قبل كل شيء لابد من التأكيد على أن سؤالنا الذي عنونا به المقال، ليس تشكيكاً بأهمية التحول الديمقراطي الحقيقي الذي نرغب بوصول مجتمعاتنا العربية إليه بعد الذي حدث فيها من ثورات وانتفاضات عارمة دُفعت خلالها أثمان ليست قليلة لا بالمعنى المعنوي ولا بالمعنى المادي.. كما أنه ليس دفاعاً عن أشكال صورية غير ذات معنى من الديمقراطية التي كانت سائدة (وربما لا تزال) في بعض مجتمعاتنا ودولنا العربية من قبيل أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية” أو زمن “الديمقراطية المركزية” أو “المركزية الديمقراطية”، وغيرها من الشعارات والعناوين التي كانت تلك الدول الشمولية تولدها وتنتجها (أو تستوردها من دول المركز الشيوعي السابق!) وتستند فيها على أشكال مزيفة وديكورية من الديمقراطية تختزن تحتها حكم الاستبداد والتفرد بالسلطة، وهيمنة الحزب الشمولي الواحد القادم بقوة العنف والمحمي بأجهزة الأمن والمخابرات والعسكر..
من هنا اعتبارنا بأن نزول الناس في عالمنا العربي إلى الشوارع والساحات والميادين العامة وكسر حاجز الخوف وحلقات الاستبداد، وإعلانها بدء عصر الديمقراطية، من خلال الدعوة لتحقيقها وإنجازها، ومن ثم حشد الناس وبدء إجراء الانتخابات لاختيار النواب والممثلين لهم في مواقع السلطة التشريعية وغيرها… كل ذلك لا يعني مطلقاً أن الديمقراطية عندنا قد تحققت والتداول السلمي التعددي قد بدأ، وأن قطار التنمية قد انطلق وتحرك.. لأن الديمقراطية ليست شعارات نتغنى بها، ولا تعني فقط إجراء الانتخابات وانتخاب الممثلين عن الشعب، بل هي أساساً وقبل أي شيء آخر مقدرة الناخب أو الفرد الحر والواعي على الاختيار العقلي الصحيح الخالي من أي نوع من أنواع القسر والقهر والإكراه والغلبة والزيف الفكري والثقافي.. فلا ديمقراطية من دون أسس وقيم وثقافة ديمقراطية تجعل الفرد واعياً لما حوله ولمن حوله من أشخاص ورموز وأفكار وتيارات.. أي أن يكون الفرد صاحب اختيار عقلاني حر مصان بالقانون والدستور، وبعيد عن أي لون من ألوان الإكراهات المادية والرمزية المعروفة.. بحيث يكون مدركاً لكامل حقوقه التي يبتغي تحقيقها وإنجازها عبر مؤسسات الدولة من خلال المجالس الشعبية المنتخبة إرادياً.
وهنا نسأل: هل تتوفر مناخاتنا السياسية والثقافية العربية –التي انطبعت طويلاً بطابع الملك العضوض، وعقلية التغلب وولاية المتغلب الدينية البعيدة عن اختيارات الناس- على هذا الشرط الجوهري للبدء بعملية التحول الديمقراطي الحقيقي المنشود؟ أي هل أن الفرد العربي حر في اختياره عندما يذهب لتأدية واجبه (وحقه) الوطني إلى صناديق الاقتراع لينتخب هذا المرشح أو ذاك الحزب؟ هل يعلم عنهما شيئاً؟ وهل علمه بالمرشحين مدروس وقائم على اختيار نوعي حر؟ أم أن الأمر هنا مجرد تقليد شكلي أعمى، وحمى جماعية تقوم على تأييد هذا المرشح أو تلك الكتلة أو ذاك الحزب لمجرد رفعه شعارات مؤطرة ومزينة ومزخرفة بتلاوين وشعارات دينية أو لمجرد انتمائه لمجال تاريخي ديني محدد خاص بهذه الفئة أو تلك، أو لمجرد أنه يخاطب مشاعر وعواطف دينية خاصة؟!.. فهل الوعي وحرية الاختيار هي معيار الانتخاب في مجتمعاتنا السائرة نحو الديمقراطية حالياً؟.. ثم إن الناس عندما انتخبت وصوتت لكتلة علمانية من هنا أو كتلة إسلامية الطابع والفكر والامتداد من هناك، أدت لفوز تيار إسلامي مثلاً (كما حدث الآن في كل الدول التي نجحت فيها ثورات الحرية والكرامة) هل كانت تدرك تمام الإدراك بحقيقة برامج تلك النخب والأحزاب، ووعودها الانتخابية، ومدى القدرة والإمكانية الموجودة لديها على تنفيذ ذلك؟!!
