نيما سنندجي*
ستيفان فولستر*
ترجمة: علي الحارس.
إن الوصفة اللازمة لتحقيق النمو معروفة جيدا، فمعظم الاقتصاديين يتفقون مع القول بأن تخفيض الضرائب وتخفيف الضوابط إجراءان من شأنهما التشجيع على الاستثمار الريادي وخلق فرص العمل، ومع ذلك فإن الكثير من الحكومات لا تبدي استعدادها لتقديم أمثال هذه الإجراءات الإصلاحية، ومن الأسباب المهمة التي تدعوها لذلك: خشيتها من رد فعل الناخب، حيث يُنقل عن جان كلود يونكر، وهو من المرشحين المحتملين لرئاسة الاتحاد الأوروبي بعد أن قضى عقدين من الزمن رئيسا لوزراء اللوكسمبورغ، بأنه قال ذات مرة متأسفا: “إننا جميعا نعلم ما الذي يجب فعله، لكننا لا نعلم كيف يمكن إعادة انتخابنا مجددا بعد أن نفعل ما يجب فعله”. وإذا استندنا إلى تحليل مجريات الأمور في (109) من حكومات الدول النامية فسنصل إلى نتيجة مفادها أن مقولة يونكر مخطئة في تشاؤمها، فعلى الرغم من أن الإصلاحات القائمة على أساس السوق ربما تلتقي في البداية بمعارضة عنيفة فإن الحكومات التي تقدم عليها تكافَأ على ذلك بأصوات الناخبين في معظم الأحيان.
وفي كتابنا الجديد (نهضة الإصلاحات) نناقش سرعة تقدم الإصلاحات وجهتها في 29 حكومة من حكومات البلدان المنخرطة في منظمة التنمية والتعاون الدولي (OECD) في الحقبة الممتدة من منتصف التسعينيات الماضية حتى نهاية العام 2012. ويستند تحليلنا إلى مؤشر الحرية الاقتصادية الذي يصدر كل عام بالتعاون بين مؤسسة هيريتيج وصحيفة وول ستريت جورنال، وهو يقوم بتصنيف البلدان بحسب عدة معايير من بينها: التحرر من الفساد، وحرية الاستثمارات، واحترام حقوق الملكية. وقد طرحنا في كتابنا سؤالين اثنين: كيف أدى مستوى الحرية الاقتصادية في هذه البلدان إلى تغيير فعلي بحسب مؤشر الحرية الاقتصادية؟ وهل استطاعت الحكومات التي قدمت إصلاحات أكثر أن تحصل على أصوات الناخبين مجددا؟
وبعد معالجة وضبط مستويات البطالة (لمعرفة العوامل الحقيقية المؤثرة) خلال سنة انتخاب الحكومات المعنية وسنة إعادة انتخابها، قمنا بالتحقق مما إذا كانت هنالك علاقة بين هذه العوامل، وتبين لنا، وعلى العكس من آراء يونكر، بأن الحكومة التي عملت على زيادة الحرية الاقتصادية أكثر من غيرها كانت هي الأكثر حظا في إعادة انتخابها، بل إن هذه الدراسة توصلت إلى نتيجة أكثر إدهاشا، وهي أن هذا التوجه تقوده حكومات اليسار؛ فحكومات (يمين الوسط) التي أعيد انتخابها لم تستطع زيادة الحرية الاقتصادية إلا على نحو أعلى من المتوسط بقليل عند مقارنتها مع أحزاب يمين الوسط التي لم تستطع الفوز بالانتخابات مجددا. أما أحزاب اليسار الحاكمة التي خسرت فرصة إعادة انتخابها فتشكل المجموعة الأقل ميلا نحو الإصلاح، لكن حكومات اليسار التي أعيد انتخابها تمكنت من زيادة سرعة تقدم الحرية الاقتصادية بـ(60%) عند المقارنة مع متوسط سرعة التقدم التي وصلت إليها حكومات يمين الوسط في هذا المجال.
