هنالك عوامل ومعرقلات عدة أمام نهوض ثقافي عربي حقيقي بالرغم من هذا الربيع العربي الذي أشعلته الطبقات والفئات المهمشة من المجتمع ولحقت به معظم الفئات الأخرى، هذا الربيع العربي الذي فتح ثغرة لا بل بابا كبيرا في جدار إسمنتي لحالة الاستبداد العربي المقيم، إن المعرقلات والعوامل التي نتحدث عنها تكمن في جذر أساسي في التربة البنيوية والذهنية العربية هذا الجذر هو استمرار ثقافة الفرد المستبد بطريقة ستالينية أو عشائرية أو طائفية سواء كان هذا الفرد منتميا لحزب سياسي أو رئيسا لدولة أو زعيما لطائفة ، هذه الفردية الزعاماتية الطاغية على ثقافة العامة لا زلنا نتلمس نتائجها وانعكاساتها في استعصاء الثورات العربية التي لم تكتمل دائرة نجاحها ولم تينع أزهارها بعد إلا في حالة تونس التي نسبيا تجاوز معرقلات تقليدية واضحة تعانيها باقي الدول العربية سواء من اشتعلت فيها ثورات الربيع العربي أو من تنتظر. هنالك نمط سائد من الاستجابة السلبية والانصياع والطاعة العمياء لشخص أو لجماعة أو لطائفة أو لقائد.
الحقيقة أن من كرس هذه الثقافة وأبقاها في حالتها الركودية دون الوصول إلى عنق الزجاجة هو نظام الاستبداد والفساد المنتشرة على طول وعرض العالم العربي، إضافة إلى انتشار الأمية والتخلف العقلي المريع بين الناس، وتنتشر ثقافة المادة الاستهلاكية، وبسبب ثقافة الفساد والإفساد نمت طبقة من التجار والحرفيين الأميين أو شبه الأميين الذين تشكلت لديهم مبالغ ضخمة والذين يشمتون بالفئة المثقفة التي همشت وحجمت إلى أضيق الحدود، بينما المتعلمون والفنيون وخريجو الجامعات إما أنهم عاطلون عن العمل أو يعملون بأجور زهيدة جدا، وهذه الحالة كرستها أنظمة الاستبداد والإفساد للعمل على منع تبلور طبقة وسطى، أو تشويهها أو تخفيض حجمها وحجم تأثيرها على إمكانية إحداث أي تغيير ثوري ملموس في الواقع العربي وبالتالي تغيير أنظمة الحكم الفاسدة فساهمت في خنق فئة المثقفين والمتعلمين والتكنوقراط سواء ماديا بتخفيض أجورهم ومرتباتهم أو الإقلال من فرص العمل لهم أو الإضرار بهم معنويا بأنهم دون مستوى التحصيل المادي التي تمتلكه باقي فئات الشعب وبخاصة فئة الموظفين الذين تحولوا إلى مليونويرية (بورجوازية مشوهة التكوين والنشأة) من وراء استغلال الوظيفة للأغراض الشخصية، وهذا اثر على العملية الإنتاجية والتنموية إذ لم تنتشر ثقافة التنمية والتطور في المجتمعات العربية، بقيت مجتمعات متخلفة عن الركب الحضاري العالمي، فبالرغم من أدوات الحداثة المادية كالتلفاز والحاسوب والانترنت والموبايل وغيرها من أدوات الحداثة والتكنولوجيا إلا أن الذهنية بقيت ذهنية تقليدية، ولعل هذا هو السبب الأساسي في استعصاء عملية التغيير ناهيك عن تبعية هذه الذهنية إلى هذه الأقلية أو تلك الطائفة أو تلك العشيرة.
وبالرغم من ادعاء الأنظمة التسلطية العربية أنها تجاوزت ثقافة ما قبل الوطنية (العشائرية والطائفية والعرقية والمذهبية) إلا أنها في حقيقتها نومتها تحت سطح اسمنت القمع فما أن وجدت الفرصة سانحة رفعت برأسها بكل وضوح، وهذا ما نتلمسه في التحولات الدراماتيكية أثناء الحرب العراقية الأخيرة وثورات الربيع العربي، ولعل هذا هو السبب الأساسي في استعصاء عملية التغيير بسبب الغياب الكبير لثقافتها وهنا كان المثقف العربي مقصرا جدا، ناهيك عن تبعية الذهنية العربية التقليدية إلى هذه الأقلية أو الطائفة أو العشيرة أو المذهب.
كما أن ثقافة القمع أضحت ثقافة شعبوية فخلال العقود الخمسة الماضية استجابت الشعوب العربية للقمع السلطوي سجون – تشرد – قمع – ملاحقات – أو التجأت إلى الانكفاء العزلوي في المنازل وتمثل ذلك في ترديد العامة لأمثال تكرس الرضوخ لثقافة القمع ( امشي من حيط لحيط وقول سترك يارب ) و( ابعد عن الشر وغنيلو) هذه الثقافة شجعت أنظمة الاستبداد على الإجهاز على المجتمع فأفرغته من السياسة وتحول المجتمع إلى شبه قطيع تابع للراعي هذا الراعي هو رئيس الدولة ( مع الاحترام الكامل لآدمية الإنسان وكرامته اضطرارنا لاستخدام لفظ القطيع لغاية التحليل فقط ) يأمر ما يشاء ويقتل ما يشاء ويسجن ما يشاء ويهجر أو يشرد ما يشاء، حتى وصلت الأمور إلى ما هي عليه الآن من حالة صراعية مؤلمة وهو مخاض ثوري ما لم تدركه الشعوب العربية عبر تلقي إعلام جديد يختلف عن الإعلام القديم الذي كان يروج لثقافة الممنوع، والمحظور، والخط الأحمر، وهي في المحصلة تروج لثقافة الاستبداد والتقليد، فإنها ستخسر معركة الحداثة التي قد تستغرق عشرات السنوات.
إذن نحن أمام ثقافة استبداد ويخطأ من يظن أن الاستبداد حالة فردية، نعم انه الفرد الزعاماتي الذي يستبد لكن منبعه هو الواقع هو المجتمع هو الذهنية التقليدية بالاستجابة السلبية الخنوعية الرضوخية لحالة الاستبداد وبالتالي خضوعه لآثار هذا الاستبداد على جميع قطاعات الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية وحتى العسكرية، والمطلوب الآن وبخاصة من الجهات الثقافية والبحثية والإعلامية التركيز على تجاوز قيم وعادات وتقاليد ثقافة الاستبداد والبحث عن سبل الخلاص منها للانطلاق إلى ثقافة التجديد والحداثة والديمقراطية لأن لا خيار للتقدم والتطور إلا بها.
منبر الحرية، 21 غشت/اب2012
نحن أمام ثقافة استبداد ويخطأ من يظن أن الاستبداد حالة فردية، نعم انه الفرد الزعاماتي الذي يستبد لكن منبعه هو الواقع هو المجتمع هو الذهنية التقليدية بالاستجابة السلبية الخنوعية الرضوخية لحالة الاستبداد وبالتالي خضوعه لآثار هذا الاستبداد على جميع قطاعات الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية وحتى العسكرية.....