منبر الحرية21 فبراير، 20140
إن الأوكرانيين ينظرون إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره خيارا سياسيا قبل كل شيء، لقد سئم الأوكرانيون من الفساد، ومن المحاكم التي ليست إلا مطية للنظام القائم، وسئموا من رأسمالية المحسوبية التي يتصف بها نظام يانوكوفيتش.....

بيوترغوفوروف*

ترجمة علي الحارس

إذا سرت في الشارع الرئيسي للعاصمة الأوكرانية كييف (شارع خريشتشاتيك) باتجاه الساحة المركزية (“ميدان نيزالجنوستي” = ساحة الاستقلال) فستواجه في طريقك بعض الحواجز، وهذه الحواجز ليست إلا بوابات صغيرة يقوم على حراستها عدد من الشباب الذين يرتدون الزي العسكري المموه.

تعيش كييف في هذه الأيام حالة من التحدي، حيث قام المحتجون باحتلال ساحة الاستقلال منذ نوفمبر الماضي، وبما أن شعارهم الرئيسي الذي رفعوه في البداية كان “الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي”، فقد أصبحت هذه الحركة الاحتجاجية تعرف باسم (يوروميدان)؛ لكن كثيرا من الأمور تغير منذ ذلك اليوم، فالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش اعتاد على أن يدعو قضية (الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي) بأنها الهدف الأول لعمله السياسي، وكانت كل محطة تلفزيونية حكومية وكل صحيفة حكومية تقول بأن مصير أوكرانيا مرتبط بأوروبا، بل كانت تشدّد على أن مصير البلاد مرتبط بأوروبا فقط؛ لكن، وعلى نحو مفاجئ، جاءت الأنباء في منتصف نوفمبر الماضي، بأنه بعد لقاء الرئيس الأوكراني بنظيره الروسي فلاديمير بوتين قام يانوكوفيتش، وبمبادرة منه في الأساس، بتغيير موقفه السابق، فتغيرت سياسة البلاد مع هذا التغيير.

أعلن يانوكوفيتش بأن أوكرانيا ستوقف مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي وتبدأ مفاوضات أخرى مع روسيا من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوراسي، وهو مشروع طرحه بوتين كشكل من أشكال الامبريالية الجديدة، على أن تحصل أوكرانيا من هذا الموقف على مكافأة قدرها15 مليار دولار من أموال دافع الضرائب الروسي وتخفيضا كبيرا في ثمن الغاز الذي تصدّره روسيا.

لا يزال الكثير من أهالي كييف يتذكرون الثورة البرتقالية التي شهدها العام 2004، وقد حدثت في الساحة نفسها، وفي هذه المرة أيضا حضر آلاف الأوكرانيين إلى ساحة الاستقلال، وقاموا باحتجاج سلمي كما فعلوا قبل تسعة أعوام، لكن لم يتبقّ من المحتجين في نهاية نوفمبر إلا حوالي ثلاثمئة شخص يبيتون في الساحة كل ليلة، وفي وقت متأخر من التاسع والعشرين من نوفمبر قررت الشرطة إخلاء الساحة، فاعتقلت واعتدت بالضرب على الكثير من الناس.

كان قرار فض الاحتجاج بمثابة صب الزيت على النار، فتواصل اشتعال النار لكنها اكتسبت زخما أكبر، ونزل المزيد من المحتجين إلى الشوارع في الأيام التالية ورفضوا مغادرتها، وأنشؤوا المخيمات والحواجز، واصطدموا بالشرطة مجددا، وأصبحت ساحة الاستقلال تعج بمئات الآلاف من المحتجين الذين يتوافدون عليها مساء كل يوم أحد، وأصبح هذا الحدث الذي يجمع شرائح متغايرة، كالمديرين والمتقاعدين والطلاب، يعرف باسم (“نارودنوييفيتشي” = البرلمان الشعبي) اتباعا لعرف التجمع العمومي في جمهورية نوفغورود التاريخية.

