peshwazarabic

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

اخترقت الطائفية بين الشيعة والسنة المجتمعات العربية والإسلامية كما تخترق النار الهشيم. إنها ظاهرة يصعب إيقافها بسبب فشل يتخمر في الدولة العربية وسياساتها. في العراق تعبّر الحالة الطائفية بين الشيعة والسنة عن المقدرة التفتيتية للظاهرة، أما في لبنان فالصراع السني الشيعي أصبح أكثر أهمية وعمقاً، وفي الكويت بإمكان شخص أن يفرقع البلاد ببضعة جمل كما حصل مؤخراً، أما في البحرين فالوضع يزداد تعقيداً بين الطائفتين: الغالبية الشيعية والأقلية السنية، وفي اليمن صراع مسلح بين الحوثيين الأقرب إلى الشيعة (الزيدية) من جهة وبين الدولة المركزية ذات الغالبية السنية.
هذه مقدمات وليست نهايات، إذ يبشر الوضع بمزيد من التفتت الطائفي في دول عربية لم تؤسس لدولة القانون والمشاركة واحترام الرأي الآخر. بعد عقود على الاستقلال السياسي ينتظر كل منا في أوطاننا الصغرى زلة من أحد أفراد الطائفة الأخرى لتقوم قيامتنا ونصفي حساباتنا السياسية ونطلق العنان لاستغلال العاطفة الدينية الجياشة لدى بسطاء الناس. لقد أصبحنا بفضل ضعف التعليم وعدم حيادية دولنا حيال المسألة الطائفية طوائف متصارعة قبل أن نكون مواطنين ملتزمين.
في الخمسينات والستينات من القرن العشرين كان لسان حال العرب «لن نعيد صراعات وخلافات الأمس وكأنها وقعت اليوم». في ظل هذه الأجواء انضم شيعة جنوب لبنان إلى «المقاومة الفلسطينية» بقيادة حركة «فتح» ذات القيادة السنية ولكن غير الطائفية، وانضم الشيعة إلى جانب السنة والمسيحيين إلى القوميين العرب والحركة القومية بقيادة عبد الناصر، وانضم السنة والشيعة معاً إلى التيار البعثي واليساري العربي من المحيط إلى الخليج. في هذه الأجواء عاش المسيحي العربي إلى جانب السني والشيعي المسلم في معظم أنحاء الشرق من دون التفات إلى اختلاف ديني. فالدين وفق التصور العربي في ذلك العصر كان ينظر إليه كأمر خاص يرمز إلى العلاقة الروحية بين الفرد وربه بينما الوطن للجميع وفق حقوق وواجبات. هذا لا يمنع أن انكسارات وانتكاسات كبرى وقعت في ذلك التفكير كان أولها انفجار الحرب الأهلية اللبنانية عام ١٩٧٥.
ومنذ جاءت الحركات الإسلامية خاصة منذ ثمانينات القرن العشرين والطائفية بلا مواربة جزء طبيعي من الصورة. فكيف لا تكون الطائفية أساس المشهد في ظل تركيز الحركات الإسلامية على الفوارق الدينية بين الناس؟. لم يعد الفرق بين إنسان وآخر يتجلى في عمله وموقفه وسياسته وأخلاقه، بل أصبح أكثر وضوحاً في انتمائه الديني والمذهبي وطريقة صلاته وتعبده. وعوضاً عن بناء المشترك بين الديانات والطوائف في المجتمعات العربية أصبح الاختلاف والتصادم على أبسط المسائل من طبائع الأمور.
لقد سعى الإسلام السياسي لإعادة إحياء ما وصلنا من القرون الوسطى وعصور الظلام بكل ما فيها من تعبير عن ظروف الأمس وعقائده وقيمه. لقد تحول هذا الموروث بفضل الإسلام السياسي إلى مشروع سياسي يجدد معارك الأمس بين هذه الصحابية وذلك الصحابي، وبين خلفاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبين دول اندثرت وأزمان مرت وأمم اختفت. في هذا أصبح السني السلفي يناقش المتدين الشيعي بتفاصيل ما وقع في موقعة الجمل وكل موقعة، وعاد إلى المسلمين استخدام لفظ «النواصب» عن السنة ولفظ «الرافضة» عن الشيعة. فجأة تلبدت الغيوم في بلادنا، وأصبح الاختلاف على صحة هذا أو ذاك يسبب نزاعاً حول قضايا لم تعد أساسية للعصر الذي نعيش فيه وللعلاقة بين الناس في حلهم وترحالهم.
إن قضية الشيخ ياسر الحبيب الذي سحبت جنسيته الكويتية الشهر الماضي هي آخر مثال على هذا الصراع. ومنذ شهور منع السيد الفالي، وهو رجل دين شيعي، من دخول الكويت بسبب اتهامه بالإساءة إلى الصحابة. وقبل عامين وقع اختلاف كبير مع الشيعة في الكويت على تأبين عماد مغنية، ومنذ أيام فضّت اجتماعات للسلفيين السنة في الكويت ممن تجمهروا احتجاجاً على ما قاله الشيخ ياسر الحبيب بحق السيدة عائشة زوجة الرسول. والواضح أنه بإمكان ذات السجالات أن تمر مرور الكرام لو انطلقنا من أن لغة الاستفزاز تمثل مشكلة لمستخدمها وصانعها. ربما لو نظرنا إلى الأمر من زاوية مختلفة لما كانت ردة فعلنا بهذه الحدة.
إن الاحتجاج بالتحديد في الكويت على ما قاله الشيخ ياسر حبيب أمر طبيعي، فالذين يختلفون معه كثر، وكان هذا يكفي. ولكن سحب جنسيته، بهدف معاقبته وإرسال رسالة إلى غيره، لا يفعل إلا العكس، إذ جعل قطاعاً كبيراً من المواطنين ممن لا علاقة لهم بالأمر يشعرون بعدم الأمان والتخوف حتى لو لم يظهروا هذا الآن، كما انه يجعل مسألة الجنسية وسحبها سيفا مصلتاً على كل مواطن يمكن أن يتهم بتقويض الوحدة الوطنية أو الإساءة إلى الأمن الوطني حتى لو لم يفعل هذا. فمن الذي يقرر الإساءة إلى الأمن الوطني أو الوحدة الوطنية: القضاء أم الرأي العام أم السلطة التنفيذية أم البرلمان أم الشارع أم الطوائف؟
المؤكد الآن أن هذه الفوضى والحدة ستبقى إلى أن نجد حلاً كما فعل الغرب اتجاه كل أنواع التعبير بما فيها أكثرها استفزازاً وغرابة. فالرأي حتى لو كان غريباً يجب أن يعود على صاحبه، فإن أصاب أيده الناس وأحبوه وأقبلوا على أفكاره وإن أساء قاطعه الناس وانتقدوه وابتعدوا عمّا يقول مما سيدفعه إلى إعادة النظر.
وتؤكد الحقيقة التاريخية أنه في زمن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) قال البعض عنه ما قالوا، فسامحهم، وقال بعضهم عنه أسوأ الأقوال فعفا عنهم وكسبهم إلى جانبه فأصبحوا من أشد مؤيديه المؤمنين برسالته. هذا النموذج القيادي الذي يدير الاختلاف والتنوع هو نموذج يفتقده العالم العربي في زمننا هذا. فعرب اليوم يردون الإساءة بإساءة أسوأ منها، ويردون الصاع صاعين خاصة على بني جلدتهم، ويردون الخطأ بخطأين. في النهاية نحن نجلد أنفسنا ونقسم عالمنا ونحمّله ما لا يحتمل، كما أننا نظلم الكثير من الأبرياء في الطريق.
وأتساءل لماذا لا نكتفي برد مقنع يساهم في خلق أجواء أفضل؟ الواثق من نفسه لا تهزه كتابات ولا هجمات ولا مغالطات أو قذف مهما كان بذيئاً وسطحياً. الرد يجب أن يكون بالمنطق، فهو أقوى سلاح وأكثره ثباتاً وإبهاراً. بل ربما يكون الأفضل في بعض الأحيان عدم الرد. ألا نجد أحياناً كأفراد أن كلاماً سفيها يقال لنا في العلن وفي أماكن كثيرة لا يستحق منا حتى مجرد التفكير في الرد؟ أم أننا يجب دائماً أن ننجر إلى أسفل الدرك في كل خصومة واختلاف؟.
ونتساءل ما دخل الدولة بصراع سني أصولي مع صراع أصولي شيعي؟ من قال إنه بالإمكان إيقاف هذا الإعلام الهادر وحرية كل من يريد أن يقول أكثر الأفكار غرابة واستفزازاً؟ ألا يتحول كل هذا إلى معارك جانبية لا يمكن لطرف أن ينتصر فيها على الآخر؟ أليس واجب الدولة الأول أن تتعامل مع الكهرباء والماء والبيئة والتعليم والتنمية والاقتصاد والدفاع والتخطيط عوضاً عن أن تنجر إلى معارك جانبية لا تغير شيئاً من واقع؟.
إن الصراع السني الشيعي والصراعات الدينية في بلادنا العربية، من الكويت إلى العراق، تؤكد أهمية فصل الديني عن الزمني، وتؤكد ضرورة أن لا تتدخل الدولة في المسائل الدينية إلا لمصلحة التهدئة، كما تؤكد هذه الأحداث أهمية أن يكون للقضاء رأي وللعقلانية مكان. فهناك في التاريخ الإسلامي الكثير من الغرائب، وفي كتب الأقدمين الكثير من الأمور التي بعضها صائب وبعضها لا يجيزه العقل أو المنطق، بعضها دخل على المسلمين السنة وبعضها دخل على المسلمين الشيعة وبعضها لا علاقة له بالإسلام.
إن فصل الزمني عن الديني هو المدخل لحماية الدول من صراعات المذاهب واختلافها. في حالة الشيخ ياسر الحبيب في الكويت أصر التيار السلفي على سحب جنسيته فتم له ذلك على رغم أنه علاج للخطأ بخطأ فادح، وفي حالات قادمة سيصر التيار الآخر على سحب جنسية الآخرين وإنزال أشد العقوبات. الأمر لن ينتهي سوى بتعميق المخاوف في أوطان تعيش على الخوف. لنتذكر أن الهويات الخائفة تتحول إلى هويات مقاتلة وكثيراً هويات جارحة وقاتلة كما يؤكد الروائي أمين معلوف في روايته. ألا يمتلئ التاريخ الأوروبي بنماذج أدت في النهاية إلى تدمير أوروبا مرات ومرات؟.
ما ينقص العالم العربي هو الحكمة والحوار والرحمة بين فئاته. بالحوار والحكمة يمكن استيعاب الاختلاف والفوضى. بالحكمة والحوار يمكن السماح للناس بالرد من دون اللجوء إلى قرارات تخلق أحقاداً وتظلم أبرياء؟ الحكمة تقول أن الناس تخطئ وتعود عن الخطأ وأن العقوبة المشددة ليست حلاً لقضايا الرأي مهما كانت الآراء سطحية واستفزازية؟ الحكمة تقول أنه لا يوجد خطر على الدين من آراء شخص أو كاتب أو شيخ. بل تؤكد التجربة أن الخطر الحقيقي هو في رد الفعل لأنه يعالج العنف الكلامي بعنف جسدي والعنف الكلامي بعنف يؤثر على مجتمع يفتقد الأمان والاستقرار. آن الأوان للبحث عن المشترك، للبحث عن العقلنة، للتروي، لعدم الانجرار وراء ردود الفعل العاطفية والتعصب.
