x
تبقى عملية بناء دولة التقدم والعدالة، دولة القانون والمؤسسات الدستوريةالمحكومة ثقافياً ومجتمعياً بعقد اجتماعي وسياسي بين المواطن والدولة، هي حلم الفرد العربي الذي لا يزال يسعى لجسر الهوة بين الواقع المعاش والأمل المرتجى على هذا الصعيد دونما نتائج طيبة تذكر في هذا المجال حتى الآن بالرغم من نسائم التغيير الثوري التي مرت منذ حين عليه.
وبطبيعة الحال، الديمقراطية كمناخ سياسي يوفر فرصاً وخيارات واسعة لنمو دولة القانون والمؤسسات، ليست حلاً سحرياً من فوق لمشاكلنا وأزماتنا العربية الوجودية المقيمة منذ أمد غير قصير في عالمنا العربي الكئيب والحزين، والتي تبدأ من الاستبداد السياسي إلى الاقتصاد “الريعي” المأزوم، مروراً بحالة التخلف التقني والفجوة العلمية الكبيرة مع الآخر.
والديمقراطية كفكرة سياسية وكنظام سياسي إجرائي يقوم على قاعدة وجود مناخ سياسي مجتمعي يسمح بتنظيم ممارسة الحريات الخاصة والعامة (الحريات الفردية والتعبيرية والعقائدية)، ويصون مبادئ حقوق الإنسان المؤسسة دستورياًوقانونياً، تجعل الجميع من أسفل الهرم السياسي والاجتماعي إلى أعلاه متساوين أمام القانون والنظام العام تحقيقاً لمبدأ العدالة بكافة مستوياتها وتعابيرها..
لكنها كفكرة تحتاج عندنا كما ذكرنا، لتهيئة المناخ والتربة الثقافية والمعرفية الملائمة للنمو والتراكم ومن ثم الاستثمار.
وهي أيضاً لا يمكن أن تؤخذ ببعضها وتترك بمعظمها.. فإما أن تؤخذ كلها ولو على مراحل، أي نأخذ بها كلها لنكون ديمقراطيين على طول الخط أو فلا.. وهيتمثل هنا دواء “أكسير الحياة” أو الترياق (الدواء الشافي الناجع) الذي يجب أن يؤخذ -كما يصفه الطبيب- على طول الفترة الزمنية التي يحتاجها المريض، وإلا فإن المرض سيعود للظهور من جديد بعد حين.
وقد يقول البعض بأن مجتمعاتنا متأخرة زمنياً وثقافياً عن الأخذ بالديمقراطية بكليتها مباشرة.. وهي ربما لا تتحمل، أوهي غير مؤهلة، أو أن بنيتها الفكرية والتاريخية “بالية”و”عفنة”، وووالخ.. ولكن مع قناعتنا بوجود موانع ومضادات ثقافية للفكرة الديمقراطية، نعتقد بأن النظم العربية الحاكمة –الملكية والجمهورية والأميرية وغيرها- هي المانع والمعيق الرئيسي لنمو بذور الفكر الديمقراطي الحر في مجتمعاتنا قبل الثقافة التاريخية القائمة. هؤلاء هم من يمنع الناس من بناء وتطوير خياراتها وقناعاتها، وإظهار قدراتها واستثمار طاقاتها..
وحتى لو اعترفنا بتخلفنا الثقافي والمعرفي التاريخي، وهيمنة ثقافة تقليدية علينا منذ قرون عديدة، يجب أن نعلم أن الناس في مجتمعاتنا ليسوا أسوأ حالاً ثقافياًاو عملانياً من مجتمعات أخرى متخلفة أصلاً كالمجتمع الهنديمثلاً.
