الحريةُ، ليستْ مجردَ كلمةٍ عابرة تُطلق في الهواء، مفصولةٍ عن واقع الناس والحياة.. هي قبل كل شيء قيمة حية، لا بل هي قيمة القيم، وجوهر وجود الفرد البشري، وهي أثمن القضايا التي عاشَ الإنسانُ السّوي (في عقله وفطرته) من أجلها،ودفع في سبيلها الغالي والرخيص،منذ أنْ وعى وجوده، وتعقّلَ حركة ذاته.. وهي تستحق فعلياً هذه التضحية دون أدنى شك، لأنها كقيمة إنسانية فطرية، تنمو في أجوائها الداخلية قوة الإنسان، ويمتدّ فكره، ويتعمّق وعيه، وينفتح مصيره على خطّ السّلامة والتوازن وقيم الوعي والإنتاج والحضور والفعالية الوجودية، ويمارسُ من خلالها دورَ الأصالة في معنى إنسانيّته، لتتحركَ (هذه الحرية) حيث يتحركُ الإنسانُ الذي ارتبطَ وجوده معنوياً ومادياً بها، فتكون هي وعيه وقراره وكيانه الذاتي والموضوعي المستقل..
وحتى لا نكون “مثاليين” في رؤيتنا وطرحنا، وبعيدين عن معاني الحرية ومقاصدها الحقيقية وغاياتها النبيلة، في عمق واقع تجربتنا وحياتنا البشرية المعقدة والمتداخلة في حركة المصالح والتنازع والتنافس والسيطرة، نلاحظ أنه ظهرتْ تعاريف ومحددات “مفاهيمية” كثيرة لهذه “الكلمة-القيمة”، ارتبطتْ بطبيعة علاقتها (كفكرة وقيمة) بظروف الزمان والمكان، والأسباب والدوافع، وبتفكير الناس بها في ربطهم لها بالغايات والأهداف والمعاني الحياتية الكبرى المتعددة والمتنوعة.
وهكذا كانتْ فكرة (وقيمة) الحرية في الفكر العربي والإسلامي من أهم الأفكار والأسئلة الإشكالية التي أُثيرت (وطُرحتْ) في مختلف السّاحات الفكرية والميادين السياسية في داخل اجتماعنا الديني العربي والإسلامي، وما تزال مثارةً ومطروحةً في ظل واقع عربي مفكك ومنقسم على ذاته، يبحث أهله عن شواطئ الأمان والاستقرار،في خضمّ ما تعانيه مجتمعاتنا من تخلّف اجتماعي وتبعية سياسية وفساد اقتصادي عريض وواسع، وتكاد تغيب عنها هذه القيمة (الحرية) بشكل شبه كلي، لتحضرَ وتتصدر المشهد صورٌ وفصول ويوميات أليمة وقاسية ومكلفة للغاية من نتائج وآثار هيمنة أفكار ومواقع الاستبداد والعبودية والقهر والإقصاء السياسي والديني.
وبتنا اليوم–كمثقفين وجماهير واسعة ترنو للتحرر الحقيقي، وتتوق للحرية الفردية والمجتمعية- نخوض معركة “الحرية” الوجودية، في مواجهة كتلتين صلبتين ومتراصتين،من القهر والاستبداد النفسي والسلوكي المعادي لقيمة الحرية:
أولاهما، كتلة الاستبداد الديني المتمثّلة في نخب وخطابات وأدبيات حركات التطرف والتكفير الإسلامية التي أقامت وجودها و”هيكلتْ” مواقعها على “قاعدة” الرفض والإقصاء، وإتباع أسلوب وطريق العنف لتحقيق الغايات (وعلى رأسها الوصول إلى السلطة)..
وثانيتهما، كتلة الاستبداد السياسي النخبوي الرسمي العربي التي ما تزال تجثم على صدر مجتمعاتنا، تمتص خيراتها، وتستنزف مواردها ومقدراتها، وتستمر في تثبيت وجودها السلطوي على البعد الأمني بهدف استمرارية البقاء والسيطرة.
الأمر الذي يعني أن الوصول إلى هذه القيمة (الحرية) في بلداننا دونه نضال سياسي وثقافي طويل، وكفاح سلمي مرير..