المصدر: الحياة
‎© منبر الحرية،5 أكتوبر/تشرين الأول 2010

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

لا يصعب على المتتبع بشكل عام لحال الإسلام والمسلمين أن يدرك مدى التداخل الوثيق وخاصة في السنوات الأخيرة بين مسألتي:
1. علاقة الإسلام كأيديولوجية دينية ظهرت في القرن السابع الميلادي في شبه الجزيرة العربية مع عالم اليوم وما يتميز به من تقدم علمي وتقني وأسس معرفية
2. علاقة أتباع الدين الإسلامي المتوترة مع الشعوب الأخرى،  إذ أن المسألة الأولى تطفو على السطح متصدرة خطاب غير المسلمين كحصيلة لتفاصيل توترات الثانية، وتبدو كما لو أنها الأكثر إلحاحاً منها إلى التناول من أجل حصول نقلة نوعية تساهم في مد جسور التفاهم أو التوصل إلى صيغة تعامل مرضية بين المسلمين وبقية شعوب العالم.  في الواقع، لا يبتعد عن الدقة من يهتم بإبراز نسْب الإسلام إلى عصر نحن عنه بعيدون، بل ويقترب من الصواب أكثر حينما يقول بضرورة إجراء إصلاح ديني على غرار ما حصل في الأديان الأخرى كي يصبح الإسلام متناسباً، ومتماشياً، مع متطلبات العصر ومستلزماته (مع العلم أن عوائق الإصلاح الديني في الإسلام كثيرة حالياً)، بيد أن الوجه الحقيقي للمشكلة ليس فقهياً متأصلاً في تعاليم الإسلام بقدر ما هو اجتماعي وسياسي يتعلق بواقع المسلمين.
لعل التناقض بين رؤيتي المعنيين خارج الدائرة الإسلامية وبين المسلمين في قراءة علاقة الدين الإسلامي بالعنف يلقي بعض الضوء على المشكلة المطروحة، ففي حين يرى البعض أن الدين الإسلامي هو مصدَر للعنف، يشدد المسلم على أن دينه يدعو للسلام وعدم العنف.  ويتعقد الأمر عند تناول نصوص قرآنية معينة أو مفردات كـ”القتال” و”الجهاد” ، على سبيل المثال، فتعني لأصحاب الرأي الأول آنف الذكر غير ما تعنيه للمسلمين الذين يرفضون الدلالة الحرفية والمعجمية للكلمة والنص ويظهرون عوضاً عن ذلك تفسيرات تنحصر في دائرة العبادة والفروض الدينية والعلاقة بين المؤمن وربه.  إلا أن الأمر يصبح أكثر إثارة للجدل حين يظهر التناقض في فهم ذات النص وذات التعابير بين مسلم يلجأ إلى العنف (لأسباب اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية) فيُكيّف مفاهيمه لتتناسب مع خطواته ومسلم آخر يُبقي على فهمه ونهجه بأن الإسلام ليس مصدراً للعنف فيبدو الأمر محيراً للمراقب الذي يتناهى إليه مفهومين متناقضين لنفس النص وتأثيره على إنتاج العنف أو عدمه من قبل طرفين مسلمين. والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة هنا يتمثل في الدافع إلى اكتساب ذات النص أو التعبير معنيين متناقضين بنفس الوقت.
لا نحتاج للفحص الدقيق لإدراك أن وضع المسلمين، أفراداً كانوا أم جماعات، ليس هو الأفضل وخاصة في أيامنا هذه، إذ أنه آخذ في التدهور من سيء إلى أسوأ في ظل الأنظمة اللاديمقراطية الحاكمة إلى أمد لا تلوح نهايته في الأفق بفعل استماتتها للحفاظ على أنفسها وتوريث كراسي الحكم، وغياب الديمقراطية وانعدام الحريات العامة، ناهيك عن سوء توزيع الثروة وانتشار الفساد والفقر والجهل والبطالة، إضافة إلى ما يواجهونه من نزاعات وصراعات إقليمية تبدو حلولها أكثر من مستعصية.  وسط هذا المناخ المحمل بالضغوط والكبت والقمع واليأس من عدم حصول تغيير، لا يبقى للفرد أو للجماعة، إلا البحث عما يمكنهم الاستناد إليه والتعبير من خلاله عن امتعاضهم وتذمرهم مما هم فيه، فمن الواضح أن جدار الاستناد وتسجيل الاحتجاج يصبح، في معظم الحالات، الدين.  والدين، بهذا السياق، ما هو إلا بُعد رمزي لعمل اجتماعي والإلتفات إليه لا يعني بأي شكل من الأشكال الهروب من المعضلات الوجودية للحياة عامة إلى عوالم سماوية مجردة من عواطف الدنيا بل إنه، وعلى العكس تماماً، انخراط في وسطها.  والدين يغدو الأداة التي يطورها الإنسان وهذا التطوير يتحدد، كما ذكرنا أعلاه، طبقاً للوضع السياسي والاقتصادي والنفسي للمطوِّر وبالتالي للشكل الذي سيأخذه “دينه”، فإما أن يأخذ منحى إيجابياً يتعامل بموجبه مع بقية البشر، ما يجعل مسلماً يرى المسيحي واليهودي “أهل الكتاب” فيُجيز التعامل والتزاوج معهم ومنهم وإما أن يكون سلبياً وعدائياً يصل حد التطرف والإرهاب تجاههم، ما يجعله يرى في المسيحي واليهودي أعداء “كفاراً”  يتوجب “الجهاد” ضدهم. من الناحية النفسية يحمل اللجوء إلى الدين لتبرير التطرف شيئاً من مواساة الذات.  ولهذا فإن الدين هنا موقع للتطرف وليس مصدَراً له.
بكلام آخر، تحمل نظرتنا كثيراً من الاعتباطية وتغريباً للواقع حين نميل إلى رؤية الدين الإسلامي (أو أي دين آخر) كعلم اجتماعي قائم ونبحث عن قوانين ومعان في ذلك العلم اعتقاداً منا أنها المحددة لسلوك ونهج معتنقيه، بل، وعلى العكس تماماً، فإن “القوانين” و “المعاني” ليست مثبتة وجاهزة وإنما تُكتَسَب وفقاً للمكان والزمان ومجمل الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها هذا الإنسان العالق بشبكات مفاهيم أهميتها كانت بالمطلق من نسجه واستنباطه، والدين يصبح بالتحديد منظومة مفاهيم مكتسبة وليس علماً تُحدِّد قوانينه أنماط سلوك معتنقيه.
أخيراً، إن المشكلة تكمن في أن التمترس بالدين كملاذ أخير يفرض تناقضاً ـ بل وانفصاماً، لا يمكن تجاهله ـ بين المرء ذو الوضع الساكن (إذا جاز التعبير)، في الشكل الذي عرضنا له أعلاه، وبين العالم دائم الحركة، ما يُبرز الأسئلة التي تتمحور حول تشخيص الحالة وطرق إيجاد الحلول لها!  فنرى بيننا من العلمانيين من يلجأ لأسلوب الصدمة، ليس فقط عبر محاولة إبراز العلاقة بين التطرف والنص الذي اتخذه المتزمت كموجّه لآليات عمله وبالتالي الطلب بتغيير النص الديني والمناداة بضرورة إيجاد إصلاح ديني، بل وأيضاً بمواجهة الشخص المعني بفداحة نهجه.  إلا أن الحل الحقيقي يكمن في تحديد مواقع الغبن والظلم والعمل الحثيث على إزالتها لتكون النتيجة تهيئة أفراد وجماعات تنتمي إلى الدنيا وتوازن بطيب خاطر ما بين دينها ودنياها.
© منبر الحرية، 21 أغسطس/آب 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20101

لا يفوت المتأمل لمسار العلاقة الرابطة بين بعض الأنظمة الخليجية وتيارات إسلامية معروفة وكبيرة على الساحة الإسلامية مثل التيار الإخواني والتيار السلفي والجماعات الصوفية ؛ حرص هذه الأنظمة في غمرة التنافس السياسي فيما بينها على إضفاء شرعية دينية على سلطتها السياسية، فضلا عن سعي هذه الأنظمة في بلورة مشروعيتها السياسية، استنادا إلى بعد ديني مذهبي ما مرتكز على أي من هذه التيارات.
ففي غمرة هذا التنافس الذي يتجلي في أكثر من مجال واتجاه خاصة بين النظامين القطري والسعودي – ومؤخرا دخول النظام الإماراتي حلبة هذه المنافسة وإن بدرجة أخف واستحياء واضح- تبرز أهمية الشرعية الدينية في خضم هذه المعركة السياسية بين الأشقاء الأعداء، والتي يسعى كل طرف إلى كسبها من خلال صور وأشكال شتى لهذا العلاقة، من دعم وتبني وتأييد واستقطاب لهذا التيار أو ذاك، مدفوعين بالوفرة النفطية التي تدر على خزائن هذا الأنظمة مليارات الدولارات.
فكما لا يخفى على المراقب تلك العلاقة المصيرية، التي تربط بين النظام السعودي والتيار السلفي “الوهابي” تاريخيا، والتي تمتد لأكثر من قرنين من الزمان، مع بداية التأسيس للدولة السعودية الأولي بقيادة محمد بن سعود الذي ترافق بروزه السياسي مع بزوغ الدعوة الوهابية، التي تحالف معها منذ عام 1744م.
وفي المقابل لا يمكن أن تخفي كذلك، ملامح العلاقة التي بدأت تظهر للعلن بين النظام القطري والتيار الإخواني وخاصة في غضون العشر السنوات الأخيرة، والتي تتجلى بأكثر من شكل وعنوان ابتداء بالإقامة الدائمة للرمز الإسلامي الكبير الشيخ يوسف القرضاوي – المحسوب فكرا وتنظيما سابقاً على الأخوان المسلمون – والذي يحمل الجنسية القطرية أيضا، فضلا عن ما باتت تُتهم به الحكومة القطرية جراء قناة الجزيرة وتهمة “إخوانية الجزيرة” بفعل تواجد بعض كوادر الإخوان فيها.
وكما لا يمكن أن يفوتنا أيضا، المكانة التي بات يحظى بها الصوفيون في بلاط شيوخ نظام دولة الإمارات العربية المتحدة، والذين يأتي في مقدمتهم الداعية الصوفي الأشهر الحبيب على الجفري، الذي يقيم بشكل دائم على الأراضي الإماراتية بعد أن كان يقيم على الأراضي السعودية قبلها، عدا عن شيخه، الحبيب عمر بن حفيظ، الذي هو الآخر في سفر وترحال دائم، بين تريم، مسقط رأسه، وأبو ظبي.
النظام السعودي و التيار السلفي !!
فكما هو معروف تاريخيا و منذ نشأة الدولة السعودية الأولى في القرن الثامن عشر الميلادي، تلك العلاقة المصيرية والإستراتيجية، التي تربط بين نظام أسرة آل سعود في المملكة السعودية والدعوة السلفية ممثلة بأسرة آل الشيخ، التي أسسها محمد بن عبد الوهاب (1703-1791) والتي تعرف إعلاميا بالدعوة الوهابية، رغم ما أكتنف هذا العلاقة من تقلبات وانتكاسات كبرى على امتداد كل هذه الفترة من التحالف.
