إنها “الفوضى العربية الكبرى” التي جاءت على إيقاع الشعار القديم، “الثورة العربية الكبرى”، وقد بدأت بالتمدد إلى العراق الجاهز والمستعد مسبقاً لتقبل مثل هذه الفوضى الأمنية والعسكرية والسياسية والمجتمعية، كنتيجة حتمية لسنوات من حكم الاستبداد، ورفض التغيير، ومواجهة مطالب الناس بالقمع، وانتشار الفساد الحكومي والاجتماعي، واشتعال نيران الطائفية الدينية المقيتة، التي تكشفت عنها عملية غزو العراق بعد عقود من القمع الصدّامي الذي أدى إلى ولادة دولة أمنية تسلطية تتستر بالقضايا القومية الرصينة لإضفاء حالة من “الطهورية الرسالية والنقاء القداسي” على أفعالها وسلوكياتها، ولكنّ نخبتها ومركّبها العسكري والأمني والاقتصادي المهيمن، فشل في بناء دولة القانون والمؤسسات، دولة الولاء للقانون والدستور والوطن، وليس الولاء للطائفة والعشيرة وحكم المرجع والشيخ ودور الافتاء..
وتأتي تلك الفوضى بعد أن استشرت في الدولة مواقع الفساد السياسي والقانوني والمالي، مثلما هي حالة كثير من بلداننا العربية والإسلامية التي تخلقت فيها مواليد مشوهة من الأصولية التكفيرية والجهادية الإسلامية السلفية، مع أنها بلدان قامت –كما زعم- على أسس غير دينية وغير طائفية، واستقت وجودها من دساتير ونظم وقوانين حديثة (غربية!!).
وهذا أمر مدعاة للحيرة والاستغراب، إذ كيف تنتج تلك البلدان (التي ادّعت وتدّعي العلمنة والتقدم!!) هذه الحالة الجهادية المؤمنة بالعنف العضوي المقدس، والرافضة للآخر حتى لو كان من أهل البيت المذهبي أو الطائفي الواحد؟!!.. وكيف حدثَ أمامنا أنّ أنظمةً ثوريةً (علمانية، تقدمية) لم تنتج أمامنا -بعد عقود طويلة من استلامها للسلطة وانفرادها شبه الكامل بمقاليد الحكم وجنان العرش الأعلى، وإدارتها المطلقة لكل مواقع وشؤون وشجون الشأن العام والخاص- غير أبشع صور الأصولية، ومختلف تنظيمات “القاعدة” و”النصرة” و”داعش” وغيرها من الحركات “الإسلاموية” المتفجرة عنفاً وطائفيةً، لم يكن لها أي وجود على الإطلاق قبل ذلك؟!!..
المشكلة الكبرى هنا أن آليات الحكم العربي المشوهة وغير القانونية، لا تزال هي المصدر الرئيسي لولادة وتدفق حركات الإسلام السياسي، ولا تزال هي التربة الخصبة لنمو وصعود نجم حركات الجهاد الأصولي من القاعدة والنصرة وداعش وغيرها، ومن ثم توظيفها سياسياً، بجعلها “فزاعة” للتخويف والإثارة والاستثمار.. والقضية الأخرى هنا، أن الحاكم العربي لم يفهم بعدْ، أن بناء المجتمع من الداخل على أسس متينة من الرشد السياسي، ومحاولة بناء دول قانون ومؤسسات حقيقية فاعلة، هو أساس الحكم، وقاعدة الانطلاق للتطور والازدهار، بما يمنعْ نمو خلايا خبيثة جديدة في جسد مجتمعاتنا المريضة بداء التسلط والاستبداد والإرهاب الديني وغير الديني.
وهذا يعني، أن استنهاض قدرات المجتمع، في مواجهة تلك التنظيمات الماضوية لا بد وأن تقوم (عملية الاستنهاض) على قيم وأفكار سياسية ومبادئ ثقافية صحيحة من العقلانية السياسية، والحوار المفتوح مع الآخر، وتطبيق القانون والنظام العام على النخب الحاكمة قبل غيرها من باقي أبناء الشعب، والعمل على كسب ثقة الناس بصورة طوعية، وخلق جو وطني متوازن للعمل والإنتاج، والانفتاح على الجميع، مواطنين وأحزاب وتنظيمات متعددة ومتنوعة.. هذه كلها مقدمات حيوية لبناء حالة مجتمعية شاملة في مواجهة قوى التطرف والإرهاب الأصولي التي تقف عقبة كأداء في طريق التحرر السياسي والتقدم الاجتماعي، مثلما هي حالة قوى الاستبداد والتطرف السلطوي القائمة أيضاً..
