هل صحيح أن الولايات المتحدة عدوة للشعوب وحليفة للأنظمة؟
علاقات الدول تتقوم بالمصالح وليس بالمثاليات
المؤامرة كإستراتيجية قائمة عربية..
تتقوم السياسة بالمصالح والتعامل الندي بين الدول وبمقدار ما تمتلك كل واحدة منها من قدرات وطاقات ومواقع ونقاط قوة.. هذا ما هو شائع ومتعارف عليه بين كثير من الدول والقوى الكبرى في الإجمال العام، أما عند العرب فلا يوجد سياسة حقيقية بالمعنى العلمي الواقعي للكلمة، بل كل ما هنالك جملة مواعظ وخطابات سياسية أقرب ما تكون لطريقة العرب المعروفة في “تبويس اللحى”.. والدليل على ذلك هو ما شهدناه من كل هذا الفشل السياسي العربي الذريع في إدارة ملفات مجمل أزمات العرب وتحدياتهم السياسية منذ وقت طويل وحتى الآن.. ونادراً ما عرف عنهم في العصور الحديثة الأخيرة تفوقهم في المجال السياسي الدولي.. فالسياسى عندنا إما أن تكون صديقي حتى آخر الخط، وإلا فأنت عدوي على طول الخط.. فلا منطقة رمادية، ولا أخذ وعطاء، ولا مصالح متبادلة، ولا محاولات للتمسك بأوراق قوة قد تنفع هنا وهناك على طاولات التسويات والمفاوضات..
وكثير من العرب يعتبرون مثلاً الولايات المتحدة الأمريكية عدوة لهم، وربما يعود السبب إلى هذه الدرجة المتدنية من حالة الوعي السياسي لطبيعة العلاقات والصراعات السياسية الدولية..
فالولايات المتحدة الأمريكية دولة كبيرة وقوية ذات امتداد سياسي واقتصادي على مساحة العالم كله، وهي لا تزال بتنوعها الحضاري والمدني تشكل أهم قوة علمية واقتصادية وصناعية وعسكرية على هذه البسيطة، كما أنها تمثل -مع بريطانيا والمجموعة الأوروبية- أرقى وأنجح الديمقراطيات الحاكمة في الغرب الحديث.. وهي تبقى في موقع القوة رقم واحد في العالم بالرغم مما يقال عن انحسار مواقع قوتها، وبالتالي تراجعها نحو الداخل وتقلص حجم مكانتها ودورها في العالم على حساب تصاعد قوى ومراكز دولية أخرى كالصين والاتحاد الأوروبي وغيرهما من قوى العالم المعاصر.. هذا ما يجب الإقرار والاعتراف به قبل أي شيء..
ويبدو لي أن هذا الحديث أو المناخ السياسي الشعبوي العام (وقد بدأ يتغير مؤخراً من خلال فك حالة الربط شبه العضوية بين قضايا العرب الداخلية والخارجية، حيث التحرر والاستقلال الداخلي أهم وأولى من التحرر الخارجي) عن عدوانية هذه الدولة الكبيرة وعدم وقوفها مع قضايانا العربية المصيرية (وكأنها جمعية خيرية)، هو بمجمله لا يعبر سوى عن عدم فهم حالة التوازنات الدولية، وطبيعة مراكز القوى الدولية المؤثرة في المنطقة، وعدم معرفة كيفية التعاطي الإيجابي الخلاق معها.. مع التغير الدائم في الساسة والأحزاب والإدارات السياسية هناك في أميركا وفي الغرب.
