نوح الهرموزي31 يناير، 20131
إن فقهاء القانون لم يجمعوا على تعريف محدد للدولة، ولكن الأصح من ذلك أنهم لم يتعسفوا في تعريفها أو الإتيان بعناصر من خارجها للتعبير عنها، وإنماالاختلاف يتعلق بإدخال بعض العناصر في التعريف من عدمها.....

عبد الرحيم العلام*

صحيح أن فقهاء القانون لم يجمعوا على تعريف محدد للدولة، ولكن الأصح من ذلك أنهم لم يتعسفوا في تعريفها أو الإتيان بعناصر من خارجها  للتعبير عنها، وإنما الاختلاف  يتعلق  بإدخال بعض العناصر في التعريف من عدمها. وأما أن يحاول البعض استحضار مجموعة من العناصر  ذات الصبغة المكتسبة أو الظرفية أو المتغيرة للاستدلال بها في تعريف الدولة أو اعتبارها ثوابتا للدولة، فذالك محط استهجان واستغراب وتعجب.(يقوم بعض فقهاء السلطان بوضع ثوابت غريبة لبعض الدول من قبيل المذهب الديني السائد أو طبيعة النظام الحاكم أو طريقة التعبد ومنهجه).

فالدولة في التعريف المتوافق حوله لا تخرج عن كونها جماعة من الأفراد تقطن على وجه الدوام والاستقرار، إقليما محددا، وتخضع في تنظيم شؤونها لسلطة سياسية مستقلة عن من يمارسها. حيث يتضح أن الدولة بهذا التحديد، لن تعدو أن تكون مؤسسة سياسية يرتبط بها المواطنون من خلال تنظيمات متطورة.

وإذا أردنا أن نحدد الدولة من خلال عناصرها يمكن القول أنها تتكون من أربعة عناصر أساسية: الشعب والإقليم والسلطة والسيادة، فالشعب هو مجموع المواطنين الذين يقطنون بقعة جغرافية وينظمون أنفسهم سياسيا من خلال التعاقد فيما بينهم وإنتاج سلطة سياسية شرعية تسير شؤون أمرهم. وأما الإقليم فهو تلك المنطقة الجغرافية التي يستقر فوقها الشعب بشكل دائم، فضلا عن مستتبعات هذه المنطقة الجوية والبحرية. بينما تعرف السلطة بكونها ذلك النظام السياسي الذي يرتضيه الشعب عن طواعية وانتخاب من أجل تدبير شؤونه العامة. وهو ما يستدعي أيضا عنصر السيادة الداخلية والخارجية أي أن تكون هذه السلطة غيرة مقيدة في الداخل والخارج إلا بما يفرضه القانون.

ولكي تكون الدولة ديمقراطية، فإن فقهاء القانون ربطوها بمجموعة من المقومات من قبيل وجود قانون أسمى(دستور) يحدد طبيعة الحكم وينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ويحدد الحقوق والواجبات التي على الطرفين. ومن مقومات الدولة أيضا وجود تشريع أدنى يحفظ الحياة الآمنة للمواطنين ويعنى  بالتفاصيل اليومية للناس، ويبقى أهم مقومات الدولة ما يتعلق بالفصل بالسلطات، بشكل يضمن عدم تغول إحدى السلطات على الأخرى ويمنع دكتاتورية الحاكم. واحترام الحريات الفردية وضمان ممارستها.

وأما عن نشأة الدولة، فإنها لم تكن نتيجة للقوة أو التغلب أو تطور لأسرة ما، كما يحاول فقيه السلطان ترسيخه، وإنما نشأت الدولة بفضل مجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية دفعت بالناس إلى التعاقد فيما بينهم لأجل إفراز سلطة حاكمة بالقانون ومقيدة به، ويبقى للشعب حق عزلها أو التجديد لها عبر انتخابات حرة ونزيهة لا مجال فيها للصدفة أو الغدد الجنسية. بحيث يعيش المواطن مطمئنا على رزقه وأمنه وغير مفتون في حريته أو ضميره، له الحق في اعتناق ما يشاء مالم يضر اعتقاده بالآخر أو يتحول إلى أفعال مادية، وينعم الإنسان بالحرية المرتبطة بالمسؤولية بحيث تنتهي حرية الفرد عندما تضر بحرية مواطنه.

كما أن الدولة لا وجود فيها لفئة من الناس يسميهم فقيه السلطان “الرعية أو عامة الناس”، وإنما الأساس الذي يبنى عليه وجود الإنسان ضمن الدولة وتمتعه بحقوقه وقيامه بواجباته، هو أساس المواطنة الكاملة والرغبة في العيش المشترك، بما يضمن للإنسان حياة كريمة في ظل المساواة التامة، وبما يحقق للإنسان الخروج من  ضيق منطق الرعية إلى رحابة مفهوم المواطن وما يلحقه من حقوق وواجبات، بدل أن يبقى عرضة لمزاج الحاكم وجوده وكرمه أو بخله وتسلطه. فدولة القانون يرتبط فيها الناس عبر مؤسسات ينظمها قانون أسمى ومستقلة عن شخصية الحاكم.

