كل الدول تتحرك وتنطلق (سلماً أم حرباً) على خلفية مصالحها الإستراتيجية بحثاً عما يثبت وجودها، ويحقق لها مزيداً من القوة والثبات والديمومة، والإنتاج لتحقيق مزيد من الرفاهية والسعادة لشعوبها ومجتمعاتها.. ولا يوجد دولة في العالم إلا ويبحث قادتها عن مصالحها المتنوعة على كل المستويات السياسية وغير السياسية، محاولين استثمار فرص موجودة قائمة، أو خلق استراتيجيات وآفاق عمل جديدة، أو إثارة أجواء ومناخات ومواقع ضغط سياسية أو أمنية أو عسكرية مقابلة قد تفتح طرق وخيارات اضطرارية يمكن أن تقودهم إلى إنشاء قواعد وأسس عمل سلوكية تعود بالفائدة المادية على شعوبهم ومجتمعاتهم.. هذا النوع من السعي والاستثمار السياسي والاقتصادي مباح في واقعنا السياسي الدولي، وله خطوطه ومساراته وأساليبه التي باتت واضحة ومعروفة، والكل يعمل ويتحرك عليه..
وربما قد تلجأ بعض تلك البلدان إلى اتباع أساليب عمل غير أخلاقية بالمعنى القيمي والمبدئي للحصول على مكاسب اقتصادية أو سياسية على غير صعيد، أو للمحافظة على واقع سياسي واقتصادي خاص بها وتجد نخبتها الحاكمة فيه دعماً لوجودها ومسوغاً عملياً لاستمرارية حكمها غير الرشيد بغض النظر عن أثمانه وتكاليفه الباهظة على الشعوب وليس الأنظمة، متغطيةً بشعارات أيديولوجية خارج الزمان والمكان، وغير قابلة للتحقق في البعد الواقعي البشري فقط لتبرير الحكم القائم على الاستبداد واستمرارية مواقع الهيمنة على الثروات والمقدرات وموارد تلك البلدان.
ولكنها قلة تلك البلدان التي ترفع شعارات ومبادئ سياسية واقتصادية تستند إلى مفاهيم وأطروحات عمل دينية، وتلتزم وتعتمد خطوطاً وعناوين ومسارات أيديولوجية دينية كمقوم رئيسي لحراكها ووجودها، مثل إيران وإسرائيل، وهما دولتان تعتمدان على مقاربات دينية شبه نهائية خلاصية..
فإيران مثلاً، وهي موضوعنا هنا، كدولة مترامية الأطراف جغرافياً وذات موقع جيواستراتيجي حيوي مهم، لم تتمكن قيادتها الدينية السياسية والعسكرية (ربما لأنه لا مصلحة لها في ذلك) من بناء سياسة عاقلة ورشيدة مع جوارها، كما أنها لا تزال تستحضر عامل الدين بقوة في مجمل سياساتها الداخلية والخارجية، ليس كتطبيق وسلوك، وإنما كشعار يطرح فقط لتبرير تدخل أو لإحداث ضغط أو لتحقيق مكسب.. حتى بعد حدوث التغيير الرئاسي الأخير فيها، والذي كان من أبرز نتائجه هذا الانفتاح السياسي على مستوى الرئاسة على الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة منها للانحناء قليلاً، في مواجهة العقوبات الاقتصادية المؤثرة عليها، بهدف إحداث بعض اللين والمرونة في السياسات الدولية الموجهة ضدها نتيجة انغماسها في مشاريع القوة والهيمنة والتهديد لمصالح دول الإقليم المجاور لها..
