معوقات التقدّم العربي

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

لا يكل صديقي “صابر أيوب” من شكر الله شكراً كثيراً وحمده بُكرةً وأصيلاً، لأنه ما زال يحتمل ما يتعرض له من مواقف وأحداث دون أن يستسلم لليأس والإحباط كما فعل زميله “عبد الحميد” الذي ألقى بنفسه من أعلى أحد الكباري إلى قاع النيل.
وعبد الحميد –لمن لا يعرف- شاب مكافح، فقد تحمَّل بنفسه توفير مصاريف دراسته حتى تخرج في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتفوق.. ونال شهادة تقدير (الطالب المثالي) في دورة تشجيع العمل الحر، وشهادة أخرى لمشاركته في منتدى الشباب بقرطاج ممثلا لبلاده، وثالثة من دورة تكنولوجيا المعلومات، ورابعة في تنظيم دورة تأهيلية للالتحاق بالسلك الدبلوماسي، وكان على وشك مناقشة رسالة الماجستير، وجميع أساتذته يقدرونه ويتوقعون له مستقبلا عظيما.
لهذا تصور أن بمقدوره أن يتقدم للالتحاق بوظيفة “ملحق تجاري” بوزارة الخارجية. ومن المصادفات الجديرة بالملاحظة أن بقية المتقدمين لشغل هذه الوظيفة كانوا من الحاصلين على الدورة التأهيلية للالتحاق بالسلك الدبلوماسي، التي نظمها وشارك فيها محاضراً، لذا كان طبيعياً أن يتخطى الامتحان التحريري والشفوي بجدارة، بيد أنه الوحيد من بين 43 متقدما الذي رسب في النهاية. وفي كشوف النتيجة المعلقة على الحائط الخارجي ظهر اسمه كاملا: “عبد الحميد علي شتا”، وبجواره السبب الوحيد بارزاً في صلافة: “غير لائق اجتماعياً”!!
… بعد تعرُّضه لهذه الصدمة وُجدت جثته في قاع النيل.
انشغل الناس بهذه الحادثة ثم -كما يحدث في كل قضايانا المصيرية- تضاءل هذا الاهتمام إلى أن طواه النسيان، واستمرت الأمور على وتيرتها الرتيبة إلا مع صديقي الذي ظل يتذكر الحادث المؤلم، وفي كل مرة يأخذ شهيقاً عميقاً ويحتفظ به في صدره لفترةٍ ثم يطلقه زفرةً حارةً ويكرر في حسرةٍ: “ليت زميلي عبد الحميد عاش في زمن الجواري والعبيد، فكم من جارية مجهولة النسب وصلت بذكائها أو بجمالها أو بمجرد إجادتها للعزف والغناء، إلى سدة الحكم والرياسة، وكم من عبد لا يعرف أسياده هويته شق طريقه بنباهته وشجاعته حتى أصبح قائدا للجيوش أو حاكما للبلاد أو مؤسس دولة تستمر بعد موته لأجيال وأجيال”..
ثم يبدأ صاحبي صابر في سرد المواقف المشابهة التي تعرض لها، فقد حاول في صباه أن يلتحق بـ “الثانوية العسكرية” لكي يسهل عليه بعدها التقدم لإحدى الكليات “السيادية”، وعجز وقتها عن الحصول على “تزكية” رغم تفوقه الدراسي وارتفاع لياقته البدنية وإجادته للعديد من الرياضات.. ورغم حصوله على الثانوية “العامة” بمجموع كبير جعله من بين العشرة الأوائل على مستوى الجمهورية عاوده حنينه الأول ففشل ثانية للسبب نفسه فاضطر لمواصلة الدراسة في كلية مدنية لا تحتاج لـ “كارت توصية”. وتفوق كعادته وظل يتقدم لأي وظيفة يسمع عنها ودائما كان يسبقه إليها من هم أعلى منه في طبقات الهرم الاجتماعي.
ما حدث مع عبد الحميد، وما زال يقع مع صابر، هو الوجه الآخر لحوادث “التوريث” المتجذرة في حياتنا اليومية دون أن ينكرها أو يلتفت لوجودها أحد. وهذا الوجه يترتب بالضرورة على الوجه الأول، فمعنى أن يحصل شخص ما على وظيفة لا يستحقها، أن هناك من كان يستحق هذه الوظيفة وتم حجبها عنه أو منعه من الوصول إليها، حتى أصبح أمثال صابر وعبد الحميد يشكلون نسبة كبيرة من أبناء الوطن منهم من قضى نحبه، ومنهم من تأقلم مع الظروف القائمة، ومنهم من اختصر الطريق فاحترف التسول أو بيع السلع التافهة، ومنهم أيضا من سوَّغ لنفسه طرق الانحراف وبرع فيها لأن النابغ أينما توجهه الأحداث لا يعدم الحيلة.
وللتوريث في حياتنا بوجهيه (منح من لا يستحق، ومنع من يستحق) مظاهر كثيرة يتناقلها الجميع ولا ينكرها أحد وتتمتع بقوة أعلى من قوة القانون.
من بين هذه المظاهر أن بعض المؤسسات الحكومية تعطي لأبناء العاملين فيها أولوية مطلقة في شغل ما يشغر بها من وظائف، وهناك ما يعرف بـ “الإعلانات الداخلية” عن الوظائف المطلوب شغلها، وبالطبع لا يعلم بهذه الإعلانات إلا العاملون داخل هذه الهيئة أو تلك الإدارة، وبالتالي لن يخبروا بها إلا أقرب الأقربين، ناهيك عن الانتهاء من اختيار المحظوظين قبل الإعلان الشكلي عن الوظيفة التي كانت شاغرة.
وهناك عائلات شهيرة في أكثر من “جمهورية” عربية لا يخلو منها أي تشكيل وزاري، وبعض الدوائر الانتخابية تظل حكرا على عائلات بعينها لا ينازعها عليها أحد، وأحياناً يتم تقسيم المقاعد النيابية في هذه الدوائر بين عدد محدود من العائلات، وفي الساحة الإعلامية تتعاقب الأجيال وتبقى أسماء معروفة للمتابع البسيط. ولا يمنع ذكر أمثلة لهذه الأسماء إلا الحرص على عدم شخصنة القضية.
وبعيدا عن الكليات السيادية –إن صح هذا التعبير الذي وصفها به صاحبنا- حدث غير مرة، في أكثر من كلية -وبشهادة أشخاص عدول- أن قرر مجلس أحد الأقسام عدم تعيين معيدين لمدة ثلاث سنوات لتفريغ هيئة التدريس حتى يضمن أحد المسؤولين النافذين تعيين نجله الذي التحق بهذا القسم وهو لا يزال في الفرقة الأولى.
ولا تختلف شروط الالتحاق بسلك القضاء عن مثيلتها في السلك الدبلوماسي ولا في الكليات السيادية، ولا المؤسسات الرسمية.
وثمة نوع آخر من أشكال التوريث يختلف قليلا عن الأنواع السابقة بغياب عصبية النسب واعتماد التوجه الأيديولوجي –إن صح الوصف ووُجد الموصوف- ويتمثل في سيطرة بعض التنظيمات السياسية أو الجماعات الدينية على بعض القطاعات فيقتصر إسناد الوظائف فيها على “الرفاق” أو “الإخوة” –بحسب الجبهة المهيمنة- ولا يحق لمن عداهم الوصول إلى هذه الأماكن، وهو ما يُطلَق عليه لفظ “الشللية”.. ويظهر هذا النوع من التوريث أكثر ما يظهر -للأسف الشديد- في المؤسسات الإعلامية والثقافية..
لا تقتصر خطورة هذه السلوكيات على ما يلحق بالأفراد المحرومين من غبن وظلم، إنما تمتد إلى ما يلحق بالمجتمع من خسائر نتيجة حرمانه من جهود وكفاءات وعقول ومهارات تم استبعاد أصحابها من العمل في أماكن تحتاج لإمكاناتهم.
يبقى السؤال الملح: ما مستوى أداء أي شخص قَبِلَ أن يبدأ حياته العملية بهذه الطريقة المشبوهة، وما مدى إخلاصه لأبناء المجتمع الذين خطا فوق رقاب بعضهم ليصل إلى ما وصل إليه؟
أما مناوئو توريث رئاسة الجمهورية فعليهم أن ينظروا للصورة بكل تفاصيلها وأن يعلنوا موقفهم صراحة، دون مناورة، من أشكال التوريث البغيضة على جميع المستويات وليس فقط على مستوى الإمامة الكبرى..
‎© منبر الحرية،24 أكتوبر/تشرين الأول 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20101