في أوائل يناير المنصرم قطعتُ شارع (خريشتشاتيك) للوصول إلى ساحة الاستقلال، وكانت تضم الكثير من المحتجين على الرغم من درجة الحرارة المتجمدة والوقت المتأخر في يوم من أيام العمل، فهذه الساحة تعتبر مثالا عظيما للتنظيم الذاتي وتمويل الحشود، إذ ليس فيها وجود للشرطة، ولا للجريمة، وترى الناس وهم يقدمون المال مقابل توفير الأمن والطعام الدافئ ومجموعة من السلع وجمع النفايات، بل إن هنالك منصة في الهواء الطلق تقدم فيها (جامعة ميدان المفتوحة) محاضرات مجانية في الاقتصاد والسياسة وغيرهما من العلوم المتعلقة بالأحداث الجارية.

لكن هذا الحال لم يدم، ففي منتصف يناير المنصرم أقدم البرلمان على انتهاك صلاحياته ووافق على قيود جديدة تشبه القوانين الروسية كثيرا: حيث ألصقت تهمة العمالة لجهات أجنبية بالمنظمات غير الحكومية التي تستلم المال من الخارج، وجرى حظر المشاركة في الاحتجاجات الجماهيرية والمعاقبة عليها بالسجن لمدد تصل إلى 15 عاما، وأعطي للسلطات الحكومية الحق بحجب المواقع الإلكترونية دون موافقة قضائية.

وجاء يوم الأحد التالي ليحمل المزيد من المحتجين إلى الشوارع، وذلك على الرغم من أن إقرار قوانين مماثلة في روسيا لم يؤدّ إلى تجمع حشود من المحتجين، وإنما اقتصر الأمر على بعض الناشطين السياسيين.

لقد مرت الحركة الاحتجاجية في أوكرانيا بالكثير من التغيرات منذ انطلاقها، إذ لم تعد احتجاجا “من أجل” أمر ما، وإنما أصبحت احتجاجا “ضد” أمر ما، وهو: يانوكوفيتش، فأعرب الناس عن استياءهم مما تقوله قيادة المعارضة، وبالخصوص: تصريحاتهم بأنهم سيواصلون التفاوض مع يانوكوفيتش.

ولذلك، وعوضا عن عودة الناس إلى منازلهم بعد كل اجتماع لـ(نارودنوييفيتشي) كما كان يحدث في العادة، تحركت عدة آلاف باتجاه البرلمان والمنطقة الحكومية في 19 يناير، فعبرت الشرطة والقوات الخاصة إلى شارع (هروشيفسكوهو) حيث اندلع قتال عنيف، وقد شهد هذا الموضع معظم ما تناقلته الصحف والمواقع الإلكترونية الغربية من أنباء حول الصدامات؛ ولم يتوقف القتال للسيطرة على هذا الشارع إلا في بعض الأحيان، حيث قام المحتجون ببناء حواجز جديدة، وقُتِل خمسة منهم، وكانت بعض حالات القتل بسبب الرصاص.

وعلى الرغم من كل ما حدث، فقد أنجز المحتجون بعض أهدافهم: حيث استقال رئيس الوزراء نيكولاي آزاروف وغادر إلى النمسا التي يمتلك فيها منزلا، وأُبطلت القيود التي أقرها البرلمان في يناير، لكن الهدف الرئيسي لم يتحقق بعد، إذ لا يزال يانوكوفيتش رئيسا للبلاد.

إن الأوكرانيين ينظرون إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره خيارا سياسيا قبل كل شيء، فمعظمهم يطمح إلى أن تكون بلادهم جزءا من أوروبا، وكما قال فيتالي كليتشكو، وهو من قادة المعارضة: “لقد سئمنا وحسب”. لقد سئم الأوكرانيون من الفساد، ومن المحاكم التي ليست إلا مطية للنظام القائم، وسئموا من رأسمالية المحسوبية التي يتصف بها نظام يانوكوفيتش، الرئيس الذي يعتبر ابنه من المليونيرات؛ وهم يرغبون بأن يعيشوا في أوروبا التي يسودها حكم القانون عوضا عن الاتحاد مع روسيا، حتى وإن عرضت عليهم غازا رخيص الثمن.

إن الروس لا يأخذون أوكرانيا على محمل الجد أحيانا، لكنهم في هذه الأيام ينظرون إليها نظرة حسد وإعجاب.

*كاتب من أوكرانيا

منبر الحرية،20 فبراير/شباط 2014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018