فعلى مستوى الدستور الناظم لها، تعتبر إيران دولة شيعية، أو دولة الشيعة في العالم كما يزعم قادتها ومراجعها الدينيين والسياسيين، بما يبرر لها التدخل في شؤون دول أخرى قريبة أو بعيدة منها حفاظاً –كما تدعي- على مصالح الشيعة في تلك البلدان.. هذا النوع من التدخل والتداخل السياسي المتلفح بأغطية دينية مذهبية يعطينا فكرة واضحة عن عدم قدرة إيران المرجعية الإيرانية الدينية والسياسية على إحداث فصل حقيقي وواضح وصحيح بين التشيع الروحي الديني والتشيع المادي السياسي كما هو واقع الحال التاريخي العقائدي المعروف والواصل إلينا، بل هم يصرون على دمج السياسي بالديني حيث يتم تسييس فهمهم ووعيهم للدين، وتديين فهمهم ووعيهم للسياسة الخاصة بها.. مع أن الشيعة مسلمون قبل أن يكونوا مسيسين وتابعين للمرجعية الدينية الإيرانية التي تريد قيادتها وزعامتها وضع كل شيعة العالم تحت عباءتها المذهبية الوارفة الظلال وذلك من خلال توسيع عمليات نشر المذهب الشيعي بالتبشير العابر للحدود والأوطان مالياً واقتصادياً وسياسياً.. على عكس ما أراده ونادى به كثيرون من علماء الشيعة الآخرين في النجف العراقية أو حتى في قم الإيرانية (كمدينتين تحولتا تاريخياً إلى مركزين حيويين خاصين بشيعة العالم علمياً وثقافياً وتراثياً) مثل السيد أبو القاسم الخوئي والمرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين والعلامة الراحل المرجع الكبير محمد حسين فضل الله.. هؤلاء رفضوا احتكار الدين والمذهب، ودمج الدين بالسياسية كما يمارسه الإيرانيون بعقلية فوقية اصطفائية، وحاولوا منع استخدام واستثمار الأيديولوجيا الدينية في مستنقعات السياسية اليومية، كما واجهوا فكرياً وبقوة كل عمليات الربط المذهبي الخاص بين التشيع الديني والتشيع السياسي، وهم قالوا –في مواجهة فكرة ولاية الفقيه الدينية والسياسية التاريخية المعروفة- بـــــ”ولاية الأمة على نفسها” (المفضي في النهاية إلى آلية حكم ديمقراطي وتداول سلمي للسلطة)، كما رفضوا فكرة ولاية الفقيه التي تعطي العصمة للفقيه ولي الأمر، وتحله محل الإمام المعصوم مقاماً وسلوكاً.. كما طالبوا كل شيعة العالم في كافة الأوطان بألا يكون لهم مشروعهم الديني السياسي المذهبي الخاص بهم، بل دعوهم إلى أن يكونوا مجرد مواطنين صالحين في بلدانهم مثل باقي المواطنين من باقي المذاهب والأطياف، لينخرطوا من موقع المواطنية المدنية الصالحة في بناء وتطوير مجتمعاتهم وبلدانهم.. مواطنون قبل أن يكونوا مذهبيين وشيعة وتابعين ومستزلمين..
أما إيران فهي تحاول على الدوام ربط الشيعة بها وبمنظومتها العقائدية والسياسية، حتى لو تواجدوا في أقصى بقاع وأصقاع الأرض، لا بل وتدعوهم ليكونوا تابعين لها ودائرين في فلكها طوعاً أو قسراً، بالمال السياسي أو بالرشوة المادية أو بالقناعة البسيطة الساذجة، ليصبحوا عوناً ودعماً لها، وربما حطباً ووقوداً لمصالحها القومية، ولمشروعها المذهبي الخاص المتلفح والمتغطي ببعض شعارات “ممانعاتية” “إسلاموية” عقيمة، عانينا منها كثيراً من خلال أحزاب القومجية البعثية والناصرية وغيرها، ولم تعد تجدي نفعاً في عالم اليوم بعد الانكشاف والتمظهر الحقيقي والمصلحي الفاشل لتلك الشعارات والأغراض النفعية الخاصة لها على الأرض حيث أنها دخلت في مواجهات مذهبية وطائفية مع غالبية طوائف العالم الإسلامي، وهي (إيران: أعني النظام السياسي الحاكم) لا تنظر إلى الدول والبلدان كدول ذات سيادة ممنوع ومحرم دولياً التدخل في شؤونها الداخلية، بل تنظر إليها بما فيها من أحزاب وميلشيات وقوى أمر واقع خاصة تابعة لها كما حدث حركتي الجهاد الإسلامي وحماس في فلسطين، وحزب الله في لبنان، وجماعة الحوثيين في اليمن التي كشفت سلطات اليمن مؤخراً عن قيام سفن إيرانية محملة بالسلاح إليهم (وكأنه يوجد هناك أرض محتلة تريد إيران كسب شرف المساهمة في تحريرها!!)، ومد النظام العائلي السوري بفرق عسكرية وطائفية خاصة.. ناهيك عن جماعاتها في العراق ومحاولاتها المتكررة إثارة المشاكل والقلاقل في غير بلد عربي وإسلامي مثل مصر…الخ..
طبعاً نحن نأسف لهذا الوضع السلبي الذي أثاره النظام السياسي، والذي ليس له من مبرر في اعتقادنا سوى استدامة السيطرة على الحكم السياسي لهذا البلد الكبير من قبل نخبة عسكرية وأمنية متداخلة ومتشابكة المصالح، تصر على استثمار الديني في السياسي، وإبقاء إيران في حالة اقتصادية سيئة ورثة كما تفيده أرقام وإحصائيات مراكز ومنظمات الأمم المتحدة، ومنع إحداث أي تحول سياسي وتغيير ديمقراطي حقيقي لمصلحة الشعب الإيراني كما حدث خلال الانتخابات الرئاسية الإيرانية المزورة الأخيرة، في وقت كنا نأمل أن تتحول إيران كقوة قوية ذات إمكانات بشرية وطاقات ومقدرات طبيعية كبيرة، إلى حالة مضافة كمياً ونوعياً للقضايا العربية الحقيقية، وليس إلى مجرد عنصر مخل بأمن واستقرار العرب والمسلمين عموماً، يصر قادتها الحاليين المحكومين بعقدة الأمن وعسكرة المجتمع، على التلاعب بتوازنات المنطقة والإقليم، والضرب الدائم على أوتار العصبيات والطائفيات والمذهبيات في محيط عربي وإسلامي سني يرفض إيران كسياسة نفعية ذرائعية تستغل الدين في السياسة، ولكنه يقبلها كمذهب ديني منفتح ومعتدل مثل باقي المذاهب الدينية..