ولكن الحرية التي ننشدها (كقيمة إنسانية)، وحيث أنّها أسهمتْ في إغناء مسيرة الإنسان وتطوير مواقعه الحضارية، وتفتيح قدراته الذاتية وقابلياته الموضوعية، وتركيز أسس حياته المادية، في أمم وبلدان متقدمة أخرى نراها أمامنا، بعدما حسمتْ أمر حداثتها العقلية والعلمية، وانتصرت فيها قيم العقل والعلم والمدنية، أقول: تلك الحرية (كقيمة إنسانية) لم تكن –ولا يمكن أن تكون في أي وقت من الأوقات- قيمة منفلتة، لا ضابطَ لها، خاصةً عندما تتقيد هذه الحرية بقيد الحرية نفسه.. لتصبح حرية مسؤولة، سقفها العمل والبناء والتطوير وخدمة الناس والمجتمع، والمساهمة التشاركية في تطوير الدول، والالتزام الدائم بقضايا الناس، والنقد الحر الموضوعي بهدف البناء الواعي والتطوير الدائم ومراكمة النتائج الإيجابية بعد نقد السلبيات، والعمل على تلافي الأخطاء الواقعة والقائمة في أي مجتمع ونظام وحضارة.
ولهذا لا حرية حقيقية إلا مع وجود دولة حقيقية مؤسسية عادلة وقوية.. ولا حرية إلا بأن نكون –أولاً وقبل كل شيء- أحراراً من الداخل، لا أن نكون تابعين لأحد من هنا وهناك.. وأن نكون أحراراً بإرادتنا وقناعاتنا أولاً.. وأن نكون مع قيم الإصلاح والتغيير الديمقراطي الهادئ العقلاني..
فللحرية إذاً، حدود وضوابط تنطلق أساساً من خلال “عدم الاعتداء” على حريات الآخرين، وعدم إثارة مشاعرهم وخصوصياتهم، واستفزازهم في مقدساتهم ومعتقداتهم، وتقصُّد الإساءة إلى قناعاتهم وأفكارهم بقطع النظر عن صحتها وحقّانيتها وفاعليتها الحضارية.. بل هذه الحرية نفسها التي نسعى إليها، هي الضمانة لتمكين تلك المشاعر والرؤى والعادات المتنوعة من التعبير عن ذاتها بلا قيود ولا ضغوط، ومن ثمّ هي الضمانة لتفتّحها وإثمارها، وللعيش المشترك معها كمعتقدات وانتماءات تقليدية ما قبل وطنية.
ومن الواضح اليوم أن تلك الانتماءات (القبلية، الطائفية، العشائرية، الجهوية، الآنية…) باتت تشكل حديث الساعة في ظل أزماتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية العربية المستمرة المتفاقمة والمتوالدة ذاتياً، والتي أنعشت تلك الانتماءات والتكوينات التاريخية التقليدية ما قبل حداثية (بصور سلبية وتعابير فوضوية)، مع بقاء الاستبداد والتسلط، وانتشار العنف الأعمى، وتفشّي مظاهر الإرهاب في كل أرجاء الجغرافية العربية..
إن توسّع تلك الانتماءات التاريخية العتيقة في تربتنا الاجتماعية وحتى السياسية، جعل السيطرة عليها (أو على الأقل ضبطها) مسألةً في غاية الصعوبة، نظراً لتمكّنها من الاجتماع المدني، وتجذّرها في الوعي الاجتماعي الشعبي.. بما يظهر أن كل القراءات الفكرية النقدية والمعالجات العملية لها بقيتْ نخبوية، سطحية، بسيطة وغير معمّقة..وحتى أنّ كل محاولات التحديث العربية الرسمية (التي قامت بها نخب الدولة التحديثية العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال عن المستعمر الخارجي) لم تفلح في احتواء أو تجاوز تلك الانتماءات، ولا في إعادة توجيهها الوجهة السليمة والصحيحة في “تَجْييرها” لصالح البناء والتطور والازدهار المجتمعي والحضاري.
إنّ عدم قدرتنا على إلغاء تلك الانتماءات والتمايزات والتنوعات (ولن نستطيع، وهو بالأصل أمر غير مطلوب، أو غير قابل) لا يعني أنه يجب علينا إعلان إفلاسنا أو عجزنا عن وجود إمكانية ما لتفهّمها واستيعابها ووعيها من الداخل، والاعتراف بوجودها كواقع حي موضوعي، وذلك كشرط مسبق للتعامل الإيجابي الفعال والمنتج معها، من خلال تحويلها–في ظل الدولة المدنية- إلى حالة غنى وثراء فكري، وتنوع ثقافي وحضاري للبلد والوطن المعني ضمن فضاء الحرية المسؤول.
