جاك غاريلو
ترجمة : حافظ إدوخراز
اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء
“لأننا نُعطي لمن يملك فسوف يعيش في وفرة، وأما الذي لا يملك إلا القليل، فإنه يُؤخَذ منه” (إنجيل القديس متى، الإصحاح 25، 29). إذا أخرجت هذه العبارة المقتبسة من الإنجيل عن سياقها وجُرِّدت من معناها العميق، فإنها ستعكس الفكرة القائلة بأن الفوارق بين الأغنياء والفقراء آخذة في الاتساع. وقد لجأ إليها أنصار الماركسية والصراع الطبقي بُغْيَة إيضاح مساوئ الرأسمالية : إفقار البروليتاريا تحت تأثير قانون الربح، الذي يُعَدُّ مبدءاً للاقتصاد الليبرالي القائم على حقوق الملكية.
تُفَنِّدُ الحقائق هذه الفكرة منذ أمد بعيد، ولكنها ما تزال قائمة. وقد اضطر ماركس للانتقال من أطروحة الفقر المطلق (الفقراء يزدادون فقرا) إلى أطروحة الفقر النسبي (الفقراء يغتنون بشكل بطيء مقارنة بالأغنياء)، ثم بعد ذلك إلى أطروحة الفقر المُعَولَم (الإمبريالية تقضي على الفقر في البلدان الغنية من خلال استغلال الأقوام البروليتارية). كثير من الناس، ودون الذهاب إلى حد تبني هذه الآراء المتطرفة، هم مقتنعون بأن هناك فقراء أكثر من أي وقت مضى : جَور الليبرالية.
هذا شعور يُكَذبه الواقع، فقد تراجعت الفوارق في الدول الحرة بخصوص الدخل والثروة، أما الديكتاتوريات فقد تعمقت فيها الفوارق بالفعل. وعموما، فإن فرص المعيشة والتعليم والعناية الطبية والولوج للعمل والسكن، قد تضاعفت بخمس إلى عشرين مرة حسب الدول، وبإمكاننا قياس هذا التقدم الإيجابي من خلال “مؤشر التنمية البشرية” الذي يتم حسابه سنويا.
هل العدالة تعني المساواة ؟
العدالة مفهوم جذاب، وقد كان “العادلون” يعتبرون على مر التاريخ مثالا للإقتداء في الأقوام المتحضرة. ولكن هل يتعلق الأمر بعدالة في السلوك (العادل هو من يتصرف باستقامة) أم بعدالة مرتبطة بحالة الإنسان (يُعتَبر عادلا من هو في وضع أدنى) ؟ بيَّن حايك (Hayek) استحالة تحديد عتبة لعدم المساواة يمكن وصفها بأنها عادلة. لا يمكن تصور مستوىً تنعدم عنده اللامساواة بين الحالات، إلا بفرضه بالقوة (اللامساواة كانت موجودة حتى في معسكرات الاعتقال في الإتحاد السوفياتي). المساواة الوحيدة التي يمكن تصورها هي المساواة في الكرامة الإنسانية وفي الحقوق الفردية الأساسية. ولكن هذه الكرامة تحديدا هي مستقلة عن وضع الإنسان، وهي متعلقة بطبيعته، وليس بوضعه. فليس لديها علاقة بالثروة، اللهم إذا كان الأمر يتعلق بثراء القلب والعقل.
اقترح الفيلسوف جون رولس (John Rawls)، والذي يُعَدُّ مرجعا أساسيا فيما يخص العدالة “الاجتماعية”، حلا يبدو مناسبا : نعتبر أن مجتمعا ما قد بلغ مستوى عادلا من توزيع الدخل، عندما يعطى أقصى ما هو ممكن لأولئك الذين يتوفرون على القليل. عبارة “أقصى” تأخذ بعين الاعتبار الأمر التالي : إذا كان المجتمع يهدف إلى إعادة توزيع الدخل، يمكن أن نعطي المزيد لأولئك الذين لديهم القليل إلى غاية النقطة التي ستصبح عندها إعادة التوزيع منتجة لأثر عكسي، أي عندما تفصل بين مستوى العيش والجهد.
تكمن المشكلة في أن أحدا لم يكن بمقدوره على الإطلاق حساب نقطة التحول هذه : متى ينبغي التوقف عن إفقار الأغنياء بهدف إثراء الفقراء ؟
الوضع الاجتماعي والارتقاء الاجتماعي ؟
لنذهب أبعد مما فعلناه إلى غاية الآن في دراسة التفاوت. نقيس الفوارق عادةً بشكل لحظي (instantané)، وحتى إن اقتضى الأمر أخذ صور خلال عدة مراحل متتابعة، حسب وجهتي النظر الإستاتيكية أو الميتاستاتيكية. لا تصمد هذه المقاربة أمام الانتقاد، وذلك لسببين.
