إن الفكر عندنا له قوالبه ومسبقاته وقواعده وأحكامه واستراتيجياته، ولكنه فكر يولِّد مزيداً من العجز والخواء والجهل والتسلط والاستبداد. لأننا أساساً نتعامل مع الفكر والتفكير والعقل عموماً -الذي كان من المفترض أن نمارس عبره علاقات نامية متطورة وإيجابية خصبة، منتجة وفعالة، مثمرة، مع الذات ومع الآخر- بصورة متحجرة ومنغلقة أحادية وحتمية وخيالية وفردوسية، نادراً ما تجد فيها شيئاً حياً من الواقع.
وواقع (بل وفكر) هو على تلك الصورة غير المنتجة، بل المتآكلة، أنتج وسينتج دوماً عندنا كوارث وأزمات متتالية (وليس فقط مجرد أخطاء بسيطة كما تدعي النظم والرموز والأفكار الأيديولوجية المغلقة تخفيفاً وقلة وضعفاً في الحساب). ولا يكفي أن نقول، إن الأقدار هي السبب الدائم والمصدر الحقيقي لتلك الكوارث، كما يصور أصحاب ورموز تلك المرجعيات السلفية الدينية.. بل هي أزمات من إنتاجنا وعملنا وخياراتنا، صنعناها بعقولنا ومقولاتنا وتصنيفاتنا ومرجعياتنا المهيمنة على واقعنا الثقافي منذ قرون عديدة، والتي لا تزال تتحكم في الخطابات ليس لتبدع وتنتج وتطور وتحسن، ولكن لكي تعيق وتلغم وتضع العراقيل في وجه أي فكر أو معرفة أو مشروع حضاري إنساني مدني يعلي من شأن الإنسان فرداً ومحوراً أساسياً للكون والحياة.
والمثال الحي الراهن على ذلك هو هيمنة وطغيان الداعية التراثي أو الليبرالي والأصولي السلفي على واقعنا الراهن أكثر من العلماء والمفكرين، حيث تراه يملأ شاشات الفضائيات العربية والإسلامية طولاً وعرضاً بأحاديثه ومواعظه، فيوزع شهادات التدين وحسن السلوك على هذا، وفتاوى التكفير والقتل ضد ذاك. ويدعي امتلاك مفاتيح الجنة والنار والحقيقة والهداية والسعادة لإنقاذ الأمة الإسلامية والبشرية جمعاء من براثن الكفر والفسق والفساد. وفي سبيل تحقيق ذلك يستدعي رموز هذا الخط كل ما هو حق أو باطل (شرعي أو غير شرعي) من التراث أو من العصر الذي يعيشون فيه..الأمر الذي حول الإسلام من دين إنساني متسامح، إلى مجرد خطاب ثقافي حزبي مخيف يلاحق الناس، ويزرع الرعب بينهم كمحاكم التفتيش سابقاً.
والمحصلة لذلك كله مزيد من التقوقع على الذات القديمة من دون نقد ولا مساءلة عقلية حقيقية كما يأمر التراث نفسه في كثير من مقولاته ومعطياته التجديدية، ومزيد من البعد عن العصر والتوجه نحو “الماضي-الحلم” البعيد الذي لن يعود كما هو، ومزيد من الكسل والتحجر والتقليد الأعمى الفارغ من مضامين العمل والخيار المستقبلي المنتج والمؤثر.. وبعدها ماذا هناك، إنه الفشل الحضاري المتجسد في العجز الفاضح عن نقد وتطوير العلوم القديمة، أو عن الانخراط في اكتشاف وافتتاح فروع علومية جديدة.
طبعاً نحن عندما ننقد التراث والخطاب السلفي بفكره ودعاته، ونظهر عجزه عن العيش المنتج والفعال في العصر الحديث، وعدم قدرته على بناء معرفة مستقبلية حقيقية نافعة للإنسان والحياة، إن ذلك لا ينبغي أن يحجم تفكيرنا النقدي عن الوجه الآخر للداعية التراثي السلفي، وهو المثقف الحداثي العربي الذي بقي يتعاطى وينتج مفاهيم الحداثة والتطور والحرية والاستنارة والتقدم من موقع المتلقي والمتأثر ومن دون أن يطورها ويبتكر صيغاً جديدة تتعدى محيطه الجغرافي. لأنه أساساً لم يشتغل في المعرفة الحديثة من موقع الخلق والابتكار، وإنما من موقع المبشر والمخلص والمروج والمقلد. الأمر الذي جعله (أي المثقف الحداثي العربي) متعبداً لنصوص الحداثة من غير طول تفكير، ومؤلهاً لأفكارها وهويتها من دون تجربة ومعاناة وتأمل.
