منبر الحرية20 يناير، 20140
إن إسقاط تمثال لينين هو أفضل مؤشر يعكس صورة الشيوعية في نظر من رزحوا فعلا في قيودها، فسكان أوروبا الشرقية لا يرون في تماثيل لينين، الساقطة منها والقائمة، سوى تذكار مزعج يعيد إلى الأذهان ذكرى أجيال سُحقت بأكملها من أجل فسح الطريق للشيوعية كي تمارس جنونها.....

زيلفيناس سيليناس*

ترجمة: علي الحارس

 

ما يجري حاليا في أوكرانيا من أحداث يذكرنا بأمور أصبح الغرب يعتبرها من المسلّمات بينما لا يزال الشرق يعمل جاهدا لتحقيقها؛ فالحرية الشخصية، وحكم القانون، والمجتمع المنظم على أساس التعاون الطوعي ليس من الأمور البديهية المملة في الحياة اليومية، وإنما هي مثل عليا تجعل الشوارع مكتظة بالمحتجين المطالبين بها.

وإذا أردنا معرفة أسباب الأحداث الأخيرة التي شهدتها أوكرانيا فهنالك الكثير الكثير من التعليقات التي تتراوح من التحليل التاريخي العميق، مرورا بالنقاشات حول الخصومة التي اندلعت بين الشرق والغرب بعد انتهاء الحرب الباردة، وانتهاء بتحليلات حول المصالح الاستثمارية المتنافسة؛ ولا شك في أن العناصر السابقة لعبت جميعا دورا في نشوء الأحداث بطريقة أو بأخرى، لكننا إذا ركزنا على الأحداث والأسماء الرئيسية فسنجد بأن التحليلات السابقة قد تجاهلت قوة جوهرية في أوكرانيا، أعني: الشعب الأوكراني.

يبدو أن الشعب الأوكراني ملَّ من رؤية نفسه عالقا في المرحلة الانتقالية على مدى العقدين الماضيين، ولقد كان تحطيم تمثال لينين، حتى وإن كان مجرد حدث رمزي معزول، يمثل حدثا ذا قوة لا تنكر، فهو يذكّر العالم بأنه على الرغم من إسقاط تماثيل لينين وتحطيمها وصهرها وبيعها كخردة، وإحالة ملهمها إلى مزابل التاريخ، فإنها لا تزال منتصبة في الكثير من المواضيع في كافة أنحاء أوروبا الشرقية، وينبغي أن لا نتفاجأ إذا علمنا بأن أكثر بلدان هذه المنطقة تخلفا هي أكثرها احتواء على ما تبقى من تماثيل لينين، ويمكننا أن نستعين هنا بأي مؤشر، كالحرية الاقتصادية أو سهولة الاستثمار أو الشفافية أو الفساد، إذ سنجد علاقة واضحة بين سرعة فصم العرى مع الماضي الشيوعي وبين المستوى الحالي للتنمية على الصعد جميعها: من الصعيد الاقتصادي، مرورا بالصعيد الاجتماعي، وانتهاء حتى بالنفاذ إلى شبكة الانترنت عبر خدمة (برودباند).

إن الشعب الأوكراني يشعر بأنه تعرض للخداع فلم يتمكن من تحقيق أحلامه وطموحاته، ومن الواضح أن بعض الأوكرانيين يعتبر هويته أقرب إلى أوروبا مما هي إلى جيرانهم في الشرق، وهذه الحدود الداخلية قد تكون ذات طبيعة جغرافية (شرق البلاد ضد غربها) أو ذات طبيعة سكانية؛ ومن المهم أن نعلم ما إذا كانت اتفاقية التعاون مع الاتحاد الأوروبي يمكنها تحقيق طموحات الأوكرانيين، لكن الأهم أن نلاحظ ما أدى إليه قرار السلطات برفض التوجه نحو أوروبا، حيث تسبب بتحفيز الأوكرانيين وخلق سببا أكثر مساسا بهم بالمقارنة مع السبب السابق، أي: المزيد من الحرية في التبادل التجاري بين الطرفين.