من ناحية، لا تأخذ هذه التدابير بعين الاعتبار تركيبة “الأفواج” : الأشخاص الذين نقيس الفوارق بينهم وبين الآخرين ليسوا الأشخاص ذاتهم، فخلال عشرين عاما يصبح الموظف إطارا. في الولايات المتحدة، البلد الذي يُعَدُّ بطلا في اللامساواة، استطعنا أن نقيس أنه في غضون جيلين، غيَّر 95٪ من الأفراد الموجودين في أدنى السُّلَّم الاجتماعي (نُعَيِّنهم مثلا بالمستوى 1) من وضعهم وارتقوا سُلَّم المجتمع الأمريكي. رُبع هؤلاء تمكنوا حتى من بلوغ المستوى 5، وهو أعلى مستوى. نحن دائما فقراء أو أغنياء مقارنة مع أشخاص آخرين، المهم بالنسبة للفقراء هو معرفة إذا ما كانوا سيصبحون أغنياء في يوم ما.
من ناحية أخرى، تكون قياسات التفاوت عامة أو فئوية، فطريقة علماء الاجتماع هي السائدة في هذا المجال. ولكن الواقع الإنساني يتشكَّل من أفراد وليس من جماعات؛ السؤال المهم هو معرفة ما يحدث لثروة شخص أو فقره طوال حياته. الارتقاء هو أيضا مسألة قصة شخصية، ومسؤولية شخصية.
الاغتناء بفضل الرأسمال البشري
لاحظنا أن أصل التفاوت يأتي أساسا من الاختلافات على مستوى الهبات من الرأسمال البشري. ولهذا فقد وُضِع مفهوم الرأسمال البشري، الذي أشاعه ميلتون فريدمان، في صلب نظرية التنمية من قِبل غاري بيكر (Garry Becker)، وهو أيضا حائز على جائزة نوبل.
الصحة، والوسط الأسري، والتعليم، والتدريب، والخبرة، والعلاقات الشخصية، وحتى الجمال والطيبة، هي الثروة الشخصية الأكثر قيمة. وهذه الثروة هي التي تحدد الإخفاقات والنجاحات، وهي التي من شأنها أن تُمَكن من الارتقاء الاجتماعي. وعلى العكس من ذلك، فإن الإعانة الاجتماعية، التي تعطى باسم العدالة الاجتماعية، تُعفي الناس من تحسين رأسمالهم البشري، بحيث سرعان ما سوف تعاقبهم تقلبات الحياة، وسوف يطالبون دائما بالمزيد من “الحماية الاجتماعية”، مما سيعيقهم من جديد. يُشير بيكر إلى أن البلدان التي تكون فيها الأسرة قوية وتستثمر بشكل كبير في الأطفال، يتحسَّن فيها الوضع الشخصي للناس، بالإضافة إلى أن النمو الاقتصادي الشامل يتسارع. هذا هو سر الدول الصاعدة في هذه الأيام، ولكن يبقى من الضروري أن يجد الرأسمال البشري الفرصة للتعبير عن نفسه بشكل كامل وإحداث الفرق. وهذا ليس بِحال المجتمعات التي تعتمد إعادة التوزيع بشكل مكثف (رولس) أو حال البلدان التي لا تسمح بممارسة حق المبادرة بسبب السلطة الدكتاتورية. “لا ثروة إلا الناس”، هكذا قال جون بودان (Jean Boudin). الليبرالية هي شكل من الإنسية، لأنها تُحرر إمكانات التقدم عند كل إنسان، وهي بهذا تُزيل الفقر والفجوة بين الأغنياء والفقراء.
التبادل، مصدر الاغتناء
يتمثل البعد الاقتصادي لليبرالية، كما ذكرت من البداية، في التجارة الحرة. وإذا تمكنت الدول الصاعدة من النجاح فلأنها تحررت من هاجس الماركسية بخصوص التفاوت. تُلقى اللائمة بسبب فقر الأقوام إلى غاية سنوات الثمانينيات على التجارة الدولية، التي اتُّهِمت بنهب موارد العالم الثالث. لهذا اعتُبِرت الانعزالية والتخطيط بمثابة وصفات للتنمية. ولكن انفجار الحدود السياسية المترتب عن سقوط الإمبراطورية الشيوعية وفشل سياسات التخطيط في الهند والبرازيل، ونجاح الأفكار الليبرالية جعلت العولمة أمرا ممكنا.
تغلبنا منذ ذلك الوقت على الفقر بالنسبة لثلث البشرية ـ ما يزال هناك ثلث أخير بدون شك، فهل هذا مُثير للدهشة ؟ يسمح التبادل بإسداء الخدمات المتبادلة. وما يعتبره البعض بمثابة “إغراق” (اجتماعي أو ضريبي أو بيئي) هو في واقع الأمر عرض للخدمات التي يُسديها الفقراء للأغنياء لكي يتمكنوا من الاغتناء بدورهم. استطاعت بلدان بأكملها مقابل “الاستغلال”، أن تتغلب على الفقر وتحسَّنت حالة عدد كبير من الناس. أساس الثروة هو تبادل الخدمات بين أُناس بإمكانات واحتياجات مختلفة. فالتبادل يفتح العقول والقلوب، ويُثري ويُقَرب الجميع.
منبر الحرية، 8 أبريل/نيسان 2015