وهذا النقد -حقيقةً- لا ينطبق على مجموع مثقفينا ومفكرينا الحداثيين، حيث أن فيهم المبدع المطور والمنتج في شتى ميادين وحقول المعرفة والثقافة والفنون. ولكن هذه الفئة قليلة وضعيفة وغير مؤثرة حتى الآن، على عكس الكثرة الغالبة من أولئك الوعاظ عبدة النصوص والأوثان الفكرية الذين يسيطرون على الفضاء والهواء والسلطة التي باتت مضطرة في الآونة أن تقربهم منها وتفتح مجالات العمل (والإنتاج!) أمامهم ليمارسوا من خلال ذلك أفظع فنون التضليل والتزييف والشعوذة الثقافية والتعمية الأيديولوجية والتهويل الديني.
بناءً عليه فإن المشكلة تحددت، وهي في الأساس ثقافية معرفية، ولكن تجلياتها الواقعية يمكن إجمالها في الآتي:
مجتمعات عربية وإسلامية ممزقة، وتعيش صراعاً وتدافعاً مريراً حول الحكم والسيادة، لا تقترب فيه أبداً من تحكيم لغة الحوار، ومنطق التراضي والتدافع السلمي.. بالرغم مما نشاهده حالياً من بعض التغيرات الإيجابية التي حدثت بعد موجة ثورات الربيع العربي التي تعقد عليها بعض الآمال السياسية والاجتماعية والتي حركت قليلاً مستنقعات العرب الراكدة منذ عقود وعقود.. من منطلق “عسى ولعل”.
فشل ذريع واسع وعريض للسلطات السياسية الرسمية الحاكمة في إدارة قضايا الوطن المحلية (تحقيق التنمية الشاملة، توفير الحريات، القضاء على الفقر والبطالة.. الخ)، إضافة إلى فشلها في قضاياها وتحدياتها الخارجية (ملف العلاقة مع القوى الكبرى وإدارة الصراعات الإقليمية والدولية-نموذج ملف العراق الفاشل الذي خسره العرب ليرتمي في الحضن الإيراني).
وجود بون شاسع وانقطاع واسع بين حاكم غير شرعي (فرض نفسه بالقوة والقهر ومنطق الغصب والغلبة، واعتبر أن السلطة حق طبيعي له ولذريته وحاشيته) وبين محكوم مستضعف (مطارد وملاحق وعاجز عن تحقيق الحد الأدنى من متطلبات وجوده الإنساني الطبيعي)، فقد الثقة في نظمه وأجهزته الحاكمة، لأنها لم تقم لخياره وزناً، وتجاوزت حدود العدل في الحكم.
خوف تلك القيادات الدائم من شعوبها، مما يجعلها تتحسب للثورات في كل وقت.. أو بتعبير معاوية نفسه: “فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا”.. أي سيادة ثقافة الخوف والخوف المتبادل.. وإن بدأت الآن تلك الثقافة تتضاءل ويقل حجمها المؤثر بعد نجاح ثورات الربيع العربي في بعض البلدان، ولكن حتى الآن ليس النجاح مكتملاً بل يحتاج لوقت طويل قبل أن نسميه نجاحاً حقيقياً..
سيادة العلاقات النفاقية والتملقية -إذا صح التعبير- بين الحاكم والمحكوم، وإظهار كل منهما للآخر غير ما يبطن، نظراً لانسداد أبواب التعاون الحر، وانعدام التناصح النزيه.
ولعلنا لا نغالي كثيراً عندما نؤكد على أن مشهد الخوف والإحباط واليأس والظلم والاستضعاف هو من المشاهد الأكثر حضوراً وتأثيراً على حركة الإنسان العربي الذي مارست بحقه الدولة العربية الحديثة –دولة ما بعد الاستقلال الممتدة حتى الآن بمفاعيلها وآثارها ونتائج أعمالها التي لن تذهب وتتغير لا بسنة ولا بعقد زمني- أفظع أنواع القسوة والعنف الموزع مادياً ورمزياً على معظم امتدادات وكتل هذه الأمة البشرية والطبيعية.. بحيث جعلت منافذ التغيير الطبيعي –لا القسري- شبه معدومة في ظل هيمنة وسيطرة تلك النخب التابعة والعاجزة كل العجز عن إدارة شؤونه.