شفيق ناظم الغبرا * وعماد عمر **
في الظلمة العربية الحالكة، يساهم الإعلام العربي المتنوع بصورته المرئية وبتنوعاته عبر الإنترنت (الإعلام الإلكتروني) والصحافة والمدونات و»اليوتيوب» والشبكات الاجتماعية في إحداث تغيرات نوعية لمصلحة المعرفة والتنوير. فإلى جانب تقديمه وعلى مدى أكثر من عقد للمادة الإعلامية المسلية يقدم الإعلام العربي الصاعد معلومات وافرة تميل إلى الدقة والعلمية، وتوفر مساحة رأي ورأي مضاد تلامس الخطوط الحمراء التي رسمتها الأنظمة السياسية. فهو يناقش عبر برامجه السياسية والاجتماعية بانفتاح مضطرد حقوق الإنسان وحقوق المرأة، وعلاقات الطوائف وحقوق الأقليات والديمقراطية وتداول السلطة والمسائل الاجتماعية والدينية الحساسة. هذا الإعلام يتوسع كل يوم ويشرك باضطراد قاعدة أكبر من الجمهور العربي في نقاشاته وبرامجه بخاصة في ظل مجانيته وسهولة وصوله إلى القطاعات الشعبية. بل وصل الأمر أن الدول الرئيسية في العالم بدأت هي الأخرى إعلاما تلفزيونياً ناطقاً بالعربية كما فعلت فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وتركيا وروسيا وكوريا الجنوبية.
وعلى رغم تمويل القطاع الخاص العربي والحكومات العربية لهذا الإعلام الجديد، إلا أن تنوع الأجندات واختلاف وسائل الإعلام، ساهما في إضعاف التوجهات التي تمثلها كل وسيلة إعلامية مما عاد بالفائدة على المواطن والفرد المشاهد. فبإمكان كل فريق في العالم العربي مهما بلغت معارضته أن يوصل رسالته إلى جمهوره عبر وسائل الإعلام المختلفة. وما لا نراه في «الجزيرة» نتابعه في «العربية»، وما لا نلتقطه في المحطات المصرية نلمحه في «المستقبل» و»المنار» اللبنانيتين. هذا الانفتاح الإعلامي أعطى المساحة للمشاهد الذي ينتقي وفق ما يريد.
ويتجه الإعلام العربي في مرحلته الجديدة نحو التخصص. فهناك محطات سياسية وإخبارية إلى جانب الموسيقية، وهناك محطات خاصة بالمرأة إلى جانب محطات اقتصادية وتاريخية ودينية ووثائقية وأخرى شبابية وصحية ودراما وكرتون وغيرها. لقد أصبح كل هذا صناعة متكاملة وبنكهة شرقية عززت صناعة الدراما ودور البحث وإعادة اكتشاف التاريخ والتوثيق.
سابقاً، لجأ الكثير من العرب إلى الإعلام الإسرائيلي الموجه وهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، لاستقاء المعلومات عن الدول العربية والانقلابات والثورات والاتهامات والحروب، بل عرف جيلنا والجيل الذي سبقنا نبأ سقوط الضفة الغربية وغزة والقدس وسيناء والجولان عام 1967 من الـ «بي بي سي» وليس من إعلامنا العربي. حتى بين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر كانت متابعة الإعلام الإسرائيلي تعود لضعف صدقية الإعلام العربي بعد هزيمة 67. ولكن يمكن القول أن تأثير الإعلام الإسرائيلي على الجمهور العربي قد تلاشى في السنوات العشر الماضية لمصلحة متابعة «الجزيرة» و «المنار» و «العربية» وغيرها.
ويلعب الإعلام العربي دوراً أهم في الصراع العربي- الإسرائيلي، وتجلى ذلك بعد عملية اغتيال المبحوح في دبي حيث استثمر قائد شرطة دبي، ضاحي خلفان، الإعلام العربي بما فيه إعلام دبي لكشف تفاصيل العملية التي قام بها الموساد الإسرائيلي. بل أدى ذلك إلى قيام أزمة دبلوماسية بين إسرائيل والغرب. وقد عبرت هذه الفعالية الإعلامية عن نفسها في حرب غزة التي بدأت في كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨ والتي انتهت إلى تقرير غولدستون الذي شكل سابقة مهمة في إدانة الهجمات الإسرائيلية على المدنيين الفلسطينيين. وينطبق الأمر نفسه على الاعتداء الإسرائيلي على لبنان في 2006، حيث تغيرت النظرة في الإقليم إلى حصانة الجيش الإسرائيلي.
إن كل ما وقع من تغيرات في الإعلام العربي أدى إلى تطوير مهنة الصحافة العربية وخلق احترام جديد لها. لم يعد الصحافي والإعلامي مضطراً لأن يهجو ويمدح لحساب أجهزة ودول كما كان حال الصحافة في الستينات والسبعينات من القرن العشرين. فالصحافي العربي أكثر استقلالية من السابق وقادر على الانتقال من محطة إلى أخرى بسهولة ويسر وفق قناعاته. بل إن عدداً من الصحافيين يعمل لأكثر من وسيلة إعلامية في الوقت نفسه بينما ينشىء مدونته الخاصة ويعبر عن رأيه في وسائل إعلام دولية. كما أن بعض الصحافيين العرب ترك مؤسسات إعلامية مؤثرة كتسجيل موقف ورفض لسياسة المؤسسة.
وقد نتج من هذه الاستقلالية بروز رموز إعلامية عربية ذات صدقية ومكانة في الساحة العربية، بل إن بعض هذه الرموز يكتسب قيمة تتجاوز المؤسسات التي يعمل فيها. والأهم أن المرأة العربية وجدت مكاناً بارزاً لها في الإعلام العربي، فهناك رموز نسائية مؤثرة وقيادية في هذا الإعلام. هذه القيادية التي تبرز عبر وسائل الإعلام مرتبطة بتعطش العرب إلى الرموز نتيجة غياب الحريات والديمقراطية. هناك شوق بين الجمهور العربي للرأي الجريء والمقنع. بل يعزز هذه الرمزية قيام صحافيين عرب بتقديم حياتهم ثمناً لعملهم الصحافي الميداني في أماكن النزاع والحروب في العقد الماضي.
هذا لا يعني بالضرورة خفوت صوت الإعلام الموجه وإعلام التبجيل والهجاء، وقد يكون السبب في ذلك أن ظروف الصراعات في المنطقة تسيّس المجتمعات إلى جانب غياب الديمقراطية. إن التناقض بين الانفتاح وقبول الآخر وبين الانغلاق سيبقى عنصراً مؤثراً في الإعلام العربي ما يعكس طبيعة المجتمعات العربية وواقع أنظمتها السياسية في هذه المرحلة.
إن عددا من المظاهر السلبية لا زالت مستشرية في الإعلام العربي مثل سيطرة «الشللية» و«التحزب الضيق»، بالإضافة إلى انتشار حالة تعال من قبل بعض وسائل الإعلام إداريا على الإعلاميين وحقوقهم ودورهم. فالكثير من أمراض الإدارة المنتشرة في العالم العربي مثل المزاجية في صنع القرار، وعدم إشراك القطاعات الأساسية والفاعلة وصانعي الحدث في القرار تؤدي إلى ضيق في صفوف الإعلاميين. وبما أن الإعلامي هو الأساس في عملية صناعة الإعلام فمن الصعب نجاح الإدارة الإعلامية من دون مشاركة فاعلة للإعلاميين في طريقة الإدارة وفي حماية حقوقهم وصون تصوراتهم.
وقد نتج من قوة الإعلام العربي الإقليمي، إعلام محلي خاص ذو نكهة مستقلة على حساب الإعلام الحكومي الذي يزداد ضعفاً. ويمثل الإعلام المحلي الخاص والذي يركز على القضايا المحلية في كل من مصر والكويت ولبنان وفلسطين والعراق مثالاً واضحاً لهذه الظاهرة المتنامية. وبعض الإعلام المحلي الخاص لا يتعدى بثه حدود منطقة كما يحدث اليوم في فلسطين في مناطق السلطة الفلسطينية. هذا مؤشر ايجابي وعنصر مساعد للتنمية والوعي المحلي.
وفي ظل الإعلام الجديد لم يعد المنع الرسمي الذي تمارسه الحكومات إلى يومنا هذا بحق المفكرين أو الكتاب أو المؤلفين قابلاً للتحقيق. فبعض اشد المعارضين يمكنه إلقاء محاضراته كاملة عبر وسائل الإعلام فيراها كل من يريد كما فعل نصر حامد ابوزيد عندما منع من زيارة الكويت، وما قد تمنعه «الجزيرة» تبثه «العربية» وما تمنعه «العربية» تبثه «الجزيرة» أو «بي بي سي» او «ال بي سي» ومحطات «روتانا» أو «اوربت». وبالطبع هذا يعني أننا نزداد تقبلاً للرأي الآخر مهما كان غريباً عنا.
وعلى رغم التمويل الخليجي لهذا الإعلام إلا أن الخبر الخليجي وتغطية الشأن الخليجي هي الأقل في وسائل الإعلام العربية. وربما يقع هذا لأن الأحوال تبدو مستقرة في منطقة الخليج نسبة إلى الأحوال في فلسطين ولبنان والعراق واليمن وإيران، أو قد تكون بسبب شدة الحساسية في دول الخليج لما يقال في العلن ويكتب. إن المرحلة القادمة يجب أن تتضمن تثوير طريقة تناول الخبر الخليجي الذي يخص القادة والمسؤولين والأوضاع والسياسات والمجتمعات والاقتصاد والأحداث في دول الخليج. فهناك بالتأكيد أحداث تقع في هذه الدول ترقى إلى مستوى الخبر والحدث العربي والدولي.
الإعلام العربي قادر على التأثير عربياً بما لم يتوقعه أي من الحالمين بهذا الإعلام المفتوح، كما انه بدأ يؤثر على صياغة الخبر العالمي الخاص بالعالم العربي. لهذا سيستمر الإعلام جاذباً للممولين والمستثمرين الجدد، ومعه سيزداد دور الإعلام المتخصص، وسيمس كل أشكال الإعلام المكتوب والإلكتروني والمسموع والمرئي. في المرحلة القادمة سيتعزز دور المؤسسة الإعلامية المتعددة الأشكال والوسائط وسيساهم هذا في بناء المعرفة اللازمة لمجتمعات تريد هذه المعرفة. وسيستمر الصحافيون في التنقل بين المؤسسات الإعلامية حفاظاً على استقلاليتهم كما سيتعزز دور الرموز الإعلامية. في البلاد العربية الحاجة ماسة إلى إعلام مستنير يدفع بمشروع التنمية والارتقاء إلى الأمام. في الإعلام العربي الجديد قوة صاعدة تترك أثرا يتجاوز ما قد تراه أعيننا.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
** كاتب فلسطيني متخصص في الإعلام
‎© منبر الحرية،20 أكتوبر/تشرين الأول 2010

