كثيراً ما نسمع أنه على الحكومة أن تفعل هذا. على الحكومة أن تفعل ذاك.. نحن نؤمن، كليبراليين كلاسيكيين، أن الحكومات، التي عادة ما تتألف من المجموعات البشرية الأقل كفاءة و الأقل إنتاجية، يجب أن ينكفئ عملها لدورها الأوحد “كحكم مباراة” يضمن السلم – جيش وشرطة فقط. نحن المواطنون مسؤولون عن الاهتمام بحاجاتنا و رغباتنا. نحن من يعمل بجد ونشاط و لوقت طويل يتجاوز “دوام موظف الدولة” ساعين لتحسين مستوياتنا المعيشية الخاصة بِنَا، و لدى فعلنا ذلك نقوم بمساعدة الآخرين لتحسين مستوياتهم المعيشية كنتيجة حتمية و غير مقصودة.
كيف إذن بإمكاننا تطوير المناطق النائية و إقناع الناس بعدم زيادة الاكتظاظ السكاني في المناطق المدنية؟! هل على الدولة إجبار الناس على انتقاء مكان عملهم؟ هل عليها “إغرائهم” على انتقاء موقع لعملهم دون الآخر؟ لترتاح الدولة و لتبقى خارج الموضوع!! الجواب بسيط. لندع نظام اقتصاد السوق الحر يأخذ مجراه في بيئة يكون القانون فيها محترماً و مطبقاً على الجميع دون استثناء وبالنتيجة تستقيم جميع الأمور في أماكنها الصحيحة!
لكي يتم توضيح هذه الفكرة بشكل مبسط و واضح، سنستخدم مثالاً.
هذا المثال يعتمد على الفرضيات التالية التي يوافق عليها أغلبنا:
¥ التكاليف المعيشية في المناطق النائية عادة ما تكون أقل من المدن الكبيرة.
¥ العمالة، خاصة منها غير المدربة، تكون أرخص في المناطق النائية منها في المدن الكبيرة نظراً لانخفاض التكاليف المعيشية و لندرة فرص العمل.
¥ المنافسة قاسية في معظم الصناعات و تؤدي إلى انخفاض هوامش الربح إلى مستويات من التدني بمكان تؤدي إلى أن تشعر بعض الشركات بأن وجودها و استمرارها يعتمدان على توفير أي مبلغ من التكاليف الإنتاجية.
¥ جميع التكاليف الأخرى مثل الشحن و الطاقة و المواد الأولية تماثل تلك في المدن الكبيرة مما يؤدي إلى تحولها لعامل حيادي في مثالنا.
نعود الآن إلى مثالنا: تقرر شركة ما تأسيس مصنع للألبسة الجاهزة. هذه الصناعة تعتمد بشكل عام على عمالة كثيرة و تقنية خفيفة (labor intensive and technology light). لدى إدارة الشركة الخيار بأن تبني مصنعها إما في مدينة كبيرة أو في منطقة نائية. هكذا صناعة عادة ما تحتاج إلى أبنية و عقارات كبيرة و عمالة كثيرة إما نصف مدربة أو حتى غير مدربة. هذين الشيئين متوفران بشكل واسع و أقل كلفة في المناطق النائية مقارنة مع المدن الكبيرة. لدى التواجد في المناطق النائية قد يكون التوفير في الكلفة يتجاوز ال ٢٠٪. هذا يعني، في حال تحقيقه، أنه بإمكان الشركة أن تبيع منتجاتها بأسعار تماثل تكلفة منافسيها في المدن الكبيرة مع تحقيق أرباح طائلة قد تتجاوز ٢٠٪! هذا يمكن الشركة ليس فقط من تحقيق أرباح كبيرة، بل أيضاً من توسيع حصتها السوقية على حساب منافسيها.
النتيجة: إن مصلحة الشركة الخاصة تدفعها باتجاه تأسيس أعمالها الصناعية في المناطق النائية و بعيداً عن المدن الكبيرة المكتظة و الغالية الثمن. إن نسبة ربح الشركة تشكل أفضل حافز لها لكي تنتشر جغرافياً، و لا يوجد حاجة لأي دور للحكومة في هذا المجال.