لقد قدم الهنود، نماذج سلوكية حية راقية في العمل السياسي الديمقراطي التعددي السلمي، مع بقاء ثقافاتهم وقناعاتهم وعاداتهم التاريخية القديمة كما هي. بالعكس لقد برزت الحاجة إلى الديمقراطية -كنظام تسالم وتصالح سياسي مجتمعي سلمي لفض النزاعات والخصومات- نتيجة رغبة الناس (على تنوعاتهم الثقافية والحضارية الهائلة) بالتعبير السلمي الحضاري عن تلك الاعتقادات والانتماءات التقليدية بلا عنف ولا فوضى ولا احترابات داخلية.. ففي الهند قوميات كثيرة، وفيها اثنيات لا حصر لها، وفيها أيضاً أعراق ومذاهب وأديان وطوائف ومعتقدات وطرق صوفية وباطنية وأحزاب سياسية من الصعب إحصاؤها.. لكن انظروا الى ديمقراطيتها السلمية المثمرة والمنتجة.. كل نزاعاتهم وخلافاتهم أخضعوها للقانون والدستور والديمقراطية..
وهكذا فالعرب والمسلمون عموماً ليسوا بدعاً من المجتمعات والأمم والحضارات والثقافات.. وهم أيضاً ليسوا كائنات غير بشرية قادمة من عوالم وكواكب أخرى، هم أناس وبشر مثل الهنود ومثل الألمان والروس، ومثل باقي خلق الله، من لحم ودم وشعور وإحساس وعقل وتفكير، فقط هم يحتاجون لصيغة سياسية وفضاء سياسي حر يسمح لهم بالتعبير عن أوضاعهم سلمياً وتعددياً، ويأملون من خلاله نيل حقوقهم وتأمين متطلبات عيشهم الآدمي البسيط رمزياً ومادياً.. وذلك بصورة سلمية تداولية حضارية ولو بعد حين.. لتكون هذه الصيغة قادرة على أن تحرض أجمل ما عندهم من طاقات العمل والابداع والإنتاج..
وقد قالوا قديماً: “كما تكونون يولى عليكم”..ربما اليوم القاعدة تغيرت لتصبح: “كما يولى عليكم… تكونون”.
وحتى لا نتهم بأننا نجلد الذات وننشر دوماً حبل الغسيل “القذر والوسخ” لواقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي العربي أمام الآخرين، نقول بأن بعض بلداننا العربية حققت نتائج طيبة في قضية الانفتاح والديمقراطية، وبعض النتائج الطيبة في التنمية ومكافحة الفقر، والتقدم بعض الشيء على سلم النجاح الاقتصادي والاجتماعي.
ولكن المشكلة أن هذا النجاح لم يأت نتيجة تجذر فكرة الديمقراطية، أو نتيجة توطين المعرفة والعلم وقيم الحداثة العقلية والفلسفية.. بل جاء نتيجة شراء أفكار ومكتشفات ومخترعات ومنتجات الآخر (المتقدم والمتطور) ومحاولة نقلها بالشكل والصور (دون المضمون الفكري والثقافي الذي أنتجها) الى بيئتنا الاجتماعية العربية.. فعاشت تلك الدول نوعاً من الحداثة الشكلية المظهرية، والتي نسميها بالحداثة القشرية الكسيحة الهزيلة.. وليست الحداثة الحقيقية المزروعة والمستنبة في الأرض العربية.
عموماً هناك تخلف عربي عام.. هذا أمر مفروغ منه، ومعروف للجميع بالإطار العام دون معرفة التفاصيل الكثيرة.. فماهي أسباب هذا التخلف؟ ولماذا وصلت معظم الدول العربية الى ما هي عليه من تخلف ثقافي واقتصادي وعطالة سياسية، دفعتها لتكون في مراحل متأخرة ودرجات دنيا على سلم التنمية والتقدم المعروف دوليا؟!.
بالتفصيل نقول:
1- رفضت النظم والحكومات السياسية الرسمية العربية المتعاقبة، بناء مناخ سياسي يقوم على فكرة المواطنة والحكم الصالح.. يمكن من خلاله للفرد أخذ حقوقه الفكرية والسياسية، بل لقد منعته حتى من التفكير خارج السرب الرسمي. أي أنها صاغته وأدلجته وفقاً لمنظومتها الحزبية والتفكيرية والسياسية.. ككائن “حزبوي” مغلق لا وطني.. ولاؤه للحزب والقائد، وليس للأوطان والبلدان وأبناء المجتمع.
2- لم تكترث الدول العربية عموماً لأهمية الطريق والسبيل التعددي الديمقراطي -الذي سارت عليه كل الأنظمة الناجحة والمتقدمة في العالم المعاصر- كنظام إجرائي لبناء أسس دولة مدنية مؤسسية قادرة وفاعلة ومنتجة.
