هل يقبل العقل الديني قيم ومكتسبات الحداثة الفكرية والمعرفية ج1

نبيل علي صالح28 أكتوبر، 20130
إن العرب والمسلمين يمتلكون طاقات وموارد وثروات وإمكانات طبيعية وبشرية وجغرافية مادية ورمزية كبيرة، ولكنهم في الوقت نفسه يعيشون شبه متطفلين على موائد الآخرين، أي أن هناك فجوة بين ما يملكونه وما يصنعونه أو ينتجونه. .....

    يعيش العرب والمسلمون في عصرنا الراهن أوضاعاً مصيرية صعبة ومعقدة لا يحسدون عليها بالرغم من تفجر موجة التسونامي الثورية وما عرف بربيع الثورات العربية التي غيرت بعض نظم الحكم العربية القديمة التي كلفت الأمة كثيراً من الدماء والدموع والثروات والموارد المصروفة على تحديث شكلي هش وقشري لبنى الدولة العربية، حدث بعد مرحلة الاستقلال عن الاستعمار الخارجي..

ويمكننا متابعة تلك الأوضاع العربية الخطيرة من خلال التأمل والتدقيق في بعض أرقام وإحصائيات ضعف عملية التنمية البشرية في العالم العربي استناداً إلى معظم -إن لم يكن كل- مؤشرات هذه العملية (بنى تحتية-اقتصاد متوازن- معدلات ونسب القراءة-أرقام الموازنات العلمية السنوية-أرقام التوظيف والعمالة-..الخ).

والجزء الظاهر من هذه المشكلة يتمثل في الواقع السياسي المعقد القائم والمفضي إلى تعميم سياسة الظلم والتفقير العام، واتباع سبيل اللاتكافؤ واللامساواة، لكنّ الفقر في الحقيقة ليس سوى جزءاً ونتيجة ومآلاً طبيعياً للحالة المعقدة العامة، حيث تقف إلى جانبه مؤشرات كثيرة أخرى، والتي يمكن ضبطها في نقاط أربع، هي:

– ترهل البنى التحتية من مياه نظيفة، وصرف صحي مهدور، وبيئة غير نظيفة.

– الاستنزاف الجائر للموارد والخامات الطبيعية بلا حساب ولا دراسات مستقبلية.

– ضعف مستويات الرعاية الصحية.

– تدني مستويات المعرفة العلمية والتقنية والمعلوماتية.

– قلة فرص التعليم المتوسط الجيد والمهني المهاراتي بالتحديد.

– تواضع معدلات ونسب أرقام الموازنات المخصصة للبحث العلمي.

– تغييب شبه كامل لسياسات الأمان أو الضمان الاجتماعي الحقيقي..

– ضعف القراءة، واعتماد أسلوب التعليم التلقيني الحفظي..الخ..

– الحرمان واللامساواة في القدرات الكامنة والفرص المتاحة والعمل المنشود.. وهو أكثر استشراء من فقر الدخل أو اللامساواة الاقتصادية، إذ تشير الإحصاءات إلى أنّ نسبة الحرمان -المثبتة بألوان متعددة من المعايير التنموية الإنسانية الأساسية- تبلغ حوالي 32.4 % من إجمالي السكان في عالمنا العربي الراهن.

وتقول الأرقام هنا وتتحدث بشكل واضح إلى أن الناتج الإجمالي لبلداننا لا زال نموه يتراوح بين 0.5 -1 % منذ حوالي عشرين عاماً (مع بعض الاستثناءات الطفيفية هنا وهناك)، بينما تتراوح نسبة النمو الطبيعي للسكان بين 2.5 – 2.6 % سنوياً (عدد سكان سوريا كانم حوالي 13 مليون نسمة في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، والآن أصبح حوالي 25 مليون نسمة!)، مما يعني أنّ الدخل الحقيقي للفرد العربي قد انخفض في هذه الفترة بنسبة 40 %، يضاف إلى ذلك أنّ 60 % من المواطنين العرب يقعون ضمن الفئة العمرية تحت 35 عاماً، ويمثل الأطفال تحت سنة 15 عاما نسبة 40 % من تعداد السكان. إضافة إلى أنّ عدد المواطنين العرب الذين يعيشون تحت خط الفقر يتراوح ما بين 65 و 73 مليون نسمة، كما يقاسي حوالي عشرة ملايين عربي من سوء التغذية، وتصل نسبة الأمية إلى نحو 25 % ونسبة البطالة إلى 20 %، في حين أنّ الحكومات العربية قد أنفقت، خلال العقود الثلاثة الماضية، ما يقرب من 1800 مليار دولار على شراء الأسلحة بذريعة حماية الأمن الوطني والقومي. وفي الوقت نفسه تناقص تمويل التعليم تدريجياً منذ عام 1995، إذ انخفض الإنفاق على التعليم للفرد في الدول العربية، نسبة إلى الدول الصناعية، من 20 % عام 1980 إلى 10 % في منتصف التسعينيات.

