ما أن تناقلت محطات الأخبار العالمية خبر مجزرة (شارلي ايبدو) حتى أخذ هذا الخبر يتنوع في صيغته وطريقة طرحه وفقا لمناهج تلك المحطات والجهات السياسية التي تقف خلفها، ووفقا لتنوع المتلقي في مختلف أنحاء المعمورة، ففقد الخبر صيغته المحلية التي انطلق منها، وتحول إلى خبر عالمي يحمل في طياته من مشكلات المتلقي أكثر مما يحمله من حقائق الحدث.
إن البيئة الفرنسية المضطربة التي انطلق منها الحدث تجعل نطاق التحليل مختلفا عما يسود التطرق إليه في الفضائيات، فهذه البيئة تعاني من مشكلات متنوعة ومتعددة قبل ظهور داعش، وقبل أن تخرج المظاهرات المنددة بالرسوم المسيئة؛ لكن تفاقم مشكلات هذه البيئة وإفرازها لجرائم قتل جماعي واحتجاز رهائن جعلت الأمر يتحول إلى مجرد عرض تلفزيوني آخر حول (أشرار) و(أخيار)، وبقي الجدل الحقيقي فريسة للتجاهل، مما يجعل الاحتمالات مفتوحة أمام وقوع عمل إجرامي آخر ضمن حلقة مفرغة من الجرائم تنال وهجا إعلاميا خلابا وتفتقر إلى تحليل منهجي سليم.
إذا نظرنا إلى الحدث من منظور محلي فرنسي فربما يفقد حينها جاذبيته في أعين الإعلام، وفي أعين جمهور هذا الإعلام: فالقاتل لا ينتمي إلى مؤسسة دينية ذات تراث راسخ في الدفاع عن رموز الدين، وإنما ينتمي إلى وسط اجتماعي ما كان له أن يوجد أصلا لولا علمانية الدولة الفرنسية ومبادئها الجمهورية، كما إن القتيل لا ينتمي إلى مؤسسة إعلامية منخرطة بشكل فاعل ومنهجي في الدفاع عن حرية الرأي والتأصيل له في المجتمع الفرنسي، وإنما ينتمي إلى مؤسسة ترفيهية تخاطب ذهن القارئ الذي يبحث عن تسلية أسبوعية عابرة.
وعلى الرغم من ذلك، تحول القاتل إلى شيء آخر، وكأن رحلة إلى خارج فرنسا كفيلة بسلخه من انتمائه الفرنسي وجعله كأي إرهابي من إرهابيي (دولة الخلافة) الذين ينفذون جرائمهم في بلدان لم يسيروا على أرضها من قبل؛ وهكذا كان رد الفعل الفرنسي يقضي بإرسال حاملة الطائرات (شارل ديغول) إلى الشرق الأوسط عوضا عن توجيه جيش من المحللين الاجتماعيين إلى الضواحي التي جاء منها القاتل، وذلك لتسليط أضواء البحث على هذه البيئة التي تحتاج إلى حلول جوهرية قبل أن يقع المحظور وتحين لحظة الانفجار الكبير الذي يهدد وجود الدولة الفرنسية نفسها.
والأمر نفسه يصح قوله حول القتيل الذي تحول إلى شهيد لحرية التعبير، وهو موقع أناطته به فداحة الحدث، لا حقيقة الواقع، وذلك لأن القتيل لم يعمل لترسيخ حرية التعبير إلا من خلال إطار الدولة العلمانية، وهو إطار أكل عليه الدهر وشرب، وليس من العقلاني التعامل مع القرن الحادي والعشرين بذهنية ستينيات القرن العشرين، أما من يرفض هذا الواقع فعليه أن يدفع الثمن من دمه، وهذا ما حصل في السابع من يناير.
وليس هنالك أدلّ على الاستثمار الإعلامي المسيّس للمجزرة من المسيرة التي جمعت الرئيس الفرنسي ببعض زعماء الدول، إذ تحول الأمر إلى مناسبة لالتقاط الصور وإحراز النقاط في حلبات السياسة، خصوصا مع حضور الزعيمين الفلسطيني والإسرائيلي، فأصبحت دماء القتلى سلّما يتسلقه السياسيون لخداع الرأي العام، ولم يعد من الغريب بعدها أن تسمعنا بعض وسائل الإعلام حديثا عن صعود أسهم الرئيس الفرنسي ورئيس وزرائه لدى الرأي العام.
إن فرنسا تعيش أزمة مصيرية لا يمكن التغاضي عنها، فالأحزاب السياسية العنصرية تعد الناخب الفرنسي بتحقيق أمانيه من خلال التخلي عن شعارات الجمهورية نفسها، وترغب بتحويل فرنسا إلى كيان عنصري غريب لا يشبه فرنسا التي يحبها العالم، فرنسا التنوير والحرية والتسامح. ومن الجانب الآخر تقف الضواحي التي لا تزال تجترّ مشكلات نهاية دولة الرعاية الاجتماعية، وتحاول أن تتلقف أي مثال لإعادة هذا النوع من الدولة وإن كان كيانا خياليا مصطنعا يقوم على العنف والقتل في مكان بعيد بين العراق والشام، وذلك على الرغم من أنها تعيش في بلد يشهد له التاريخ بأنه مختبر للتجارب الديمقراطية المختلفة.
مجزرة (شارلي إيبدو) فرنسية القاتل والقتيل، ولا بد من الاستناد إلى هذا الأساس في تحليل أسبابها ومناقشة سبل الحيلولة دون تكرارها، ولا نعني بذلك أن بعدها العالمي مرفوض أو بعيد عن المنهجية، فالعالم أصبح قرية صغيرة لا يمكن التعامل معها بشكل مجتزأ، لكن التغاضي عن البعد الفرنسي لصالح البعد العالمي يجعل فرنسا عرضة لتكرار المجزرة، ويبعدها عن أي مسعى يتعامل مع المشكلات الحقيقة التي تعاني منها.
* كاتب ومترجم عراقي
منبر الحرية، 22 يناير/كانون الثاني 2015