البيتكوين.. المنقذ من نقود السيطرة المركزية

إن من الصعب أن نخرج بتوقع حيال إذا ما كان استخدام البيتكوين سيتنامى أم سيتقلص كعملة افتراضية مملة مثقلة بالضوابط، لكن هذا المشروع يبدي بوادر نجاح على أرض الواقع، وهو يمثل تجربة رائدة تثبت بأن أي زمرة يمكنها إنشاء قنوات معلوماتية خاصة لامركزية عالية التقنية.... .

مارتين فلاتشينسكي (Martin Vlachynsky)

ترجمة: علي الحارس

دأبت الحكومات الغربية خلال الأزمة المالية على اللجوء إلى حالات لم يسبق لها مثيل من التدخل في الشؤون النقدية، من أمثال: التسهيل الكمي، وتقليص الخصوصية، وفرض الضوابط على رأس المال، وتجريم التعامل بالأوراق النقدية، وقد أدت هذه التدابير إلى إجبار الناس على البحث عن أنماط أفضل للتعامل النقدي، ومن حسن الحظ أن هنالك بدائل واعدة.

إن الكثير من الناس يتوجهون بأنظارهم إلى البيتكوين (Bitcoin) أو أمثاله من النقود المشفرة، حيث يسمح البيتكوين بإجراء التعاملات المالية اللااسمية (المُغفَلة) عبر أجهزة الكومبيوتر الشخصي والهواتف النقالة دون أي وساطة من جهة مالية. وعلى الرغم من ذلك فإن البيتكوين ليست نقودا حقيقية حتى الآن، فهي أشبه بلعبة مشتركة بين مجموعة من هواة الكومبيوتر، وبعض أصحاب التوجهات الليبرتارية، وعدد قليل من المتعاملين بالسلع غير القانونية، لكن البيتكوين يمكنه النمو إلى كيان أكبر، وذلك لأنه يلبي الطلب على نقود متينة لا يطالها التلاعب الذي يقوم به السياسيون والمصارف المركزية.

وفي الحقيقة، يمتلك البيتكوين خاصتين اثنتين لم تمتلكهما أي عملة من قبل، وهما: أنه لا يستند إلى سلعة، وأنه لا يتلقى الدعم من سلطة مركزية، ولهذا الأمر حسناته: فالسلعة قد تتعرض للمصادرة، والسلطة المركزية قد تمارس سيطرة تؤدي إلى إضعاف العملة.

أما ما يقدمه البيتكوين فهو ما يلي: إذ يمكنك أن تحول كل ممتلكاتك إلى بيتكوينات، وتنشئ كلمة سر (أو مفتاحا خاصا Private Key بلغة عالم البيتكوين)، وهكذا يمكنك تخزين ثروتك في رأسك. ولا حاجة هنا إلى ملفات برمجية تحملها معك، حيث يمكن تصوير شبكة البيتكوين وكأنها سلسلة معلومات هائلة تتكون من شيفرات عمومية وخاصة تربطها علاقات اقتران، وكل ما تحتاجه هو أن تجد جهاز كومبيوتر متصل بالانترنت، ثم تقوم بتنزيل أحد البرمجيات الخدمية الكثيرة التي تدعم البيتكوين، ثم تقارن مفتاحك العمومي بالمفتاح الخاص، وبعدها تستطيع القيام بالتعاملات المالية باستخدام هذه العملة.

وعلى الرغم من أن البيتكوين يحمل في ذاته إمكانية تقديم الحلول للمشكلات الناجمة عن المال المرسومي (Fiat Money)، فإن ذلك لا يعني بأنه نقود حقيقية، فالنقود عبارة عن وسيط في التبادل، ووحدة اعتماد مالي، ومخزن للقيمة، وأي سلعة يمكنها أن تستعمل كنقود، لكنها تفقد هذه المكانة إذا فقدت القبول الشامل باستخدامها في التبادل ضمن رقعة جغرافية بعينها. فعلى سبيل المثال: إذا كنت تستطيع استعمال الشيء نفسه لشراء أحدث الأدوات التقنية في المجمع الاستهلاكي ولشراء إحدى المأكولات السريعة من الباعة المتجولين فعندها يمكن اعتبار هذا الشيء نقودا، وفي يومنا هذا ليس هنالك نقود حقيقية سوى العملات المرسومية التي تصدرها المصارف المركزية.