فقد شهدت هذه العلاقة انتكاسات خطيرة، كالتمرد الأول، الذي قاده زعيم الإخوان النجديون- أتباع محمد بن عبد الوهاب- سلطان بن بجاد العتيبي، ضد الملك عبد العزيز بن سعود، في عشرينات القرن الماضي، والذي كان بمثابة أول شرخ في جدار هذه العلاقة، الأقرب إلى الزواج الكاثوليكي منها إلى تحالف إستراتيجي، والذي انتهى بهزيمة المنشقين إثر معركة السبلة عام 1929م .
وكاستمرار لعقدة الشك من هذه العلاقة المريبة بين الديني والسياسي، فقد شكل التمرد الأول، قصة ثورية مغرية ومشبعة بروح الاستلهام للأجيال اللاحقة، كانت بلا شك هي البذرة التي أدت وصنعت ما عرف في نهاية سبعينات القرن الماضي، من خلال الإعلام السعودي “بفتنة جهيمان ” .
جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي، ذاك الشاب السلفي الثوري المتحمس والطامح للملك، صاحب رسالة “الإمارة والبيعة والطاعة” الذي قاد هو الآخر حركة احتجاجية مسلحة ضد أسرة آل سعود، متخذا من المسجد الحرام منطلقا لحركته الاحتجاجية ومعقلا لأنصاره حينها، والتي انتهت هي الأخرى بالقضاء عليها وطمس معالمها تحت لافتة “الفئة الضالة” المصطلح الذي تطلقه سلطات المملكة حاليا على أتباع القاعدة، التي تمثل هي الأخرى، الانتكاسة الثالثة للعلاقة بين الأسرة السعودية الحاكمة والتيار السلفي.
صحيح أن النظام السعودي اعتمد كثيرا على تيار الإخوان المسلمون في صراعه المرير مع الأنظمة العربية القومية، وخاصة النظام المصري الناصري، في ستينات وسبعينات القرن الماضي – ذلك الصراع الذي يطلق عليه بالحرب العربية الباردة- حيث اتخذ النظام السعودي من الأيدلوجية الإخوانية متراس صد في وجه هذه الأنظمة وخاصة النظام الناصري الذي كان يدعم بقوة المعارضة السعودية القومية حينها.
لقد لعب العداء المرير بين الإخوان و عبد الناصر، دورا كبيرا، استفاد منه النظام السعودي في حربة الباردة مع عبد الناصر والتي دارت جل معاركها على الأرض اليمنية، التي كان من مفارقاتها – رغم أنه لا مفارقات في السياسية – أن النظام السعودي السلفي كان يدعم الجانب الملكي الزيدي الأقرب على شيعة طهران، في حين كان عبد الناصر يدعم، الجمهوريين الذين كان من ضمنهم الإخوان، الذين عمل لاحقا على إزاحتهم وتهميشهم لصالح أنصاره ووكلائه في الصف الجمهوري.
فضلا عن المصلحة السياسية التي جناها النظام السعودي من تحالفه مع الإخوان الذين عمل على استقطابهم وخاصة الإخوان المصريون والسوريون فقد استفاد منهم كثيرا من خلال الكوادر المؤهلة تأهيلا عاليا في كل المجالات التي تتطلبها النهضة السعودية حينها مواكبة للعائدات النفطية الهائله.
لكن الثابت في مسار العلاقة بين الأخوان والنظام السعودي، أنها لم تكن إستراتيجية بقدر ما كانت تكتيكية آنية يحتاجها النظام السعودي في حربه ضد خصومه من قوميين ناصريين وبعثيين على حد سواء، وأن علاقته الإستراتيجية التي يستمد منها شرعيته، فقد كانت تلك العلاقة التي يرتبط بها النظام أسرة ودولة مع التيار السلفي الذي لم يكن مؤهل و ليس لديه السلاح الفكري المناسب للمعركة مع خصوم أيدلوجيين كالقوميين الناصريين والبعثيين واليساريين، وإلا لما أعتمد النظام على الإخوان حينها بذلك الشكل الكبير.
أما وبعد أن استنفد النظام السعودي حاجته من الإخوان، بدأ ينتابه بعض القلق منهم، لذا سعى إلى شق هذا التيار من خلال إبراز منافسين أيدلوجيين للإخوان وذلك من خلال دعم تيار منافس لهم كالذي ظهر على الساحة السعودية و بات يعرف على استحياء بالتيار السروري الذي ينسب للقيادي الإخواني السوري السابق محمد بن سرور زين العابدين بن نايف، الذي أسس في بريطانيا، مركز برمنجهام للدراسات الإسلامية الذي كانت تصدر عنه مجلة السنة المتوقفة عن الصدور، والذي يقيم حاليا في الأردن.
إلا أن هذا الانشقاق الذي سعت شخصيات سعودية كبيرة في النظام على إحداثه وتشجيعه، كوزير الداخلية، الممسك بملف الجماعات الدينية، لم يأتي بنتائجه المرجوة منه إذ عاد بنتائج عكسية وخطيرة تهدد أمن واستقرار النظام السعودي، حيث عمل هذا التيار الجديد على إحداث عمل تنظيمي وحركي في الداخل السعودي، وهو ما كان محل اتفاق بين النظام والإخوان سابقا بعدم ممارسة هذا النشاط بين المواطنين السعوديين.
ولعلى هذا هو السبب الرئيسي، الذي دفع بالأمير نائف بن عبد الغزيز، وزير الداخلية السعودي عام 2002م بتصريحه ذاك الذي أتهم فيه الأخوان المسلمون، بأنهم سبب البلاء وفساد المجتمع السعودي وأنهم سبب الإرهاب وكأنه يحمل الإخوان كل مشاكل الداخل السعودي من القاعدة إلى المعارضة الإسلامية في الخارج والإصلاحيين في الداخل، رغم أن الإخوان مثلوا طوال كل تلك الفترة صمام أمان فكري، ومعادل موضوعي للتشدد المذهبي السلفي.
النظام القطري والتيار الإخواني !!
قصة العلاقة القطرية الإخوانية حديثة نسبيا إذا لا تتعدى فترة العشرين السنة الماضية وإن بدت مؤخرا بشكل واضح، من خلال التقارب الكبير بين قطر و تيارات إسلامية محسوبة على الإخوان بشكل عام كحماس مثلا المدعومة قطريا.
فضلا عن ما بات يلاحظ بوضح أيضا على السياسية القطرية في الآونة الأخيرة من قبيل دخول قطر بقوة فيما بات يعرف بمحور الممانعة أو المقاومة،- الذي يعد الإخوان المسلمون أحد دعائمه – هذا عدا عما أفرزته قمة غزة في الدوحة من واقع جديد لتيارين مختلفين في الشكل والمضمون على الساحة العربية.
وتمثل الإقامة الدائمة والمستمرة للشيخ يوسف القرضاوي في الدوحة والتي تمتد لأكثر من ثلاثين عاما والتي لجئ إليها القرضاوي من بطش نظام عبد الناصر بالإخوان، فضلا عن المكانة الكبيرة التي يحضى بها الشيخ لدى القطرين حكومة وشعبا، هي إحدى العلامات البارزة في قصة هذه العلاقة القطرية الإخوانية.
فقد عمل القطريون على بذل كل الجهود لإغراء الشيخ في الإقامة بالدوحة والتي عمل القرضاوي فيها على تأسيس العديد من المؤسسات الفكرية والثقافية المحسوبة على التيار الإخواني فكرا والتي يأتي في مقدمتها مركز بحوث ودراسة السنة التابع لكلية الشريعة في قطر والذي يرأسه الشيخ القرضاوي حتى الآن.
وتعد مجلة الآمة القطرية التي كانت تصدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية القطرية في الدوحة خلال ثمانينات القرن الماضي والتي كان يرأس تحريرها القيادي الإخواني السوري عمرو عبيد حسنة، هي واحدة من إسرار هذه العلاقة الإخوانية القطرية.
فقد مثلت تلك المجلة ناطقا فكريا باسم الإخوان المسلمون طوال فترة الثمانينات وبداية التسعينات حتى توقفها عن الصدور للأسباب يقال أنها سياسية، والتي لا يزال كتابها الشهير، كتاب الأمة، مستمرا في الصدور حتى الآن والذي يمثل بدورة إحدى روافد الفكر الإخواني الواضح، عدا عن مؤسسة إسلام أون لاين حاليا، التي يشرف عليها الشيخ القرضاوي أيضا، ومكتبها الرئيس في الدوحة.
أما اليوم فتعد قناة الجزيرة القطرية، التي لا يكل ولا يمل حسادها وأعدائها على حدٍ سواء من اتهامها بالإخوانية، لما يمثل فيها الكادر الإخواني من حضور كبير، فضلا عن نهجها الموضوعي الذي لا يعجب الأنظمة العربية الحاكمة، عدا عن ما أحدثته هذه القناة من نقلة نوعية تعد بحق فاتحة لمرحلة جديدة في تأريخ المنطقة بكل ما تعني الكلمة من معنى.
ويأتي بعد هذا كله ما قيل عنه قبل قرابة عامين من الآن، والذي أثاره الكاتب والمفكر الإسلامي الكويتي عبد الله النفيسي حول قضية حل التنظيم الإخواني في قطر، والذي – إن صح – يضع الكثير من النقاط على الحروف في موضوع هذه العلاقة.
فمن جانب أنه حٌل للتنظيم الحركي، واستبداله، بحالة التيار الفكري التربوي، مما يعني بدورة احتمالية أن يكون هناك شبه اتفاق بين الطرفين القطريين النظام والتنظيم على حالة من التوافق والانسجام مقابل عدم ممارسة أي عمل حركي تنظمي ما دام وأنه سيسمح لهذا التيار بحرية العمل الفكري والدعوي والتربوي .
هذا الحال هو ربما ما يفسر لنا هذا الانسجام والتحول في السياسية القطرية، تجاه الحركات الإسلامية ودعمها- بغض النظر عن التنافس السعودي القطري في هذا الجانب- فضلا عما باتت تمثله اليوم قطر من مكانة إقليمية لا يستهان بها في ضوء الدور الكبير- يفوق حجمها كثيرا – الذي باتت تلعبه سياسيا وفكريا وإعلاميا في المنطقة.
عدا عن هذا كله، ما باتت تمثله قطر أيضا من محطة ضرورية، لبعض القيادات السياسية الإسلامية المنفية من بلدانها، كالزعيم والقيادي الإسلامي الجزائري عباسي مدني وخالد مشعل، بعد طرده من الأردن، وفي فترة لاحقة شريف شيخ أحمد قبل انتخابه رئيسا للصومال، وقبله القيادي الإسلامي الشيشاني، سليم خان بندربايف، الذي تمكنت المخابرات الروسية من اغتياله هناك في الدوحة.
النظام الإماراتي والجماعات الصوفية !!
أما النظام الإماراتي وعلاقته المتأخرة بالتيار الصوفي أو الجماعات الصوفية، فلا يعدو كونه جريا وراء المنافسة الحادة مع جارتيها قطر والسعودية من جانب، ومن جانب أخر بحثا عن شرعية دينية تضفيها على شرعيتها السياسية من خلال الهالة الدينية التي تعود عليها جراء الارتباط بهذه الجماعات التي لن تكلفها شيئا ذا بال، والذي لا يتعدى بعض الدعم لهؤلاء الشيوخ، فضلا عن محاولة ملئ الفراغ الذي تركه الإخوان بعد انسداد علاقتهم بالنظام.