نعم هذه هي الديمقراطية كآلية حكم وانتخاب يسمح لأصحاب التأييد الشعبي الأكبر والأعلى في الوصول إلى السلطة من حيث الإطار والإجمال العام، وهي تقضي هنا القبول بنتائج الصندوق بقطع النظر عن المقدمات والأسباب والدوافع ومستويات الوعي ومعايير الاختيار الصحيح.. أي أن قبول النتيجة مسألة أساسية لكل الأطراف واللاعبين السياسيين، مهما كانت المعطيات التي أنتجها هذا الصندوق.. ولكن هذا شرط لازم غير كاف.. لأن كفايته لا تتم، والتحقق الكامل للديمقراطية الحقيقية لا تنجز، من دون وجود ثقافة ووعي وحداثة فكرية تقوم على إعطاء الفرد حريته الكاملة في اتخاذ قراراته وتحديد مصائره بوعي وإرادة واعية كاملة من دون قسر فكري ديني أو غير ديني.. وهذا ما نراه ونعاينه في كثير من مجتمعاتنا حيث تستثمر الأديان والنصوص الدينية في الصراعات السياسية لمصلحة هذا أو ذاك، ولإسقاط هذا وتصعيد ذاك.. وعدم وجود الوعي والحرية قد يؤدي لتشويه العملية والفكرة الديمقراطية برمتها، حيث أنه من الممكن أن يؤدي الوعي الشعبي الساذج (المهيمن عليه من قبل نصوص وأفكار دينية) إلى صعود أفكار وقيم وطروحات متعصبة وأحزاب عنصرية متطرفة (كما حدث في ألمانيا النازية عندما تمكن الحزب النازي من الفوز ديمقراطياً) قد تلغي كل العملية الديمقراطية وتنقلب عليها، وتبدأ بتشكيل وتطبيق مثلها وبرامجها ومعالمها ومعاييرها وأفكارها الخاصة على المجتمع الذي انتخبها ديمقراطياً (بالمعنى الشكلي لها طبعاً) فترجعه وتعيده عشرات بل ومئات السنوات نحو الوراء من خلال تشريعاتها الماضوية حول الهوية والمرأة والعمل وغيرها..
ولهذا لابد من أن نقر ونعترف بأن طريق الديمقراطية العربي طويل، ودونه تحديات جمة، ولن تصل مجتمعاتنا العربية إلى غايتها في تجسيد الحقيقة الديمقراطية إلا بعد خوض سجالات وتدافعات ثقافية وسياسية عديدة طويلة..
وتمكُّن تلك المجتمعات من إزاحة نظم الاستبداد التاريخية التي كانت مهيمنة على مجالاتنا كلها ليس إلا بداية طريق الألف ميل باتجاه التمكن الديمقراطي الذي هو مسألة معقدة ومركبة كما ذكرنا.. فنبتة الديمقراطية لا تزال طرية وغضة العود وفي بداية نموها في تربتنا العربية، بكل ما فيها من أجواء وأحزاب وتعقيدات، وبكل ما مر عليها من عواصف الاستبداد والقمع على مديات زمنية طويلة، لا بد من رعايتها والعناية بها جيداً كي تنمو نمواً سليماً ومعافى، وتزدهر وتثمر وتبدأ بالإنتاج خاصة على صعيد التأصيل الثقافي والمعرفي لحقوق الإنسان (حرية-مساوة-عدالة) التي لا تزال غائبة أو مغيبة عن أجندات كثير من حركات التغيير السياسي العربي التي تتهيأ لاستلام دفة الحكم وقيادة دفة الدولة لمرحلة زمنية مقبلة..
