محمد أمين* ج1
ترجمة: علي الحارس
تعاني العديد من البلدان من الحاجة الماسة لخلق المزيد من فرص العمل؛ وعلى سبيل المثال: هنالك في الكثير من بلدان الشرق الأوسط أعداد كبيرة جدا من الشباب العاطلين، كليا أو جزئيا، عن العمل. وهذه المشكلة نفسها تصيب اقتصادات بعض دول جنوب أوروبا (كإسبانيا وإيطاليا)، وعلى العكس من ذلك، نجد أن هنالك بلدانا أخرى تقدم أداء أفضل في مجالات التوظيف (كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا)، فما السبب في ذلك؟
في رأيي أن السبب الرئيسي يكمن في سعي الكثير من الحكومات خلف سياسات لا تؤدي إلى خلق فرص العمل في القطاع الخاص؛ وهي قد تسعى أحيانا خلف سياسات سيئة مدفوعة بأسباب حسنة النية، ومنشأ ذلك: فشلها في فهم السياسات الصحيحة التي يجب إتباعها؛ أما في الحالات التي تكون فيها الأسباب سيئة النية، فإن السياسات الاقتصادية تكون مصممة على نحو مقصود لتفضيل زمرة حاكمة قليلة العدد على حساب المواطنين بشكل عام.
تعقيد البنى الاقتصادية
الكون حيز مكاني معقد، لكن علم الفيزياء يسهّل علينا فهمه، فمن بين البيانات المتناثرة حولنا يقوم علم الفيزياء باستخلاص المبادئ الرئيسية، من أمثال: مبدأ هايزنبرغ في اللايقين، ومبدأ انحفاظ الكتلة والطاقة، ومبدأ التكافؤ.
وعلى النحو ذاته، فإن البنى الاقتصادية منظومات معقدة، وهي أقل قبولا من الكون المادي للتجارب الخارجية، لكن هذا لا يمنع وجود مبادئ رئيسية تقدم إرشادا واضحا حول أنواع السياسات التي تؤدي إلى أنواع بعينها من النتائج.
وليس هنالك في العالم أية حكومة تقول بأنها ترغب في إيقاف عملية خلق فرص العمل، لكن هذا لا يمنع بعض الحكومات من أن تكون أفضل من غيرها بكثير في خلق فرص العمل لأنها تلتزم بالمبادئ الرئيسية لتحقيق ذلك على نحو يفوق التزام الحكومات الأخرى.
إذا كان من السهل البدء بالأنشطة الاستثمارية، فسنشهد انطلاق المزيد منها
الأنشطة الاستثمارية هي الجهة الأكثر أهمية في خلق فرص العمل، سواء كان ذلك على صعيد العاملين أم على صعيد القواعد التي يطبقها أصحاب هذه الأنشطة بأنفسهم؛ ويبدو من البديهي أنه إذا أراد أحدهم أن يبدأ نشاطا استثماريا ما فيجب على الدولة أن تضع أقل ما يمكن من المعوقات في طريقه؛ لكننا سنلاحظ حدوث العكس من ذلك إذ راقبنا ما يجري على أرض الواقع.
في كتاب (لغز رأس المال) لهرناندو دي سوتو يذكر المؤلف أن فريقه أجرى تجارب عملية في عدد من البلدان لمعرفة عدد التراخيص المطلوبة لإطلاق ورشة صغيرة لصناعة الملابس توظف عاملا واحدا، والمدة التي يستغرقها الحصول عليها؛ وكانت النتيجة في البيرو، بلد المؤلف، أن التراخيص كانت تتطلب (289) يوما وإنفاق (6) ساعات يوميا في عملية متابعة الإجراءات المتعلقة بإصدارها.
وهنا يبرز السؤال: لماذا تتصرف الحكومات على هذا النحو؟
هنالك العديد من الأسباب: منها الجيدة، ومنها المضللة، ومنها الشنيعة؛ وعلى سبيل المثال:
• الأسباب الجيدة: إنني لا أرغب بأن يجري لي العملية الجراحية طبيب لم يتلق التدريب اللازم، فتضمن لي الحكومة أنها تشرف في نهاية المطاف على خطة يطبقها أصحاب المهن الطبية تقضي بوجود مؤهلات مسبقة لدى من يحق لهم ممارسة الجراحة في بريطانيا.