بيد أن المتأمل للحالة الإسلامية الإماراتية وما اعتراها من سؤ فهم بين النظام وجماعة الإخوان المسلمون الإماراتيون منتصف التسعينات الماضية، والتي أدت إلى تحجيم نشاط هذه الأخيرة، من خلال تغيير مجلس إدارة جمعية الإصلاح الخيرية الإخوانية وتوقيف مجلتهم المجتمع التي اُتهمت حينها بالإساءة إلى الأسرة الحاكمة في دبي، على خلفية الخلاف بين وزير التعليم الإماراتي حينها الدكتور أحمد الطاير والإخوان.
ومهما قيل ويقال من تفسيرات حول تأزم هذه العلاقة بين النظام والإخوان، فإنها بالأخير لا تخرج عن بعدها السياسي الأمني، الذي بات يقلق هذه الأنظمة كثيرا جراء ما بات يعرف في الخليج عن معضلة الاختلال الديموغرافي الذي يهدد هذه المجتمعات.
لكن ما يهمنا هنا، هي تلك الهوة والفراغ الذي تركه انفراط هذه العلاقة بين النظام والإخوان، ومحاولة النظام الإماراتي ملئه من خلال، البحث عن بديل، لا يشكل أي خطر سياسي أو أمني يحتمل مستقبلا، وهو ما بدا من خلال التقارب الكبير مؤخرا، بين هذا النظام والجماعات الصوفية، وخاصة اليمنية منها، التي ترى من السياسة ترك السياسية.
ومن أبرز مظاهر هذا التقارب – وإن بدا على استحياء – الاستضافة الدائمة لشيوخ الصوفية على القنوات الفضائية في دبي وأبو ظبي، وإقامة الحبيب على الجفري الدائمة هناك، والذي بدأ مؤخرا بالظهور الرسمي جنبا إلى جنب مع كبار المسؤولين في الدولة، كنائب رئيس الدولة محمد بن راشد في بعض لقاءاته الرسمية، كالذي جمعه ذات مرة مع الرئيس على عبد الله صالح في زيارته الأخيرة إلى الإمارات.
فضلا عن ذلك، هناك نشاطات متعددة من دينية إلى ثقافية، للحبيب على الجفري في الإمارات، والذي يمتلك فيها عدد من المؤسسات كمؤسسة طابا ذات التوجه الفكري الثقافي، والتي تقول أن من صلب عملها هو تقديم الرؤى والأفكار لصانعي القرار.
وأمام كل هذه الدلالات والشواهد العديدة، فإن العديد من الاستفسارات قد تتبادر لأذهاننا، ربما قد ترسم لنا بعض الإجابات عليها صورة شبه مكتملة عن ظاهرة باتت تتشكل وتلقي بتأثيراتها وأبعادها على كاهل المنطقة مزيدا من التباين والانقسام، هي في غنى عنها اليوم، في ظل جملة المتغيرات الإقليمية والدولية الخطيرة، التي تجعل من هذه المنطقة مركز الدائرة في سياساتها وتوجهاتها.
© منبر الحرية، 27 يوليو/تموز 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

ما الذي جرى ويجري في إيران ؟ سؤال يستثير إهتمام الكثير من المتابعين والكتاب والصحفيين والمحليلين و الباحثيين حول هذا الحدث الذي أربك الجميع في الخارج و الداخل الإيراني لتفسير حقيقة و ماهية الأزمة الإيرانية التي كادت تعصف بالبلاد وشرعية ثورتها الإسلامية، إذ تعد الأخطر والأكبر في عمر الثورة الإيرانية التي تتخطى عقدها الثالث بحذر شديد منذ نجاحها في 1979م.
فرغم كل ما طرح من تحليلات وتفسيرات في محاولة القراءة التحليلية الواعية لماهية الحدث، إلا أنها جميعها لم تقترب من التوصيف الدقيق له، بالدقة والتفسير المنطقي، إذ تبقى المقاربة الدقيقة لفهم الحدث لم تكتمل بعد، رغم اكتمال كل تفاصيل المشهد منذ فترة بعيدة، ظلت خلالها عوامل بزوغه تختمر وتنمو معبرة عن نفسها بين فينة وأخرى بشكل من أشكال الغضب والإحتجاج منذ أكثر من عقد من الزمن.
فالمتابع للمشهد الإيراني جيدا يدرك أو قادر على تعقب بعض خيوط ما جرى من أحداث مؤخرا في بحر إسبوعين من الزمن في موجة من الإحتجاجات الشبابية الصاخبة والعنيفة التي تعد الأعنف والأكبر حتى الآن.
تلك الأحداث التي أعقبت إعلان نتائج الفائز بالإنتخابات الرئاسية التي أبقت على الرئيس المحافظ والمدعوم من الولي الفقية، أحمدي نجاد في موقعه لفترة رئاسية ثانية وبفوز كاسح وبفارق كبير في الاصوات عن اقرب منافسيه الإصلاحي، مير حسين موسوي، والذي تعدى الفارق بينهما الــ 11 مليون صوت .
فالأزمة الإيرانية ليست وليدة اللحظة الراهنة والحرجة، بقدر ما هي تراكمات فترات متباعدة، يقترب عمرها من العمر الفعلي للثورة الإيرانية، لكن ما لا شك فيه، هو أن هذا الحدث ما هو الإ الصورة ربما ما قبل الأخيرة للمشهد الذي يبحث عنه شباب الجيل الثالث للثورة في إيران، وهو الإنتقال بإيران ولاية الفقية إلى إيران حرة لبرالية ديمقراطية تستعيد معها كل مكونات شعوب الدولة الإيرانية هويتها المختطفة في سرداب الإمام الغائب .
وبتالي ما حدث وسيحدث من قبل هؤلاء الشباب ليس هو إحتجاج على نتائج الانتخابات التي ويدركون بأنها لا تعبر عن إرادتهم وما يأملون، لانها لا تعبر فقط إلا عن إرادة الإمام الغايب في سرداب سامرى ممثلا بنائبه أية الله على خامنئي، الذي وجه جموع الشعب الإيراني بفتواه العملية لا اللفظية لإختيار أحمدي نجاد، طاعة وإمتثالا للإمام الزمان الغائب.
ومن هنا تتكشف لنا تفاصيل صورة المشهد الحقيقي للأزمة الإيرانية المعقدة والمتوارية تحت عمامة ولي الثورة الفقية ومرشدها الأعلى و بنادق الحرس الثوري حامي حمى ولاية الفقية السياسية التي إبتدعها ملهم الثورة وقائدها الأول الإمام الخميني ( 1900- 1989م ) كمخرج سياسي وفلسفي لحالة التيه والإرباك التي كانت تحاصر أتباع المذهب الإثنى عشري الجعفري على إمتداد قرون مضت .
فما جرى خلال الإسبوعين الماضيين في إيران لم يكن غير فعل احتجاجي متواصل منذ عقد من الزمان لأحداث مماثله قام بها شباب الجيل الثالث للثورة – القائمة على شرعية ولاية الفقية – التي يحاول هؤلاء الشباب الفكاك من ربقها الثيوقراطي الباوبوي الكهنوتي في صورة القائد الأعلى للثورة الرجل الأول في إيران وحاكمها الفعلي بنص السماء وإجتهاد نائب إمام الزمان ” لا عجل الله قدومه” كالسان حال هؤلاء الشباب التواقين إلى الحرية والإنعتاق.
فأحداث الأسابيع الماضية ما هي إلا امتداد لأحداث يوليو 1999م، التي شهدتها طهران وعدد من المدن الإيرانية الكبرى، والتي وصفت حينها بأنها الأعنف والأكبر منذ قيام الثورة، تلك المظاهرات التي خطط لها وفجرها حركة طلابية من شباب الجامعات والتي إستمرت حينها لأكثر من عشرة أيام، إنتهت بمقتل عدد من الطلاب وإعتقال العشرات منهم على يد الحرس الثوري.
إذ من المفارقات في تلك الأحداث أنها تفجرت في عهد رئيس يعد بمثابة المرشد الروحي للتيار الإصلاحي في إيران، الرئيس السابق محمد خاتمي الذي كان قد تم إنتخابه قبل سنتين من تلك الأحداث، وهو ما يفسر لنا حقيقة الأحداث الأخيرة في طهران.
و من مفارقات تلك الأحداث أيضا، أن الحركة الطلابية الشبابية التي فجرت الأحداث الأخيرة التي يحلو للبعض (إفتئاتاً) وصفها وكأنها إحتجاج على تزوير نتائج الانتخابات لصالح الرئيس المحافظ نجاد ضد خصمه الإصلاحي موسوى، مغفلين أنها قد تفجرت بدايتها في وجه رئيس إصلاحي بإمتياز، خذل هذه الحركة الطلابية حينها حينما وقف إلى جانب الحكومة في وجه مطالبهم.
ومما يعضد حقيقة ما نذهب إليه في تفسير أحداث الأزمة الأيرانية، في أنها محاولة لتوليد ثورة أخرى في وجه ثورة ملالي ولاية الفقية ومحاولة الخروج من تحت عبائتها وعمائمها، هو أن أحداث يوليو 1999م م كانت قد تفجرت مرة أخرى في الذكرى الرابعة لها في يوليو 2003م، في شكل أعمال شغب طلابية ومظاهرات قمعت بقوة وعنف بلا هوادة أو رحمة من قبل الحرس الثوري، فضلا عن أن جميعها تمت في حقبة رئيس إصلاحي.
فما جرى و يجري في إيران، هو صراع أجيال ورؤى وتوجهات متضاربة الأهداف، ومتداخلة الإتجاهات، لكن محركه الفاعل وعرابه الحقيقي، تظل هي إرادة جيل الثورة الثالث وشبابها الذين ضاقوا ذرعا بوصايا السرداب العبثية التي قيدت حريتهم وسفهت عقولهم و أفكارهم وحطمت طموحاتهم وأماني مستقبلهم الذي يحلمون به منذ ثلاثين عاما.
بل الأخطر هو أن هذه الثورة الخمينية حولت هذا الشعب الحضاري العظيم إلى مجرد أمة من الدراويش والخرافيين والدمى، طُلب منهم بل وأجبروا أن يعيشوا صراعا سياسيا دارت أحادث معاركه في القرن الهجري الأول بين يزيد بن معاوية الأموي والحسين بن على بن أبي طالب الهاشمي، وما يترتب على بعث جدلية هذا الصراع اليوم من فتح جبهات ومعارك، المسلمون في غنى عنها أصلا، لما وصلت إليه حالتهم من تخلف وتمزق لا يحسدون عليه.
فأي تفسير لما حدث إذن في إيران مؤخراً، بعيدا عن سياق تلك الأحداث المتتالية والأزمات المتفاقمة على أكثر من صعيد داخليا وخارجيا من أزمة الإقتصاد إلى أزمة العزلة الدولية التامه، المضروبة حول طهران، رغم تمدد نفوذها في المنطقة، فيه قفز فوق الكثير من الحقائق الواضحة التي لا يمكن تجاوزها.