لكن التاريخ يرينا بأن السلع يمكنها أن تكتسب قيمة نقدية بين ليلة وضحاها إذا توفرت الظروف الملائمة، فعلى سبيل المثال: يروى أن سكان جزيرة ياب (Yap) في المحيط الهادئ وقعوا في حب نوع معين من الأحجار الكلسية، ولذلك فإن هذه الأحجار النادرة المستوردة تم قطعها على شكل دوائر واستخدمت كوسيط في عمليات التبادل، لكن عندما استطاع المنقبون أن يستخرجوا من المناجم أحجارا أكبر وأكبر، أصبح من الصعب تناقل هذه الأحجار الثقيلة، ولذلك توقف سكان الجزيرة عن نقل الأحجار بأنفسهم واكتفوا بنقل ملكية هذه الأحجار فحسب، وهنالك حالات معروفة غرقت فيها هذه الأحجار في المحيط لكن صكوك ملكيتها بقيت في إطار التداول.

إن الناس يحبون استعمال النقود، فهي تمكّنهم من التغلب على مشقات المقايضة، وتتيح لهم تحويل السلع إلى وسيط تبادلي بسرعة عند الحاجة، ويمكن القول بأن كافة معسكرات اعتقال الأسرى الألمان خلال الحرب العالمية الثانية شهدت اندفاع الأسرى بشكل تلقائي إلى إنشاء نقود من خلال السجائر، حتى أن هذه العملة عانت من التضخم والانكماش ومن مقتضيات قانون غريشام (يقتضي هذا القانون أن “المال السيئ” الذي يفرط في تقييمه يؤدي إلى استنزاف “المال الجيد”). كما إن شبكة الإنترنت أدت إلى نشوء شكل جديد من السلع التي اكتسبت بعض القدرات النقدية، بما في ذلك: عملات الواقع الافتراضي من أمثال دولارات ليندين والقطع الذهبية في لعبة وورلد أوف ووركرافت (World of Warcraft)، والتي يمكن بسهولة تحويلها إلى دولارات أو يوروهات حقيقية.

لكن هذه “العملات” ليست نقودا إلا في نطاق جزيرة ياب، أو معسكرات اعتقال الأسرى الألمان، أو لعبة (سيكوند لايف)، أو لعبة (وورلد أوف ووركرافت)، ولا يمكنك استخدامها لشراء إحدى المأكولات السريعة من الباعة المتجولين أو لشراء أداة تقنية من المجمع الاستهلاكي القريب من منزلك.

إذن، ما الذي يمنع البيتكوين من التحول إلى عملة حقيقية؟ هنالك عدة أسباب، ومنها: أن استخدامه يحتاج إلى الإلمام بمهارات تقنية أعلى مما يلزم للتعامل مع النقود التقليدية أو التعاملات المصرفية المعهودة، بل إنه يحتاج إلى مستوى أعلى من المعارف إذا كان المرء يرغب بإبقاء تعاملاته المالية لااسمية فعلا، وهذا بحد ذاته يشكل تكلفة يتحملها المستخدمون المحتملون، مما يبقي عددهم قليلا. لكن البيتكوين يجد من يستخدمه حتى في صفوف الفقراء وغير المتعلمين، ويمتلك شعبية في عدد من الدول الأفريقية، فبالنظر للقيود المتنامية المفروضة على تحويل الأموال إلى الدول المدرجة في لوائح الحظر كالصومال، يعتبر البيتكوين حلا يلجأ إليه من يضطر إلى إرسال الأموال إلى أقربائه المحتاجين هناك.

