هل الراسمالية اخلاقية

منبر الحرية16 ديسمبر، 20150
يُعتبر توم جي بالمر، والذي نناقش ونراجع له هنا كتابه المعنون : أخلاقيات الرأسمالية، أحد أولئك الذين يناصرون النظام الرأسمالي والذي يعتبره أحد أهم وأرقى الأنظمة الاقتصادية والسياسية والأخلاقية الذي يتماشى مع الحريات والأخلاق الطبيعية للبشر ومع الآليات الموضوعية والقوية لبناء مجتمع الرفاهية المنشود... .

المدخل الأخلاقي في الدفاع عن الرأسمالية ج1

من خلال كتاب : أخلاقيات الرأسمالية لتوم جي بالمر

تقديم عام :

شكّلت الأحداث العالمية المتتالية للألفية الجديدة منعرجا تاريخيا في مسار تطور النظام الرأسمالي الحديث، الذي كان له الأثر الكبير في انتشار الرفاه الاقتصادي والاجتماعي وحتى السياسي في بقاع واسعة من العالم. وكانت لظهور العولمة وتزامنها مع ثورة المعلومة وتكنولوجيا التواصل، الدور الكبير الذي ساهم في عولمة النظم الاقتصادية الحرة والمفتوحة والتي بدورها تطوّرت لتشكل أقوى نظام اقتصادي عالمي عرفته البشرية. لكن مع بداية الألفية الجديدة، حدث تطور مفاجئ في النظام العالمي الاقتصادي والسياسي. فلقد أدّت الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة الأمريكية لسنة 2001 ، إلى زعزعت الاستقرار السياسي في العديد من الدول والأنظمة التي اتهمتها أمريكا بالإرهاب. سيكتمل المشهد هذا مع بروز الأزمة المالية العالمية لسنة 2008 وتداعياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية العالمية.

أُرجعت جل هذه الانتكاسات السياسية والاقتصادية الحالية إلى النظام الرأسمالي الحديث، الذي ساهمت عولمته في تباين دول الشمال ودول الجنوب أو الدول الغنية والدول الفقيرة وتوسع الفوارق الطبقية واستمرار الفقر المدقع في بقاع واسعة من العالم، واعتبر البعض أن سبب استفحال الأوضاع يرجع لعدم عدالة النظام الرأسمالي. لكن هذه الاتهامات سيعتبرها روادو ومناصرو النظرية الرأسمالية بأنها اتهامات مجانية وأخلاقية وغير موضوعية، ولا تُعبر عن الأسباب الحقيقية وراء انعدام المساواة واستمرار الفقر والهشاشة الاجتماعية وانهيار الاقتصاديات الوطنية. ويَرجع هؤلاء الأسباب الحقيقية وراء هذه الانهيارات إلى تراجع منسوب الحريات في دول عديدة واستفحال الأنظمة الشمولية واستمرار الدول في التغوُّل السياسي والاقتصادي عبر ضبط الحريات الفردية، وبالتالي تراجع المبادرة والابتكار وهما العاملان الأساسيان للتطور والتنمية المستدامة، وعبر ضبط وتسيير الأسواق والاقتصاديات بطرق غير حرة وغير شفافة والتي تعيق بالتالي التنمية الاقتصادية الحقيقية.

يُعتبر ” توم جي بالمر ” ، والذي نناقش ونراجع له هنا كتابه المعنون : أخلاقيات الرأسمالية، (The Morality of Capitalism)، أحد أولئك الذين يناصرون النظام الرأسمالي والذي يعتبره أحد أهم وأرقى الأنظمة الاقتصادية والسياسية والأخلاقية الذي يتماشى مع الحريات والأخلاق الطبيعية للبشر ومع الآليات الموضوعية والقوية لبناء مجتمع الرفاهية المنشود. وكتابه هنا لا يخرج عن سياقات كتب كثيرة صدرت لروادي الفكر الليبرالي ولمناصري النظام الرأسمالي، الذين لا يستميتون في الدفاع عن هذا النظام وعن مميزاته المتعددة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا. يُعد توم بالمر أحد رواد الفكر الليبرالي الحديث والذي يعمل نائبا للرئيس التنفيذي للبرامج الدولية بشبكة أطلس والمشرف على عمل الفرق التي تعمل حول العالم على نشر مبادئ الليبرالية الكلاسيكية. صدرت له عدة مؤلفات وأبحاث أهمها كتاب ” لماذا الحرية ” و ” أخلاقيات الرأسمالية”. سنقدم في هذه الدراسات أفكار الكتاب الرئيسية وسنناقشها بتسلسل منهجي حسب أهمية وحداثة كل فكرة وسنعمل تباعا على مقارنة أفكار الكتاب مع أفكار كتب مغايرة لكي نقدم في الأخيرة مراجعة شاملة لأفكار الكتاب بقراءة نقدية متوازية ومتكاملة.