طبعاً ليست لدينا هنا أية علاجات سحرية ولا حلول فورية، باعتبار أن ذلك كله مرهون للسجال والصراع السياسي الداخلي وخوض غمار النضال السلمي والتحديث المعرفي المتواصل لقيم ومفاهيم التراث القائم والمركوز في الوعي الشعبي، والعمل على تخفيف الحمولة الأيديولوجية الثقيلة التي تنوء تحتها مجتمعاتنا ولا تزال تكلفها الكثير من الخسائر المادية والمعنوية..
ولا نعني هنا أن الدين هو الذي جعل الناس والأمة عموماً تتقهقر وتتراجع، وينحسر عطاؤها عن ساحات التبادل الحضاري العالمي منذ أمد بعيد، بل نعني به أن تحميل الدين بما لا يطيق من أفكار وحمولات معرفية وسياسية لإضفاء المشروعية الدينية على أناس وحكام حكموا بقوة التغلب والقهر والاستبداد، هو الذي عطل مواقع الإبداع والعطاء في جسم هذه الأمة.. وساهم في تقديم صورة نمطية وحيدة عن الدين من حيث هو سلطة مطلقة وحقيقة عليا تمامية والتزام نصوصي قدسي فوق إنساني، يقوم على قواعد صارمة من الإلزامات السلوكية الشكلية القادمة من عوالم الفقه والوعظ المسجدي العتيق.. هذا ما أدى إلى إغلاق عقول الناس على قيم الماضي البعيد الجميلة، وحطم كوامنها وإراداتها الذاتية التي كان من المفترض أن تدفعه وتحثه على العمل والإنتاج والإبداع والمشاركة في الخلق والفعل، وعدم الانزواء في الزوايا والتكايا المقدسة هنا وهناك.. وهذا هو الفهم المغلق للدين والهوية الدينية.
أما الفهم الآخر للدين القادر على بث روح العمل في نفوس المؤمنين به، فهو دين الحرية، دين الاختيار الحر الواعي، الذي يمكن اعتباره مرجعية معنى متنوعة، ورأسمالاً معنوياً وحضارياً لمجتمعاتنا العربية، ومنظومات فكرية وأخلاقيات عامة تنشد الجمال والكمال الروحي للذات الفردية..
وهذا الفهم العقلاني لحركية الدين والتدين هو الذي يمكن أن يدفعنا لممارسة عقلانيتنا وحداثتنا -والانخراط في ميادين العمل المعاصر والمستقبلي- بصورة منتجة وفعالة ومؤثرة.. والتفاعل مع الحياة بعقلية التشارك والتبادل والحوار والتداول والتحول المبدع على مستوى الفرد والمجموع والدولة ككل.
* كاتب وباحث سوري
منبر الحرية،27 يونيو/حزيران2012
إن نزول الناس في عالمنا العربي إلى الشوارع والساحات والميادين العامة وكسر حاجز الخوف وحلقات الاستبداد، وإعلانها بدء عصر الديمقراطية، من خلال الدعوة لتحقيقها وإنجازها.... كل ذلك لا يعني مطلقاً أن الديمقراطية عندنا قد تحققت والتداول السلمي التعددي قد بدأ، وأن قطار التنمية قد انطلق وتحرك.. لأن الديمقراطية ليست شعارات نتغنى بها.....
2 comments
Elham
25 يوليو، 2012 at 11:41 م
An excellent chronique bravo Nabil Ali Saleh congratulations
m.s.n
12 سبتمبر، 2012 at 1:58 ص
ما ذكرته من أوصاف لا يوجد حتى في الديمفراطيات الغربية ، وإلا فقل لي لما يخاطب رؤساء أمريكا اللوبي اليهودي وهم قلة!!
ثم لما هذا الحزن من أقل ما يقال في الوضع العربي هو تصحيح مسار من أنظمة قمعية دكتاتورية إلى ديمقراطية
وإن لم تكن بالدرجة التي تشدو إليها !
وتجهيل الناخب الغربي في هذا الوقت هل سببه أنها انتخبت الحركات الإسلامية بمعنى أنها لو انتخبت النخب العلمانية هل كنت ستقول ما قلت .
من الانصاف أن نقبل ما جاءت به صناديق الاقتراع ، ونقيم مسالك أصحابها، دون ذلك المسلك المقيت الذي لا يحسن أصحابها إلا وصف مخالفيهم الظلامية أو التجهيل