© منبر الحرية، 27 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

كشفت الانتخابات الإيرانية الأخيرة عن خطر كبير يهدد المؤسسة الحاكمة وربما يهدد بقاء الجمهورية الإسلامية الأولى، فلم يكن الصراع بين مرشحين للرئاسة وبين خاسر ورابح في الانتخابات كما يصوره البعض، بل هو صراع بين فريقين و إتجاهين و إستراتيجيتين متعاكستين وإن كانتا تنتميان إلى مدرسة فكرية واحدة،وهذا الصراع يمكن أن نطلق عليه صراع النص والإجتهاد، فريق متمسك بحرفية النص (شعارات الثورة) ويرى أن الالتزام بالشعارات هو جوهر الحفاظ على الثورة ومبادئها وهذا الفريق مؤمن بأن هذه الشعارات هي التي أبقت الجمهورية الاسلامية في موقعها بين شعوب العالم،وأن أي مساس بالشعارات معناه المساس بمبادئ الثورة ومبادئ الامام الخميني أو الانقلاب عليها. وآخر يدعو الى فهم جديد للنص على ضوء المتغيرات ويعتبر هذا الفريق نفسه مسؤولا ً عن مكتسبات الثورة وأن الاساءة لإيران هي إساءة للثورة، وكلا الفريقين متسلحين بأنصار ومريدين وإن كان أنصار النص لهم السيطرة والقوة بأعتبار أن الحرس الثوري يشكل عالبية أنصاره، وهم الجيل الأول من أجيال الثورة إلا إن أنصار الأجتهاد يمثلون الشباب، هذان الفريقان هما (( فريق الحوار )) و ((فريق الصِدام))، – الحوار والصِدام مع الغرب-، الأول يتزعمه الرئيس الايراني السابق السيد محمد خاتمي ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام الشيخ هاشمي رفسنجاني وآخرين، ومعلوم ٌ أن هذان الرجلان ينتميان إلى المدرسة السياسية الواقعية، فمنذ أن أطلق الرئيس خاتمي شعار حوار الحضارات وأعتبره بديلا موضوعياً عن الصراع والصِدام، دخلت إيران مرحلة جديدة وهي مرحلة تنازل الثورة عن شعاراتها لصالح الدولة، وكان لهذا التنازل أسبابه الذي تحسَسَه فريق الحوار أو ما يسمى فريق الإصلاح أبناء الثورة الذين تربوا على أيدي الأمام الخميني وفي كنفه، ويمكن إجمال الأسباب التي دعت الإصلاحيين لهذا النهج بما يلي :
1- انحسار الزخم الثوري بعد رحيل الأمام الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية، فكما هو معروف أن الأمام الخميني كان يمتلك كاريزما عالية لدى مريديه ومواليه فهو الشخصية المحورية في الدولة والنظام.
2- ظهور جيل جديد من الشباب في إيران عاش في رخاء الدولة وعنفوانها و واكب التطورات في العالم عبر ثورة المعلومات والاتصالات التي تفجرت في التسعينات كالانترنيت والموبايل والستلايت وغيرها مما أثر على طريقة التفكير وسايكلوجية الفرد الإيراني والتي تنبه لها الإصلاحيون  كالخاتمي وفريقه، فهم منطلقون من حرصهم على الثورة وديمومتها.
3- ظهور التملل في الشارع الإيراني من بعض تصرفات رجال الدين المتشددين مما أثر سلبا ً على صورة المؤسسة     الحاكمة، وهذا ما تنبه له الفريق الإصلاحي أيظاً وأراد تداركه عبر تغيير إستراتيجية الحكم وليس الايديولوجية الحاكمة.
4- رغبة ايران بأمتلاك الطاقة النووية،وهذا ما اتفق عليه الطرفان- المحافظ والإصلاحي ومعارضة القوى الغربية التي ترى الخطر الداهم من وراء امتلاك إيران القوة النووية وخصوصا أن إيران تصرح جهارا ً بمعاداتها لإسرائيل الطفل المدلل للغرب والخط الأحمر الذي لا يسمح بتجاوزه في العقلية الغربية مما يجعل ايران في دائرة الخطر فليس من الصالح لإيران أن تواجه في هذه المرحلة.
لقد تنبه الفريق الإصلاحي بدافع الحرص على النظام إلى أن الحوار مع الغرب هو الوسيلة المثلى للوصول الى ماتريده الجمهورية الاسلامية وأن إيران هي الطرف الخاسر في الصراع مع الغرب، وإيمان الإصلاحيين بثقافة الحوار جاءت بناء ً على المتغيرات التي حصلت في العالم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفرد الولايات المتحدة في قيادة العالم وأن عصرا ً جديدا ً قد بدأ وأن معطيات عصر الامام الخميني قد تبدلت وان شعاراتٍ مثل الموت لأمريكا والموت لبريطانيا ولى زمنها ولابد من نهج جديد قادر على الاستمرار وخصوصا ً وان إيران أصبحت قوة أقليمية مهمة يحسب لها الف حساب وانها الرقم الصعب في معادلة الشرق الاوسط لا بل الشرق كله.
فالواقع أن الصراع بين الفريقين هو صراع الرؤى وصراع الاستراتيجيات وليس هناك مؤامرة تقف من وراء ما حصل في الشارع الايراني كما يحلو لبعض المحللين وبعض أنصار السيد نجاد ترديده. ولعل الرئيس نجاد هو الأكثر علما بأن لا جهات أجنبية تقف وراء الفريق الآخر، ولعل خطاب السيد الخامنئي في صلاة الجمعة أزاح الستار عن الحقيقة بقوله أن هناك خلافات في الرؤى بينه وبين الشيخ رفسنجاني وبينه وبين الآخرين، وصرح بأن الرئيس نجاد هو الاقرب الى رأيه، مع الاشادة بمواقف الشيخ رفسنجاني الوطنية والثورية.
يستشف المتابع من هذا الصراع بأن هناك تفسيران للواقع الإيراني الأول يريد الحفاظ على شعارات الامام الخميني دون النظر للمتغيرات العالمية والآخر يؤمن بالحركية، ولكن كلاهما يريدان الحفاظ على إيران وعلى الثورة. وسيستمر هذا الصراع بينهما فينمو أحدهما ويتنازل للآخر لأن الأول حمل بذور فناءه وهو يحاول الان التشبث من خلال السلطة ولكن باعتقادي لا جدوى في ذلك. لأن حتمية الصراع تؤكد ذلك و لابد من الرضوخ في النهاية للواقع، خصوصا مع إستمرار وإصرار فريق الإصلاح على مواقفه بعد أن كشف المرشح الاصلاحي مير حسين موسوي وخاتمي ورفسنجاني وكروبي عن نواياهم بالاستمرار.
ولعل الكلمة التي أطلقها موسوي محذرا من إستشهاده أو إعتقاله تؤكد هذا المعنى، وبعد إعتقال مجموعة من التيار الاصلاحي كأبطحي وفايزة رفسنجاني وشقيق الرئيس خاتمي المتزوج بحفيدة الامام الخميني وغيرهم توضح أن الصراع سيستمر وان لا عودة فيه، ولكن يبقى السؤال الأهم: هل تتمكن إيران من تجاوز هذه المحنة التي عصفت بأبناء الثورة؟
© منبر الحرية، 24 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

التبس الأمر على المراقبين لتطورات الأحداث الأخيرة في إيران، إن كانت حركة احتجاج على عملية إجراء الانتخابات، أو ثورة داخل ثورة، أم هي حركة أعمق من كل ذلك، لها أبعادها الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية المخالفة لنهج النظام الحاكم.
فلم ينتبهوا إلى إن التطورات المنبثقة من الواقع لا يمكن أن تكون وليدة لحظتها، بل هي نتاج أسباب بعيدة متراكمة تخلق أزمة وتدفعها بها إلى السطح في ظرف معين، وبالنسبة للحالة الإيرانية، فان نظام الجمهورية الإسلامية قد بلغ مرحلة التناقض مع غالبية المجتمع الإيراني، وكذلك مع المحيط الإقليمي والدولي، حيث أصبحت حكومة الملالي عقبة رئيسية أمام تطلعات الشعوب الإيرانية إلى حياة عصرية منسجمة مع روح العصر الجديد الذي دخله العالم، فالشارع الإيراني متعطش إلى معايشة المتغيرات والظواهر الجديدة التي طرأت على المجتمع البشري، بقدر رغبته في مراجعة المفاهيم والفرضيات القديمة التي باتت عاجزة عن الإحاطة بالتطورات العلمية والتكنولوجية وما قدمت من أنماط متطورة في مختلف ميادين الحياة، ومتابعة المستجدات على كل صعيد.
لقد نجح نظام الملالي في حجب هذه التطورات عن المجتمع الإيراني بستار أيديولوجي – تيوقراطي سميك يبشر بقدوم الولي الفقيه، الذي سيملئ الأرض عدلا، انطلاقا من بناء دولة الحق في إيران، بهذه الشعارات الغيبية – المخملية تمكن الخمينيون من خداع الشعوب  الإيرانية والتأثير في معتقداتهم الدينية، لتدفعهم إلى ثورة أطاحت بالنظام الشاهنشاهي، وأقامت نظام الجمهورية الإسلامية، وكعادة الحركات الشيعية عندما تنجح في التحول من دعوة إلى دولة، فأنها تتخلى عن أسلوبها الدعوي – السلمي، وتتبنى العنف لتشيد دولة ولاية الفقيه بقوة السلاح، وقد سار الخمينيون على نفس النهج، ليفرضوا أيديولوجيتهم المذهبية التوتاليتارية على المجتمع الإيراني، بالأكاذيب تارة، و بالقوة تارة أخرى، ثم تطلعوا لتصدير ثورتهم إلى البلدان الإسلامية.
وقد حافظت الثورة على رونقها بفضل شعاراتها الغيبية والتبشير بقرب ظهور الأمام المنتظر، ليأتي بالجنة الموعودة، فإذا بالشارع  يفاجئ بالملالي وهم يحولون إيران إلى جحيم، متذرعين في عدم تحقيق الثورة لأهدافها، بتآمر الاستكبار العالمي وحربهم مع العراق، وقد استغلوا هذه المبررات ليتهربوا من الاستحقاقات المترتبة على نجاح ثورتهم وكذلك ليقيموا مؤسسات سياسية ودينية وعسكرية تسهر على توطيد نظام حكمهم وعلى صبغ إيران بصبغتهم الأيديولوجية. فتم ضرب التنظيمات السياسية التي تنتهج نظريات أخرى لا تدين بولاية الفقيه كأيديولوجية رسمية للدولة، وبعد تكريس سلطة الملالي وخطها السياسي، تم السماح بإجراء انتخابات دورية تم خلالها تبدل أسماء الرؤساء والوزراء وأعضاء البرلمان، وهذا يبين ظاهريا بأن الثورة ترفض احتكار السلطة أو الدكتاتورية الفردية، وقد انخدع الكثيرون بهذه التمثيلية واعتقدوا أن ثمة تحول ديمقراطي يجري في إيران، حيث فاتهم أن تولي السلطة حق محصور على الأطراف التي تتبع ولاية الفقيه، وان باقي القوى السياسية محرومة من المشاركة في الحياة السياسية، وهذا إجراء ابعد ما يكون عن الديمقراطية التي تفسح المجال على قدر المساواة أمام كافة الأطراف للمشاركة في العملية السياسية. فالذي حدث أن الملالي استغنوا عن دكتاتورية الفرد واستعاضوا عنها بدكتاتورية الأيديولوجية، بقيت هذه الخدعة سارية المفعول حتى انتهاء الحرب مع العراق، وبدأ المتغيرات الدولية، وما قدمت من مفاهيم  وأفكار بدلت معالم الكون.
