صلاح علي إنقاب *
الأخلاق مسؤوليّة الفرد، والدولة نظريّةٍ يتم تطبيقها فقط خارج الأخلاق، فالتناقض الطبيعي بين الفرد في المجتمع من على جانبٍ والفرد في الدولة على جانبٍ آخر أمر لا بد منه لأجل نمو الأخيرة ، حيث لا تعني علاقات الأفراد البينيّة شيئاً داخل منظومة الدولة، و إلا ستصبح الدولة فاسدةً تعمل فقط لمصلحة الفرد لا لمصلحة الجماعة، حيث فسادها لا شأن له و فساد الفرد، بل العكس هو الصحيح حيث أن الفرد الصالح في المجتمع و المقبول داخل إطار مصالح جماعته هو الفاسد في تركيبة الدولة، الدولة الشريرة انعكاسٌ لرغبات الفرد المبنيّة على مصالحه الخاصّة التي تعمل لأجل خدمة جزءٍ من المجتمع ينتمي له : العائلة/القبيلة/الطائفة، فيكون الوضع الطبيعي أن تنطلق الثورة للقضاء على الدولة الفاسدة، لكن هذه الثورة لا تقضى في غالب الأحيان على الإنسان الفاسد ، بل تقوم فقط بإبدال دولةٍ بدولةٍ أخرى، هنا ينصرف الثوّار ناحية اتّجاهين، الأول تكرار ما هو كائنٌ و قاموا بإزالته، الاستبداد والتعسّف في اتّجاه الفوضى، أو الاتجاه الآخر بتكريس الوعي، نشر المعرفة، تحقيق إنسانيّة الإنسان ليمارس وجوده البشري كاملاً بعد أن يتحرّر من ظلم الدولة الفاسدة المنهارة، و البين شاسعٌ بين الطريقين، إذ ليس إعلان استمرار الثوّار في لعب دورٍ في الدولة الجديدة، ليس سوى كرماً زائفاً، و حرصاً مشوباً بالشكوك على سلامة ثورتهم، حيث أن [موضوع] الثورة هو تحرير الفرد وإعادة بناء الدولة، بينما [ الذات ] عند الثائر حاضرةٌ لا يمكن فصلها عن الموضوع، فيسير هذا التدّاخل بالثورة نحو إعادة سيرة الدولة الفاشلة ، بصورةٍ أكثر سوأً ليصبح التغيّير كاذباً ما أن أعلنت الدولة أنّها ثوريّة لا ترضخ لقوانين التغيّير التي أعلنتها هي نفسها، هنا يجب أن يترفّع الثوّار بمستواهم فوق مستوى الثورة نفسها لأجل تحقيق الحريّة الدائمة داخل بوثقة النقد، والنظر الموضوعي لمسألة بناء الدولة حتّى لا تضيع الحقيقة داخل الإنكار، و لا يخسر الثوّار دولتهم داخل الثورة نفسها، تحرير الدولة هو تحريرٌ للناس لا تحرير الأشياء و الفرق شاسعٌ بينهما.