لماذا لا يحدث ما ذكر أعلاه في أغلب الدول النامية؟ لماذا نرى مصانع متخلفة و بدائية منتشرة في مناطق العشوائيات في المدن المكتظة أساساً و تزيدها اكتظاظاً و تلوثاً؟!!
الجواب بشكل مبسط مؤلف من شطرين:
¥ ضعف تنفيذ القوانين.
¥ عدم سيطرة القطاع الخاص و المنافسة الحرة على الخدمات اللازمة للصناعة مثل توليد و نقل الطاقة و النقل و الشحن و ما شابه.
إن ضعف تطبيق القوانين يؤدي إلى بناء السكن العشوائي غير الصحي و غير القانوني في محيط المدن الرئيسية مؤدياً إلى تشكل أحياء للفقراء ذات اكتظاظ عالي و دون خدمات تذكر ناهيك عن مناظرها المؤذية. تقدم هذه الأحياء الفقيرة بديلاً للسكن غير القانوني و غير الصحي وبالتالي تقديم بديل نسبياً رخيص يستقطب العمالة من المناطق النائية إلى المدينة مضيفاً للاكتظاظ ومؤدياً إلى تضييق الهوة في تكاليف العمالة بين المناطق النائية و المدن مما يجعل المناطق النائية أقل استقطاباً للشركات و المصانع. إضافة إلى ذلك، عندما تسيطر الاحتكارات الحكومية أو حتى الخاصة على الطاقة والنقل و الشحن و الخدمات الأخرى التي تحتاجها الصناعة، هذه الاحتكارات لا تشعر بالضرورة و الرغبة في تقديم هذه الخدمات للصناعات المنتشرة في المناطق النائية لأن ذلك لا يهدد وجودها بسبب عدم المنافسة و يكلفها أكثر في البنية التحتية. هذا أيضاً يضيف إلى قلة الاستقطاب في المناطق النائية للمصانع و الشركات الجديدة.
النتيجة الإجمالية هي أنه لو تبقى الحكومة ضمن دورها المناط بها و تقوم بمهمتها الأساسية وهي تطبيق القوانين و تأمين الأمن و الأمان وذلك بتطبيق القانون الذي يمنع إنشاء السكن العشوائي غير المرخص و غير الصحي و الضار بالبيئة و الذي يقدم رديفاً رخيصاً نسبياً للسكن في المدينة؛ و لو أن المنافسة الحرة تركت لتلعب دورها في جميع القطاعات الاقتصادية على شكل شركات خاصة؛ فإن قوى السوق ستوضح لبعض الشركات، في مثالنا أعلاه مصنع ألبسة جاهزة، أن المناطق النائية ستكون الأكثر ملاءمة ومنفعة لأعمالهم و أن من صالحهم في بعض الأحيان العمل في المناطق النائية والابتعاد عن المدن الكبيرة و المكتظة. هذا الانتشار سيؤدي أيضاً إلى أن تقوم بعض شركات توريد المواد الأولية باللحاق بزبائنها “الشركات الأخرى كالألبسة” وبالتالي يؤدي ذلك تدريجياً إلى تطوير المناطق النائية ذات الجدوى و تقليص اكتظاظ المدن الكبيرة و سيؤدي أيضاً إلى تشجيع أبناء الريف على البقاء في مناطقهم دون الحاجة للانتقال إلى العيش في المدن في ظروف مزرية. لن يكون هناك حاجة إلى أي تدخل حكومي في العملية و لا إلى خلق “حوافز” مصطنعة و مكلفة غالباً ما تنتهي بالفساد و المحاباة. مرة أخرى، علينا أن لا نحاول أن “نُعلِّم الحزانى البكاء”! لنتركهم على راحتهم و هم “سيبكون” بأنفسهم متى ما توفرت شروط “البكاء”!!
*خبير اقتصادي ورجل أعمال سوري
منبر الحرية، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2016
كثيراً ما نسمع أنه على الحكومة أن تفعل هذا. على الحكومة أن تفعل ذاك.. نحن نؤمن، كليبراليين كلاسيكيين، أن الحكومات، التي عادة ما تتألف من المجموعات البشرية الأقل كفاءة و الأقل إنتاجية، يجب أن ينكفئ عملها لدورها الأوحد وهوضمان السلم. نحن المواطنون مسؤولون عن الاهتمام بحاجاتنا ورغباتنا....