ورغم سياسة الانعزال والتعتيم فان الشارع الإيراني لم يكن غافلا عن كل هذه التطورات، بل أراد المشاركة فيها والاستفادة منها، في التخلص من قيم الحياة القروسطية المفروضة عليهم من طرف نظام حكم الملالي. فالشباب الإيراني في توق إلى تيارات الفكر العالمي، والى مجتمع مدني تعددي متنوع، والى الثقافة و العلوم والتكنولوجيا، والى الحريات العامة والشخصية، والى ممارسة حياته الطبيعية خارج عمامة الولي الفقيه.
وقد تحايل الشباب بقدر المستطاع على السلطة ليمارسوا قناعاتهم الشخصية بعيدا عن وصايا الملالي، فلم تبقى لهم صلة بأيديولوجية الجمهورية الإسلامية سوى قشورها المفروضة على المجتمع بالقوة، حيث اكتشف الشارع مدى ابتعاد السلطة الحاكمة عن مصالح الشعب. حيث تنتهج الجمهورية الإسلامية أيديولوجية وهمية تلزمها بتبني إستراتيجية توسعية، مدفوعة بمصالح الشريحة الحاكمة، لتقف على الضد من رغبة الشعوب الإيرانية الملحة في الحداثة والتجديد، وبذلك فقد أصبحت السلطة في تناقض حاد مع المجتمع، ففي الوقت الذي يتطلع الشارع إلى تنمية حقيقية والى التمتع بثروات بلاده الغنية، فان حكم الملالي مشغول بأوهامه حول واجب تصدير الثورة لبناء خلافة الأمام المنتظر، أوهام تكلف الشعوب الإيرانية مزيدا من هدر الأموال والثروات والزمن وتعطل مستقبل أجيال كاملة، لان حكام طهران قرروا تأجيل تنمية بلادهم كي يتفرغوا لخوض الصراعات مع القوى الإقليمية والدولية، وهذا يفسر اهتمامهم  بالإنتاج العسكري والأسلحة الذرية، دون الاهتمام بالصناعة المدنية التي تلبي حاجات المجتمع وتخلق فرص العمل أمام العاطلين وتحد من تنامي عدد الفقراء، ولهذا فقد نهض الشارع لأنه لن يقبل بسهولة حتى يغامر حفنة من المشعوذين والدجالين من اجل خرافات يؤمنون بها بمصير بلادهم ومستقبلهم، فيعرضونها للدمار، إذ رغم لغة الرئيس الأمريكي اوباما التصالحية فأن احتمالات تعرض إيران لضربة استباقية ما زالت قائمة بقوة، ولن يكون بمقدور اوباما إبقاء باب المغازلة مفتوحا مع طهران إلى النهاية، بعدما تبين للأمريكيين أن عشق رئيسهم للجمهورية الإسلامية من طرف واحد، ولن يسمح له الديمقراطيين قبل الجمهوريين بمزيد من التخاذل أمام عجرفة ملالي طهران.
لقد قرأ الشارع الإيراني صورة الواقع على الساحة المحلية والإقليمية والدولية، ووقف على حجم الأخطار التي يجرها نظام الحكم على بلادهم، ليقرر إقصاء الجناح المتشدد، والمجيء بالتيار الإصلاحي كخطوة أولى في التخلص من نظام الجمهورية الإسلامية بالكامل. وكان الجناح المتشدد على علم بموقف الشارع لذلك قرر مسبقا حسم الانتخابات لصالح احمدي نجاد في اكبر عملية تزوير ليس لها مثيل إلا في الجمهوريات العربية، ولذلك فان الأحداث التي وقعت في إيران كانت تعبيرا عن رفض الشعوب الإيرانية لنظام الجمهورية الإسلامية المتعفن الذي لم يعد صالحا لقيادة إيران في هذه المرحلة الراهنة.
هذه هي معطيات الواقع الإيراني المستجد والتي لا يمكن إلغائها بفتوى من مرشد الثورة، الذي اخل بمكانته كمرجع روحي وكشف عن زيف هالة القداسة التي يحيط نفسه بها بعد انحيازه الواضح إلى أكثر الأطراف تشددا وتهديده باستخدام القوة وسفك دماء الإيرانيين. فهل سيثني هذا عزيمة الشباب و يئد إرهاصات و تطلعات التغير؟ وهل سيتم تدجين الشعب الذي استطاع إسقاط الشاه؟ هل سيعجز أمام سلطة الملالي التي فقدت مشروعيتها؟
© منبر الحرية، 23 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

المشهد في طهران، ألاف الغاضبين يتظاهرون يوميا بعد إعلان فوز محمود احمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية. وسائل الإعلام الغربية رأت في ذلك “ربيع طهران” حيث المناقشات العلنية والمظاهرات والشعارات المؤيدة للإصلاحيين كشفت الانقسام الكائن في المجتمع الايراني وكشفت أيضا عن “طبقة وسطى غاضبة وجيل من الشباب يتوق للحرية”. هذه المظاهرات ليست الأولى في طهران مع أنها الأكبر والأخطر. ففي أوائل شهر يوليو من العام 1999 شهدت إيران مظاهرات طلابية وصفت بأنها الأعنف في تاريخ الثورة الإيرانية منذ نجاحها في عام 1979. هذه المواجهات تعاملت معها قوات الأمن بشكل عنيف مما أدى إلى سقوط عدد من الطلاب صرعى والقبض على عدد آخر، وما زاد من إحباط الحركة الطلابية موقف الرئيس الإصلاحي (آنذاك ) محمد خاتمى الذي اختار الانحياز إلى جانب الدولة والقانون والنظام في ما اعتبر تخليا منه عن جموع الطلاب الإيرانيين الذين حملوه إلى منصب الرئيس قبل عامين من هذه المظاهرات.
وبعد أربعة أعوام تجددت التظاهرات إحياء لذكرى من سقط في الجولة الأولي، بالرغم من قرار الحكومة الإيرانية بمنع أية تظاهرات، خاصة بعد الاحتجاجات الطلابية التي سادت العاصمة طهران وغيرها من المدن الكبرى في الفترة من العاشر وحتى العشرين من شهر يونيو 2003. هذه المظاهرات (مظاهرات شهر يونيو و يوليو ) ثم المظاهرات الحاشدة الحالية التي تشهدها طهران منذ الإعلان عن فوز نجاد بفترة رئاسية ثانية وتشكيك منافسه الإصلاحي مير حسين موسوي في نتيجة الانتخابات يعدها البعض علامة على بداية انهيار النظام الإيرانى في ظل الضغوط الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعانى منها النظام. ينظر البعض للفترة التي بدأت منذ يونيو 1997 وحتى تاريخه على اعتبار أنها تمثل الجمهورية الثالثة في التاريخ الإيراني المعاصر. هذه الفترة التي شهدت على عكس توقعات الداخل والخارج انتصار الرئيس محمد خاتمى الإيراني شهدت بشكل متواز تصعيد الصراع بين ما عرف بتيار الإصلاح الذي بلوره الرئيس الجديد وتيار المحافظين الذي كان من أهم رموزه الرئيس السابق هاشمى رفسنجانى والمرشد الأعلى على خامنئي.
فأهم القضايا الخلافية التي ميزت الفترة الرئاسية الأولى من 1997 – 2001 كانت تدور حول قضايا الحريات الاجتماعية والعامة. وبالرغم من العقبات التي واجهت الرئيس خاتمى في تنفيذ برنامجه الإصلاحي، إلا أنه قرر أن يخوض معركة الانتخابات الرئاسية لفترة رئاسية ثانية التي نجح فيها ولكنه أخفق مرة ثانية. ومن أبرز الإخفاقات فشله في توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية كي يستطيع تطبيق ما يراه مناسبا من إجراءات لحماية الدستور من منتهكيه على حد تعبيره  عازيا فشله في تحقيق ما وعد به من خلال برنامجه إلى حدود الصلاحيات الممنوحة لمنصب رئيس الجمهورية بموجب الدستور الإيراني.  هذا الدستور الذي يكاد لا يعطى لرئيس الجمهورية صلاحيات حقيقية في مقابل الصلاحيات شبه المطلقة للمرشد الأعلى باعتباره أعلى منصب في الجمهورية الإيرانية. بالإضافة إلى الصلاحيات الموسعة المعطاة لمجالس تخضع للمرشد الأعلى كمجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس الرقابة على القوانين.
فكانت أول خيبة أمل للإصلاحيين الذين انزووا بعد ذلك وسيطر المحافظين على الرئاسة عبر الرئيس محمود أحمدي نجاد وعبر البرلمان الإيراني المحافظ. ولم يظهروا الا قبل شهور من الانتخابات الرئاسية التي جرت في يونيو 2009.
أحد خصائص المتجمع الإيراني هو تميزه بقطبية ثنائية بين معسكر للإصلاح في مقابل معسكر للمحافظين.  إنها  ليست مجرد خلاف على السلطة أو توزيع موارد القوة في المجتمع وإنما تعكس في جوهرها اختلافا ( ولا نقول بالضرورة تضاربا ) في الرؤى حول كيفية إدارة الثورة/الدولة من خلال الحفاظ على كل من جوهرها ومظهرها. من أبعاد إدارة الثورة/ الدولة إدارة علاقاتها بالخارج وهو الأمر الذي فاضت العديد من الدراسات في وصفه وتحليله والتنبؤ بمستقبله.
وقد أستمر الصراع بين التيارين و أتخذ أشكالا عنيفة في بعض الأحيان ( مثل الاغتيالات والاعتقالات التي طالت رموزا من التيار الإصلاحي وخاصة الصحفيين والمثقفين الإيرانيين وكذلك المظاهرات والاحتجاجات التي تظهر بين حين وآخر في حرم الجامعات الإيرانية وبعض تجمعات الطلاب ). و قد أدى إلى ما أطلق عليه بعض الساسة الإيرانيين حالة من اليأس لدى قطاعات متزايدة من الشعب الإيراني وخاصة سكان المدن الكبرى. فالتيار الإصلاحي لم يستطع تحقيق الكثير مما وعد به سواء على مستوى الحريات أو مستوى الأداء الاقتصاد، وانشغل بموقف المدافع عن وجوده في مواجهة خصومه. وفي المقابلة لم يستطع التيار المحافظ حسم المعركة لصالحه وإقصاء التيار الإصلاحي تماما عن الساحة السياسية كما حدث في لحظات تاريخية سابقة. هذا اليأس والإحباط ترجم نفسه في تدنى نسب المشاركة في الانتخابات المحلية والبرلمانية وهزيمة الإصلاحيين. وبالرغم من التبريرات التي ساقها التيار الإصلاحي أو مؤيديه لأسباب تدنى المشاركة فإنها عكست المأزق الذي يعيشه ذلك التيار. إلا أن هذا التيار رأى –في الانتخابات الرئاسية الأخيرة – وسيلة لتقليص الهوة مع المحافظين. خاصة على ضوء قراءته للمتغيرات الداخلية من حيث ضعف الأداء الاقتصادي والخلاف بين الرئيس نجاد و الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني الذي يرأس مجلس تشخيص مصلحة النظام. ومتغيرات دولية تمثلت في إستراتيجية التواصل الدبلوماسي للرئيس أوباما تجاه إيران في محاولة لإقناع إيران بوقف جهودها لتطوير أسلحة نووية حيث يرى الإصلاحيون أنهم الأقدر على التفاوض مع الجانب الأمريكي. ومن ثم فقد حشد الإصلاحيون جهدهم في محاولة لقلب الموازين و فرض ما يسمى صار يسمى بربيع طهران.