إن فصل الدين عن الدولة فكرةٌ خاطئةٌ، لأن سمو الدين عن الدولة أمرٌ غير ممكنٍ مادامت الدولة مكوّنةٌ من أفراد يدينون بهذا الدين، لكن فصل سلطة الدين عن سلطة الدولة هو الأمر الطبيعي والممكن بل هو الأمر الضروري لأجل بقاء الدولة وسعي الفرد على بقائها أيضاً، وفي حالة ليبيا فإن غاية الإسلام الذي يدين به السواد الأعظم من اللّيبيّين بالدرجة الأولى هي الفصل بين سلطة [ الدين/الشريعة ]، و الأشخاص الذين يمثّلونها [ الكهنوت/المرجعيّات ]، فليس الرجال علامةٌ على الحق، بل الحق علامةٌ على الرجال كما يقول النّص نفسه : ] مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [ آل عمران 79 ، وكما يقول هيغل : [ … إن أي دولةٍ تجهل حريّة الوجدان هي دولةٌ ناقصةٌ ]، لكن هذا لا يفتح الباب أمام الدولة لتغليب مذهبٍ رافقته الظروف فقط لا غير ليفرض سطوته و أكثريّته بحكم هذه الظروف المتغيّرة أحايين كثيرةٍ حيث تفرض الدولة بناء على تحيّزها هذا قيوداً على الذات والفرد الذي هو مكوّنها الأساسي ، يقول أفلاطون : [ … الدولة التي تجهل الذات ناقصة ] ، فبقاء الدّولة مبنيٌّ على بقاء التعدّد والتنوّع فيها عبر كل الأصعدة، نموّها منوطٌ بمساحات الآخر المتاحة داخلها ، الفرد هو [ أساس ] وجود المجتمع، والمجتمع هو [ حجّة ] وجود الدولة ، وفي دائرةٍ مغلقة الدولة هي [ دليل ] وجود الفرد أيضاً ، أما الدائرة المفتوحة التي لا تنتهي أبداً يكون فيها [ الدين ] ، [ الدولة ] و [ الثورة ] عناصر متضادّة لا تلتقي إلا لاجل إلغاء بعضها البعض ، إعلان النيّة في بناء الدولة الثورية أو الدولة الدينية في واقع الأمر إعلانٌ عن انتحار الدولة في الأساس، فالدولة لا علاقة لها بمصالح الأفراد، ولا علاقة لها بطريقة عبادتهم لله ، ولا شأن لها و المجتمع المدني الذي يمارس دور الرقيب عليها، الضابط لسلوكيّاتها الموجّه للأفراد ناحية نقاط انحرافها عن دورها، بل هي فقط تحتضن هؤلاء جميعاً لتحقيق السعادة، الرخاء و الأمن بطريقةٍ عادلةٍ بين جميع الأفراد الذين يصبحون تبعاً لهذه الرعاية [ مواطنين ] على درجةٍ واحدةٍ من المساواة، كل هذا داخل وحدة القانون الذي يسيّر الدولة متّصلا بواقعها و مكوّناتها من الداخل، خارج التاريخ الذي يقيّد الدولة كما يقيّدها الدّين/المذهب، وتقيّدها أيضاً الثورة التي لا بد أن تختفي شعاراتها ما أن يبدأ الأفراد الفعّالون في رحلة بناء الدولة الفعّالة التي لها السيادة والإرادة المستقلّتين عن أرادة الأفراد الذين تكلّفهم الدولة بناءً على [ الكفاءة ] لا بناء على [ الولاء ] للدّين/المذهب أو الثوّار/المنتصرون فليس هؤلاء مهيّئين لتأدية وظائف الدولة فقط لأنهم ينتمون لأصحاب [ الشوكة ]، بل لأنهم الأقدر على تأدية هذه الوظائف، إذ يجب أن يختفي النفوذ داخل سطوة الدولة ، وتتوزّع الأدوار من أجل بنائها مستقلّة عن سطوة الفقه أو الثوّار الذين يجب أن يعودوا إلى مكانهم الطبيعي كأفراد يشكّلون عنصراً لا بد منه من عناصر تكوين الدّولة ، لا دولةً دينيّةً و أخرى ثوريّةً تحت غطاء دولة [التكنوقراط/تسيير الأعمال ] التي تشكّل فقط الواجهة الإعلامية حسنة المنظر، لما ورائها من استبدادٍ وقهرٍ يكرّر القصّة و يعيد سردها مرّة أخرى من البداية ربّما ليعيد الثوّار والفقهاء كتابة التاريخ مكرّرين إيّاه فقط بألوان أخرى زاهية.
* كاتب ليبي
منبر الحرية، 6 يناير/كانون الثاني 2013