إن التصرفات الصارمة الأخيرة التي قامت بها الوكالات الحكومية الأمريكية ضد التعامل بالبيتكوين (منها مثلا: مصادرة عدة ملايين من الدولارات من أكبر المتعاملين بالبيتكوين، وهو موقع أم تي غوكس الذي قام بإيقاف تعامله بالدولار مؤقتا)، بالإضافة إلى الجهود الأخف وطأة من قبل الحكومة الألمانية لجلب البيتكوين إلى الحظيرة المالية الرسمية، ليست إلا خطوات أولية لما سيجري في المستقبل من لعبة جر حبال بين الحكومات وبين مستخدمي البيتكوين، فمن المرجح أن الجهات الرسمية ستحاول السيطرة على البيتكوين أو إخضاعه عبر فرض المزيد من التكاليف غير المباشرة على كاهل المستخدم، ولا شك في أن من هؤلاء من سيتقبل هذه التكاليف ويلعب بحسب القوانين، لكن يجب علينا أن نتوقع أيضا حدوث ردة فعل على شكل ابتكارات في مجال تحسين اللااسمية والألفة تجاه المستخدم.

ومن الصعب أن نخرج بتوقع حيال إذا ما كان استخدام البيتكوين سيتنامى أم سيتقلص كعملة افتراضية مملة مثقلة بالضوابط، لكن هذا المشروع يبدي بوادر نجاح على أرض الواقع، وهو يمثل تجربة رائدة تثبت بأن أي زمرة (مصطلح تقني يشير إلى مجموعة من الناس) يمكنها إنشاء قنوات معلوماتية خاصة لامركزية عالية التقنية، وأن تنجح في إدامتها كما يبين واقع الحال حتى يومنا هذا. والبيتكوين ليس إلا مثالا عن هذه الظاهرة الجديدة، وهنالك غيره من الأمثلة: كالشبكات اللامركزية من نمط بي تو بي (P2P)، وبرمجيات تور (TOR) لأغراض اللااسمية عند الاتصال بالإنترنت، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وجميعها تقدم أدوات حديثة للرد على ممارسات (الأخ الأكبر) المجهز هو أيضا بأدوات حديثة.

إن من المبكر جدا الحديث عن توقعات بأن هذه الأدوات ستضمن انتشار الحرية على امتداد العالم، ولكن لا شك في أنها ستساعد على إعطاء قوة دافعة للجهد التحرري.

منبر الحرية، 27 نونبر/تشرين الثاني 2013

 التسهيل الكمي (Quantitative Easing): إجراء حكومي غير تقليدي في السياسة النقدية تقوم المصارف المركزية بموجبه بشراء أصول مالية من جهات خاصة بغرض تدعيم القاعدة المالية للعملة الوطنية.[المترجم]
دولارات ليندين (Linden Dollars: L$): عملة افتراضية تستخدم في لعبة (سيكوند لايف Second Life)، ويمكن تحويلها إلى دولارات أمريكية وبالعكس، ولم تتغير أسعار صرفها في المدة (2008-2011) إلا بشكل طفيف (1 U.S.$ = 250 – 270 L$).[المترجم]
أم تي غوكس (Mt.Gox): أكبر موقع في شبكة الإنترنت للتعامل بعملة البيتكوين، وهو يسيطر حاليا على حوالي (60%) منها.[المترجم]
نمط الند للند (Peer-to-Peer: P2P): أحد أنماط شبكات الكومبيوتر، وهو يعتمد على الربط بين الأجهزة بشكل متبادل دون وجود مخدم مركزي.[المترجم]
برمجيات تور (TOR): برمجيات للتخفي في شبكة الإنترنت، والعبارة اختصار لمصطلح التوجيه البصلي (The Onion Router).[المترجم]
 

مارتين فلاتشينسكي


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018