لماذا أخلاق الرأسمالية

يُقدم توم جي بالمر كتابه المُعنون ” أخلاقيات الرأسمالية ” بديباجة تعريفية للرأسمالية محاولا تفنيدها عن المقاربة الضيّقة التي تحصرها في مجرد نظرية مرتبطة بعمل السوق والتبادل الحر، كمقدمة لطرح ما سماه بأخلاقيات الرأسمالية أو التبرير الأخلاقي لنظام الرأسمالية. فالرأسمالية ليست مجرد أسواق حرة لتبادل السلع والخدمات والأشخاص، بل هي ‘ نظام من الابتكار وتكوين الثروة والتغير الاجتماعي، جلب لمليارات البشر رخاء لم يخطر ببال الأجيال السابقة ‘ .وتشير أيضا إلى نظام من القوانين والنظم الاجتماعية والروابط الاقتصادية والأعراف الثقافية التي تتبنى المساواة في الحقوق وتشجيع المواهب والابتكار والمبادرة الفردية والتعاون والتنافس في خلق الثروة، ثم ارتكازها على ما سماه المفكر الاقتصادي ” جوزيف شومبيتر ” بالتدمير الإبداعي ، أي تدمير البنى التقليدية من سلع وخدمات ووسائط بأخرى جديدة عن طريق الإبداع والتحديث المستمر. ومن جهة أخرى، فالرأسمالية ليست مجرد مذهب مادي صرف همّه الوحيد هو خلق الثروة فقط كما صوّرها أعدائها من أنصار المذهب الاشتراكي، بل هي كما يؤكد ” بالمر” مشروع روحي وثقافي أيضا، وهي نظام من القيم الثقافية والروحية والأخلاقية. إن محاولة الكاتب هنا لتِبيان الأوجه الخفية للرأسمالية أو للحقيقة المغيبة التي لا يفهمها خصوم الرأسمالية وعموم الجماهير الذين لا ينظرون بتمعن للخبايا القيمية من وراء الاقتصاد الرأسمالي، أو الذين تمنعهم الأيديولوجية من التعمق في فهم فضائل الفكر الرأسمالي العديدة، تهدف إلى تبيان حسنات وقيم الرأسمالية الأخلاقية التي لا تقف فقط عند الربح والمنافسة، بل تتعداه إلى نشر قيم التعاون والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان الطبيعية.

    القسم الأول: الرأسمالية المغامرة وفضائلها

كثيرا ما يُعرّف داعمو الرأسمالية هذه الأخيرة بأنها تعتمد على اقتصاد السوق الحرة والتي تعتبر المنافسة أحد مقوماته الأساسية، فبالمنافسة الشفافة والحرة والنزيهة تتمكن آليات السوق الحرة من الاشتغال بفاعلية لإنتاج رؤوس الأموال الضرورية لخلق الثروة وإنتاج القيمة. ولكن كثيرا ما تُنتقد آلية المنافسة لأنها لا تعترف إلا بالأقوياء في السوق، الذين يستثمرون قدراتهم المادية القوية لإزاحة الخصوم الصغار والمتوسطين، الذين يتضررون من عدم تساوي الفرص التي يقدمها السوق. وبالتالي فالصيغة البديلة التي يقدمها رواد الفكر الاشتراكي عموما، هي الاعتماد على مبدأ التعاون واستثمار القدرات المشتركة لخلق الثروة المشتركة التي يتعاون الجميع فيما بعد على توزيعها بالتساوي فيما يطلق عليه بالعدالة الاجتماعية.

يقدم المفكر الاقتصادي ديفيد بواز نظرة مغايرة لفكرة المنافسة التي غالبا ما تتعرض للقدح وسوء الفهم، فهو يعتبر أن في الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية يتنافس الناس فيما بينهم لكي يتعاونوا مع غيرهم.. فالتعاون –كما يؤكد بواز- أساسي لازدهار الإنسانية ولذلك وجب التعاون من أجل إنشاء مؤسسات اجتماعية تجعله ممكنا، وهذا هو الهدف من وراء حقوق الملكية والحكومة ذات السلطات المحدودة وسيادة القانون. وبدون هذه الشروط كما يؤكد فلاسفة الليبرالية الكلاسيكية ومنهم جون لوك و دايفيد هيوم فإنه لا يمكن الحديث عن التعاون الاجتماعي، بل ستعُم الفوضى والصراع على ممتلكات الغير والحروب بين الجماعات ويستحل البشر سلوكياتهم الإجرامية.