هل كان من الممكن للأمور أن تأخذ مسارا مختلفا؟ لنتخيل ما كان ليكون عليه المزاج الشعبي لو أن القضية كانت تتعلق بعضوية الاتحاد الأوروبي أو بالسفر دون تأشيرة، فهل كانت الحكومة لترفض هذه المقترحات بالطريقة نفسها؟ إن الاتحاد الأوروبي يجب عليه أن يقرّر ما إذا كان يرغب بتقريب أوكرانيا منه، وما إذا كانت العضوية الكاملة أمرا سينظر فيه بجدية يوما ما؛ وأنا أراهن على أن مسؤولي الاتحاد الأوروبي يعتقدون أن بمقدورهم إغراء الحكومة الأوكرانية لإجراء تغييرات إيجابية، وإبعادها أكثر عن روسيا، وذلك بينما يتحاشون التطرق إلى قضية العضوية الكاملة. إن ما يدعوه الاتحاد الأوروبي “قوته الناعمة” هي قدرته على فرض التغييرات في دول أخرى متأبطا وعوده بالعضوية دون موعد محدد، وهو أسلوب يشبه تشجيع الحصان على الحركة من خلال إغرائه بجزَرة معلَّقة، لكن هذا الأسلوب لا يمكنه الاستمرار إلى أجل غير مسمى، فبعد مدة من الزمن يتحول دور الجزَرة من الإغراء إلى الإزعاج، وهذا ما استغله على النحو الأمثل معارضو الاندماج مع أوروبا.

إن تدمير بقايا عهد الشيوعية والتخطيط المركزي مهمة تنتظر من ينجزها منذ أمد بعيد، ويكفينا أن نرى تعابير وجوه الأوروبيين الغربيين عندما يشاهدون نظراءهم الأوروبيين الشرقيين وهم يلوحون بالأعلام الحمراء وتصدح حناجرهم بنشيد (الأممية) الشيوعي. إن إسقاط تمثال لينين هو أفضل مؤشر يعكس صورة الشيوعية في نظر من رزحوا فعلا في قيودها، فسكان أوروبا الشرقية لا ينظرون إلى تماثيل قادة الشيوعية على أنها مجرد تجسيدات مادية لنقاشات نظرية مجردة يستمتع المفكرون الغربيون بطرحها، حتى يومنا هذا، حول الفضائل الممكنة في ملكية الدولة لوسائل الإنتاج؛ فهم لا يرون في تماثيل لينين، الساقطة منها والقائمة، سوى تذكار مزعج يعيد إلى الأذهان ذكرى أجيال سُحقت بأكملها من أجل فسح الطريق للشيوعية كي تمارس جنونها. إن الأوكرانيين يُبدون اليوم جدية أكبر تجاه الديمقراطية الليبرالية بالمقارنة مع ما أبداه الكثير من الأوروبيين منذ زمن طويل، وإن القيم الأوروبية التقليدية، كالاعتماد على الذات وحق تقرير المصير، تتمتع اليوم بزخم أكبر في (ساحة الاستقلال) في العاصمة كييف عند المقارنة مع ما يجري في بعض أنحاء اليونان مثلا.

ولا بد في الختام من لفت الانتباه إلى أحد التفاصيل الصغيرة، وهو أن هنالك من ابتاع حطام تمثال لينين، وليس هنالك مثال أبلغ من هذا (الاستثمار الريادي) العفوي ليجسد روح الأوروبيين الشرقيين وطموحهم. وإذا كانت أوروبا جادة بشأن مستقبلها فيجب أن تضع نصب عينيها مهمة إسقاط كل بقايا لينين وإحضار ما تبقى من أوروبا الشرقية إلى النطاق الأوروبي.

 

* رئيس المركز الليتواني للسوق الحر (LFMI)

 

منبر الحرية،20 يناير /كانون الثاني 2014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018