من هنا يمكن القول أن أزماتنا العربية المتلاحقة، التي لا تزال في حالة تصاعد ونمو كبيرين، وآخرها ما يحدث اليوم في العراق من سيطرة حركة “داعش” (تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام)()الإرهابية المتطرفة على بعض مدن العراق، ستتواصل وتتفاقم أكثر فأكثر طالما بقيت شؤون وقضايا ومسائل الحكم العربي عموماً معلقة وغير محسومة، وطالما بقي الحاكم العربي لا يفكر إلا بطائفته وقبيلته وعشيرته، ويحكم بلده بمنطق القوة والعسف، وبآليات حكم الاستبداد والتسلط والهيمنة، لا يفكر بحقوق الآخرين، بل يصادرها ويعتقلها، ويلغي الرأي السياسي وغير السياسي الآخر.. الأمر الذي سيجعل من الفشل هو الحليف الدائم لبلداننا ومجتمعاتنا.. وطالما بقيت تلك المعايير السياسية الخاصة (القبلية والعرفية والتقليدية) تتحكم في العمق البنيوي بآليات عمل وتسيير مختلف شؤون ومواقع تلك الدول، فلا إمكانية للنهضة مطلقاً.
إن تحقيق الانتصار على حركات التكفير “الدواعشية” “القاعدية” (التي انتشرت كالنار في هشيم الجسد العراقي وقبله الجسد السوري) وكل مواليدها المشوهة من أتباع وأصحاب الفكر الظلامي، لن يأتي بتلك السهولة المفترضة، لأن قيم الاصطفاء وأفكار التكفير والعنف والإلغاء متجذرة بقوة في وعي وسلوكية تلك الجماعات المنتظمة حديدياً، ولهذا لا بد من طرح رؤية جامعة مشتركة لآلية الحكم والاصلاح والتغيير السياسي العربي، بهدف بناء دول التنمية والقانون والمؤسسات، وإلغاء التهميش والإقصاء والاستبعاد من القاموس السياسي لتلك الدول المضروبة والمصابة حالياً بـــ”الفيروسات” الأصولية.
إن السياسات الحكومية الرسمية التمييزية والإقصائية التي كانت تهمش قطاعات واسعة من الشعب العراقي خاصة من أهل “السنة”، هي التي وفّرت لتنظيم “داعش” ولغيره الحاضنة الشعبية التي تحميه، بل وتمنحه المدد والقوة.. فهل يمكن مثلاً لتنظيم عسكري أصولي صغير عدداً كـ”داعش” (تحدثت الغارديان عن أن حوالي 30 ألف جندي عراقي فرّوا أمام 800 مقاتل داعشي)() أن ينجح في الاستيلاء على مدن بأكملها، وتستسلم له ألوية وقيادات عسكرية عراقية منظمة ومدرّبة، ويهدد باجتياح العاصمة بغداد، وباقي مدن الجنوب العراقية الشيعية، وتخاف منه دول كبرى، ويدخل العالم في حالة شبه طوارئ سياسية ومخابراتية، وتشتعل الإنذارات الدولية هنا وهناك.. هل يمكن أن يحدث ذلك، لولا وجود دعم شعبي كبير له، وقناعات (ورؤى وتطلعات) مشتركة بينه وبين أهالي تلك المناطق، ولولا استثماره الناجح للخلافات الحادة القائمة بين الحكومة المركزية وأهل تلك المدن، مما وفّر له أرضية العمل وحرية التحرك وسرعة الانقضاض؟!!..
ولا جدال طبعاً، في أن الحلول العسكرية مطلوبة في مثل هذه الحالات الطارئة، ولها دور مهم في التقليل من حجم الخسائر المتوقعة، وتحجيم المخاطر الكبرى المحتمل حدوثها جرّاء امتداد و”تعملق” تلك الحركات الإرهابية، بما يمكن أن يؤدي إلى ضمان استقرار بلداننا، لكنه في ظني يبقى حلاً ظرفياً آنياً، لا يزيح المشكلة إلا قليلاً، ولا يقتلع المرض من جذوره، لأنه يعالج النتائج، ولا يداوي الأسباب.. ولهذا تكون الحلول السياسية العقلانية اللاحقة، القائمة على تقديم وتطبيق صيغة سياسية توافقية تعترف بمطالب الناس، وتضمن لهم حقوقهم الرئيسية بناءً على قاعدة (وفكرة) المواطنة، أهم وأجدى وأكثر نجاعة لاستكمال تحقق الانتصار الحقيقي.. انتصار الدولة والمجتمع على خوارج العصر، من خلال إقامة دول القانون والحرية والعدالة الحقيقية.. باعتبار أن الحل السياسي العقلاني التشاركي المفضي إلى تلك الدول – بحيث يمشي بالتوازي مع الحل العسكري- يمكن أن يساهم في حرمان تلك التيارات الجهادية من أي حامل اجتماعي يمكن أن يوفر لها مناخ النمو والامتداد في بيئة مجتمعاتنا التقليدية.