ورغم الحديث عن ديمقراطية التعليم وإلزاميته فإنّ الأعداد المطلقة للأميين تتكاثر في العالم العربي، فقد ارتفع عدد الأميين العرب من 58 مليوناً عام 1982 إلى 61 مليوناً عام 1990، وإلى حوالي 70 مليون عام 2000 بما يشمل 40.4 % من جملة الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 64 سنة. فإذا علمنا أنّ هذه الفئة العمرية هي نفسها من ضمن العناصر البشرية التي تخدم التنمية العربية، لاتضحت الحالة الحرجة لنوعية القوى العاملة التي تمارس النشاط الاقتصادي في العالم العربي. إذ تتسم العمالة العربية -عموماً- بانخفاض مستوى المهارة، نتيجة اتسام سياسات التعليم والتدريب في الدول العربية بأنها غير فعالة وغير قادرة على خلق العمالة الماهرة، القادرة على التجديد والارتفاع بمستوى الإنتاجية والجودة.

كما أنّ ظاهرة البطالة تعتبر من التحديات الكبرى التي ستواجه العالم العربي في السنوات القليلة القادمة، إذ تزايد حجم القوى العاملة سنوياً بمعدل 2.511 مليون خلال تسعينيات القرن الماضي، وقد ترتفع الزيادة خلال العقد الحالي إلى 3.350 مليون سنوياً، وبالتالي فثمة حاجة إلى ما يزيد عن مليونين ونصف مليون فرصة عمل مطلوب توفيرها سنوياً. وتكمن خطورة البطالة في ارتباطها بعدالة توزيع الدخل، ومحاربة الفقر، وحرمان العامل من تلبية احتياجاته الأساسية، وممارسة حق العمل الذي لم يترسخ حق الاعتراف به حتى الآن.

ومما يضاعف المشكلات العربية أنّ عدد السكان سيتضاعف خلال الثلاثين سنة المقبلة، وسيصبح سنة 2050 حوالي 645 مليوناً، ما يعني أنّ معدل النمو السكاني في المنطقة العربية سيكون أعلى من معدل النمو الاقتصادي. والسكان في سن العمل (15 – 59) سيصل عددهم سنة 2025 إلى حوالي 285 مليوناً، ومن المتوقع أن يصل حجم القوى العاملة العربية إلى 125 مليوناً في سنة 2010. مع العلم أنّ عدد المهاجرين، من أصحاب الكفاءات والاختصاصات المهمة، إلى الخارج يقدر بملايين عدة من الفنيين وحملة الشهادات العليا، وهم القوى الأساسية الضرورية لأية نهضة حقيقية (قدرت خسارة العرب بسبب هجرة العقول العربية بـ 1.57 مليار دولار سنوياً).

وفي الواقع تواجه الدول العربية تحديات إنمائية في تحقيق أهداف الألفية: فهناك نحو 10 ملايين طفل خارج المدارس، وعدم المساواة بين الجنسين ما زال قائماً، حيث تبلغ نسبة الأمية لدى النساء نحو 50 %، وتحتل النساء نحو 5 % فقط من المجالس التشريعية العربية. وعلى المستوى العربي، فإنّ متوسط مؤشر التنمية الإنسانية، البالغ0.651 هو أقل من المتوسط العالمي البالغ 0.729 بحسب تقرير التنمية الإنسانية الصادر عن الأمم المتحدة في العام 2004، كما أنّ المؤشر للمنطقة العربية هو أقل من مؤشر البلدان النامية البالغ 0.663.

ولا شك في أنّ هذه الصورة الإجمالية للدول العربية تخفي التفاوت الكبير بين أوضاعها وتقدمها نحو تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية الثالثة.