فالثوابت التي يجمع عليها الفقه القانوني والسياسي في جميع أنحاء العالم، لا ترتبط بالأشخاص أو بالأسر أو ترتهن لنبل الحاكم أو استبداده، وإنما هي ثوابت مستمدة من أصل الدولة ونشأتها وتطورها، وهي ثوابت نحتها الزمن ورسختها رغبة الإنسان في العيش المشترك والأمن. فهي وثيقة الصلة بمبادئ الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية، ولا دخل فيها لعناصر من خارج الدولة أو خارج التاريخ أو مناوئة للحضارة والتحضر.

فالأديان لا تبني الدول وإنما قد تبني الأمم، والفروق بين الدول التي تنبني على أسس المواطنة وحرية المعتقد والمساواة أمام القانون، وبين الأمم التي تؤسس على رابطة الدين أو العرق أو اللغة، تكمن في أن الأولى تشترط الإقليم والسيادة والسلطة بينما لا يشترط في الثانية غير وجود شعب يؤمن بدين ما أو يتكلم بلغة ما، وهو ما نلاحظه في عصرنا الحالي من خلال تعدد الأمم والدول، فالدولة المغربية ليست هي الأمة الإسلامية أو العربية، والدولة الفرنسية ليست هي الأمة المسيحية أو الفرانكفونية، فالأديان قد تزول بينما تبقى الدول وكم من دولة غيرت دينها وكم من دين انتقل من دولة إلى أخرى.

إن استحضار التراث الديني في خطاب الفقيه السلطاني والتأسيس عليه لبناء الدولة الحديثة، لن يكون إلا استحضارا خارج العصر ومعاكسا للتطور التاريخي، فهو استحضار للإرث الأوتوقراطي الذي يتوسل بالدين من أجل الحكم والتسلط  من غير رقابة أو محاسبة أو تقبل لنقد أو اعتراض، لأنه يحكم بإرادة إلهية. والذي انتقل(الحكم الأوتوقراطي)  إلى العالم الإسلامي مع الدولة الأموية، فلقد كان الخليفة يطلب قبل وفاته مبايعة ولي عهده بأن يكون الخليفة بعده، سواء كانت مبايعة حرة أو عبر الإكراه ، مبررا ذلك بكون الله يختار من يشاء لممارسة السلطة.

 كما أن هذا الخطاب يتنافى و خطاب دولة الحداثة والقيم الإنسانية المحتفى به، فالأحكام السلطانية التي يتوصل بها البعض للإبقاء على الحكم واستدامته من قبيل ” أنا ضل الله في أرضه” و” أطيعوه ما أقام فيكم الصلاة …. ولو جلد ظهرك ولطم خدك”. و تحريم الخروج على الحاكم” و ” الصبر على حاكم غشوم خير من فتنة تدوم”  وغيرها من أقوال الجبر والإلزام، لم تعد قادرة على عصمة الحكام من مساءلة الناس وعزلهم له، أو التأثير على من يسمونهم ” عامة الناس”.

إن الذي يُبقي على الحاكم في منصبه إلى حين، هو الحكم بالطرق الديمقراطية وبناء دولة المؤسسات غبر المرتبطة بالأشخاص ورغباتهم، وتكريس العدالة الاجتماعية وقيم الحرية والمسؤولية والمساواة امام القتنون وحفظ الكرامة الإنسانية، والتحول من اعتبار الفرد مجرد رعية يلزمه من يرعاه، إلى مواطن كامل الحقوق، والحسم مع منطق “عامة الناس”، لأنه لا وجود اليوم، في ظل الثورة التكنولوجية وسرعة المعلومة، لمفهوم “العامة” إلا في عقل الفقيه السلطاني، كما يجب ألا تغيب عن العقول، ونحن في عصر الثورات، المقولة الشهيرة” الشعب أبقى من حاكمه.

* باحث في العلوم السياسية، المغرب

منبر الحرية، 30 يناير/كانون الثاني 2013

نوح الهرموزي

الدكتور نوح الهرموزي: أستاذ الاقتصاد في جامعة ابن طفيل في القنيطرة بالمغرب.


One comment

  • Abdullah Saad

    3 فبراير، 2013 at 11:47 ص

    ما تفضلت به سيدي هو تعريف للدولة المدنية الحديثة،دولة القانون والمؤسسات،والحرية والمساواة.
    المشكلة التي يقع فيها فقهاء السلطان عدم اداركهم لنواميس الكون،وأن الحال متبدّل.
    يغترّ هؤلاء على قوة الدولة الدينية في بداية الأمر،ويتناسون أن طبيعة الدولة لاتستطيع الاستمرار على حكم السلف والأموات.
    إن التاريخ يعجل بسقوط مثل هذه الدول،ولايمكنها مسايرة التغيرات حولها بسبب المفهوم الضيق -أو عدم وجوده أصلاً- لمعنى الدولة والفرد.
    مقال جميل جداً..شكراً لك.
    ______________________
    Twitter: @Abd_SG

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018