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

يعتبر بعض المثقفين والنخب الفكرية والسياسية أنّ الأديان والطوائف والعشائر والقبائل –بفكرها وأعرافها وأنماطها السلوكية- تقف على تضاد (وطرفي نقيض) مع صيغة الدولة الحديثة باعتبارها مؤسسة متكاملة الأبعاد والجوانب. وتبعاً لذلك فإن هذه الانتماءات ما قبل الوطنية والقومية (والتي ترتد بحسب زعمهم إلى منطقة القاع الحضاري الماضوي الجامد للأمة) تشكل –بمجملها- حواجز ومعيقات عملية تحول دون الانتقال إلى المجتمع المدني وحكم دولة القانون والمؤسسات التي تشكل غاية الاجتماع المدني الإنساني، حيث ستصر تلك الانتماءات على التمظهر –الإرادي أو القسري- في داخل ثنايا مؤسسات هذا المجتمع، بما يمكّنها من الظهور والحضور المتواصل في مختلف جوانبه وامتداداته، وبالتالي ستؤول إليها في النهاية دفة السيطرة على الدولة الناظمة لحركية المجتمع بمختلف مواقعه ومؤسساته وهيئاته.
والأمر الذي نستغربه كثيراً في طبيعة هذا الطرح -وغيره من الطروحات المتماهية فيه أو المتوازية معه- هو إصراره الشديد على الخلط وعدم التمييز والتفريق بين الدين كحالة حضارية، وتجربة إنسانية لها مكوناتها الروحية -بالغة الرقي والتكامل- في الفكر والإحساس والممارسة، وبين الطائفية (والقبلية و…) كحالة عشائرية ليست من الدين في شيء. فالدين له مضمون ثقافي وروحي واجتماعي يتصل بالحياة وبالتحديات والمخاطر المتنوعة التي تواجه الإنسان فيها في قضايا الوعي والمسؤولية، والحرية والحق والباطل، والظلم والعدل، وما إلى ذلك. ويوجد لهذا المضمون خطاب عملي يريد من خلاله أتباع هذا الدين -وهذا من حقهم بالطبيعة والفطرة- تحشيد الناس حول فكرته الحضارية في سياق عملية الإصلاح والتغيير. تماماً مثل أي فكر أو تيار آخر يريد أن يدعو إلى مبادئه وطروحاته، ويخاطب الجمهور عارضاً عليه أفكاره ومفاهيمه التي ينبغي ألا تتناقض لدى الجميع (من أتباع الحركات العلمانية أو الدينية) –في العمق الفكري والعملي- مع صيغة الدولة الحديثة (القائمة على العلمنة والحرية والمسؤولية وتداول السلطة والدعوة السلمية الحضارية)، باعتبارها (أي الدولة) أهم ظاهرة اكتشفها أو توصل إليها الإنسان في سياق سيرورته التطورية ووعيه لوجوده الذاتي والموضوعي.
وهنا نلاحظ أن كل خطاب تغييري (أو إصلاحي) لابد أن ينطلق في الحياة من خلال وجود قواعد ومرتكزات ثقافية حياتية إنسانية، الأمر الذي يلزمه -بحكم ضرورة امتداده إلى الساحة الحياتية العامة- بأن يأخذ ببعض الأساليب والأجواء السياسية والاجتماعية، عندما تتصل قضية السياسة بقضية المصير الإنساني. أما الحديث عن ماضوية وجمود الانتماء والخطاب الديني عند بعض المثقفين فإنه يشبه تماماً الحديث عن ماضوية وجمود الخطاب السياسي والاجتماعي المعبّر عن مضمون ثقافي معين خاص بهذا الطرف أو ذاك، ألا يمكننا الحديث مثلاً عن جمود وماضوية الخطاب الفكري عن الحركات والتيارات التي تتبع المنهج والأيدولوجيا المادية الديالكتيكية التي مضى عليها أكثر من مائة عام، خصوصاً وأن تطبيقاتها على الأرض ألحقت دماراً هائلاً بالإنسان والواقع، وكلفت البشرية كثيراً من الدماء والدموع، ثم إن الماضي -أساساً- هو تجربة أناس عاشوا قبلنا فانطلقوا من خلال ظروفهم الموضوعية الثقافية والبيئية، وأوضاعهم الخاصة والعامة ليكسبوا فكراً وعلماً وتاريخاً. أي ليكون لهم حضور ودور معين بين باقي الأمم والحضارات، ولذلك فإن الماضي شأنهم هم وليس شأننا، إلاّ بمقدار ما يحتاجه الحاضر من الماضي، باعتبار أن الماضي قد يختزن في داخله بعض القضايا المهمة والأفكار الحقيقية التي تتصل بالحياة، وبأساس وجود الإنسان فيها. لأنها من خصوصيات الحياة، وليستْ من خصوصيات الزمن في عناصره الذاتية الضيقة والمحدودة. فالحياة تحتاج إلى أن تعطى بعض الأفكار في جميع مراحلها. ولذلك فإننا لا نستطيع أن نعتبر فكر المفكرين وثقافة المثقفين الذين قدموا لها تلك الأفكار فكراً وثقافةً ماضية، لأنه توجد أفكار من الماضي يمكن أن تكون صالحة للحياة في مدى الزمن كله، بحيث يكون الماضي مجرد حينٍ أو ظرف لها. فقيم ومبادئ العدل والحرية والعلم والتطور والتنمية، قيم ثابتة، ولكن مفاعيلها متغيرة وهي تكاد تكون هوية ثابتة في أي مجتمع حديث ومتطور.
ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أنّ هناك معارف وأفكاراً تنطلق من خصوصيات زمانية ومكانية. أي أنها تخص الذين سبقونا في فكرهم وحياتهم وتجاربهم وخبراتهم بما يجعل إعادة إنتاجها أمراً مستحيلاً. ولكن تتم إعادة درسها وتحليلها وتفكيكها من باب التذكرة وأخذ الدروس والعبر التي يمكن أن تقدمها لإغناء تجارب الحاضر. أي أن نجعل من الماضي ساحة للدرس والاعتبار على المستويين السلبي والإيجابي، وهو مجرد إطار للفكرة وللحركة في الواقع.
وهذا الوعي الفعال بمكتسبات وأعمال الماضي لا يمكن أن يقودنا إلى تقديس أفكاره بما يحتويه من عناصر القداسة التي لا تتصل بزمن معين، ولكنها تتصل -كما ذكرنا- بالحياة. فأفكار “الحرية” و”العدالة” و”التقدم” هي قيم ثابتة ومقدسة في كل طور ودور.
من هذا المنطلق نحن نؤكد على أن تلك الانتماءات التي تعتبر -على حد زعم تلك النخب- “ماضوية” و “ما قبل وطنية أو قومية”، يمكن أن تكون سبباً وجيهاً للتوحد والتنوع الإيجابي المثمر، بما يغني المشروع الاجتماعي والثقافي لمجتمعاتنا العربية الغنية بالتنوعات الفكرية والاثنيات والقوميات والأديان والمذاهب المتعددة، مثل الحديقة الغناء الممتلئة بكل أنواع الزهور والرياحين والورود. وبما يزوده بالكثير من عوامل استمراره. ويوجد في داخل تاريخنا الحضاري العربي ما يعزّز بالوقائع هذا الاعتقاد.
وهذا الأمر لا يقتصر-في اعتقادي- على عالمنا العربي، إذ أنّ الأمم جميعاً مكونة من أقوام وشعوب وقبائل ذات منظومات قيم وثقافات ومذاهب دينية وانتماءات قبلية متباينة جداً، ومع ذلك فقد استطاعت تلك الأمم بناء مراكز إشعاع حضارية إنسانية، على ما هي عليه من طوائف وقبائل ومذاهب، تماماً كما تمكن العرب من ذلك في العصر الوسيط.
ولذلك فقد آن الأوان كي تتخلص تلك النخب الثقافية –التي ليس لها جذور حقيقية في داخل تربة وكيان الأمة الثقافي والاجتماعي- من هاجسها وعقدتها النفسية التي تستمر من خلالها في تخويف المجتمع والناس عموماً من (الخطر الشديد؟!) الكامن وراء تلك الانتماءات المتهمة دائماً في نظرها. وكذلك عليها أن تدرك معنا حقيقة أساسية، وهي أن التعدد أمر طبيعي في داخل التركيب والتكوين الاجتماعي، ويمكن أن يكون حالة إثراء وغنى روحي وثقافي للمجتمع، وهو –بالتالي- لا يمكن أن ينتج الانقسام وينذر بكارثة التفكك إلا إذا تمّ توظيفه سياسياً من قبل بعض الأطراف من هنا وهناك، وخصوصاً طرف النظم والسلطات الحاكمة التي نشأت أصلاً على قاعدة تمكين العصبيات المحلية -على مستوى الطائفة والقبيلة والعشيرة- من كيان سياسي تتوسع وتمتد به حدود سيطرتها وتحكمها إلى كامل المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. وقد أفضى ذلك إلى تشكيل أنظمة سياسية تأخذ “بالديكور” و”الموزاييك” السياسي الحديث مع إبقائها ومحافظتها -ضمنياً، وفي العمق- على مصالح المشايخ والزعماء والعشائر والقبائل.
ويبدو لنا أن حلّ هذه الإشكالية لا يكمن في تطبيق الحالة الاندماجية والتجانسية الواحدة -إذا صح التعبير- باعتبارها تفتقر للأساس الموضوعي في المقدمة والنتيجة. بل في البدء الفوري بإجراءات تحويل السلطة إلى ملكية عامة من حق المواطنين جميعاً، وإعادة السياسة إلى موقعها الحقيقي في المجتمع، و بحيث تكون (هذه السلطة) قابلة للتداول السلمي فيما بين أبنائه، و من دون وجود عراقيل أو خطوط حمراء قد تتستر وراء شعارات المحافظة، والانغلاق، و..الخ، بما يؤدي إلى تفكيك حالة التعبئة النفسية والاحتقان العصبوي في داخل المجتمع الأهلي، من خلال فسح المجال لها لتعبر عن ذاتها بالحوار الواعي والعقلاني البعيد عن أدنى حالات الخوف أو التخويف من الآخر. باعتبار أن السبب الجوهري الذي أدى إلى نشوء العصبيات -وتوظيفها سياسياً- يتحدد من خلال قيام نظام السلطة الحاكمة في اجتماعنا السياسي العربي والإسلامي (منذ التاريخ الباكر) بالهيمنة والتسلط، واستخدامه لأدوات القمع والفرض المختلفة، واستبعاده للجماعات الاجتماعية الأخرى. الأمر الذي يولّد لدى هذه الجماعات -المقصيّة والمحرومة من حق المشاركة في صنع السياسة وتداول السلطة– شعور بالقهر والظلم في توزيع السلطة، والاستفادة منها، مما يدفعها للانكفاء، والانعزال، والتفكير بالعمل تحت الأرض، أو على الأقل التقوقع على همومها، وعصائبها الذاتية، وهواجسها المرضية، بما يضمن لها الدفاع –بالحد الأدنى– عن وجودها.
ولاشك بأن إفلاس الفكر السياسي العربي المعاصر-تحديداً فكر النخب السياسية وكثير من المواقع الثقافية المرتكز أساساً على ثقافة سياسية مضى زمنها، وأصبحت عبئاً ثقيلاً على الواقع- هو السبب الكامن وراء إعادة إنتاج وصياغة أمثال تلك الأزمات والكوارث التي لاتزال تستنزف الجسد العربي. ولذلك لابد من البدء الفوري بإنتاج ثقافة سياسية جديدة تبنى على معايير وأسس واقعية وإنسانية، تضمن للفرد حرياته الفكرية والسياسية كاملة، وتضع الشروط المعنوية والنفسية والسياسية التي تحمي هذا الفرد المستقل، وتقوم عليها فكرة المواطنة والحكم الصالح. ومالم تبدأ الدولة العربية السير على هذا الطريق الواضح والصريح فإن أزمتها -التي تمثلت في إرادتها القسرية الهادفة لبناء مواطن مستقل ومتحرر من ضغط المجتمعات المتخلفة والعصبيات الجزئية المتحكمة– ستستمر وتتوالد ذاتياً بمظاهر وألوان جديدة متنوعة تقف على رأسها أزمة التطرف والعنف الرمزي والمادي التي ستزداد من جانب بعض الحركات الدينية أو من جانب بعض الحركات العلمانية، لأن العنف يستولد العنف، والظلم ينبئ بفيض من الكوارث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
© منبر الحرية، 8 أكتوبر/تشرين الأول 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