ويبدو لنا هنا أن تعميق ثقافة الخوف والرعب والقلق السلبي -الممتدة أفقياً وعمودياً في جسم الأمة منذ بداية أزمة الخلافة والحكم الإسلامي الأول- كان من الأهداف الرئيسية التي كانت تسعى دول الاستقلال الأولى (الوريثة الشرعية لأنظمة القمع والطغيان التاريخية) -وكل النظم السياسية (سلطات الهزيمة) التي جاءت بعدها، والتي ارتكزت سياساتها جميعاً على ثلاثية: القمع والإفقار والتجهيل- إلى تحقيقها بالقوة على أرض الواقع المعاش.. فكانت النتيجة النهائية لكل تلك المقدمات المأزومة أن نظمنا السياسية المتلاحقة لم تحقق شيء، ولم تتفرغ لشيء كما تفرغت للتحكم بموارد الأمة، ونهبها بالكامل، من أجل بناء نظم قوية متماسكة -وليس دولاً!- للسيطرة على كافة مفاصل السلطة ووأركان ومظاهر الثروة والقوة والمعرفة في كل مواقعها، محتكرين بذلك كل الرأسمال المادي والمعنوي المتبقي لأفراد المجتمع والأمة.. فكان أن وقع الإفقار المقصود على الشعب بكامل أطيافه وتنوعاته، بما جعلنا نطلق صفة “العدالة” على تلك النظم لأنها وزعت الفقر والظلم –بصورة شبه متوازنة وعادلة- على كافة أفراد وأبناء مجتمعاتها.
والإنسان الفقير أو المفقر عندنا لا يجرأ دوماً على رفع رأسه (أصلاً هو لا يستطيع فعل ذلك)، كما أن الجائع لا يعرف السياسة، ولا وقت عنده للحديث والاستماع لترهات وأباطيل السياسة والسياسيين، بل هو مشغول كلياً بتحصيل لقمة العيش وكفاف اليوم (اللهم أعطنا خبزنا كفاف يومنا).. وهكذا يبدأ هذا الفقير الجائع والمحروم -مع مرور الأيام- بفقدان إنسانيته، ونسيان ذاته وفاعليته الوجودية، ويُختصر إلى جملة من الغرائز والمكبوتات، بما يؤدي لاحقاً إلى تدمير القيم السامية والأخلاق الحميدة والمثل العليا التي طالما تفاخر بها، واعتز بانتمائه إليها.. وهكذا كانت النتيجة أيضاً أن وصلنا إلى حافة الهاوية على كل المستويات والأصعدة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وفي ظل هذا الوضع لا يمكن للفرد المصاب بالوهن النفسي والضعف الذاتي العضوي تحقيق الاستشفاء الذاتي لوحده, بل إنه بحاجة ماسة لمن يأخذ بيده قبل كل شيء, وبالمثل لا يمكن لبلادنا النهوض بدون مساعدة عاجلة وسريعة من الحضارات الأخرى.
إننا نعتقد أن شعوبنا العربية والإسلامية تواقة للإصلاح والتغيير بالدرجة التي قد تفرض عليها أن تغض النظر عن مصدر التغيير وآلياته وأساليبه.. ويبدو أن انعدام التغيير الداخلي وفقدان الثقة بالنظم والحكومات القائمة في العالمين العربي والإسلامي –وكذلك أن كل مبادرات الإصلاح الداخلية (إن وجدت أصلاً) تتم وتبنى في غرف مظلمة وقوالب جامدة بعيداً عن هموم الناس وتطلعاتهم وإرادتهم- هو الذي يدفع تلك الشعوب باتجاه قبول التغيير الخارجي حتى لو جاء بيد عمرو (الغرب وأمريكا المشغولان حالياً بأزماتهما المالية والاقتصادية والانتخابية).
والواضح أمامنا -في هذا الاتجاه- أن هناك حقيقتين يعايشهما الناس في مجتمعاتنا، وقد انتقلت تأثيراتهما إلى البلدان الأخرى:
الأولى: وصول حال العرب والمسلمين إلى هذه الدرجة المتدنية من الانحطاط والتخلف بمختلف مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وو..الخ، نتيجة السياسات الفوقية الظالمة التي طبقتها النخب السياسية والاقتصادية العربية والإسلامية الفاسدة عبر العقود الأربعة الماضية، والتي كانت تحظى –حتى عهد قريب- برضى المصالح والسياسات الدولية المنفصلة مع نظيرتها المحلية.
