ما الذي يحدث في الأسواق المالية ؟ سؤال يتبادر إلى الذهن في الآونة الأخيرة. ارتفع سوق الأسهم بشكل حاد في حين أن الوضع الاقتصادي لا يزال سيئا والشركات ليست بحال جيدة. وفجأة إذا بالوضع ينعكس والأسعار تتراجع. إن ما يهيمن هو عدم الاستقرار. والتحليلات المتسارعة إلى التنديد بالرأسمالية الليبرالية الجديدة تتحدث عن لاعقلانية الأسواق. ولكن الحقيقة غير ذلك: إذا كانت الأسواق المالية تبدوا على أنها ليست عقلانية، فإن السبب في ذلك راجع إلى السياسات النقدية التي تعزز تشكل الفقاعات والأزمات. السياسات النقدية هيا لتي تخلق التقلبات. لذلك، فإنه من المهم الرجوع إلى هذه المسألة التي من شأنها أن تعيق الظرفية الاقتصادية في الأشهر المقبلة.
إذا ما نظرنا إلى الوضع الاقتصادي فإننا لا نكاد نميل البتة إلى التفاؤل. فمنطقة اليورو تعيش حالة ركود، أما أمريكا واليابان فهما على نحو قليل أفضل حالا، لكن مع معدلات نمو تناهز 1٪، وبالتالي فليس هناك ما يدعونا للحلم بما هو أفضل. ثم إن وضعية سوق العمل تعتبر في بعض الأحوال مأساوية، خاصة مع أكثر من 10٪ من العاطلين عن العمل في فرنسا أو 25٪ في إسبانيا. كما أن ثقل الدين العام بات يشكل عبئا حقيقيا لن يبعث على الأمل في تخفيفه ما دامت العجوزات الموازناتية ستستمر، الشيء الذي يجعل هوامش ربح الشركات تقل وأفاق أرباحها المستقبلية غير مشجعة البتة.
كل هذا معروف جيدا. ومنطقيا لا ينبغي لهذا الوضع إطلاقا أن يشجع الأسواق المالية على التفاؤل. وعلاوة على ذلك، فإنه بعد اندلاع الأزمة سنة 2008 عرفت القيم -المتداولة في هذه الأسواق- إنخفاضا شديدا. لكن ومنذ أشهر، في أوروبا كما في أمريكا، أصبح المسار وبشكل ملحوظ تصاعديا. بالطبع هذه الأسعار –في البورصة- لا تعكس صورة الوضع الراهن، و إنما تستبق نوعا ما التطور المتوقع مستقبلا. فإذا كانت آفاق الأرباح مواتية فمن المنطقي الاستثمار في البورصة ولو مع وجود ظرفية سيئة، وهذا ما يجعل الأسعار ترتفع. أما اليوم فليس الوضع وحده هو السيئ، و إنما الآفاق هي الأخرى كذلك خصوصا في منطقة اليورو، ولا سيما في فرنسا وجنوب أوروبا.
مما لا شك فيه أنه قد حدث انتعاش حقيقي في السوق المالية حيث أن المؤشرات حققت أرقاما قياسية واحدة تلو الأخرى. هل يعني هذا أن المستثمرين قد كانوا على خطأ؟ في اليابان ارتفع مؤشر نيكاي ب 60٪ في غضون ستة أشهر في حين أن الاقتصاد الياباني يتخبط منذ سنوات. في الولايات المتحدة، حقق الداو جونز أعلى قيمة تاريخية له وذلك على نحو أفضل مما كان عليه قبل أزمة 2007 وحتى قبل فقاعة الإنترنت سنة 2000. نفس الشيء كان في أوروبا في فرانكفورت أو في باريس مع مؤشر كاك الذي فاق 4000 نقطة. هذه الإنتعاشات فاجأت العديد من المراقبين لدرجة أن بعضهم تحدثوا عن لا عقلانية الأسواق.
الحقيقة مختلفة. إذا كانت الأسواق مضطربة فإن ذلك يرجع إلى عدم تعقل السياسات، خاصة السياسة النقدية. فهذه ليست هي المرة الأولى التي تتشكل فيها الفقاعات. فأزمة الرهن العقاري سنة 2008، كانت في البداية عبارة عن زيادة في مشتريات المساكن وبالتالي عن ارتفاع في الأسعار صاحبها انعكاس سريع ومماثل. لكن لماذا تشكلت هذه الفقاعة العقارية ؟ لأن البنوك كانت قد منحت قروضا بكميات هائلة لأسر فقيرة لم تكن قادرة على السداد، والتي اضطرت لبيع منازلها مما تسبب في تراجع الأسعار العقارية.