يعاني الوطن العربي من ظاهرة الأقليات التي وصلت إلى مرحلة خطيرة تهدد أمن العديد من أقطاره واستقراره، وهذه الظاهرة  هي –بلا شك- انعكاس لتعدد الهويات والانتماءات.
ولا شك –كذلك- أن ثراء المنطقة العربية بجماعاتها الثقافية فرض التمييز بينها استنادا إلى معايير شتى وفي مقدمتها معيار الدين واللغة. وتفاقمت خطورة هذه الظاهرة نتيجة عمليات الفصل والتجزئة التي مارسها الاستعمار الغربي في المجتمعات العربية، واستغلاله العديد من الجماعات الطائفية والعرقية من خلال منحها امتيازات خاصة أصبحت بمثابة الحقوق المكتسبة التي تسعى هذه الجماعات للحفاظ عليها، وزاد من حدة المعضلة عدم سعي النظم السياسية العربية  إلى الحكم على أساس المشاركة التي تأخذ في الاعتبار فئات المجتمع كافة، الأمر الذي زاد من مخاوف الأقليات في تلك النظم ودعا بعضها  إلى التمرد على أوضاعها.
وقد لاحظنا أن النظم السياسية العربية فشلت في توحيد الوطن العربي  في دولة قومية واحدة، بنفس الدرجة التي لم تنجح فيها الجهود حتى في توحيد جزء من أقطار الوطن العربي. لأن الفكر القومي لم يتناول عدة مسائل حيوية في الواقع العربي وهي ذات تأثير كبير على توحيد أقطاره ومنها موضوع الأقليات. فعلى الرغم من أن 85% من سكان الوطن العربي يشكلون مجموعة متجانسة لغويا ودينيا وثقافيا إلا أن هناك عدة تكوينات بشرية تختلف عن هذه المجموعة سواء في الدين واللغة والسلالة والثقافة. والفكر القومي لم يتعرض للدور الاجتماعي لهذه الأقليات بشكل متعمق ولم يحاول التعرف على مشكلاتها وهمومها، ولم يأخذ موقفا صريحا من رغباتها المشروعة في الحفاظ على تكاملها. كما لم تنجح النظم العربية  التي تعاني من تلك الظاهرة في التوصل إلى أشكال ملائمة للعلاقة بين الدولة والمجتمع (بتكويناته الاثنية المتعددة) حيث ظلت هذه الظاهرة موضع شد وجذب بين الجانبين بكل ما يترتب في أحيان كثيرة على هذه التوترات من انتكاسات سلبية على الاستقرار السياسي والأمن القومي. ففي دولة البحرين التي تعاني من انقسام طائفي بين سنة وشيعة، وانقسام طبقي على أسس طائفية يشكل السكان من ذوي الأصول العربية نحو 95 % من إجمالي السكان كما أنهم مسلمون. وفي  السودان  هناك تنوع اثني كبير، فهناك تعدد ديني بين مسلمين ومسيحيين ووثنيين، وهناك نحو 597 قبيلة و57 جماعة عرقية، وتعدد لغوي يربو على 400 لغة  ولهجة مختلفة.  ويصفه البعض بأنه نموذج مصغر لكل القارة الإفريقية وقد انعكس ذلك بوضوح في الانقسام بين مواقف القوى الجنوبية وبين الحكومة المركزية. وهناك نماذج أخرى في المنطقة العربية. إلا أن الجامع بين كل تلك الحالات – مع اختلاف الدرجة- أن الأقليات في المنطقة العربية يحملون أنظمتهم السياسية مسئولية تعميق شقة الخلافات  والانقسامات القائمة بين الجماعات المختلفة فيها وقيامها باتباع أسلوب سلطوي في استيعاب أقلياتها، وفرض الاندماج عليها بالقوة. مع وجود قناعة لدى النخب الحاكمة العربية بضرورة التلازم بين الإجماع السياسي من ناحية والإجماع الفكري والديني من ناحية أخرى، وبالتالي رفض الاعتراف بالتنوع والتعددية القائمة في مجتمعاتها. وقد ترجمت هذه النخب قناعاتها تلك في أساليب معالجتها لمعضلة الأقليات من خلال اتباعها سياسات الاعتقال والنفي، وإعادة التوطين خارج نطاق التمركز  الجغرافي للأقليات، والتضييق الثقافي والاقتصادي عليها، والحد من تمثيلها في مؤسسات السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية والأمنية، وتفضيلها لخيار القوة المسلحة باعتباره الحل الحاسم والسريع لهذه المشكلات.
وقد نتج عن تلك الممارسات بروز النزعات الانفصالية لدى الأقليات في بعض المناطق العربية، واستخدامها أساليب العنف والقوة لتغيير الأنظمة السياسية القائمة، الأمر الذي أدى إلى إطالة أمد النزاع والحيلولة دون التوصل إلى رؤية مشتركة لطبيعة العلاقة بين الجماعة المسيطرة والأقلية. وقد لاحظ عدد من المحلليين أن ظاهرة الأقليات في المنطقة العربية تتفاقم في الدول العربية التي تتمتع بموقع جغرافي استراتيجي يشكل ملتقى لخطوط  المواصلات الدولية، سواء في منطقة الخليج كما في حالة البحرين أو في إفريقيا في حالة السودان، وشكل ذلك العامل الجغرافي علاوة على العوامل الأخرى دافعا للتدخل الخارجي في الشئون الداخلية لتلك الدول تحت مبررات عديدة منها حق الدفاع عن الأقليات. وربما كان لمساحة القطر العربي اثر بارز على طبيعة مطالب الأقليات. حيث شكلت المساحة الشاسعة للسودان ووجود الأقليات في أقاليم  محددة نسبيا إلى بروز العديد من الدعوات لإعادة النظر في توزيع السلطة تبدأ بأشكال المطالبة بالحكم الذاتي وتمر بالفيدرالية وتنتهي بالانفصال. وفي المقابل شكلت المساحة الضيقة لدولة مثل البحرين قيدا على طبيعة المطالب التي تقدمها الطائفة الشيعية حيث ركزت على الدعوة للإصلاح السياسي والاقتصادي وفتح باب المشاركة السياسية والتعددية أمام فئات المجتمع، والمساواة في توزيع الموارد السياسية والاقتصادية، ولم تبرز أي دعوة إلى تبني مشاريع الحكم الذاتي أو الانفصال لعدم قابلية هذه المشاريع للتنفيذ.
ورغم أن حالة السودان هي الحالة الأوضح في التعدد والتنوع إلا أن هذا لا يعني شيئا في حد ذاته، أو تقطع يقينا بأن هذا التنوع هو بالضرورة ابتلاء للسودان، بل على العكس فانه في التاريخ السوداني ما يشهد بأن هذا التنوع والتعدد كان أحيانا عنصر إثراء وإغناء، ففي ظل مملكة الفنج في سنار ( في الثامن عشر ) تجسد التعايش السلمي بين الإسلام والوثنية لاسيما أن حكام سنار ( المسلمين ) كانوا من أصول قبلية زنجية وثنية. أكثر من ذلك فان احد جوانب المعضلة الجنوبية السودانية تنبعث من الجهل بخصوصية الديانات الإفريقية إسلامية كانت أو مسيحية، وهي الخصوصية التي تؤمن بمبدأ التفاعل الايجابي السمح بين عناصرها بعضها البعض، فتمكن رئيس مسيحي من تولي سلطة الحكم في بلد مسلم ( ليبولد سنجور في السنغال ) مثلما تدفع رئيسا كاثوليكيا لدولة مسيحية للتنازل عن السلطة لخلف مسلم ( الرئيس جوليوس نيريري في تنزانيا). لكن بقصور في فهم ظاهرة التنوع الثقافي في السودان والاستجابة لمقتضياتها، تعاملت النخبة المثقفة عموما وتلك الحاكمة منها خصوصا مع مفردات هذا التنوع على أساس الازدراء، فهي تشير للمتمردين ” بالعبيد ” أو ” الفروخ ” الطامحين لحكم البلاد، وتتعامل مع أهل دارفور على أنهم ” غرابة ” أي غرباء وتطلق على جماعاتهم التي تلف العاصمة ” الحزام الأسود ” ، وبذلك لا عجب أن أصبح شرق البلاد وغربها وجنوبها عبئا ثقيلا على كل الحكومات السودانية المتعاقبة منذ الاستقلال وحتى الآن، وان كان الجنوب هو الأسوأ. وما ينطبق على السودان قد يصبح عبرة لأقطار عربية أخرى تستهين بالتنوع والتعدد داخل بلدانها ليصبح مصدر قلاقل وتوتر.
© منبر الحرية،20 شتنبر/سبتمبر 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

الثقافة نتاج مجتمعي يبدعه الأفراد فهي تتطور باستمرار، وهي ممارسة فاعلة وسلوك معرفي وحضاري نابع من منظومة القيم والأفكار المتوارثة، وهي مزيج من أمجاد الماضي وإرهاصات الحاضر أي أنها متجذرة في الواقع والتاريخ.
ولقد تخطى الإنسان صيرورته التاريخية من وضع “طبيعي” شيئاً فشيئاً إلى أن توصل إلى هذا الوضع الاجتماعي المعقد والمتقدم، وبينما كانت القوى الطبيعية العمياء والموضوعية تمارس ضرورتها مباشرة وبصورة مادية على الإنسان، فان الشروط الاجتماعية التي يخضع لها الإنسان في بيئته هي من نوع معنوي وسيكولوجي مباشر، أو غير مباشر، وتنتج له انعكاسات متنوعة ، وخيارات تكاد تكون حرة بالنسبة له.
من هذا الموقف بالذات تنشأ الحاجة إلى الثقافة وهو في الوقت نفسه الشرط الحقيقي للثقافة، علماً أن الثقافة الإنسانية تزداد تعقيداً ورقياً كلما ازدادت شروط بيئته الاجتماعية رقياً وتقدماً.
إن الحرية والثقافة هي من بين الحقوق الإنسانية، أي الحقوق التي يبدو الارتباط فيما بينها أكثر بروزاً، فكل منهما يقبل اختياراً وبالتالي هناك إمكانية للرفض، فهما لا يقبلان التقيد بالشكليات، سواء أكان الاختيار سياسياً أو دينياً أو إيديولوجياً أو اقتصادياً بعض الشيء.
وإن الشيء الذي لا مراء فيه هو أن الثقافة يجب أن تمثل مستوى معيناً من المعارف لتستحق تسميتها ” ثقافة “، كما أنه لا شك في أن هذا المستوى يجب أن يقود إلى التميز عن الآخرين.
على أنه من المؤكد أن في هذه الدرجة العليا من الثقافة توجد بعض أجزاء من ظلال وبعض أجزاء من نور: فالرجل المثقف، باعتباره قد بلغ مستوى أعلى من المستوى المتوسط لا يسطع الإشعاع بالضرورة  في جميع مجالات الفكر.
وان المثقف هو الذي يشعر بالارتياح في جميع الموضوعات التي تعترضه، ويتجنب أن يؤخذ على حين غرة إذا كان أحد هذه الموضوعات غريباً عنه بعض الشيء، ومن الطبيعي بلا ريب أن تكون لدى الإنسان المثقف نقاط قوة ونقاط ضعف، كون العلم والمعرفة والتعليم، وبدرجة أدنى التربية والتأهيل، هي شروط ضرورية للثقافة، لكنها شروط غير كافية إطلاقا.
كما يجب عليه أن يحتفظ بهامش من التواضع المناسب، هذا التواضع الذي يقع تحت تجربة قاسية في العالم الحديث المتعطش ” للشهرة ” أو ” نصف الشهرة “.
فالمقولة القديمة تحتفظ مع هذا بقوتها وهي أن الإنسان يجب أن تكون له أفكار واضحة حول كل شيء، أو كما قال ( باسكال ) في كتابه ” الأفكار ” : ” إنه لمن الأجمل والأفضل أن نعرف بعض الشيء عن كل شيء من أن تعرف كل شيء عن شيء واحد”.
فالإنسان وحده يمتلك الصفات الأولى التي تجعل منه كائناً قادراً على أن يتجاوز ذاته، وبالتالي أن يثقف نفسه، وهذه هي مفاتيح الأشكال العليا لتطوره، وعلى هذا، فهو لن يبق سلبياً وإنما فاعلاً إيجابياً ومصمماً على الارتقاء بالثقافة أكثر من ارتقائه من أجلها، فسيستعمل في سبيل ذلك مواهبه الشخصية، مساهماً بهذه الصورة وبشكل حاسم في استخلاص أفضل النتائج مما اكتسبه.
© منبر الحرية،13 شتنبر/سبتمبر 2010