الثانية: نمو حركات العنف والتدمير الدينية السلفية في مناخ الترهل والفساد والاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه اجتماعنا السياسي والديني، والناتج أساساً عن هيمنة ثقافة عربية وإسلامية نصية متعصبة تؤمن بالعنف كخيار أوحد للوصول إلى مصالحها وغاياتها، وتضفي طابع القدسية على فكرها ومنظومتها المعرفية، وتلغي أي حلول وسط مع أي كان، كان من أبرز إنجازاتها سابقاً قتل وتدمير معظم أفكار ورموز الخير والسلام والعدالة في تاريخنا الإسلامي.. حيث أنه -وبعد عصر الرسول(ص)- تعمقت ثقافة العصبية والقبلية، وترسخت أنماط تقليدية عصبوية في طبيعة الحكم السياسي كالحكم الوراثي، وخلافة الحق الإلهي المقدس.. أي تحول الإسلام -على أيدي زعامات الانحراف وحكام الظلم والجور- إلى ملك سلطوي عضوض يعض عليه بالنواجذ، أي دونه الدم والسيف والحروب.
طبعاً نفتح هنا هلالين لنقول بأنه علينا ألا ننسى أن الأصولية الدينية التي نشأت في عالمنا العربي، وتعاظم دورها خلال العقدين الماضيين، انطلقت بقوة بعد أن تم إحلال منظومة الأفكار التقليدية، حول التقدم والنهوض، والتي يعتبر الدين الرافد الأساسي لها، بأخرى أكثر مدنية وحداثة، وذلك من دون خدش للقيم الأصيلة في الثقافة العربية. وهنا جدير بنا أن ندرك اختلاف إجراء الحداثة في العالم الإسلامي في العديد من وجهاته. وعلى عكس أوروبا حيث بدا إجراءً قومياً تماماً، بدأت الحداثة في المجتمعات الإسلامية كنتيجة مباشرة للمواجهات الاستعمارية مع أوروبا. بدلاً من الابتكار، بدت التجربة الإسلامية تقليدية في محاولة لبلوغ ما توصّل إليه الغرب. وقد انقسمت الدول الإسلامية إلى تيارين في الحقبة اللاحقة للاستعمار بطريقة غير سلمية: النخبة التي تلقّت ثقافة غربية وتشرّبت القيم العلمانية والكثير من القيم الأساسية التي لم تملكها من قبل. وتحكم بالكثير من الأنظمة مجموعة من الشيوخ المسنّين في حين لا تتعدّى غالبية شعوبهم الثلاثين من العمر. ومنذ حقبة الاستقلال الشكلي، فُرض غالبية التبدّل السياسي على المجتمع بشكل متسارع وليس تدريجيًا من خلال إجراء فوقي من التطور الاجتماعي والمفاوضات الديمقراطية.
ولاشك أن ضغط هاتين الحقيقتين سيدفع العالم العربي والدولي كله نحو تبني خيارات ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية محلية وعالمية يمكن أن تضع حداً لاستشراء مظاهر العنف والفوضى، ونمو الإرهاب والجريمة الدولية والتطرف الفكري والعملي في المشهد المعاصر.. من أجل تحقيق مجتمع:
– تسوده قيم الحوار والعقل والعدل.
– يحترم فيه الإنسان من حيث أنه خليفة الله في الأرض المكرم بالعقل.
– مجتمع يتحمل الناس فيه بعضهم البعض، وتسوده وجهات نظر متعددة ومختلفة.
– مجتمع يشعر فيه الإنسان عملياً بأنه سيد نفسه، ولا فرق بينه وبين قيادته إلا بتوزيع الأدوار وتعدد الآراء واختلاف المسؤوليات وتنافس الأفكار والاتجاهات المعرفية.
– مجتمع يتبنى النقد والمحاسبة الذاتية الحضارية عنواناً لحركته وتطوره.
ونحن نعتقد أن إنجاز تلك القيم الرائعة لن يتحقق إلا بعد مواجهة أفكار ورموز وعقليات التخلف والاستبداد (القابضة بقوة الحديد والنار على عروش السلطة والسياسة والاقتصاد في عالمنا العربي والإسلامي) وإقامة حكم تعددي وديمقراطي صالح وعادل منتخب مباشرة من قبل الشعب، وبإرادة هذا الشعب الحرة.. بعيداً عن سيطرة مظاهر وثقافة التطرف والتزمت وإلغاء الآخر من خلال بناء مجتمع معرفي، وتوسيع المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية أمام كل أفراد المجتمع، والتي نأمل أن تتحرك بصورة مؤسساتية مجتمعية قوية بعد انتصار الثورات العربية مؤخراً.