لا تأتي الفقاعات من قبيل الصدفة. وليست الأسر هي من أصبحت غير عقلانية -بالرغم من أنها كانت متهورة- ولا البنوك، وإنما البنوك المركزية (هنا البنك الفيدرالي الأمريكي) ومن وراءها الحكومات الذين أرادوا إكراه عجلة الاقتصاد عن طريق خلقهم للنقود وضمانهم مساعدة البنوك أيا كانت الظروف. فالسياسة النقدية المتساهلة –التساهل النقدي- لا يمكن أن تأتي إلا من طريق البنوك المركزية التي تحتكر صك النقود، وهذا ما يتسبب في البقية. فلكي تكون هناك فقاعة يجب أن تكون هناك وسائل لخلقها، وهو ما يتأتى عن طريق صك نقود لا صلة لها بالواقع.
إن نفس الظاهرة تتكرر، وهذه المرة في أسواق البورصة. المشتغلون هناك يتوفرون على سيولات بوفرة، لأن البنوك المركزية تروي الاقتصاد من خلال سياسة الهليكوبتر وكأنها -حسب فريدمان- ترمي بالمال من نوافذ هذه الأخيرة. لقد ذكرنا سابقا أن اليابان كانت ولسنتين بصدد مضاعفة قاعدتها النقدية، فلا غرابة إذن في كون اليابان أول من ثم إنذارها. وبعيداعن اليابان، فإن سياسة التسهيل الكمي في الولايات المتحدة تؤسس هي الأخرى للتساهل النقدي، أما بالنسبة للبنك المركزي الأوروبي فإن ذلك يتم عن طريق شراء الأوراق المالية لخلق السيولة.
هل يمكن اعتباره إنذارا أول تساءل الاقتصادي جاك كاريلو في 25 ماي؟ لا من الممكن أن تكون هناك إنذارات أخرى، لأنه كما سبق وأوضح هذا الأخير، فإن السياسة النقدية المتساهلة تغلط الحساب الاقتصادي، كما أنها تعتبر مصدر الاستثمارات الغير جيدة، إضافة إلى كونها تخرب النمو بدل أن تحفزه. إننا لم نتوقف عن القول في مقالاتنا بأن السياسات المالية المتساهلة والمرتبطة بالسياسات الموازناتية المتساهلة كذلك ستتسبب في التضخم.
وإزاء هذا، فإنهم أجابونا بالقول أننا كنا في فترة اانكماش مالي لأن مؤشر أسعار المستهلك كان شبه مستقر. ولكن ماذا عن أسعار الأسهم؟ فالنقود التي تصدرها البنوك المركزية بطريقة غير مسؤولة لابد وأن تذهب إلى مكان ما : فالناس لن تدفنها في حدائق منازلهم. إذن فهذه النقود في الوقت الراهن تذهب إلى سوق الأوراق المالية -البورصة- نظرا لأن الأسهم كانت في أدنى مستوياتها بفعل الأزمة الاقتصادية، ولأنها لا زالت تتيح فرصا لتحقيق الربح. لكن من ناحية ومع مرور الوقت واستمرار ركود الاقتصاد العالمي، فإن توقعات الربح ستكون نادرة. أما من ناحية أخرى، فإن التساهل النقدي بات يجد تدريجيا حدوده مع أسعار الصرف، كما أن البنوك المركزية لن تصل -في سياستها النقدية المتساهلة- إلى حد التضحية بقيمة عملتها بحيث يقول المستثمرون في البورصة أن السياسات النقدية قد تتغير : قد يتم إغلاق صنبور السيولة المجانية.
فهكذا إذن تفسر التقلبات: الفاعلون الاقتصاديون لم يعودوا متأكدين من أي شيء، فهم يترددون بين التفاؤل بخصوص بعض بوادر الانتعاش هنا أو هناك، وبين عدم اليقين الذي يشوب سوق النقود. السياسة النقدية تمنع التوقعات الموثوقة، وهي بذلك تخلق ريبة خطيرة بخصوص الاقتصاد العالمي. كما أن التقلبات التي تعرفها السوق المالية تترجم نوعا ما حالة الاضطراب التي يتواجد فيها المقاولون والمستثمرون على حد سواء. فلكي يتمكن هؤلاء من لعب دورهم، يجب أن يوضع حد لهذه التقلبات ذات الدوافع السياسية، كما يتوجب الحد من السياسات الاقتصادية الظرفية، وأن يتم إقرار قواعد موازناتية ومالية والتوقف عن تغيير القواعد الضريبية والاجتماعية في كل يوم. هذه السياسات الغير رشيدة هي التي تخلق الذعر في الأسواق وتدمر الاقتصاد.
*اقتصادي فرنسي وأستاذ بجامعة مارسيليا بفرنسا
منبر الحرية، 20 سبتمبر/أيلول 2013