..نعم، الولايات المتحدة الأمريكية وقفت وتقف مع إسرائيل في كل ما يتعلق بسياسات المنطقة، وهي الداعم الأكبر والأبرز لها، وهذا أمر له أسبابه ودوافعه التي أدت إليه على المستوى الذاتي والموضوعي.. ولكن العرب لم يتمكنوا للأسف على مديات زمنية طويلة من تقديم ولو نموذج سياسي بسيط لخرق تلك المعادلة القائمة بين أمريكا وإسرائيل، فمثلاً لم يتمكن العرب من بناء حالات لوبي ومراكز ضغط سياسية وإعلامية وفكرية مؤثرة لدى صانع القرار السياسي الأمريكي لتغيير أو حرف مسار تلك المعادلة.. هنا العجز الأساسي المقيم عند العرب منذ زمن، لأن سياستهم مجرد دعوات وخطابات شعاراتية رنانة لا تغني ولا تسمن من جوع.. فهذا السياسي العربي يخرج على فضائية من هنا يحدثك فرحاً عن أن أمريكا مهتزة ومتزلزلة، وذاك يبشرك من هناك بسقوطها القريب، وثالث ينتشي في تحليله الرغبوي الإنشائي عن تراجع الدور النوعي للولايات المتحدة الأمريكية في التدخل المباشر في قضايا وملفات وإشكاليات العالم.. مع أن هذا التراجع –وهو ملحوظ- لا علاقة له بتراجع نفوذها العلمي والاقتصادي والسياسي والعسكري، لأنها تبقى على هذا الصعيد العلمي مركز وبؤرة الاختراعات والاكتشافات العلمية، وتبقى جامعاتها ومراكز بحوثها العلمية وغير العلمية من أفضل وأرقى جامعات ومراكز بحوث العالم، والأرقام والإحصائيات تؤكد مصداقية هذا الأمر..
وربما يكون الحديث عن هذا التراجع عائداً إلى إعادة ترتيب الولايات المتحدة لمجمل أوضاعها المالية التي بلغت حداً من الانهيار خلال صيف العام 2008 مع بدء أزمة انهيار البورصات والبنوك فيها.. أو لعله يكون نوعاً من الاختلاف في طبيعة ونوعية السياسات والأدوار الخارجية الملعوبة والمتبعة من قبل الإدارات السياسية الأمريكية المتغيرة والمتعاقبة على البيت الأبيض والخارجية الأمريكية في كيفية وعيها ومقاربتها وتعاطيها مع مجمل الأزمات والتعقيدات الدولية وخاصة في منطقتنا العربية التي تشكل ثابتاً استراتيجياً في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية بقطع النظر عمن يحكم عندهم، ديمقراطياً كان أم جمهورياً.. فالجوهر والمضمون الحقيقي لا يتغير، ولكن الأساليب والوسائل وسبل التعامل وآليات العمل هي المتغيرة.. فمثلاً لاحظنا أن مقاربة أمريكا للأزمة الليبية اختلفت جذرياً عن مقاربتها لأزمة تونس ومصر وسوريا..
كما أن ذلك التراجع (وأحياناً إعادة التقدم والدخول المفاجئ القوي إلى عمق الأزمات) في حركية هذا الأداء السياسي المؤثر الواضح في منطقتنا لا علاقة له من جهة أخرى بما نسمعه باستمرار عن وجود مؤامرة لإسقاط نظم المنطقة أو للحصول على مكاسب من هنا وهناك من قبل القوى الدولية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة..
طبعاً المؤامرة هي جزء من سياسات الدول، والكل في عالم السياسة يتآمر (أو بمعنى يفكر مصلحياً ببلده) على حساب الكل.. وهذا حق الجميع.. ولكن ما ليس حقه هو خرق المعاهدات والالتزامات الدولية التي اتفق الجميع عليها، وتعاهدوا على احترامها وتنفيذها.. وهي التزامات ينبغي أن تضمن وتكفل حقوق كل الدول هذا من حيث المبدأ..
والمؤامرة التي هي –كما ذكرنا- جزء ومعلم أساسي من سياسات الدول، ولعبة المصالح الدولية كبيرها وصغيرها، كانت قائمة في الماضي.. وهي ستبقى كذلك في الحاضر والمستقبل.. أما الأصل في فكرة ونظرية المؤامرة عندنا نحن العرب للأسف، فهو هذه التغطية والتعمية على حالة العجز الفاضح والفشل الداخلي الذي وصلت إليه النخبة الحاكمة في بلداننا في إدارة شؤون بلدانها، وعدم فهم حقائق الواقع وسياسات الدول واستراتيجياتها، وعدم قدرة تلك النظم الحاكمة -التي تشتكي دوماً من وجود المخططات والدسائس والمؤامرات- على استخدام السياسة باعتبارها فن الممكن يقوم على معطيات واقعية وآليات عمل إجرائية لا أمنية ولا عسكرية فقط في حل مشاكلها الداخلية السياسية والاجتماعية.
