قد لا يختلف اثنان على كون الوضع الراهن في العالم العربي هو أقرب إلى الكارثي بكل المقاييس، اضطرابات اختمرت على مدى سنوات، وقد يتساءل السائل في شبه سذاجة، كيف و متى و لماذا ساء حالكم يا عرب؟ كنا في طليعة الشعوب، لكن “كان” ليس إلا فعل ماض ناقص، تنقصه شجاعة تغيير الحاضر، تنقصه يقظة النقد البناء، … و تنقصه القدرة على إيجاد أول خطوة في طريق الإصلاح الفعال، على الرغم مما نسمع الآن عن دعوات للإصلاح من أطراف متعددة لكل منها أسبابها و أسلوبها.
إن الإصلاح هو ضرورة حتمية، فقد انتفضت الشعوب مطالبة به و أولها الشعب التونسي، و أريقت دماء مصرية و سورية و ليبية … في سبيله، كما أن حكومات وأنظمة استشرفت المستقبل القريب و عجلت بمبادرات فاقت التوقعات في حينها والمغرب خير مثال على ذلك، لكن و بالرغم من كل الجهود الحثيثة، تبقى هناك حلقة -بل حلقات- مفقودة، ليَسُود المشهدَ نوع من العشوائية، فتأتي النتائج بعكس التوقعات في أغلب الدول، و ليس خير على ذلك دليلا من ربيعٍ انقلب خريفا، عصف و لا يزال يعصف بشعوب، و يحصد أرواحا.
تعددت الأسباب و المأساة واحدة. لن نخوض في غمارها لكثرتها، لتَشَعُّبها، و خصوصا لارتباطها في نظرنا بسبب مركزي و جوهري ضاربٍ في عمق ثقافة المجتمع العربي: إنها الحرية الموعودة المفقودة … حرية ابن رشد و حرية ابن خلدون التي طالتها عوامل التَّعرية المجتمعية و أصابها تصَحُّر التخلف.
مما لا شك فيه أن مفهوم الحرية من المفاهيم الفلسفية الأكثر جمالية و وجدانية، و قد شكلت و تشكل شعارا للحركات التحررية والثورية على مدى الأزمنة و العصور، باعتبارها قيمة إنسانية سامية تنطوي على أبعاد أخلاقية واجتماعية وأخرى وجدانية وجمالية. و لعل هنا يكمن مربط الفرس، فقد تَحَلى هذا المفهوم تارة بقدسية تجعله غاية صعبة المراس، و تارة أخرى بشيطنة العدو الكافر الذي يغوي قلوب المهتدين. و بين هذا وذاك يلمع فكر علامتين شهد العالم لهما بالنبوغ و لم يحظى الإرث الذي خلَّفاه بما يستحقه من عناية. لقد رسما خارطة طريق للأجيال اللاحقة، لكنها للأسف ظلت حبرا على ورق.
يعد ابن رشد من أهم فلاسفة الإسلام. دافع عن الفلسفة وصحح علماء وفلاسفة سبقوه كابن سينا والفارابي في فهم بعض نظريات أفلاطون وأرسطو. و في حين لا زلنا نتساءل اليوم: هل الحرية أن نفعل كل ما نرغب فيه؟أم أنها محدودة بحدود حرية الآخرين؟وبناء على ذلك أين يمكننا أن نموقع الذات الإنسانية؟ هل هي ذات تمتلك حرية الاختيار وبالتالي القدرة على تحديد المصير؟ أم أنها ذات لها امتدادات طبيعية خاضعة لحتميات متعددة؟ ثم هل الحرية انفلات من رقابة القانون وأحكامه؟ أم أنها رهينته؟ … لم يتبنى فيلسوفنا أيا موقف من هاته المواقف و لا حتى تلك التي كانت مهيمنة على الساحة الثقافية آنذاك، و في نفس الوقت لم يُقصِها من دائرة تحليله. بل جمع بين هذا التعارض الذي قد يراه المتلقي البسيط. إن الظاهر في منظوره من مقصد الشرع ليس هو التفريق بين هذين الاعتقادين، وإنما قصده “الجمع بين الموقفين على التوسط”. فالموقفان اللذان يشكلان طرفين متناقضين، لا شيء يجمع بينهما، ولا إمكانية لذلك في بادئ الأمر لتقريب أحدهما من الآخر، قد يوجد خيط رابط بينهما، خيط رفيع قد تخطئه كثير من الأعين، ولكنه يظل موجودًا، إلى أن يأتي من يمسك به ليقدمه لنا على أنه الخيط الرابط الذي ينقصنا، و هذا ما يجب العمل عليه في مجتمعنا العربي، فما زلنا لم نعثر على تلك الرؤية الثاقبة الكفيلة بترجمة الحرية على أرض الواقع.