هنا جذر المشكلة القائمة بين إيران وجوارها العربي والإسلامي، إنه للأسف ما أسميه بـــــــــــ”قومنة المذهب” أي إضفاء طابع ديني مذهبي على مشروعها السياسي القومي الفارسي.. بما يعني إعطاء التشيع هذا الطابع القومي الخاص بإيران الذي يجعل من العجم سادة الشيعة وقادة حركة التشيع في العالم، وكأن الشيعة والتشيع لم يولد إلا مع ثورة إيران، وكأن الإيرانيين -وكثير من العرب المسلمين الشيعة- لم يكونوا مسلمين قبل الثورة.. إنها العقلية المصلحية النفعية المكشوفة التي لم يتمكن العرب -بالرغم من كل إمكاناتهم ومواردهم- من بناء استراتيجيات عمل سياسية واضحة ومتينة لمواجهتها بالسياسة والعلم والمعرفة، وبقليل أو كثير من القوة والمكر والدهاء كما تفعل إيران ذاتها..
أما وبعد أن انتخب الرئيس “الإصلاحي” حسن روحاني، فإن إيران تحاول تقديم عروض حوارية سياسية جديدة، مع العرب خصوصاً، على سبيل ممارسة سياسة التلاعب البراغماتي من جديد من خلال الإيحاء باستعدادها للحوار المثمر مع جيرانها، ومع أمريكا، والوصول إلى نتائج طيبة للطرفين مبنية على علاقات حسن الجوار والمصالح المشتركة في عالم لم تعد فيه السياسة لعبة صفرية، حيث أنه من غير المعقول -أو ينبغي أن يكون كذلك- تحقيق مصالح الفرد من دون مراعاة مصالح الآخرين.. بحسب ما يقول الرئيس روحاني، الذي أكد أيضاً بأن الأسلوب البناء في الدبلوماسية لا يعني الاستغناء عن حقوق أحد. إنه يعني المشاركة مع النظراء، على أساس من المساواة والاحترام المتبادل لمعالجة المخاوف المشتركة وتحقيق الأهداف المشتركة. وبعبارة أخرى، فإن النتائج التي يخرج فيها الجميع رابحاً ليست مفضلة فحسب، بل ممكنة التحقق أيضاً. ولن تقود عقلية الحرب الباردة واللعبة الصفرية إلا إلى خسارة الجميع.. كما قال روحاني نفسه منذ فترة .. فهل ستتحقق أمنية الرئيس الإيراني الجديد؟ وهل أثمرت بالفعل زيارته لأمريكا، خاصة بعد خطابه من على منبر الأمم المتحدة، ولقاءاته هناك (التي أحدثت انطباعات جيدة حتى الآن) في تحقيق خرق جديد في ملف التسوية النووية الإيرانية، وقبلها في ملف الأزمة السورية المعقدة التي تعد إيران أحد أهم اللاعبين والمستثمرين فيها؟!!..
*كاتب سوري
منبر الحرية،24 فبراير/شباط 2014
One comment
الحسن لشهاب
21 مارس، 2014 at 5:41 م
نحن العرب بثقافتنا المتميزة ،نفضل دائما سياسة التشويش و النقد الهدام، خصوصا عندما يتعلق الامر بدولة عربية او مسلمة ،تريد الالتفاتة الى تحسين شؤونها المحلية او تحسين علاقاتها الديبلوماسية، ننكب عليها كما تنكب الاسود على فريستها،دون حياء وكأننا نمارس السياسة بلا مبادئ حتى ولو يتعلق الامر بضرب القيم و المبادئ الاسلامية المشتركة بيننا ، او حتى ولو كانت هده الدولة المستهدفة تعز و ترفع راية الاسلام ، هل هدا يعني ان الصحافة العربية او المحللين السياسيين العرب جد متواطئين مع الدكتاتوريات العربية كما هو الشأن مع القوى الاجنبية المعادية للاسلام ؟ او ان هدا يعني ان سياسة الاغراء التي دفنت الفكري العربي الفلسفي السياسي ارادت ان تدفن معه ما تبقى من السياسيين العرب ؟ تدكر على سبيل المثال انه في المؤتر المنظم بمراكش المغربية بخصوص قمة القدس ،جاء وفد فرنسي و انجليزي ليمثل الاسرائليون و يدافعون لهم عن حقوقهم القدسية،ونحن المسلمون مادا عسان ان نفعل سوى التشفي و التشويش و الاحتقار و ربما التجسس عن احوال اخواننا المسلمين خصوصا عندما تكبر لقمة الاغراء سواءا المادية او المتعلقة بالحفاظ عن المناصب و الكراسي السياسية.