القسم الثاني : التفاعل الطوعي والمصلحة الذاتية

 تُعد الأعمال التبادلية الربحية بين الأفراد والجماعات والتي تحقق مصلحة ذاتية ملموسة ومُعَبَّر عنها بالمقابلات المادية، أحد أهم الشروط الضرورية لقيام مجتمع متكامل وسوي. وكما يبين لنا الاقتصادي والمفكر الصيني ماو يوشي، فإن ‘ البشر يستطيعون التعاون فقط حين يسعون وراء مصالحهم الخاصة ‘. فالأكيد أن الاشتراك في أعمال التبادل المشتركة والضرورية لتحقيق المنفعة عبر خلق الثروة، تكون من بين أهدافها تحقيق المنفعة الذاتية وإلا لما تفاعل الأفراد مع هذه الأعمال ولما تكبّد الأفراد المشقات والمجازفات لمجرد انتفاع شخص آخر أو مجموعة أخرى. فالهدف من وراء التبادل – يقول يوشي- هو تحسين الفرد وإضفاء المزيد من الراحة والرفاهية على حياته.

تُعبر هذه الأفكار الصادرة عن أحد أعمدة الفكر الصيني، عن عمق الفكرة الرأسمالية وترابط محدداتها السببية التي تتماشى ،كما يقول رواد الليبرالية الكلاسيكية مع الحقوق والحريات الطبيعية للأفراد ومع نوامس الطبيعة التي وجب على البشر إتباعها والاشتغال بآلياتها. لقد جرّبت الصين نماذج اقتصادية عديدة عبر تاريخها المخضرم وكانت الثورة الثقافية أحد التجارب التي قامت على شعار ” كافح ضد الأنانية، انتقد التعديلية “، والتي كانت لها نتائج اقتصادية وسياسية كارثية، أدت إلى تفشي الفساد والصراع والاستغلال وتكديس رؤوس الأموال وتعطيل عجلة الاقتصاد. استغل الزعماء والقادة السياسيون والبخلاء وملاكي الأراضي، هذه الأيديولوجية لاستغلال مجهودات الأفراد وتفانيهم في العمل، وكوَّنوا ثروات ورؤوس أموال شخصية على حساب الشعب الذي استغلوه كالعبيد.

وكتحصيل حاصل، يطرح ناقدو الرأسمالية، أن الجشع الذاتي الذي يميز الأسواق الرأسمالية يؤدي بالضرورة إلى عدم المساواة وانعدام التوازن الاقتصادي، إن على مستوى المساهمات المتاحة للفاعلين في السوق، أو على صعيد التوزيع النهائي للثروات المتراكمة. يَعتبر الفيلسوف الاقتصادي الروسي ” ليونيد في نيكونوف ” أن مثل هذه الدعاوي التي تطالب السوق الرأسمالية بالمساواة في الهبة المبدئية وفي القيم والنتائج، بغير المنطقية. فلا يمكن للمعاملات البشرية الربحية أن تنبني على تحديد نفس القدرات الذاتية والخصوصيات الطبيعية، لكي يتم الدخول إلى سوق التبادل والمعاملات بناءا على هذه الخاصية. فالبشر مختلفون بالطبيعة في قدراتهم التواصلية وفاعليتهم التبادلية واستعدادهم الذاتي للأخذ بالإمكانيات المتاحة لهم في السوق وخارج السوق.

*كاتب من المغرب

منبر الحرية، 13 ديسمبر/كانون الأول 2015

  اقتصادي ليبرالي أمريكي نائب الرئيس التنفيذي للبرامج الدولية لشبكة أطلس (منظمة غير ربحية جامعة للعديد من المنظمات المناصرة للسوق الحرة ولمبادئ الحرية عبر العالم)، وزميل كبير المقام لمعهد كاتو. والكتاب صدر باللغة الإنجليزية سنة 2012 تحت عنوان : The morality of Capitalism وتُرجم للعربية من طرف المترجم محمد فتحي خضر عن دار كلمات عربية للترجمة والنشر وتحت إشراف مؤسسة منبر الحرية.

  أخلاقيات الرأسمالية ص 3.

 مفكر وناقد اقتصادي أمريكي ، وهو نائب الرئيس التنفيذي لمعهد كاتو(معهد بحثي أمريكي يهدف إلى نشر أفكار النيوليبرالية) ومستشار لمؤسسة طلاب من أجل الحرية. له العديد من الإصدارات منها كتابه الموسوم : اللبرتارية : تمهيد ، ويكتب للعديد من المجلات والصحف العالمية مثل : بيويورك تايمز وول ستري جورنال وواشنطن بوست.

 أخلاقيات الرأسمالية، ص 43.

 نفس المرجع ص 45.

 مفكر واقتصادي ورائد الأعمال الاجتماعية الصيني، هو مؤسس معهد يونيرول (معهد بحثي صيني غير ربحي) ورئيسه الذي يتخذ مقرا له ببكين، له مجموعة من الإصدارات كما درس علم الاقتصاد في العديد من الجامعات.

 أخلاقيات الرأسمالية، ص 60.

 فيلسوف روسي يعمل أستاذا للفلسفة بجامعة ألتاي في روسيا، صدرت له العديد من الإصدارات الأكاديمية ويعد مناصرا لأفكار الحرية وللفكر اللبرالي الكلاسيكي.

 
WWW.MINBARALHURRIYYA.ORG                                © مشروع منبر الحرية     

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018