعبية السورية المطالبة بتغيير أو إصلاح أنظمة الحكم دروب آلام وعرة سقط فيها ضحايا كثر في لجة فوضى السلاح والتسديد الخاطئ على دريئة أعداء الشعب.
* كاتب من سوريا
منبر الحرية،15 يونيو/حزيران2012