ويبدو لي أن إصرار النخب السياسية العربية الحاكمة بمعظمها على تركيز الحديث وتوسيعه باتجاه مفهوم المؤامرة والمخططات الخارجية، وإثارته على الدوام أمام رأيها العام (إن وجد طبعاً!!) إنما يهدف ليس فقط إلى تبرير عجزها عن إدارة شؤون بلدانها، بل وطمس مسؤولياتها المباشرة عن غياب روح المبادرة لديها لمواجهة وإحباط تلك المؤامرات الموجودة فعلاً على الدوام، ليكون الحديث الإعلامي الاستهلاكي الدائم عن تلك المخططات الخارجية جزءاً لا يتجزأ من مؤامرة تلك النظم وألعوبة من ألاعيب رموزها وساستها لصرف نظر الناس في بلدانهم عن حقائق الأوضاع المزرية التي تقشعر لها الأبدان، من ألوان القهر والاستبداد والفساد والنقائص وسلبيات حكمهم، وفشلهم وعقمهم السياسي والاقتصادي في قيادة بلدانهم نحو الأمان والسلام المجتمعي الحقيقي.
من هنا تأكيدنا على أن وقوف دولة مع أخرى ضد دولة ثالثة لا معنى له في عالم السياسة إلا من زاوية المصالح ومراكز القوة وندية العلاقات وقوة الموقف السياسي المستند على أوراق ونقاط قوة تمتلكها هذه الدولة في مواجهة تلك الدولة.. وهذا ما ينبغي علينا أن ندركه في عالمنا ومجتمعاتنا العربية المتعبة والمنهكة من سياسة القمع والاستبداد والفساد، وهو أن السياسة لا صداقة حقيقية معها، بل هي نوع من التغير المقرون بوجود أوراق القوة، وأهم وأفضل وأنجع تلك الأوراق هي وجود حالة ومناخ سياسي ديمقراطي حقيقي في بلداننا العربية يقوم على وجود الإنسان الحر الآمن الكريم، أي على تداول السلطة سلمياً وإشاعة الحريات العامة وإقامة نظم سياسية حقيقية لا شكلية مزيفة (ربع أو نصف سلطوية) تعيد الناس إلى ساحة الحياة العامة بعد أن أبعدوا عنها بالقوة لعقود طويلة للمشاركة في صنع مصائرهم ومستقبلهم بإراداتهم.. في هذه الحالة فقط يمكن أن نتحدث عن أن هذه الدولة أو تلك -التي هي نتاج إرادة شعبها ومجتمعها الحر الديمقراطي- تمتلك مواقع ونقاط قوة يمكن أن تواجه بها كل المخططات والمؤامرات والتحديات.. وعندها يمكن أن تنشأ في مثل هذه الدول نخب سياسية منتخبة ومتعلمة ومتقنة لفنون السياسة وعلى رأسها فكرة أن المؤامرة ليست قضاء وقدراً مفروضاً بل هي مجموعة محددة من الأفكار والخطط والبرامج العملية المعروفة التي تخطط لها وتتبعها هذه الدولة ضد دولة أخرى، وبالتالي لا يمكن مواجهتها إلا بعد دراستها ومعرفتها بدقة ووعي، وعبر البحث والتمحيص والتدقيق باعتبارها نوعاً من السياسة العملية القائمة على المصالح ومراكز القوى، التي تقوم بها هذه الدولة أو تلك لتحقيق مكاسب وامتيازات محددة في صراعها السياسي ضمن عالم المصالح الدولية المتبادلة..
منبر الحرية، 13 سبتمبر/ايلول2012
إن إصرار النخب السياسية العربية الحاكمة بمعظمها على تركيز الحديث وتوسيعه باتجاه مفهوم المؤامرة والمخططات الخارجية، وإثارته على الدوام أمام رأيها العام إنما يهدف ليس فقط إلى تبرير عجزها عن إدارة شؤون بلدانها، بل وطمس مسؤولياتها المباشرة عن غياب روح المبادرة لديها لمواجهة وإحباط تلك المؤامرات الموجودة فعلاً على الدوام