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

لم تتمكن تجليات الروح المتسامحة والعقلية الحضارية المنفتحة التي ظهرت في التاريخ الإسلامي عند بعض حركات التنوير العقلي من التغلب والانتصار على روح “الملك العضوض” ومشروع “الدولة-القبيلة” التي كانت –على ما ظهر لاحقاً في أحداث وتواريخ ومشاكل وتحديات عصفت بعالم الإسلام والمسلمين- متأصلةً في النفوس والأرواح وعصيةً على التغيير والإصلاح الحقيقي، والتي مثّلتها كثير من زعامات الحكم الإسلامي على طول مسيرة التاريخ الإسلامي.
وقد قامت “الدولة-القبيلة” التي أسستها روح القهر والطغيان وعقلية التغلّب والغصب في عالمنا العربي والإسلامي –والمازالت مستمرة بصور وأشكال شتى حتى عصرنا الراهن- بتحقيق كثير من المنجزات (العظيمة!!)، نذكر منها هنا:
1-بناء دولة الفرد وليس دولة الأمة، والعمل على إحداث قطيعة شبه كاملة بين الدولة والمجتمع ككل، الأمر الذي حول الدولة العربية الإسلامية (التاريخية والراهنة) إلى دولة نخبوية فوقية تخص النخبة السياسية الحاكمة، في تأمين متطلبات وجودها واستمرارها، بعد أن فشلت في مجرد التحول –استجابة لتغيرات الواقع- إلى دولة مواطنيها الأحرار الشرفاء، بل بقيت –بالنظر لبنيتها المؤسساتية الهشة- عاجزة كلياً عن إقامة دولة العدل والمؤسسات والدستور، أي أنها لا تزال دولة منفصلة كلياً عن المجتمع المهمّش والمدمر والمقصي والمستبعد كلياً عن ساحة الفعل والإبداع والإنتاج والتشارك الحضاري، والدليل على ذلك: انتشار مختلف مظاهر الاهتراء السياسي والاقتصادي والأخلاقي والديني الواسع في كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية الحديثة، نتيجة هيمنة واقع الحطام واليأس وانسداد آفاق الإصلاح ونفاذ الطاقات، وتعاظم المشاكل، واشتداد التوترات، وضعف إمكانيات التقدم والتراكم الأمر الذي أدى إلى استمرار المشكلات البنيوية وبقاء الأزمات، وتنامي آلية العنف المادي والرمزي.
2-عجز الدولة العربية عن إقامة علاقات قانونية وطبيعية متوازنة مع الناس وعموم الجماهير الواسعة المستبعدة والموجودة خارج دائرة السلطة أو الحكم.
وقد قاد هذا النزوع السلطوي المجنون للنخب الحاكمة -في رغبتها العارمة البقاء في الحكم واستمراريتها على رأس السلطة وتحكمها بمفاصل القرار من أقصاه إلى أقصاه- إلى تزايد الرغبة الشعبية في تدمير البنى الوطنية نتيجة انعدام حس المسؤولية تجاه الوطن والقانون والنظام الاجتماعي ككل، ويبدو لي أن السبب الأساسي وراء هذا التوجه اللامسؤول لدى قطاعات واسعة من الناس يعود إلى نزع السياسة من المجتمع باعتبارها فاعلية اجتماعية ومجتمعية حرة، ومجالاً عمومياً للمجتمع، وهي أحد أرقى الأشكال التنظيمية لوحدة المجتمع، الأمر الذي أدى إلى تغييب قسري كامل لدور هؤلاء الناس في بناء مجتمعاتهم والمشاركة في تحمل مسؤوليات هذا البناء.
3-انعكاس البنية الدولتية الهشة على الحراك السياسي الخارجي لتلك الدول حيث تتجه الأمور على هذا الصعيد –وكنتيجة لعدم شرعية النخب- إلى مزيد من الانكسارات والهزائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مستوى فساد التخطيط السياسي العام والخاص، وعقم الممارسة السياسية العملية، وسوء استخدام العمل الإداري اليومي (تفشي الفساد الإداري). وبناء حداثة ديكتاتورية غير عقلانية مستهلكة، وغير قادرة على النمو أو الإنتاج.
4-ضعف إمكانيات الإصلاح والتطوير ذاتياً وموضوعياً، بما فيها عدم وجود رغبة حقيقية لدى تلك النخب القبلية الحاكمة لتغيير أو إصلاح الواقع بنيوياً، بل وعملها الدؤوب على مواجهة أي تغيير سياسي أو ثقافي يمكن أن يفكر فيه أبناء المجتمع ونخبته المفكرة.
والسؤال المطروح الآن: طالما أن ممكنات التغيير وآفاق الإصلاح السياسي العربي الراهن صعب ومعقد وشبه مستحيل، أليـس من الأجدى والأكثر فائدة الاشـتغال على بناء ثقافة الإصلاح والوعي الوطني الحقيقي المسؤول بين الناس؟!! أي إعادة الاعتبار لمفهوم حب الوطن وتعميق الحس الوطني المسؤول بين الناس قبل النخب الحاكمة؟!! فالناس تغيرت سلباً من حيث طبيعة استجابتها للعمل الوطني، وأضحت –نتيجة هيمنة قرون طويلة من الاستبداد السياسي والثقافي والمجتمعي- مستنكفة عن ممارسة السياسة وضعيفة الصلة والارتباط الحي بمعايير الفعل الوطني، وبالتالي غير قادرة على إحداث أي تأثير في السياسات القائمة والمطروحة والمفروضة عليها التي تخصها.
إنني أعتقد -إتماماً للحديث السابق- أن الذي يعيق المسيرة عن التقدم في هذا الاتجاه حالياً، ويقف في وجه حدوث كل تلك الطموحات والآمال الواسعة في ولوج العالم العربي والإسلامي العصر الحديث -علمياً وحضارياً وتقنياً- لا يقتصر على بعد أو مستوى واحد، بل يتعداه إلى جملة مسببات خاصة وعامة، ففي المجال الأول يمكن العثور في كثير من زوايا ثقافتنا الدينية والاجتماعية الموروثة على كم كبير من الأنماط الفكرية والأنساق التعبيرية العملية التقليدية، التي تحولت إلى دين قائم بحد ذاته يعاند ويواجه قيم الدين الحقيقية على مستوى الفكرة والسلوك والتطبيق. وهذا النوع من حالة اللا توافق الثقافي ولّدت في داخل الأفراد المؤمنين بها والمنتمين إليها نوعاً من التناقض اللامنظور بين الأعراف والعادات (التي أضحت نوعاً من النصوص الدينية بحكم العادة والألفة والممارسة)، وبين الواقع الخارجي المختلف كلياً أو جزئياً عن تصورات الذات الفردية. وهذا بحد ذاته سيؤثر سلباً على حركية الفرد، ويعطل عنده حركة العقل والتفكير والإبداع، وسيحوله إلى مجرد آلة منفعلة غير فاعلة على الإطلاق.
وبالتالي لا نستطيع أن نحمل النخب الحاكمة مسؤولية كاملة على هذا الصعيد، وبالطبع هي ليست حزينة على ضياع مجتمعاتها وبقائها في حالة من اللامستقبل واللاوعي، لأنها مستفيدة من بقاء هكذا أمور على ما هي عليه.
ولا شك أنها تعمل على تعميق تلك المشاكل والأزمات التي تواجه مجتمعاتها، حيث أن من يفكر بذاته وينعزل عن الناس وينغلق على همومه وامتيازاته ومكاسبه الخاصة، لا يمكن أن يفكر مطلقاً بهموم وحاجات المجتمع إلا بالحد الأدنى الذي يحافظ من خلاله على وجوده، واستتباب المواقع، وثبات الأحوال على ما هي عليه.
من هنا تأتي مسؤولية المثقف في أن يقوم بدور حامل المصباح الدال به على طريق الخلاص الفردي والجماعي، وذلك من خلال عمله على تنوير الرأي العام بكل ما من شأنه أن يساهم في بناء الوعي الفعال لدى أفراد الأمة لمواجهة وإسقاط ثقافة القطيع والامعية وتفكيك العقليات القبلية التي تسببت في تفشيل التنمية والتقدم، وتصحيح المفاهيم الخاطئة المتداولة عن السلطة وتوزيع الثروة والأموال، والمساهمة الفعالة في تمكين الأمة من ممارسة حق النقد البناء، ومواجهة محاولات تزييف الوعي الفعال بالحياة والواقع.
بهذا الوعي يمكن بناء نهضة حقيقية تسعى إلى التنوير والإصلاح، وتقوم أساساً على فهم الدين فهماً صحيحاً يتوافق مع العقل الحاضر، ويكون لعنصري الزمان والمكان حضوراً أساسياً في مجمل اجتهاداته وتأويلاته. وبما يتناقض كلياً مع ما نراه ونعاينه في عالمنا العربي والإسلامي حالياً، من انتشار أفكار الشعوذة والعادات والتقاليد والخرافة والأساطير، واعتبارها من صلب رسالة الإسلام، وهي ليست من الدين في شيء.
إن النهضة تقوم وتنبثق من خلال وجود رؤى فكرية للواقع القائم مع أفعال وإجراءات ميدانية لاستدراك سلبياته وبناء مواقعه المستقبلية، والمثقف هنا تكون وظيفته مثل الطبيب (طبيب حضارات)، وعليه واجب تشخيص العلة، وهي واضحة ومكشوفة كما أسلفنا سابقاً، ويمكن التعبير عنها مجدداً من حيث أنها أزمة ثقافية ومعرفية بامتياز قبل أن تكون أي شيء آخر، وبمقدار ما يكون تشخيص أسباب المرض عميقاً وصحيحاً، بمقدار ما يكون وصف الدواء المناسب سهلاً وناجحاً، وبمقدار ما يكون الشفاء منه أمراً ممكناً.
© منبر الحرية،30 غشت/آب 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