3- لم تهتم الدول العربية مطلقاً بتكريس قيم الحرية والعدالة والتنمية الاقتصادية والانسانية المتوازنة ولو بتدريب وتأهيل الناس عليها ثقافياً سلوكياً.. ولنا أن نتخيل هنا أن مناهج التعليم العربي كلها تفتقد لثقافة (أو حتى لبعض مصطلحات وأفكار) الحرية والكرامة والعدالة وأبسط مبادئ حقوق الإنسان المعروفة حيث تتم تنمية مداركه على الإكراه و التلقين والولاء الأعمى منذ نعومة أظفاره.. حتى المؤسسات الأمنية التي يفترض أن تكون نموذجاً لتأهيل كوادر بشرية مدربة وقادرة على التعامل بإنسانية مع المساجين كانت تفتقر على الدوام لمثل هذه المناهج والثقافة الحقوقية المدنية الإنسانية.
4- صرفت الدول العربية عموماً النظر عن قضية مهمة هي التلازم العضوي بين الحرية من جهة وبين التنمية من جهة ثانية. لأن الانسان صاحب الفكر الحر هو صاحب المبادرة والمبادأة، وبالتالي هو الأكثر قدرة على العمل الفعال والإنتاج الحقيقي، والمشاركة المؤثرة والمسؤولة في عملية التنمية الصحيحة.
5- عجزت الدول العربية عموماً عن تنفيذ إجراءات صارمة صارمة بحق الفساد والمفسدين، وهذا عائد لكونها جزءاً رئيسياً من منظومة الفساد وعقلية الإفساد، لهذا هي تعبر على الدوام عن عدم اكتراثها لتزايد أرقام ومعدلات الفساد الأخلاقي وغير الأخلاقي عندها، حتى باتت دولنا العربية تحقق أرقاماً متقدمة في تقارير المنظمات الدولية التي تعنى بالشفافية الدولية.
6- فشلت الدول العربية في الفصل بين المسألة السياسية والمسألة الدينية لا بمعنى الفصل النهائي الحاسم بين الدين والمجتمع، بل بمعنى منع تدخل رجالات الدين في السياسة من موقعهم كرجال دين وليس من موقعهم كأفراد ومواطنين.
7- فشلت الدول العربية في بناء المواطن السليم الحديث المعافى، ولم تعمل على صياغته وبنائه على أسس وقيم المواطنة والحداثة الفكرية والعقلية.. الأمر الذي سمح لعادات وأعراف وقيم المجتمعات العربية التقليدية من مختلف المكونات والبنى ما قبل الوطنية الحديثة من الانتصار الساحق والماحق على قيم المدنية المعاصرة، مما أجج العصبيات العتيقة، وفجّر العنف الطائفي وغير الطائفي بين المجتمعات والدول.
8- الفشل الذريع في الموضوع الاقتصادي، فالبلدان العربية عموماً هي من أكثر البلدان في العالم معاناة من البطالة والعطالة وعدم الإنتاج.. فالفقر والتخلف الاجتماعي والانفجارات الديمغرافية والسكانية، وترييف المدن وتخلف المرأة وانتشار الأمية الثقافية والتعليمية هي من أهم مظاهر هذا الفشل الاقتصادي والاجتماع.
بالنظر إلى ما تقدم، لم يعد الإنسانالعربي قادراً على الصمود أكثر.. هو لا يريد مزيداً من التحليلات والبيانات والأرقام التي باتت معروفة للجميع، كما أن الوعود باتت معزوفة تثير في نفسه الغثيان بعد عقود طويلة من إلقائها جزافاً هكذا بلا أمل ولا واقعية..
إن تلك الشعارات والوعود الفضفاضة شبع منها هذا الإنسان العربي، وشبعنا جميعاً منها إلى درجة التخمة.