إننا نعتقد أنّ مشكلة الانتماء التقليدي (الهوياتي سواء كان قومياً أو اثنيا أو دينياً مذهبياً)، تشتعل شراراتها الأولى عندما يتعاظم شعور الفرد بهذا الانتماء ما قبل حداثي مدني، على حساب تقلص شعوره الوطني والمدني العام.. عندها سيحدث الصدام والصراع حتماً.. وهذا الصّراع لم يندلع تاريخياً إلا في ظلال البنى والهياكل المترهّلة للنظم الديكتاتورية المغلقة المعادية للحرية ذاتياً، ولكل المبادئ الحقوقية الإنسانية الأخرى.. فهذه النظم المستبدة تأسستْ على عقائد اصطفائية شمولية، وثوابت “خلاصية” “تمامية”، بينما في البلدان التي كانَ شكلُ الحكم فيها أقرب إلى الأخذ بالمبدأ الديمقراطي، التعددي التداولي التشاركي المؤسسي، لم تحدثْ فيها أية مشاكل أو صراعات عرقية أو صدامات طائفية وإثنية أو دينية..
نعم، لقد فشلنا نحن العرب عموماً في وعي قضية الحرية بذاتها، وعَجِزْنا عن تمثُّلها فعلياً في مؤسسات الدولة والمجتمع، وإنجاز الحداثة العقلية والمدنية الراسخة والمتينة لهياكل الدولة السياسية والإدارية، فقد برزتْ تلك الانتماءات التقليدية على الساحة، وطفت على السْطح، وتضخّمت أكثر فأكثر، وبنتْ لذاتها مواقع موازية لهياكل الدولة، تبدو أحياناً أقوى من مؤسسات وإدارات الدولة العربية ذاتها، في ظل فشل المشاريع السياسية العربية بالتعامل الموضوعي العقلاني السلمي الهادئ مع تلك الانتماءات والتكوينات التاريخية، والاكتفاء بما اعتادت عليه من تعامل “عسكري-أمني” سلطوي فقط معها، أو القيام بإجراءات قسرية نخبوية فوقية بيروقراطية لامستْ سطحَ المشكلة القائمة، مما ولّد صراعات وصدامات سياسية وعسكرية عنيفة مكلفة في الشارع، دفعت النّاس دفعاً وبقوة للارتماء مجدداً في حضن تكويناتها التقليدية المعروفة بحثاً عن “ملاذات” و”ملاجئ” آمنة لها تعتقد أنها قد تحميها في مواجهة كمّ هائل وغير مقيّد (وربما غير محدود) من سلوكيات العنف السلطوي الرسمي المدمّر..
إننا نعتقد أنّ العلاج الجذري لتلك الانتماءات لا يمكن أن يتحقق بصورة صحيحة، إلا من خلال قيمة الحرية ذاتها، كتربة وفضاء “سياسي-اجتماعي” لبناء الدولة المدنية العربية.. وهو –بطبيعة الحال- علاج لا يجب أنْ ينطلق من خلال قمع تلك الانتماءات، أو كسرها ومنعها، أو تحريمها، بل من خلال وعيها، وإدارة اختلافاتها، واعتبارها حالة غنى تاريخي، تجب المحافظة عليه من خلال تطوير نموذج حديث ومتطور لاجتماعنا السياسي والديني، يقوم –كما قلنا وأكدنا-على قيمة الحرية ذاتها، بهدف بناء دول حديثة.. دول مدنية قانونية مؤسسية، تقوم على عقد اجتماعي وطني، يُشْعِر الجميع (من كل المنتمين إلى تلك الانتماءات التقليدية)، يشعرهم عملياً بالمساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية.. ويسود فيه منطق الاعتدال والعقلانية بعيداً عن القمع، والاستبداد، والتطرف، والتقوقع، والتكفير، والعصبيات العمياء، ورفض الرأي الآخر.
* باحث وكاتب سوري
منبر الحرية، 5 ماي/أيار 2016
الحريةُ، ليستْ مجردَ كلمةٍ عابرة تُطلق في الهواء، مفصولةٍ عن واقع الناس والحياة.. هي قبل كل شيء قيمة حية، لا بل هي قيمة القيم، وجوهر وجود الفرد البشري، وهي أثمن القضايا التي عاشَ الإنسانُ السّوي من أجلها....