عند قراءة تاريخ الإنسان، قراءة دقيقة وبتمعن، والنظر للإنسان ذو الحوامل المعرفية التي تحمل في طياتها الكثير من الإشكاليات، تظهر قضية الخوف، تلك التي قال عنها ديورانت في كتابه قصة الحضارة: (الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وتتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها)، فإشكالية الخوف بين الشرق والغرب، حيث يولد التساؤل من رحم الخوف: لماذا الخوف لدى الشرق هو دائماً عامل ودافع للتراجع والتخلف؟، بينما الخوف في الغرب كان  العامل الداعم في عملية التطور والازدهار؟.
من هذا المنطلق نجد بأنه ثمة عوامل لإشكالية للخوف، وثمة علاقة بين الخوفين بشكل يثير السخرية والدهشة، رغم التبيان بين الخوفين في مراحله البدائية، من خلال الماورائيات في تفسير مسيرة الكون، هذه الدهشة التي تمت بين الخوفين والشرخ الواسع بينهما، توصل لعدم قبول الغرب هجرة الشرقيين إليه، ومخاوف الشرق من توافد الغرب إليه، فمشكلة وإشكالية الخوف قائمة بين الشرق والغرب بحد ذاته، فالخوف في الشرق  مخاوف مركبة ( مخاوف ذات موروث ثقافي – مخاوف ذات أبعاد دينية – ومخاوف من الأنظمة الحاكمة في الشرق ذات الطابع الاستبدادي )، رغم ما يملكه الشرق من إرث حضاري والذي ساهم في وقت ما في خدمة البشرية في الفلك والرياضيات والهندسة، إلا أن تلك المخاوف استطاعت أن تجعل الفرد في الشرق أسير تلك المخاوف، فالخوف من الموروث الثقافي مثلا في الشرق جعل الفرد لا يستطيع الغناء خارج ذاك السرب الذي ينتمي له ولا بمقدوره التمرد على ذاك السرب بأن يحلق خارجه، ولأنه على يقين بأنه إذا طار خارج السرب، سوف يرميه العقل خارجاً، وعلى اعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي، سيبقى وحيدا يضربه هاجس الجنون وهو في عزلة اجتماعية، ويأتي العامل الديني والذي يحتوي في طياته الموروث الثقافي والاجتماعي المسيطر على العقل الجمعي الشرقي والذي ينظم ويرتب الحياة في الشرق ويتدخل في أبسط تفاصيل الحياة لدى الشرق، حتى يصبح الفرد أسير المعتقد الديني، وبأن هناك حياة غير التي نحياها ستعوضنا عن ملذات الحياة. إنها ( الجنة – حيث الرفاهية التامة وكل ما نشتهي )، وبالتقاء المخاوف ذات الطابع الديني مع مخاوف الموروث الثقافي في الشرق يظهر الخوف الأكبر ألا وهو الخوف من السلطة، ومخاوف الشرق من أنظمتها الحاكمة والتي تستثمر جميع المخاوف لتنفرد بتسلطها على شعوبها، الأنظمة ذات الطابع الاستبدادي والتي تكون البديل المفكر عن شعوبها بل وحتى المسؤولة عن أحلامها.
الخوف من السلطة من المخاوف التي اختزلت جميع المخاوف لتستمر على حساب شعوبها، إنها السلطة التي تعتقد أنها هي الحاكمية على الأرض وشرعيتها مستمدة من الآلهة، فسيطر الخوف على الفرد الشرقي من السلطة، حتى بات لا يستطيع أن يحاور ذاته بصوت خافت، خاصة وأن السلطة تترقب أبسط تفاصيل حياته التي تتعارض مع بقائه.
فمخاوف الشرق التي ذكرت كانت عاملاً هاماً في تخلفه وعدم مواكبته حركة العالم، وبينما الشرق يتنقل بين مخاوفه وبشكل اعتيادي حتى أصبح هناك ألفة بين الذات الإبداعية والخوف، نجد بأن الشق الآخر للشرق، ألا وهو الغرب وعلاقته مع الخوف، فالخوف لدى الغرب كان داعماً دائماً وأبداً للتقدم والتطور والازدهار.
يتجلى الخوف في الغرب بمخاوف (بيئية – الأوبئة – لغوية – انقراض الحيوانات وووووووووإلخ) وهو ما جعل هذا الخوف يساهم في جعل العقل الغربي يتحرر من خوفه الداخلي وربطه بعامل التطور، وإعطاءه الدافع لعملية التحليل والتركيب حتى تتمكن من التفسير، ففي الغرب الخوف من الكوارث البيئة مثلاً تدعمه ليعطي كل ما لديه من معرفة، واضعا بذلك آليات وقرارات مدروسة لتجاوز الكارثة البيئية التي تهدد مستقبلهم للخطر، الغرب يستهلك الملايين من الدورلات ليحمي حيوان من الانقراض، ومستعدين دائما لوضع -في شرائعهم ودساتيرهم- فوانيين تحمي حتى الحيوانات من التعرض للأذى، فكيف يكون الفرد لدى الغرب إذ كان دستورهم يحمي الحيوان؟. ومن مخاوف الغرب أيضاَ الخوف من اندثار لغة من لغات العالم وليس غريباً على الحكومة البريطانية التي تعزز تعدد الثقافات أن تحمي الأثينيات والأقليات العرقية والدينية  كلغة الغال حيث أنفقت الحكومة البريطانية ما يعادل 250 مليون جنيه كي لا تزول لغة كلغة الغال .
فالخوف إذن لدى الغرب من الكوارث الطبيعية والبيئية والإنسانية كان داعما لفهم الحياة وازدهارها، مما جعلت الفرد الغربي يتحرر من مخاوفه ليبني عليها أمل جديد للحياة البشرية والاستمرار الطبيعي ولجميع كائناته، وهذا ما يجعل الخوف للغرب قوة داعمة للتطور، ومن خلال ما سردناه من إشكالية الخوف في الشرق والغرب والفرق الواسع بين الخوفين، ظل الخوف الأول والذي أسر فرده داخل مخاوفه ومخاوف مجتمعه، ذات الجذر والموروث الديني والثقافي وبتاالي كان الخوف في الشرق عاملاً لتخلفه وعدم تفسيره لمخاوفه، بينما كان الثاني محرراً لفرده من مخاوفه والتي كانت كما تطرقنا إليها ذات الحامل (بيئي – طبيعي – وبائي –وووإلخ)، داعماً لتطور الحياة في الغرب ، فشتان ما بين الخوفين.
© منبر الحرية،25 غشت/آب 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20101

عندما تطرح مسألة الديمقراطية على بساط الجدل في المداولات السياسية بين فرقاء عددين ومن مشارب سياسية مختلفة، لاشك أنك سوف تصطدم بإشكالات عديدة، تتمثل برؤى مختلفة بحيث ترى أن موقف أي فريق يتأسس وفقا لموقعه السياسي أو الأيديولوجي وحتى الاجتماعي والاقتصادي، بالمقابل فقد يتناول بعض رجالات الفكر المسألة – ربما –  بمنطق معرفي وبالتالي بمعالجة موضوعية، ومن غير ريب سوف تختلف النظرة والقراءة للديمقراطية بين مجتمع تقليدي كالمجتمعات العربية، ومجتمع منتج للحداثة، كالمجتمع الغربي، فالديمقراطية هي نتاج وحصيلة المجتمع في درجة من تطوّره، وهي تأخذ شكلا يتناسب مع هذه الدرجة من التطور، وهي ليست كيانا خاصا منفصلا عن جسم الدولة ولا عن كيان المجتمع.
إن الديمقراطية بغض النظر عن أصلها اليوناني، هي اليوم بصيغتها المتبلورة جاءت مع الحداثة، وهي عنت فيما عنته التمثيل السياسي في تسيير شؤون الدولة، ومن الطبيعي أن تقضي الحالة بالتعددية السياسية، وكان الحامل الاجتماعي للديمقراطية، هو الطبقة البرجوازية، فقد كانت غداة الاستقلال لم تزل تتمتع بتأثير واضح في حركة المجتمع، رغم أنها كانت في بداية تحوّلها وتكوّنها، لكن هذه الفاعلية أو التأثير جاء وأده مبكرا من خلال الحركات الراديكالية من قوميين ويساريين الذين قادوا الثورات الوطنية حتى تم التحرير، ومن ثمّ قاموا بانقلابات عسكرية فيما بينهم، وسعوا لإلغاء دور البرجوازية في حلبة الصراع الدائر واتهامها كمطية للمستعمر الأجنبي في سياق نضالهم (الاشتراكي) الموهوم، وأيضا من خلال مناداتهم بشعار الوحدة العربية الشعار الوجداني الأثير الذي استحوذ على أفئدة ملايين العرب من المحيط إلى الخليج، ومازال إلى اليوم من يمشي في مناكب هذا الشعار العاطفي لكن في ظروف جديدة ووعي جديد لحقيقة المناداة والمتاجرة بهكذا شعارات، وفي المحصلة كانت النتيجة أو الغاية هي القضاء على حيوية البرجوازية، وإلغاء دورها، وبالتالي تغييب الديمقراطية، والحيلولة دون قيم الحداثة، وكل هذا بالنتيجة يمهد الطريق أمام القوى الأصولية الإسلامية التي يمهد سبيلها دعم الدولار النفطي، وبالتالي خلق هوّة بين المجتمع والدولة وتحكم الدولة بمصير الشعب، دولة من فريق صغير مستبد طاغ يتفرد بالسلطة، دولة ديكتاتورية بما للكلمة من معنى، وبالمقابل كنت تجد المجتمع المدني في حالة ضعف غير متماسك وفراغ سياسي وفي حال تبعية لرموز السلطة أكثر من تمتعها بالاستقلالية مع هشاشة القوى السياسية داخل المجتمع حيث لا تتمتع بفاعلية تذكر، في حين أن غرامشي كان يعتبر مؤسسات المجتمع المدني بمثابة (الأداة الأساسية لإصلاح فساد المجتمع السياسي وإعادة بنائه على أسس أخلاقية وإنسانية..) لكن كثير من قوى المجتمع المدني غالبا ما تكون مقصية في الدول القمعية عن الحيز العام.
إن الديمقراطية كمفهوم ينبغي أن تتجذر في المجتمع البشري أولا كشكل من العلاقات البينية بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، قبل أن تتمثل بالعلاقة بين الدولة والمجتمع، كونها بالأساس نبتة اجتماعية تجود بها عقول الناس في حالة من استعصاء العلاقات بين الكيانات الاجتماعية، من جانب آخر فالديمقراطية (هي الشكل الطبيعي لممارسة الطبقة البرجوازية لهيمنتها الطبقية حسب تعبير مهدي عامل)، أي أن الإدارة السياسية للدولة التي تشغلها البرجوازية تعود لهيمنة البرجوازية في مجال التنمية والإنتاج، والاقتصاد عموما، فبالهيمنة الاقتصادية تأتي الهيمنة الطبقية، ومن هذا الوضع تتولد الديمقراطية كحالة من العلاقات الطبيعية، فإذا ما انتفت هذه الهيمنة، تنتفي الديمقراطية أيضا لأن المجتمع البرجوازي برأي ماركس هو الذي يحافظ على تماسك الدولة، وبالمقابل فإن أحزاب البرجوازية الصغيرة عندما تتمثل بالسلطة تنتهي بالتحنط في أجهزة تابعة للدولة تفقد دورها النضالي الذي عرف به في يوم من الأيام، حينما تخطف البرجوازية الصغيرة دفة السلطة في غفلة من الزمن، كما أن الانقلابات العسكرية التي قام بها بعض الضباط ظهرت لنا فيما بعد أنها كانت تجارب فاشلة، وما رفعت حينها من شعارات فضفاضة كانت للاستهلاك والتعمية، فمضمون تلك الشعارات كانت بحاجة إلى كفاءات فكرية، وللأسف كثير من رواد النهضة راحوا خلف الخطاب القومي والشعارات القومية، وراحوا يكبلون أجهزة الدولة بعقيدة سياسية أو دينية، فقطعوا بالتالي الطريق أمام نهوض البرجوازية الديمقراطية كشكل طبيعي للتقدم الاجتماعي، كونها أيضا الحامل الأكيد للديمقراطية، فالثورة البرجوازية في مرحلة ما ضرورية ومهمة لكي يتسنى لها كنس كل بقايا الماضي المتخلف.
المصيبة تكمن في أن الأنظمة العربية تحول دون ترسيخ الديمقراطية كمبادئ أولية في الواقع السياسي العربي بالاحتكام مثلا لصناديق الاقتراع في حال اختيار الحاكمين. لكن المصيبة الكبرى في هذا السياق أن مجتمعاتنا العربية أيضا لا تتقبل الرأي الحر أو الديمقراطية في تناولنا لتراثنا الديني مثلا بالنقد والتحليل، والدولة ربما لضعفها تبدي شيئا من التراجع الخجول أمام المد الديني الأصولي، فلا تظهر كحاضنة لجميع فئات المجتمع بغض النظر عن الدين الذي يعتقد به هذا الفرد أو ذاك، مثلا لا تجد قبطيا واحدا في البرلمان المصري، والدولة المصرية لم تحل دون محاكمة الدكتور نصر حامد أبو زيد، ولا حتى مواجهة التهديد، فهاجر مضطرا ليموت في بلاد الاغتراب مأسوفا عليه، وكان الأولى بالمختلفين معه فكريا أن يواجهوا الفكر بالفكر، لا الفكر بالمدفع، وكان على الدولة أيضا لا التغاضي، بل كان عليها ردع المعتدي.
لإرساء أسس الديمقراطية في أي نظام، لا بد من تفعيل مؤسسات الدولة، والفصل بين السلطات المختلفة، وترسيخ شأن القوانين واحترامها، من هنا يمكن أن نمضي نحو التحول الديمقراطي  بثقة، مع وجوب إيلاء جانب التنمية البشرية والاقتصادية الأهمية الأولى، فضلا عن ترسيخ مبدأ المساواة واحترام حرية الفرد وحقوقه على أساس المواطنة بصرف النظر عن انتماءاته السياسية أو العرقية أو الدينية أو المذهبية، وأي نظام في أية دولة ينشد الديمقراطية كمبدأ لا بد أن تكون الحكومة فيها حكومة الشعب حسب تعبير الرئيس الأمريكي الأسبق حيث يقول : (إن الحكومة الديمقراطية حكومة الشعب، من الشعب، لمصلحة الشعب).
علينا أيضا التنبه هنا من أن ترسيخ الديمقراطية في الدول والمجتمعات يتطلب بداية درجة من تطور المجتمع، وجود قيادة مخلصة ومؤمنة بالديمقراطية كحالة بديلة لما هو متداخل من الأطروحات الأخرى، ولا بد من توسيع مجال مشاركة سائر التنظيمات السياسية المختلفة، والقبول بحكم الأكثرية، لا بد من انتشار التعليم وإشاعة ثقافة الديمقراطية وبانتشار الثقافة الديمقراطية سوف تنتشر العلمانية على نطاق واسع، لأنها تقوم على المحاكمة العقلية، والثقافة الديمقراطية تبيح لها هذا المحظور، أو هذه اللفظة الرجيمة بلغة الأصوليين الإسلاميين.
وثمة من يقول أن الديمقراطية لاتناسب هذا الواقع أو ذاك، ربما جرّاء زعزعة كراسيهم أو عروشهم، إذا كانوا من المتنفذين وأصحاب امتيازات تدرّ عليهم ما تدرّ. إن أية إشكالية في الديمقراطية يمكن أن تعالج من خلال مزيد من الديمقراطية وليس بنفيها.
إن الديمقراطية هي الإكسير الناجع لكثير من الأدواء في المجتمع والدولة، كما قلت في مقالة سابقة، وإن أية ذريعة أخرى تناقض مبادئ الديمقراطية إنما الغاية منها هي إدامة الاستبداد والتسلط إلى أبد الآبدين.
© منبر الحرية،22 غشت/آب 2010