وعلى سبيل المثال: ارتفع مستوى إنجاز بريطانيا أثناء الولاية الأولى لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير (1997-2001) على مؤشر الحرية الاقتصادية بمقدار (1.2 نقطة)، وبشكل يتوافق مع سمعة بلير كأحد المؤيدين الكبار للسياسة المعتدلة الجديدة لحزب العمال ارتفع مستوى إنجاز بريطانيا أيضا خلال ولايته الثانية بمقدار (1.6 نقطة)؛ وإذا استندنا إلى هذا السجل يمكننا القول بأن حزب العمال البريطاني كان يستطيع الفوز بولاية ثالثة، وهذا ما حصل فعلا، وخلال هذه الولاية تخلى بلير عن السلطة لمنافسه غوردون براون الأكثر يسارية. لكن تغير القيادة جلب معه تغيرا في جهة الإصلاح، حيث تراجع مستوى بريطانيا في مؤشر الحرية الاقتصادية بمقدار (2.7 نقطة) خلال المدة (2005-2010)، وفاز المحافظيون في الانتخابات التالية.
ومن الآراء الشائعة أن أحزاب اليمين تقدم إصلاحات سوقية من أجل تعزيز النمو، وأن أحزاب اليسار تقوم في الأساس بتقليص الحرية الاقتصادية وتهدف إلى نشر الثروة من خلال منظومات الرعاية الاجتماعية؛ لكن الواقع يقول بأن البلدان التي نجحت في زيادة مستويات التنافس لديها قد شهدت قيام اليمين واليسار كليهما بالدفع في الاتجاه نفسه؛ حيث قام بوب هوك، الزعيم السابق لحزب العمال الأسترالي، بقيادة حزبه خلال أربعة انتصارات انتخابية متتالية (في الأعوام 1983، 1984، 1987، 1990) استندت إلى إجراءات واسعة لتحرير الاقتصاد؛ ثم استلم بول كيتينغ، وزير المالية الإصلاحي في حكومة هوك، زعامة الحزب من هوك وقاده إلى انتصار خامس في العام (1993) في انتخابات ساد الظن خلالها بأن حزب العمال لن يتمكن من الفوز فيها. ومنذ ذلك الحين دأبت حكومات المحافظيين واليسار كليهما على إكمال السير في طريق الإصلاح السوقي، فكانت النتيجة: نموا اقتصاديا لم ينقطع منذ ما يزيد على عقدين من الزمن.
وعلى نحو مماثل، كانت كندا تعاني من أوضاع مزرية عندما استلم بول مارتين في العام (1993) منصبه كوزير مالية في حكومة الليبراليين اليسارية المنتخبة حديثا، وقررت الحكومة اتخاذ خيار صعب باللجوء إلى الإصلاحات السوقية، فركزت عملها على تخفيض الإنفاق من خلال عدة إجراءات كإلغاء الدعم الحكومي للنقل الزراعي بالإضافة إلى إجراءات لتحرير السوق وتخفيض الضرائب، لكن العديد من المجموعات المصلحية المستفيدة من الوضع القائم عارضت هذه التغييرات، ومع ذلك فقد استطاع الحزب الليبرالي الكندي أن يفوز بولاية ثانية في العام (1997)، وقد أقام الحزب حملته الانتخابية في ذلك العام على أساس الوعد بالاستمرار في تخفيض العجز الفيدرالي، والانتقال إلى تحقيق فائض في الميزانية من شأنه السماح بإجراء اقتطاعات في الضرائب ودفع الدين الوطني لكندا. وبعد ولاية أخرى شهدت سياسات إصلاحية، استطاع الحزب الليبرالي أن يفوز بالانتخابات مجددا في العام (2000). وفي العام (2003) أمسك بول مارتين بمقاليد الحزب واستطاع تحقيق الفوز للحزب في الانتخابات مرة أخرى، ومنذ ذلك الحين قامت الحكومات المحافظية بصياغة سياساتها على نحو يماثل تلك السياسات نفسها، مما أدى إلى تحول كندا واعتناقها للنموذج الجديد الذي يستند إلى السوق الحر في أمريكا الشمالية.