أما عن العلامة ابن خلدون، فإنه يُعَرف الحرية بأنها قيمة اجتماعية أساسية يجد فيها الفرد نفسه ذا قدرة على القيام بما يريد القيام به من دون عوائق أو قيود من قِبل نظم “العمران البشري” الذي شكل أول فصل في مقدمته الخالدة، حيث قال: “..عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران وما يعرض فيه… ولعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح وعلم مبين يغوص من مسائله على أكثر ما كتبنا فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله وإنما عليه تعيين موضوع العلم وتنويع فصوله وما يتكلم فيه والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئاً فشيئاً إلى أن يكمل”. إلا أن الغوص لم يكن بالهواية الجارفة لمعظم من تلاه من العلماء، و ظل مفهوم الحرية، في علاقتها بالعمران البشري، بالمنظور العربي الإسلامي يتيما بعده، الأمر الذي تجلى في تراجع جودة دراسة الواقع الاجتماعي في بلداننا العربية.
إن بين “الهرم الحتمي” لابن خلدون و “الإصلاح الممكن” عند ابن رشد، اختلافات عدة في شرح سيرورة المجتمعات و الدول، لكن تبقى الحرية مرتكزا أساسيا في نظريتيهما، أولياها أهمية جوهرية، و ربطاها بمصير الشعوب و الأمم. فما أحوجنا اليوم إالى العقول الراجحة التي بمقدورها قراءة ما وراء القوانين و الإصلاحات، ما أحوجنا لفئة مثقفة، لحكومات، لناخبين و منتخبين يؤمنون بالحرية الخلاقة.
ليست الحرية إلا بطاقة هوية، يجب على الجميع امتلاكها ليمارسوا حياتهم بكلّ سعادةٍ وسرور، فهي الضمانة بأن يقوم الأفراد بأنشطتهم، وممارسة أعمالهم دون وجود إكراه عليهم، فالقوانين المنظّمة للمجتمع يجب أن تكن بالليونة التي تسمح بالاقتداء بها وعدم التعدّي عليها لما تنطوي عليه من حس للعدالة. كم نحن في حاجة للاقتداء بمجتمعات الطيور البرية، تطير أسرابا، تتمايل جميعها ذات اليمين و ذات الشمال في تناغم لا يشعر معه المتتبع أن هناك مسا بالحرية الفردية من طرف الجماعة و العكس صحيح تماما، حرية اكتشف الإنسان أن مردَّها يكمن في كون مجتمعات الطيور تحكمها قوانين قليلة، غير معقدة، لكنها غاية في النجاعة.
إن الحريّة هي طعم الحياة، و إذا حُرِمت الشعوب طعم هذه الحياة فكيف ستُصلحها الحكومات و الأنظمة؟ كيف للجمال أن يعتَرِي حُلَّة قد رفض الإنسان ارتدائها؟ كيف للأسير أن ينتشي بتغريد البلابل من خلف قضبان نافذته؟ وكيف للشعوب أن تنطلق … بدون حرية.
*أكاديمية وكاتبة من المغرب
منبر الحرية، 21 سبتمبر/أيلول 2015
WWW.MINBARALHURRIYYA.ORG
© مشروع منبر الحرية