عزمي عاشور18 نوفمبر، 20100

بعدما كانت أوروبا في الماضي مسرحا لحربين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين راح ضحيتهما  الملايين من الأبرياء، أصبحت  الآن أرضا للتعاون والتكامل فيما بين دولها، فقد تعلمت  دول هذه القارة العجوز المتعددة اثنيا ولغويا الدرس جيدا  في أن  لغة المصالح هي خير رابط بين شعوبها، وان وجود التنظيمات الدولية  ليس كافيا في حد ذاته لمنع الصدام، فوجود عصبة الأمم، على سبيل المثال،  بمبادئها السامية لم يحل دون قيام  الحرب العالمية الثانية، ومن ثم كان البحث عن شكل مؤسس يشكل حائط صد يمنع اندلاع  الحروب بقدر الإمكان. وقد  وجد المخلصون من الساسة الأوروبيون ضالتهم في إقامة اتحاد تعاون تكاملي يرتبط بالواقع أكثر مما يرتبط بالأفكار المثالية،  فجاء إنشاء الاتحاد الأوروبي بنواته الأولى في عام 1957  القائمة فلسفته بربط الدول الأوروبية فيما بينها في تفاعلات وتعاملات اقتصادية، تكون له فوائد مضاعفة  تعمم على الدول التي تدخل هذا الاتحاد، واستطاعت  هذه الدول على مدار الخمسين سنة الماضية أن تضع الشروط وتهيئ الظروف لانتقال الدول الأوروبية من وضعية اقتصادية وسياسية متدهورة إلى وضع أفضل لتلحق بدول  هذا الاتحاد   وتستفيد من  نفس المزايا الاقتصادية التي سبقتها إليه هذه  الدول.
وإذا كان هذا النموذج التكاملي قدم دليل عملي في قدرته على منع الحروب حتى بين المختلفين دينيا واثنيا ولغويا مثل حالة الاتحاد الأوربي، إلا انه  في المقابل  نجد أن غياب مثل هذه  النوع من التكامل في مناطق  أخرى من العالم كان سببا  في قيام  النزاعات، بالأخص في المنطقة العربية والقارة الإفريقية  التي لم تستطع دولها بعد أن تخلق لنفسها إطار اقتصادي تعاوني وتكاملي  فيما بينها،  على غرار دول الاتحاد الأوربي حتى وان كانت هناك مشاريع واتفاقيات لذلك، إلا أنها تكون  على الورق ولا تمت للواقع بصلة،  وفي الآونة الأخيرة برزت على سطح الأحداث توترات بين دول حوض النيل بسبب أن دول المنبع ، إثيوبيا  وكينيا  واغندا وتنزانيا  وبروندى ورواندا، وقعت اتفاقية فيما بينهما بدون دولتي المصب مصر والسودان في  أن يكون لهم الحق في إقامة مشروعات دون الرجوع إليهما، وقد يبدو هذا حق مشروع في الاستفادة من مياه النيل التي تمر بأراضيها،  إلا أن عملية الانفراد بالاتفاقيات والمشاريع دون بقية دول المصب قد يكون  فيه  سوء نية  الإضرار بمصالح  هذه الدول التي ارتبطت حياتها عبر آلاف السنين بمياه النيل، الأمر الذي خلق ما يشبه الحق والميراث التاريخي  في مياه النيل، ومن ثم  باتت إقامة أي مشاريع من شانها أن تؤثر حاليا أو مستقبلا على كمية المياه الذاهبة إلى دول المصب على الرغم من وجود اتفاقيات دولية  تنظم  العلاقة فيما بين دول  حوض النيل وبالأخص  اتفاقية عام 1929 وعام 1959.  وعند النظر إلى الأمور  بشكل واقعي بعيدا عن التفسيرات القانونية  والحقوق التاريخية  -التي ترى الدولة المصرية أنها مكتسبة- نطرح السؤال التالي:  إذا كان نهر النيل يشكل سواء  من منابعه في وسط إفريقيا أو من الهضبة الأثيوبية  ومرورا بالسودان،  أهمية إستراتيجية للدولة المصرية  بمثل هذا الشكل،  فهل  الدولة المصرية قامت بدورها في الحفاظ على هذه الأهمية الإستراتيجية لنهر النيل ؟
لقد تعاملت الدولة المصرية على مدار الفترات الماضية مع  ملف حوض النيل بنفس المنطق الذي تعاملت به في قضايا كثيرة، وشهد تراجعا لدورها فيه سواء في الساحة العربية أو في الساحة الإفريقية،  إلا أن المشكلة بالنسبة لدول حوض النيل تبدو مختلفة تماما. حيث أن أي نزاع مع أي دولة  قد لا يسبب أضرار مثلما يسببه النزاع مع دول حوض النيل، فالنزاع مع دولة مجاورة نهايته قطع العلاقات أما مع دول حوض النيل  فمعناه قطع المياه، ومن هنا ليس من العيب مراجعة السياسة التي اتبعتها الدولة المصرية في الماضي، فالأمر في هذه المرة لا يقل خطورة عن الاعتداء على أراض مصرية،  وهذه ليست دعوة للدخول في نزاعات بقدر ما هي دعوة لإعادة التفكير في مداخل واقعية تضمن حلول ترتبط بتحقيق مصالح لدول حوض النيل دون  التعدي على حقوق مصر المائية في دول حوض النيل.
وفي هذا الإطار هناك ثلاث مداخل مختلفة  تشكل طريق مناسب  يجنب الدخول في صراعات  ويعمم الاستفادة من الإمكانيات الاقتصادية الموجودة في دول حوض النيل،  وهي المدخل الدولي international approach ، والمدخل الإقليمي  the regional approach ، ثم المدخل المحلي the local approach  .
وعلى الرغم من أهمية المدخل الدولي والمتمثل في جهود المنظمات الدولية كالبنك الدولي واليونسكو وغيرها من المنظمات المعنية بأزمة المياه في المنطقة، إلا أن قيمتها الأساسية تكمن في أنها مدخل مساعد للمدخلين الآخرين: الإقليمي والمحلي  في أن يفعلا من قدراتهما لحل أزمتهما المالية، وعلى الرغم من أهمية المدخل المحلي والمعني بكل دولة على حدة في قدرتها على ترشيد واستخدام وسائل أفضل في تعاملها مع المياه، إلا أننا نجد أن المدخل الإقليمي هو الأقرب والأنسب  في حل المشكلات المائية سواء المتعلق بها بالأمن الغذائي والندرة المائية، أو حتى المتعلق بالصراعات السياسية الناتجة عن هذا الأمر والذي عن طريقه  أيضا يمكن توظيف المدخلين الآخرين الدولي والمحلي في نطاقهما.
والمدخل الإقليمي المقصود هنا  هو منهج الإقليمية الجديدة القائم على إقامة المناطق الاقتصادية المشتركة أو المترابطة economic package. والمبني بالأساس على هدف أساسي هو تناسي الخلافات السياسية في مقابل المغريات الاقتصادية الناتجة عن هذا التعاون، وتكمن أهمية هذا المدخل التعاوني في انه قائم على وجود خطر مشترك قد يهدد حياة الجميع في هذه الحالة (أزمة المياه )، والتي ينتج عنها صراعات سياسية. ومن اجل تجنب ذلك توجد عن طريق هذا المدخل إمكانية استبدال الصراع، الذي يصعب معه حل المشكلة، بالتعاون والاندماج في تكتلات اقتصادية ويساعد على نجاح ذلك في حالة دول حوض النيل، على سبيل المثال،  هذا التنوع الجغرافي لدول الحوض والذي يجعل منها منطقة اقتصادية ناجحة، وفي هذه الحالة عندما يشعر كل طرف انه في حاجة إلى الطرف الآخر وانه يستفيد منه اقتصاديا بالتعاون معه  فسوف يفاضل بين هذه المزايا وبين الدخول في صراعات حتى لو كانت على المياه، لان عملية التكامل هذه سوف تدفعهم في هذه الحالة إلى البحث عن حلول  لمشكلة المياه فيما بينهم رغبة في  تعظيم الاستفادة من المزايا الاقتصادية.  وفي هذا الإطار يمكن تفعيل  المداخل الأخرى، فمثلا  المدخل الدولي قد يمكن من الاستفادة بالمساعدات والخبرات التي تقدمها المنظمات الدولية في هذا الشأن،  ويمكن تفعيل أيضا  المدخل المحلي في أن يكون هناك ما يشبه الإستراتيجية لكل دولة في أن تحاول أن تعظم من استفادتها من حصتها من المياه وتقليل الفاقد منها على قدر الإمكان بالوسائل المتاحة، والعمل على استحداث وسائل أخرى سواء في أساليب الري أو في طريقة نقل المياه من المجرى المائي مع  المحافظة على المجرى من التلوث من الاستخدامات البشرية  السلبية، حيث كل هذه المهام التي قد تتم داخل كل دولة على حدة من المكن أن تقنن في شكل تعهدات لدول التجمع الاقتصادي فيما بينها  في إطار التعاون القائم فيما بينها، ومن هنا فالإطار التعاوني والقائم بالأساس على أسس منفعية واقتصادية، يشكل المدخل الأنسب لحل الكثير من المشكلات المتعلقة بالأزمة المائية بجوانبها المختلفة سواء الندرة المائية أو الأمن الغذائي أو حتى الصراعات السياسية الناتجة عن ذلك.
© منبر الحرية،16 غشت/آب 2010