وبالعودة إلى العراق، فقد كان متوقعاً جداً، لدى معظم المحللين والمراقبين، بقاء هذا البلد التاريخي العظيم المليء بالثروات والطاقات والقدرات، رهن الفوضى والطائفية والعبث السياسي، وبالتالي تراجع فكرة الدولة، لصالح تزايد حجم وقوة ونفوذ الميليشيات والجماعات الطائفية الخاصة بهذا الطرف أو ذاك.. وقد كان إلغاء الرأي الآخر السلمي المدني الحر، وقمع الأحزاب السياسية، وتكريس عقلية الأنا، وشخصنة الحكم المولود حديثاً بعد غزو خارجي، وانعدام الحوار والتفاهم على آليات مستقبل العراق الحديث بين كل المكونات السياسية والمجتمعية العراقية، كله كان مقدمة لتفجر أزمة “الدواعش” والإرهاب الأصولي عموماً.. وهذه وصفة دائمة لفشل وتخلف أية دولة، حتى لو كانت متقدمة.. وها هو العراق الذي لم تضعه حكوماته المتعاقبة برئاسة نوري المالكي على طريق النهضة الأولى بعد، يعاني ويدفع ثمناً باهظاً، وجغرافيته السياسية والديمغرافية مهددة بالتقسيم..
لقد تصرف هذا الرجل على طريقة الحكم الصدامي، وكأنه الحاكم الأوحد، مستفرداً هو وحزبه وباقي أركان حكمه المجتمعية والحزبية بالحكم، ومستجيباً فقط لنخبته السياسية الخاصة، ومستبعداً أفرقاء سياسيين آخرين حتى من صميم ثقافته وقاعدته الإسلامية المذهبية، مما ساهم بقوة في تصنيف الناس والأحزاب بشكل حاد بين موال (له كل المكتسبات والمنافع والامتيازات) ومعارض (ليس له سوى العزل والاقصاء السياسي) حتى لو كانت معارضته سلمية مدنية حضارية.
نعم، لم تتعامل حكومة المالكي بحنكة ووعي ورشد سياسي مع الاحتجاجات المتواصلة في البلاد خاصة تلك التي وقعت في المناطق “السنية”، ولم تسع إلى إرساء قواعد ديمقراطية حقيقية، تسمح بتحييد النزعة الطائفية بالتعامل مع كل العراقيين على أساس المواطنة الحقة (وليس الانتماء الطائفي)، أي إرساء قواعد دولة المواطنة، لا دولة الطائفية، حائلة دون اتخاذ “داعش” أو غيرها موطئ قدم لها في العراق().. بل قامت حكومته بالعكس من ذلك.. فبدل العمل على الحل السياسي للمشكلة الطائفية في العراق، والتي تهدد كيانه المنكشف، شنت حكومة المالكي منذ مدة “حرباً” على الاحتجاجات السنية في البلاد، بل وسارت في ذلك على نهج ومنوال حكومات عربية أخرى، باستخدامها الحل العسكري فقط.. والذي زاد في تصاعد حدّة الموقف السياسي السلبي من المالكي، هو الإمعان في تكريس حالة طائفية مقيتة في البلد، شعر فيها كثير من أهل السنة بأنهم محاربون ومغيبون عن ساحة الفعل والقرار والتأثير والمشاركة السياسية، وتقرير مصير بلدهم، فانكفأوا نحو الوراء، واستداروا لملاذاتهم “الطائفية” الآمنة الكامنة، في مواجهة الحراب الطائفية للآخرين.
للأسف هذه هي أوضاع وأحوال معظم مجتمعاتنا وبلداننا العربية والإسلامية، الكل يبحث في النهاية عن قاعدة –ولو غير وطنية حداثية متشكلة بالعقل والفكر العلمي- يرتكز عليها لتعويض ضعفه ونقصه وهامشيته الوطنية، في مواجهة الأزمات والتهديدات الوجودية التي قد تحدق به من داخل بلده ومن خارجها.. فهذا يستند إلى قيم العشيرة، وذاك يجلس في حضن زعيم القبيلة أو مرجع الطائفة أو شيخ الإفتاء، والآخر يرتمي في مستنقعات الطائفية والمذهبية العفنة….الخ.. وكلها انتماءات وقيم عتيقة سالبة للعقل والإرادة الحرة، وهي ستبقى وتمتد وتتسع آفاق ومساحات تأثيراتها السلبية أكثر فأكثر، طالما أنه لا دول مدنية أشيدت، ولا عقلانية فكرية وسياسية تحققت، ولا ثقافة مدنية بنيت وتأصّلت.
* كاتب سوري
منبر الحرية، 02 ديسمبر/كانون الاول 2014