لهذا لابد للعلاقة بين الدولة الجديدة –وهي المعنية أساساً بالبناء والتطوير ومعالجة أزمات ومشاكل الناس، وتقديم حلول جدية حقيقية واقعية لها- وبين المواطن والمجتمع أن تكون قائمة ومبنية على عقد اجتماعي واضح وصريح ودقيق.. يحدد التزامات الدولة تجاه الناس والمجتمع ومن أهمها –بعيداً عن النزاعات والشعارات والخطابات والأجواء العاطفية- الالتزامات الاقتصادية والاجتماعية التي يجب على الدولة التصدي لها بعقل منفتح ومنتج، والقيام بواجب إنجازهاوحلها، كمشكلات البطالة والفقر وغلاء المعيشة وعدم قدرة الناس على فعل أي شيء إيجابي إن بقيت هكذا بلا طاقة محركة لها، وهي طاقة العمل والإنتاج.
إن الذي يحرك الشعوب والمجتمعات نحو تحقيق الشعارات والأهداف العليا والطموحة هو بالأساس إعطاؤها حقوقها بلا منّيّة ولا مزاودة من أحد.. وإفساح المجال العام أمامها للمشاركة الفاعلة في صنع مصيرها ومستقبلها.. الناس باتت تعرف كل الحقائق، صغيرها وكبيرها كما قلنا.. العلم والتقنية واستثمار شبكات التواصل الاجتماعي اخترقت الأسرار الدفينة، وعرّت الدول والأنظمة أمام شعوبها، وهي التي كانت تفاخر دوماً ببناء كل وجودها على السر والعمل بالخفاء، وتبني كل سياساتها وترسم كل استراتيجياتها وراء الكواليس وتحت الأقبية .. لكن كل شيء افتضح، وبات اللعب على المكشوف كما يقال.. ولغة الأرقام والاحصائيات المتعلقة باقتصاد وتنمية كل دولة صار أمراً متاحاً، وبالتالي معروفاً للجميع.. في كل أقاصي المعمورة.
من هنا نقول ونؤكد بأنه في حال عدم توفر الوقود والطاقة المحركة، الناس عاجزة عن فعل أي شيء.. فهل يمكن أن تطلب من ابنك النجاح في صفه والتفوق على أقرانه، وأنت تعامله معاملة سيئة، وتضربه وتهينه، وتذله، ليس فقط جسدياً بل حتى على مستوى عدم توفير أجواء النجاح والتفوق له..
وهكذا لا يمكن للدولة أن تكون قادرة على مواجهة أي شيء، داخلي أم خارجي، مع بقاء مواطنها و”ابنها!!” مذلولاً مهاناً بلا كرامة، عاطلاً عن العمل (عطالة حقيقية أم مقنعة) وعارياً من كل شيء..!!!
والناس عندنا بسيطون وطيبون، وليست لديهم غايات مطلقة غير قابلة للتحقق، أمانيهم (على قدهم كما بالعامية) والتعامل معهم سهل وغير مركب، القضية فقط تحتاج لوعي وإدارة وإرادة جدية.. والدلالة على طيبتهم وحسن نواياهم، لننظر فقط إلى ما فعله الاستبداد بهم، وكذلك ما فعلته التيارات الأصولية بهم.. لقد تحملوا القهر والعذاب والاستبداد السياسي عقوداً طويلة من الزمن منذ عهود الاستقلال الشكلي عن الاستعمار الخارجي، ومنحوا أنظمتهم الحاكمة فرصاً كبيرة للتغيير والاصلاح بلا تكاليف ولا عنف.. ولكن لم يتحقق شيء مطلقاً.
وهكذا الأمر ذاته بالنسبة للإسلاميين.. فهل تعلمون لماذا يسيطر الاسلاميون الدجالون الكاذبون على أبناء مجتمعاتنا؟!.. الجواب هو:لأنهم يستغلون طيبتهم وحسن سريرتهم، ومحبتهم للدين وقيم التدين.. ويستغلون أيضاً جهلهم الفاضح بقيم الدين الحقيقية الأصيلة السمحة والإنسانية.. ويستثمرون في مسألة خوفهم من الله، كخوف مبني على ثقافة وعقلية الحلال والحرام. وهو ما يجب أن يزول من خلال تحويل هذا الخوف إلى محبة لله وليس خوفاً منه.
* كاتب سوري
منبر الحرية، 24 سبتمبر/أيلول 2014