حواس محمود18 نوفمبر، 20100

التصفيق هذه الكلمة ذات الإيحاءات والمدلولات والمعاني والممارسات المتباينة والمختلفة عبر التاريخ وحتى يومنا الراهن، ولكن الأشد إيلاما في ثنايا هذه الكلمة أو في مكنوناتها المستترة، ومهما كانت أسباب نشوء هذه الظاهرة إلا أنها في أيامنا المعاصرة تحولت إلى ظاهرة قهرية بامتياز فحيثما وجدت دكتاتورية أو استبدادا مستفحلا تجد تصفيقا حادا أو صامتا ومهما يكن شكل التصفيق لكنه موجود بقوة، وهذا التصفيق يأخذ طابعا قهريا خنوعيا استسلاميا حتى في جانبه الانتهازي الوصولي لانتفاع مكتسبات وقتية من الطاغية أو المستبد الذي يدرك أسباب  هذه الانتهازية، لكنه يحبذها ويؤيدها لأنها تخدم استدامته في الحكم والسيطرة والنفوذ.
التصفيق لمحة تاريخية :
يعد التصفيق سلوكا قديما يعود إلى فترات زمنية موغلة في الماضي، حيث تدل الحفريات والبحوث الآثارية على تلمس آثار ودلائل وجوده في تلك الفترات من خلال النقوش المصرية والتي تشير إلى المصريين وهم يمارسون عملية التصفيق بالترافق مع طقوس احتفالية كالغناء والرقص.
يشير الدكتور عماد عبد اللطيف إلى أن اليونان من أقدم شعوب الأرض التي مارست عادة التصفيق وذلك بقيامهم – كما المصريين- بطقوس احتفالية غنائية ورقصية ومسرحية. وعندهم شاع المصفق الذي يصفق بأجر ( المأجور) أي الذي يصفق بمقابل مالي، وكان هذا يحصل أثناء عرض المسرحيات للحضور وتأجير فئات من الناس تمارس التصفيق للمسرحيات أمام لجان التحكيم التي تقوم بتقييم المسابقات المسرحية.
وتذكر المصادر التاريخية ولع نيرون طاغية روما بالتصفيق، كما أن التصفيق قد انتقل من شعب إلى آخر فلقد انتقل إلى العبرانيين من خلال الحضارتين الفرعونية واليونانية. 
وتعود علاقة  العرب بالتصفيق إلى عصور ما قبل الإسلام.كما عرف التصفيق كممارسة شعائرية تؤدى أمام الحرم المكي، واستخدم في صدر الإسلام أداة للتشويش على المسلمين في بداية دعوتهم، ويذكر بعض المؤرخين أن مجموعات من القريشيين الذين كانوا يعارضون دعوة الرسول محمد، كانت تلجأ إلى التصفيق تشويشا وضجيجا للسعي من أجل عدم استطاعة الرسول إبلاغ دعوته الدينية إلى الناس، وذلك من أجل عدم التأثر به وبدعوته للدين الجديد، وقد يكون التصفيق عند بعضهم ممارسة طقوسية للتقرب من الله.
التتصفيق  كظاهرة قهرية :
شاع التصفيق في قصور الخلفاء والملوك والسلاطين والولاة، وكان  تعبيرا عن قوتهم ومكانتهم وجبروتهم، فالذي يجلس على عرش الحكم عندما يصفق فهذا يعطي إشارة شديدة الترميز لاستحضار قوى سحرية، قد لا تكون أقل قوة من الساحر الحقيقي، عندما يصفق الملك فتحدث أشياء جديدة أمامه وعلى ساحات الرقص واللهو والمجون، فقد تظهر راقصة تخلب قلوب الحضور أو قد تنكشف موائد كبيرة ومتطاولة تشتمل على كل لذيذ  وطيب، وقد يبرز سيف بتار يقطع رقاب بعضهم، إذن فما بعد التصفيق يأتي شيء مفاجئ غير معروف، فإما تأشيرة فرح وسعادة  أو ترميزة قرح وحزن.
وعند العرب إذا قام أحدهم بعمل ما يحتاج لجهد جماعي وحين تعرضه لسؤال أحدهم هل أنجزت العمل الفلاني؟ يسارع بالإجابة بمثل (اليد الواحدة لا تصفق). في إشارة واضحة إلى حاجته إلى مؤازرته من قبل الآخرين.
ومن طرائف التصفيق أنه عندما يلعلع صوت الخطيب أو المحاضر أو المغني تجتاح القاعة موجة تصفيق حادة، يشارك بها كل الحضور حتى الذين لم يسمعوه جيدا والدليل على صدق ما نقول تكرار ظاهرة أن يقوم أحدهم أو بعضهم بعد مشاركتهم بالتصفيق بالسؤال لزميله الجالس إلى جانبه ماذا قال الخطيب أو المحاضر أو المغني !!.
وقد يكون التصفيق عملية غير بريئة، هذا ما يبينه مثل فرنسي يقول : ” يظل الطفل بريئاً حتى يتعلم التصفيق!).
كما أن كلمة  التصفيق قد تحمل في ثناياها مدلولات وإيحاءات وترميزات إلى ما يشبه الصفقة وهذا ما كان  يحدث عند اليونانيين وبخاصة في قاعات المسارح بين الحضور وأصحاب المسرحيات  كما ذكرنا آنفا.
بالانطلاق مما سبق نجد أن التصفيق وبصورة خاصة في الزمن المعاصر يلعب دورا قهريا كبيرا وبخاصة في المجتمعات الشرقية، وبصورة أكثر تخصيصا في العالم والإسلامي فلقد مرت شعوب العالم العربي، وبخاصة في مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر بمراحل ساد فيها التصفيق الآلي الصاخب والقوي، والذي جاء بفعل العاطفية والشعارية  والتجييش ربما لم تشهده أي شعوب أخرى في العصور الحديثة. هذا التصفيق-  وبخاصة للزعماء – جاء بعد احتلال فلسطين والحروب التي خاضها العرب 48، 67، 73، 82، يضاف إلى ذلك غزو النظام العراقي للكويت عام 1990، الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، حرب الخليج الأخيرة 2003، حرب تموز 2006.
فبروز الزعماء العرب كجمال عبد الناصر كان مترافقا مع جمهور قطيعي شعوري عاطفي مغيب العقل، تحركه الخطب اللهابة والتهديدات النارية، ” سنرمي إسرائيل بالبحر”، ” لا صوت يعلو فوق صوت المعركة “، ” لتتقشفوا من أجل فلسطين ومعركة العرب المصيرية الكبرى “.
والمفارقة الكبرى أن تتماهى الشعوب العربية حتى الآن  إلى هذه الدرجة القصوى مع المستبد الذي أتقن لعبة العزف على وتر القضايا الكبرى كقضية فلسطين التي ترتبط بمسألة عادلة وظلم ممارس من قبل قوة أخرى هي القوة الإسرائيلية، بمعنى أن فلسطين أضحت قضية مقدسة تدغدغ مشاعر العرب من المحيط إلى الخليج، واستطاع الحاكم العربي المستبد ركوب الموجة بالتركيز على فلسطين كقضية العرب الأولى وإهمال قضايا التنمية والحرية والديمقراطية، حتى أن العديد من المعارضين للمستبد العربي كانوا ضحايا المتاجرة بقضية فلسطين، فالذين أعدموا بالعراق في السبعينات أعدموا بحجة أنهم جواسيس لإسرائيل، وحدثت أمور مماثلة في دول عربية أخرى مواجهة أو غير مواجهة لإسرائيل، إن أحكام الطوارئ والقوانين العرفية لا زالت تمارس  في معظم الدول العربية، وهي قد أتت بحجة أن الدول العربية تواجه إسرائيل فيمنع الناس من التظاهر أو التعبير عن المعاناة الداخلية، علما أن هذه الأحكام غير موجودة في إسرائيل نفسها، الدول العربية رفعت شعارات عديدة كالوحدة والحرية والاشتراكية، وهي قد فشلت فيها فشلا ذريعا  ورغم ذلك صفق لها كثيرا، ولا زالت تمارس أقسى صنوف القمع والترهيب بحجج وذرائع شتى.
إن حالة التخلف في الميادين كافة في العالم العربي يتم تغطيتها إعلاميا بتصفيق عجيب، فالأنظمة العربية بحسب التصفيق الممارس أنظمة وطنية وشرعية،  والحكام العرب رموز مقدسة، على الإعلام  العربي عدم استهدافهم باعتبارهم أولياء الله في الأرض، وهم لذلك محصنون شعبيا تخلفيا، وهم أنفسهم يقولون شعوبنا لا تستحق الديمقراطية لأنها غير واعية بالديمقراطية، وهي لم تبلغ سن الرشد الديمقراطي وبالتالي فهي تستحق التصفيق وبالتالي الاستعباد والاستذلال إلى أن تصل هذه الشعوب إلى الوعي بالديمقراطية!، ولكن السؤال كيف ستصل هذه الشعوب إلى الوعي بالديمقراطية وهي مغيبة عن الديمقراطية وممارس عليها آليات الاستبداد والدكتاتورية في التعليم والثقافة والتنمية والإعلام.  وهي مملوكة للحاكم المستبد وتبث كل سموم الاستبداد والقمع والطغيان بصورة ممنهجة ومستمرة.
فتصفيق الجماهير  رغم المعاناة والقهر وعدم فهم آلية العمل الاستبدادي الممارس، هو ظاهرة تدل على غباء المصفق وجهله، فهولا يدري ( إلا الانتهازيين منهم ) أن هذا التصفيق يساهم في  إدامة القمع والتنكيل وكل الإجراءات  التعسفية والضغطية والعنفية والتعذيبية ضدهم.
إن الحاكم العربي المستبد ما أن يتحدث ببضع كلمات عاطفية حماسية حتى يأتيه صدى كلماته تصفيق حاد مجلجل،  وإن كان يخطب في قاعة فان التصفيق المقابل لكلماته يحدث ضجة وصخبا وصدى كبيرا، وإذا كان قد قيل أن العرب ظاهرة صوتية ( المقصود بها الكلام دون الفعل) فإنهم بالتصفيق ظاهرة قهرية.
المراجع :
1- د. عماد عبد اللطيف ” لماذا يصفق المصريون ”
2- منتدى الضياء الإسلامي – أبي الحسن”  صوت سحري في عالم البشر ”  31-1- 2009
3- موقع أدب وفن سعيد الجريري  ” التصفيق بالعدوى وأشياء أخرى ” 13-9-2008
4- موقع شروق كتاب حول تاريخ ظاهرة التصفيق في مصر   3- 6- 2010
© منبر الحرية،13 غشت/آب 2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018