© منبر الحرية، 21 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

يبدو أن الطريق إلى جنة السماء والأرض لم يعد بالضرورة مسيجا بالعنف ومفروشا بالدم، على الأقل بالنسبة لإسلاميي التوافق بالمغرب الذين يفترش عدد لا بأس به من قيادييهم كراسي البرلمان المغربي. ليس الأمر وليد الأمس القريب فثمة عقود ثلاثة تفصلنا عن زمن الشبيبة الإسلامية سليلة نهج الإخوان المسلمين بالمغرب، سالت خلالها مياه كثيرة تحت الجسور التي عمل بنكيران الأمين العام للحزب ومن معه على تشييدها مع الواقع السياسي في بلد أمير المؤمنين.
اليوم لم يعد لدى جيل العدالة والتنمية ما يربطه بجيل أتباع حسن البنا في مصر العشرينيات وأتباع جيل المودودي في باكستان الأربعينيات تسمية الإسلاميين التي تحيل على التنوع والاختلاف أكثر مما تحيل على الاتساق والتناغم. إسلاميو بنكيران اليوم يعقدون المؤتمرات الحزبية في القاعات العمومية المفتوحة بدلا من الحلقات السرية في المنازل المغلقة التي كان يعقدها سابقوهم وبعض من قياداتهم، ممن ينحدرون من جيل شبيبة السبعينيات ويضعون برامج انتخابية قد تقودهم إلى كراسي السلطة بدل مخططات جهادية كان من المفترض أن تقودهم إلى جنة الخلد. مدجنون وفق منطق خصومهم و واقعيون وفق منطق مناصريهم. إسلاميو التوافق هم اليوم حزب في مملكة أمير المؤمنين. الدولة الإسلامية قائمة في المغرب فما الداعي إلى إعادة ابتكار العجلة؟
ككل الأنساق الممكنة، قد لا يخل نهج إسلاميي التوافق من بعض المعقولية، وفق نظر مبدعيه ومن يناصرهم على الأقل.  فماذا يتبقى لك لتفعله حين تكون من تعتقدها ورقتك الرابحة قوة ضاربة في يد خصمك، وهل كان عبد الكريم مطيع معلم بنكيران وإخوانه جادا حين أعلن الثورة الإسلامية قدرا للمغرب. ألم يكن الإسلام قدرا للمغرب منذ مجيء الأمير العلوي إدريس الذي لم تكن له من مقومات بناء الدولة سوى شرعية دينية قابلة للانتقال عبر النطفة بما يجعل من مقولة عاش الملك، مات الملك ناموسا لتاريخ المغرب السياسي والديني.
ثم أليس هو نفسه المغرب الذي قامت الدول التي حكمته وتكسرت على نصال الإسلام. المغرب حيث تلتبس السياسة بالدين منذ الأزل وحيث رأى جون واتربوي أن المقدس و اليومي يجري تدبيرهما من خلال شخصيتين اثنتين رئيس الدولة وأمير المؤمنين، لكن الاثنين يتجسدان في شخص واحد الملك.  فماذا كان  لدى ربائب البنا وسيد قطب من جديد ليواجهوا به سلطة و هيبة أمير المؤمنين المشيدة على أساس نسق قوي البنيان يتداخل فيه الشعبي بالرسمي بالتقليدوي.
لقد وضع نهج مطيع الحركة الإسلامية المغربية في خضم أزمة هوية تتجاوز آليات الفعل و رد الفعل إلى جدوى الوجود نفسه. الإسلاميون منفذي مشيئة الله في الأرض و أمير المؤمنين ظل الله على الأرض, لكن الله واحد والأرض واحدة فلا مناص من أن يؤمن أحدهما على الأقل بسطوة الآخر.
وفق هذا كله لم يكن من الممكن لمجموعة بنكيران هويتها الخاصة و أساس وجودها إلا من خلال حسمها لموقفها من إشكالية إمارة المؤمنين بالمغرب فقد خيم فراغ نظري هائل على أدبيات جمعية الجماعة الإسلامية التي غطت فترة الثمانينيات من مسار إسلاميي التوافق. و كانت بداية الطريق ولادة جديدة للجمعية المذكورة أريد لها أن تكون محملة بالعبر.
فمقولة الإصلاح والتجديد التي اتخذت إسما للحركة في نهاية الثمانينيات تبدو صادمة حين تصدر من حركات ماضوية رامت طيلة تاريخها تأصيل الحاضر باسم الماضي وإعادة صياغته وفق رؤى السلف الصالح إلا إذا كان هؤلاء قد راجعوا تاريخهم و تحرروا من إواليات الخطاب الإسلامي في نسخته الكلاسيكية التي تحيل على أدبيات البنا، المودودي وسيد قطب فكان أن ترك الإخوان أمر السماء لأمير المؤمنين وسعوا في الأرض كمن سبقهم من مختلف المشارب والطوائف.
وفق منظري أطروحة فشل الإسلام السياسي فحالة إسلاميي التوافق لا تعدو أن تعزز القاعدة: فشل الإسلاميين المريع في تحقيق الجنة التي وعدهم الله بها على الأرض ووعدوا بها أنصارهم منذ بدايات القرن الماضي، فالأنظمة المصنفة كافرة من قبل جيل  المؤسسين قد أضحت واقعا ممكنا للاشتغال وفق قاعدة أخف الضررين والجنة الموعودة أضحت كراسي السلطة المسيجة بالتوافقات والتنازلات. وفق من لا زالوا يؤمنون بقدرة التيار الإسلامي على انتشال الأمة من متاهات التيه، فإسلاميو التوافق بالغرب في مكانهم الصحيح. النظام المغربي حكم طويلا من دون الإسلاميين حين كان له الخيار، لكنه يحكم اليوم بمعية الإسلاميين حين لم يعد لديه الخيار والتأثير من الداخل أيسر وأسلم والتنازل عن مطلب أسلمة الدولة لا يلغي الرغبة و التوجه القائمين حول مطلب أسلمة المجتمع.
إن الإسلاميين وفق هذا التوجه في أقوى حالاتهم فالنظام بكل تاريخه و شرعيته يفاوض معهم ويقتسم بمعيتهم تدبير شؤون السماء والأرض. أما بالنسبة لمن ناصبوهم العداء، فالإسلاميون هم الإسلاميون، ولا شيء تغير على الإطلاق. كل ما هناك أنهم أضحوا أكثر مناورة و قدرة على تحقيق المكاسب بأيسر وأسهل الطرق وواهم من اعتقد بإمكانية تنازل هؤلاء عن جنتهم الموعودة.
© منبر الحرية، 13 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20101

إن صلاح الأحوال في العالم العربي سوف يحدث عندما تنجح الأحزاب الحاكمة في التخلص من التراث الشمولي داخلها وهي التي كانت أحزاباً بيروقراطياً أمنية سلطوية؛ وعندما تتخلي جماعات الإسلام السياسي وفى طليعتها حركة الأخوان المسلمين وأشكالها الحزبية في العالم العربي عن فكرة الدولة الدينية التي تدمج بين الدين والدولة فيفسد كلاهما ويصير الأمر كله فاشية من نوع جديد. ولكن تعرضنا لخيبات أمل كثيرة؛ وبينما كانت الأحزاب الحاكمة على استعداد للتحرك نحو اقتصاد السوق الحرة فإنها كانت أكثر بطئاً عندما يتعلق الأمر بتداول السلطة في السوق السياسية.
ورغم بعض التنظيرات الغربية والعربية التي تتحدث عن أن “الحركات الإسلامية قد استوعبت الخطاب الديمقراطي و أضفت عليه مسحة ذاتية من خلال مفاهيم (الشورى) و (الإجماع) و (الاجتهاد) وأن الديمقراطية موجودة بالفعل في العالمين العربي و الإسلامي، “سواء أكانت كلمة ديمقراطية بحد ذاتها مستخدمة أم لا”. فأنه إذا كان ما يقوله هؤلاء صحيحاً، فلماذا لا تظهر الديمقراطية بوضوح و جلاء في الوطن العربي ؟. ولكن يظل الجدال دائراً حول حركة الإخوان المسلمين التي لها نفوذ وتأثير في العمل العام في العالم العربي، فلديهم القوة السياسية، ولديهم الفكرة الدينية، ولديهم التجارب السابقة. ولنحتكم إلي برنامج الإخوان الذي يقع في 128 صفحة، وفيه الكثير عن المبادئ والسياسات، ولكن ما يهمنا في المقام الأول مفهوم الجماعة للدولة وأصول الحكم فيها. ورغم أن البرنامج يقول بوضوح أن “الدولة الإسلامية هي دولة مدنية بالضرورة” فإنه يعرف هذه الدولة المدنية بأنها تلك الدولة التي تكون الوظائف فيها على أساس «الكفاءة والخبرة الفنية المتخصصة والأدوار السياسية يقوم بها مواطنون منتخبون، تحقيقا للإرادة الشعبية الحقيقية، والشعب مصدر السلطات». ولكن هذا النص لا يمكن فهمه في برنامج الإخوان إلا على ضوء فهمهم للدستور الذين يرون أنه ليس هو أساس أو مصدر التشريع، وإنما الشريعة الإسلامية التي تصبح وظيفة الهيئات المنتخبة ـ المعبرة عن الشعب مصدر السلطات ـ مجرد تفسيرها، أي تنتفي الوظيفة التشريعية للمجالس النيابية وتحل محلها وظيفة الفتوى. برنامج جماعة الإخوان المسلمين مزق إربا كل المفاهيم المتعلقة بالدولة المدنية التي كان يتحدث عنها ممثلو الجماعة، ثم بعد ذلك وبلا مواربة أقاموا مكانها دولة دينية صريحة. وهذا يمثل ردة هائلة إلي الوراء في فكر الإخوان المسلمين الشائع، والذي حاول أن يقنعنا خلال السنوات القليلة الماضية أن الديمقراطية أصبحت هي فلسفتهم الرسمية، بل أن «الدولة المدنية» هي أساس الدولة التي يريدون إقامتها، وأن «المواطنة» بكل ما تعنيه في الفكر السياسي الحديث هي جوهر السياسة الإخوانية. وجاءت هذه الردة في الوقت الذي بدا فيه أن التجربة التركية، ومن بعدها التجربة المغربية، تمثل معملاً لاستخدام المرجعية الإسلامية في دولة حديثة وعصرية ومتصالحة مع عالمها ومحيطها، ولكن ما حدث لدى الإخوان المسلمين في مصر كان خطوة واسعة إلى الوراء. كما أن التجربة السودانية تثبت كيف انقضت الجبهة الإسلامية على الحكم الديمقراطي في السودان في عام 1989 بزعامة حسن الترابي وما المؤتمر الكاشف لأفكارهم إلا نموذجاً صارخاً على ذلك. ففي ذلك المؤتمر في أبريل عام 1991 أصدروا بياناً بعد أن حشدوا لمؤتمرهم عدداً كبيراً من الزعماء الإسلاميين. هذا البيان ذو النقاط الست تضمن هجوماً صريحاً على الديمقراطية وسمحوا لأنفسهم بالتعاون مع الحكومات غير الإسلامية بعد أن قسموا العالم إلي نظم خير ونظم شر ولم يمنع ذلك زعماء الحركة من التشديد على احترام الحقوق ومكانة وكرامة الفرد ولكن عندما كانوا يحاربون حركة جنوب السودان أنشأ الترابي الجيش الشعبي أرسله إلى الجنوب لمحاربة أهل الكفر. وأهل الكفر هؤلاء ما هم إلا مواطنون سودانيون من أهل الجنوب.