والمفارقة الأكبر هنا هي أن العرب والمسلمين يمتلكون طاقات وموارد وثروات وإمكانات طبيعية وبشرية وجغرافية (مادية ورمزية) كبيرة، ولكنهم في الوقت نفسه يعيشون شبه متطفلين على موائد الآخرين، أي أن هناك فجوة بين ما يملكونه وما يصنعونه أو ينتجونه. وهذا إن دل على أمر ما، فهو يدل على أننا لا نحسن تشغيل مواهبنا العقلية والعملية المتوافرة عندنا، الأمر الذي يظهر في واقعنا من خلال انتشار مظاهر الفقر والتخلف والجهل الواسع.

وهكذا، فإنّ التنمية البشرية الشاملة والمستدامة (تنمية الفرد ومن ثم المجتمع) هي المفتاح الحقيقي للحصول على القوة والسلطة بعد إدارة الثروات والموارد بصورة علمية غائية صحيحة.. وتتركز أسس هذه القوة -التي تكمن فيها مصائر الشعوب والأمم والحضارات كما أثبتت مختلف التجارب الإنسانية- في تأمين مناخ سياسي-اجتماعي لحرية الفرد والمجتمعات القائمة، والتي لا يمكن أن تتأتى إلا عبر اعتماد مبدأ تداول السلطة سلمياً وزمنياً، وبالتالي دفع الناس بقوة للمشاركة في صنع القرار السياسي، ومساهمتها في الحكم والتحكم العملي بمصائرها المستقبلية بما يضمن سلامتها ودورها الفاعل وإبداعها الحضاري.. وبالتالي للوصول إلى مستقبل مثمر ومنتج يمكن أن يكون بانتظار العرب خلال العقود القليلة المقبلة.. ولذلك فإنه من دون الشروع في اتخاذ خطوات واثقة في طريق التنمية (وبناء صرح الحرية الكبير) فإنه من المؤكد أنّ مستقبل العرب لن يكون أفضل من حاضرهم.

ولكن كيف يمكن للتنمية الشاملة أن تنطلق في عالمنا العربي والإسلامي في ظل وجود عاملين ضاغطين للغاية:

الأول: داخلي، وهو سيطرة خطابين وواقعين مأزومين، خطاب السلطة الرسمية المستبدة القامعة لكل ما ومن يؤثر على امتيازاتها وسلطانها وهيمنتها وطغيانها، وخطاب تعبوي شعبوي (ثقافوي) ديني سلفي متشدد كان موجوداً في السابق تحت الأرض، والآن بدأ يستلم السلطة، يستعدي العالم ضده، هاجسه الأساسي والجوهري تقسيم هذا العالم إلى فسطاطين، وتكفير (وربما الحكم بالموت) باقي الملل والمذاهب والحركات التي تعارضه في معتقده الديني أو رأيه السياسي أو الفكري.

والثاني: خارجي، ويتمثل في جملة التحديات المصيرية التي تحيط بعالمنا حالياً. وهي من الضخامة والهول ما لا يستطيع أحد أن يقف في وجهها تماماً كالسيل الجارف، ولا بد له من الانفتاح عليها والتكيف معها، على عكس ما نعمل عليه نحن العرب والمسلمون حيث نواجه تلك المتغيرات الكبيرة بالانكفاء على الذات، واتباع طرق وتبني وسائل وأدوات قديمة ووسائل شبه بدائية نعيد من خلالها إنتاج الهزيمة واجترار الأزمات على النحو الأسوأ والأفدح والأخطر، بما يؤدي لعدم حل الأزمة بل لتكريسها مع أزمات أخرى.. لأننا غالباً لا نحسن إدارة مشاكلنا، وسوس خلافاتنا بعقلية مدنية تداولية متوازنة.

من هنا اعتقادنا أن جذر العطالة فيما هو واقع حالياً -في كل هذه المساحة الكبيرة من العجز والإحباط والتردي والتفكك المسيطرة في عالمنا العربي والإسلامي- يعود إلى النمط الثقافي المعرفي المهيمن على العقول والقلوب، والمحدد بقوة لمختلف استراتيجيات العمل واختيارات السلوك التطبيقي القسري، وأعني به مرجعيات المعنى وأنماط الرؤية السائدة المنتجة للفكر والثقافة التي تخطط لحياة الناس والمجتمعات.

* كاتب وباحث سوري

منبر الحرية، 21 أكتوبر/تشرين الأول 2013

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018