لماذا يُلاحظ بأن حكومات اليسار هي من ينتفع خصوصا من تقديم الإصلاحات السوقية؟ ربما يمكن تفسير ذلك بأن هذه الإصلاحات تجتذب ناخبين من الوسط أو اليمين وتدفعهم إلى التصويت لليسار، وهنالك تفسير آخر يرى بأن حكومات اليسار يمكنها إضفاء سمات اجتماعية على الإصلاحات السوقية. ويرى أحد الأبحاث الاستطلاعية التي أجرتها منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي بأنه عندما يجري فتح الأسواق فإن التنافس يؤدي في الغالب إلى ارتفاع معدل التوظيف، مما يؤدي بالتالي إلى زيادة المساواة في الدخل، وذلك بسبب زيادة دخل العاملين الذين ما كان لهم أن يجدوا عملا، أو كانوا ليعملوا بدوام جزئي، في غياب هذه الإجراءات. ولذلك يمكن القول بأن إجراءات تحرير السوق يمكنها أن تؤدي إلى تخفيض أو زيادة المساواة بحسب هيمنة أي من هذين العاملين، وهنالك أسباب كافية تدعو إلى الجمع بين إصلاحات ذات توجه سوقي مع سياسات لتحسين أحوال الشرائح الأقل ثروة في المجتمع، ومنها: تعزيز البرامج الدراسية المدعومة حكوميا.
إن الكثير من الحكومات تحتاط في يومنا هذا من الإصلاحات، وهي تنظر إلى التغيير باعتباره أمرا غير مرغوب به في المدى القريب، ويصعب تطبيقه من الناحية السياسية، مما يفسر السبب الذي يجعل بعض الحكومات، وخصوصا في جنوب أوروبا، عالقة في مسار الفشل. فالنظرة السائدة ترى بأن “لعنة يونكر” ستصيب كل حكومة تتحلى بالشجاعة الكافية لتغيير وضعها الراهن من خلال تقليص الإنفاق الحكومي أو تحرير الاقتصاد. وإذا حللنا التاريخ القريب فسنجد بأن هذا الانطباع خاطئ، فالتغيير ليس أمرا يسهل تقديمه على الإطلاق، لكنه قد يتمتع بالشعبية في المدى البعيد من خلال تعزيز النمو وفرص العمل. ولا شك في أنه يجب دائما صياغة السياسات على نحو يلبي الاحتياجات الخاصة بكل بلد، فالبلدان العربية ازدهرت طوال قرون بفضل التجارة والابتكار والاستثمار، لكننا لا نجد من هذه البلدان من يعتنق مبدأ (الأسواق الحرة) إلا أصغرها كالبحرين والإمارات العربية المتحدة وقطر والأردن وعمان، أما البلدان العربية الأكبر فإن الكثير منها يرزح تحت وطأة الفساد، وعدم حماية الملكية الخاصة، وتدخل الحكومة في الاقتصاد، مما يؤدي إلى إعاقة تحقيق التنمية في المدى البعيد.
إن التغييرات المؤسساتية المطلوبة يتطلب تقديمها وقتا كافيا وإرادة سياسية، لكنها ما أن توضع في موضع التطبيق حتى تؤدي في المدى البعيد إلى التنافسية والازدهار.
*محلل سياسات في المركز الملكي للتكنولوجيا.
* أستاذ علم الاقتصاد في المعهد الملكي للتكنولوجيا، مدير معهد الإصلاح.
منبر الحرية،20 مارس/آذار 2014
One comment
الحسن لشهاب
21 مارس، 2014 at 6:08 م
من اجل التنمية الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية ،ليس هناك ما يتطلب المدى البعيد كما جاء في خطاب الرئيس المحترم الماليزي محمد مهاتيري ،اولا جئت لامارس السياسة دون طمع في اراثة الكرسي ،ثانيا جئت راغبا في تنفيد خطة عشرين-عشرين و المبنية على تشجيع فرص الاستثمار المحلي و الاجنبي بكل المقاييس و تحسين و تطوير المنظومة النعليمية ،حتى وان تطلب الامر تكلفة مادية لارسال بعتات طلابية الى احسن المعاهد الاجنبية ،ثم قال نحن عندما نريد اداء الصلاة نتجه نحو القبلة و عندما نريد الرقي و الازدهار نتجه نحو التجربة اليابان.ولكن اهم ما في الكلام هو جرئة الرئيس عن استعداده عن المنصب السياسي في اي لحظة.وهنا يكمن السر في التحدي التي تتميزبه الشخصية الماليزية الاسلامية ،وربما يكون هدا هو السبب في انجاح الثورة الاسلامية الايرانية.