طبعاً هذه كلها توصيفات للمطلوب من أجل الخروج من المأزق، ولكن مناخ وفضاء تلك التطلعات والأهداف الكبرى، وإطارها وقاعدتها الأساسية تكمن في ضرورة تغيير طبيعة المعنى المعرفي لأسس ومقومات مهامنا الوجودية بما فيها تغيير كثير من أدواتنا وعدتنا المفاهيمية المعرفية التي نستخدمها والمسيطرة حالياً على معنانا ومبنانا. بما يؤدي إلى تغيير الطريقة والوجهة السائدة حالياً التي أثبت الزمن والتاريخ والممارسة العملية عقمها وفشلها مما جعلنا نعيش على الهامش الدولي والوجودي.
ويجب أن يكون واضحاً للجميع هنا أن النقد الذي نمارسه ليس جلداً للذات أو تجريحاً للنفس –كما نؤكد دائماً- بمقدار ما هو محاولة جدية فاعلة للوقوف المتأمل أمام المشكلة كما هي على الأرض، لكي يتوفر لدينا عنصري الوعي والقدرة على اجتراح الحلول، وبناء القدرات وفتح مغاليق الفكر والواقع. خصوصاً بعد أن أتخمتنا مشاريع التنمية والتحديث العربية والإسلامية -من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار- بنضالاتها الفاشلة ودفاعاتها العقيمة التي ألحقت بنا العديد من الضرر والخسائر أكثر بكثير مما تسببت به للخصوم والأعداء.
إن أحوج ما تطلبه أوطاننا وبلداننا -في مواجهة متغيرات وتحديات العالم كله، وقد أصبح المتغير هو الثابت الوحيد فيه- هو العمل على إدارة هوياتنا وأفكارنا وثرواتنا وعلاقاتنا بالعالم بابتكار الجديد من الصيغ والمهام أو الطرق والوسائل والسبل.. أما ثقافة التطرف والعنف والتعصب والكره والخوف والعداء والصدام والقتل والانشداد إلى الوراء وعبادة الأسماء والأفكار والرموز، فمآلها عربياً أو عالمياً تفخيخ العلاقات بين البشر، والانتقال من مأزق إلى سواه، ومن صدمة إلى أخرى، ومن خسارة إلى خسارة أكثر فداحة.
ولا شك أن المدخل لذلك كله هو تثمير الإبداع العقلي والعلمي وإعادة فتح مغاليق التراث الديني المهيمن والمتحكم بالفكر والسلوك، والذي يدور في كثير من معالمه ومناحيه وفقاً لتعاليم قديمة أو تأويلات دينية مستحدثة غير واقعية وغير صحيحة وغير مفيدة، وربما تحد من قدرة وفاعلية الناس والأمة على العمل والإبداع، بحيث يركز أصحاب تلك الخطوط القديمة بصورة دائمة على قضايا التحليل والتحريم الضيقة مع نسيان شبه كلي لمجال السلوك الاجتماعي الواسع.
وهذه الأزمة الفكرية أفضت -ولا تزال- إلى مزيد من التشدد في كثير من مسلكيات الحياة المتعددة والمتنوعة والمختلفة، التي نراها ظاهرة بوضوح –خاصة بعد نجاحاتهم الأخيرة- في أفكار تيارات الإسلام السياسي من “الإخوان المسلمين” التواقة لممارسة السلطة والحكم.. وبعض الجماعات الإسلامية “الجهادية” و”السلفية” تحديداً التي سبق لها أن اعتبرت أن العنف والإرهاب هما الوسيلة الأنجع والأصلح للوصول إلى جنة الحكم بعد تمكنها من قلب النظم السياسية العربية العلمانية الراهنة. وحالياً وصلت جميعها للحكم..
هنا جوهر الموضوع، إنه في قلة الوعي المعرفي، وضحالة الاشتغال على نقد الذات الحضارية المهيمنة تاريخياً.
* كاتب وباحث سوري
منبر الحرية،11 ديسمبر /كانون الأول 2013
One comment
رائد زياد
22 ديسمبر، 2013 at 6:02 م
أتفق معك بقوة في كل ما جاء في مقالتك المتميزة، لكن لديّ تحفظ على الجملة التالية:
“.. وبالمثل لا يمكن لبلادنا النهوض بدون مساعدة عاجلة وسريعة من الحضارات الأخرى”.
أعتقد أن الفهم الخاطئ و(توسيع دائرة) هذه (المساعدة) قد تؤدي بنا إلى ظهور ثلة تدعو الأوروبي والأمريكي إلى احتلالنا مثلما حدث في العراق، وكاد يحدث في سوريا.