• الأسباب المضللة: الكثير من الولايات الأمريكية (كولاية كنتاكي) تفرض الضوابط التنظيمية على من يرغب العمل في مجال الحلاقة، أما في بريطانيا فهنالك خطة للتسجيل الطوعي في هذا المجال، لكن نقابة الحلاقين ترغب في جعل هذا التسجيل إجباريا. وفي الوقت الحالي، يمكن لأي شخص أن يدعو نفسه محاسبا أو مستشارا ضريبيا في بريطانيا، لكن هنالك دعوات لا تنقطع تطلقها النقابات المهنية ذات العلاقة للتعبير عن رغبتها بأن تقوم الدولة بإيقاف عمل المحاسبين والمستشارين الضريبيين ممن لم يحصلوا على التدريب المناسب. وليس هنالك أي مهنة تعبر بصراحة عن رغبتها بتقليص دائرة التنافس وخفض عدد الداخلين الجدد كسبب لما ترغب به من قيود تنظيمية، فهي تلجأ دائما إلى الادعاء بأنها لا تريد من وراء ذلك إلا حماية عموم الناس وحسب.
• الأسباب الشنيعة: من الملاحظ في الكثير من البلدان أن الحكومة تقع تحت سلطة عصابة من اللصوص، كما كان عليه حال تونس قبل الربيع العربي؛ وهذه الحكومة تعمل على ضمان أن تحصل القلة المفضلة، وحسب، على التراخيص اللازمة لإدارة الأنشطة الاستثمارية، فتحصل بفضل ذلك على أرباح احتكارية يتشاركها أصحاب الاستثمارات وأرباب الحكم.
وصفات للسياسات الحكومية
يجب على الحكومة أن تقوم بمراجعة جديدة لكل الضوابط التي تنطبق على كل المهن والأنشطة الاستثمارية، وذلك دون النظر إلى السجل التاريخي لهذه الضوابط؛ وفي رأيي أن هذه المراجعة ستتمخض عن هيكلية واضحة للمقاربات السياساتية، وذلك على النحو الآتي:
• عدم وجود أي ضوابط على الإطلاق: تطبيق قاعدة (فليحترس المشتري)، فمن لم يرضَ بما اشتراه يمكنه مقاضاة البائع، ويتمثل دور الدولة هنا في جعل محاكم الدعاوى الصغيرة تتسم بالسرعة وانخفاض التكلفة.
• الضوابط التنظيمية المتعلقة بالإفصاح عن المعلومات: فالقانون يلزم الجهات الدائنة، على سبيل المثال، بنشر ما ستحصل عليه من السعر السنوي للفائدة؛ وفي هذا النوع من الضوابط يبقى القانون على امتناعه عن تحديد من يمكنه الدخول إلى الأنشطة الاستثمارية، لكنه يشترط أيضا قيام هذه الأنشطة بالإفصاح عما يطلبه الزبون من معلومات محددة.
• الضوابط التنظيمية التي تلزم بالحصول على التأمين: الدولة توفر للزبون الحماية من خلال ضمانها له بأن لا تكون الأنشطة الاستثمارية مجرد بنى شكلية، فهنالك حجة منطقية تبطن اشتراط حصول الحلاقين على تأمين للمسؤولية القانونية، مما يجعل من مهمة شركات التأمين أن تستبعد المخاطرات التجارية المتسرعة.
• الضوابط الرسمية: قد تكون الضوابط التنظيمية ضرورية في بعض الحالات، كما هو الحال في عمل المحطات النووية لتوليد الطاقة أو العمليات الجراحية؛ وينطبق هذا المبدأ في أقوى تطبيقاته عندما لا يكون التعويض المالي كافيا لوحده، أي: عندما يكون الناس معرضين لخطر الموت أو الإصابات الخطيرة بسبب هذه الأنشطة الاستثمارية.
* رئيس المنتدى الإسلامي المحافظي (بريطانيا)، محاسب ومستشار ضريبي قانوني.
منبر الحرية، 15 يناير/كانون الثاني 2017
تعاني العديد من البلدان من الحاجة الماسة لخلق المزيد من فرص العمل وعلى سبيل المثال، هنالك في الكثير من بلدان الشرق الأوسط أعداد كبيرة جدا من الشباب العاطلين، كليا أو جزئيا، عن العمل. فما السبب في ذلك؟.... .