وتبرز مشكلة ملحة أخرى بشأن السماح للتيارات السياسية الشمولية بالمشاركة في العملية السياسية والخوف من انقضاضها عبر صناديق الانتخابات على الديمقراطية. ولذا فان المعضلة التي تواجهها مصر-مثلا- تتمثل في كيفية التوفيق بين توسيع دائرة التمثيل السياسي وفرصه من ناحية وضمان عدم استخدام آليات التحول الديمقراطي لوقف هذا التطور أصلا. فالاستقرار السياسي ينبع من مدي تمثيل المؤسسات والأحزاب للقوي الفاعلة الاجتماعية و ومدي قبول تلك القوي للنظام العام الذي يتحقق من خلال اشتراكهم في عملية التحول الديمقراطي وفي التأثير على مسار السياسة العامة.
وتتجسد تلك المشكلة تحديدا في الجماعات التي لجأت إلي استخدام العنف والإرهاب كأداة في العمل السياسي، أو تلك التي تلوح به أو تباركه، فاستخدام العنف يكون من شأنه عدم إتاحة الفرصة للمواطنين للتعبير عما يعتنقونه بحرية ويمثل أداة لقهر الآراء المخالفة، وتوجيه المواطنين في مسارات معينة دون غيرها.
من ناحية أخرى، فان خبرات عملية التحول الديمقراطي في دول أخرى تبين إنه كلما كان التنافس على سياسات وبرامج لا على اختبارات شمولية مطلقة أمكن لآليات الديمقراطية أن توطد أركانها. ويشير ذلك إلى أهمية توسيع دائرة الاتفاق بين القوي الرئيسية للجماعة السياسية حول قواعد العمل السياسي وإجراءاته وحدوده.
© منبر الحرية، 13 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

إذا كان رصد وتحليل الظواهر الفكرية والسياسية التي تطفو على السطح من مهمات المراقب السياسي، فإنه لمن الغريب أن تمر الحالات الغريبة في عالمنا العربي دون ملاحظة أحد. ليس هذا مدعاة للإستغراب بقدر تعلق الأمر بظاهرة يمكن أن نطلق عليها عنوان الـ”نوستولجيا العثمانية” التي تنتشر بشكل غريب بين أعداد كبيرة من الشباب العربي، بين الإسلاميين خاصة. ومفاد هذه الظاهرة هو الأسف (المتأخر) على سقوط الإمبراطورية العثمانية بمساعدة فئات كبيرة من العرب، إذ يذهب هؤلاء إلى أن هذه كانت “دولة خلافة” إسلامية، ما كان على الشعوب العربية خذلانها للإنسياق وراء “الإستغفال” الذي قادته الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية لوضع العرب، في وقت لاحق، تحت رحمة أنواع الإحتلالات والوصايات بذريعة قيادتهم نحو الإستقلال. ربما تكون الأوضاع الحالية المرتبكة والمتردية في العديد من الأقطار العربية وراء هذا النوع من “الرجوعية” الغريبة، خاصة وان ما لا يقل عن ثلاثة أجيال سابقة كانت قد ثقفت وثقفت على اساس النيل من “النير” العثماني الذي ظل جاثماً على الشعوب العربية طوال قرون.
إن المفارقة، المدعاة للتندر، تتمثل في أن تركيا الحديثة، العلمانية اليوم، تجري وراء القيادات الأوربية من أجل ضمها إلى الجسم الأوربي كدولة أوربية حديثة تمتاز بالعلمانية وبالنظم الليبرالية الديمقراطية. الأتراك يريدون أوربا، والبعض منا يحلم بإعادة الخلافة العثمانية إلى الأستانة! لا ريب أن الإسقاطات والإرهاصات الكامنة وراء هذا الحنين إلى  الماضي العثماني ينبع من شيوع التردي والنكوص النفسي بين شرائح الشبيبة والنشء في بعض الدول العربية درجة إعادة قراءة التاريخ بطريقة تفضي إلى “رجوعية” من هذا  النوع غير المتوقع. وربما وجد البعض في جاذبية عناوين من نوع “الخلافة” والرابطة الإسلامية غطاءً للترويج إلى هذا النوع من التفكير بهدف إمتطائه لتمرير رؤى أخرى تحمل عناويناً أكثر جاذبية وعاطفية بالنسبة للإنسان العربي المسلم.
إن الإرتجاع للماضي، وبغض النظر عن سيئاته ومثالبه، إنما هو من معطيات عصور اللايقين والخوف من المستقبل: فبدلاً من أجيال شابة تتطلع إلى بناء المستقبل من خلال التوثب إلى المبادرة الحضارية التي تجمع بين الحداثة والتراث، يرتمي العديد اليوم في أحضان رؤى إرتدادية لا يمكن إلاّ أن تبلور مقدار اليأس والقنوط الذي ينتاب فئات واسعة في بعض البلدان العربية.
ويبدو أن واحداً من أهم مسببات هذا النوع من التعمية التي يفرضها البعض إنما يعود إلى الجهل بالتاريخ وإلى عدم التمييز بين “الحقيقة التاريخية” و “الخيال التاريخي”، ذلك الخيال الذي يتجاوز مسببات إنهيار “الرجل المريض”، الدولة العثمانية، أمام الغزو الكولونيالي الأوربي، بمساعدة عربية كانت ترنو إلى ما وعد الأوربيون به العرب من دول مستقلة يقودها رجال من ابناء جلدتهم. لقد تجاوز الداعون لإعادة أمجاد الدولة العثمانية الإختلالات “القاتلة” التي ألمت بها، إبتداءً من من سراي الباب العالي الذي كان يضيق بالجواري والغلمان، وإنتهاءً بالحياة المتخلفة التي كانت تعيشها “الممتلكات العربية” للدولة العثمانية، تحت وطأة الأمية والجهل والأمراض الفتاكة. لذا يعد المؤرخون المنصفون الحياة العربية في العصر العثماني جزءاً لا يتجزأ مما يسمى بـ”العصر المظلم”.
ويبقى المرء في حيرة حيال الكيفية التي يمرر بها البعض تمجيد الإمبراطورية العثمانية إلى عقول شابة غضة على طريق الإبقاء على العقل العربي الشاب حبيساً في مجموعة أكاذيب وخيالات تقتل روح المبادرة الحضارية ودوافع التطلع إلى بناء مستقبل من النوع الإستثنائي العربي المميز. وعلى المتابع أن يستحضر الحال المأساوية التي كانت تعيشها الأقاليم العربية بضمن تلك الدولة الزائلة: فقد كانت “الممتلكات” العربية ممزقة على نحو ولايات، بينما كان الولاة الذين يتحكمون بها لا يزيدون عن جباة ضرائب و “خاوات” لإرسال حصة الأسد منها إلى الأستانة (إسطنبول اليوم) والإبقاء على شيء من هذه الثروات للوالي نفسه، مع شيء لحاشيته. صحيح أن العصر العثماني قد شهد ظهور بعض الولاة المصلحين في الأقاليم العربية، من نوع محمد علي باشا في مصر ومدحت باشا في العراق، بيد أن على المؤرخ أن يلاحظ أن هؤلاء المصلحين لم يقدموا على الأعمال العمرانية الجيدة إلاّ كإشارة تعبر عن تمردهم على الأستانة. وبكلمات أخرى، لم يكن المصلحون سوى حكاماً محليين يريدون الإنفصال أو الإستقلال الذاتي بما أغدقته عليهم الأستانة من أراضٍ وأقاليم. لذا حقق محمد علي باشا إستقلالاً واضح المعالم في مصر ثم في بلاد الشام، بينما لم يتمكن مدحت باشا من المضي قدماً في خطته لأنه عزل واستدعي إلى العاصمة ليبدأ رحلة أخرى في “تمرده” على الدولة العثمانية، عسكرياً وسياسياً، حتى تمت تصفيته.
وإذا كنا اليوم نمتلك المدارس، بل والجامعات في كل مدينة، وربما حتى في القرى، فإن أوضاع العرب في ذلك العصر الذي أسدل الستار عليه كانت مدعاة للإبتئاس. لقد كانت الأمية منتشرة على نحو فظيع في الأقطار العربية، بينما لم يكن العرب “المثقفون”، حسب معايير القرن التاسع عشر، سوى كتبة يعملون تحت سوط الوالي والجندرمة والإنكشارية الملتفين حوله. أما المحظوظون، للغاية، فقد كانوا ابناء الأقطاعيين وجباة الضرائب الذين كان يسمح للقلة من ابنائهم بالدراسة في الأستانة على سبيل تعيينهم ضباطاً في جيش الإمبراطورية “المقدسة”. الطريف أن هؤلاء العرب المحظيين من الذين تدربوا على السلاح وإرتدوا البزات العسكرية التركية هم الذين قادوا الثورة، مع لورنس العرب، ضد الدولة العثمانية. ومن هؤلاء نوري السعيد باشا (رئيس وزراء العراق المزمن والمقرب من جلالة المرحوم الملك فيصل الأول): فلو كان هؤلاء المستفيدون من سخاء الأستانة مقتنعين بهذه الدولة لما حاولوا إشعال التمرد عليها والإستعانة بالعشائر والقبائل العربية لإسقاطها.
لقد كانت هذه الأوضاع المتردية في الأقاليم العربية وراء التمرد على الدولة العثمانية التي كانت توظف الإسلام، يافطة، من أجل إبقاء الشعوب العربية ضحية للإستغلال، مع توظيف الإسلام والخلافة شعارات لتحقيق هذا الهدف. لقد عملت الدولة العثمانية بكل قسوة على الإقلال من شأن “لغة القرآن” العربية، حيث سادت سياسة “التتريك” على حساب إهمال اللغة العربية، بينما فرضت الأفكار الشوفينية التركية الطورانية على العرب والأكراد والأرمن، من بين سواهم من الأقوام الواقعة تحت هيمنة الدولة، من أجل الإقلال من شأن هذه الأقوام ومعاملتهم كمواطنين ولكن من درجات أدنى. والأدلة كثيرة على ذلك: فلم يكن أي مواطن عربي يستحق الإحترام والقبول إلاّ إذا ما كان يتكلم اللغة التركية، بينما سيق عشرات الآلاف من العرب جنوداً في حروب الدولة العثمانية التي تحالفت مع دول المحور. ولم يزل الشيوخ يتذكرون حرب القرم (السفر بر) حيث فقد وقتل آلاف الجنود العرب وهم يحاربون “المسقوفية” اي أهل موسكو. أما الولاة الذين كانت مصائر العرب بين ايديهم وتحت رحمة نزواتهم فلم يكونوا عرباً، وإنما شركسية أو جيورجيون أو كرجيون، من هؤلاء الصبية الشقر المسيحيين الذين كانوا ينتزعون من أحضان أمهاتهم صغاراً كي يؤخذوا للإستعمال كغلمان ثم ليتدربوا عسكرياً وإدارياً كي يحكموا الأقاليم العربية.
إن ما يجري اليوم من الترويج النوستالجي لدولة “الخلافة” العثمانية “الرشيدة” إنما ينطوي على حرف الحقائق وعلى محاولة حرف الشبيبة عن طريق التشبث بالمستقبل وبالإستنارة الفكرية. إن النوستالجيا العثمانية تعكس إمتطاء العابثين بالأفكار وبالتاريخ والأسطورة والخرافة على سبيل تبرير الإرتجاع إلى الخلف بدلاً من التطلع إلى الأمام.
© منبر الحرية، 14 فبراير 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018