الإسلام والآخر

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

إنني أؤمن بأن الحضارة الغربية في قسم كبير منها انسانية اكثر من كونها غربية … أؤمن ان هذه الحضارة هي الوحيدة “الحضارة الحية”، بينما يصح وصف سائر الحضارات بعكس ذلك… أؤمن بكل ما تعنيه الكلمة بالتعددية في كل مناحي الحياة والعلم والمعرفة والثقافة والفنون …  أؤمن بالغيرية كقيمة عظمي منبثقة من ايماني العتيد بالتعددية …  أؤمن بعالمية او كونية العلم والمعرفة …   أؤمن ان “النقد” و “النقد الذاتي” و “العقل النقدي” هم من اعظم الانساق القيمية التي طورتها الحضارة الغربية غداة انتصارها على الثيوقراطية …   أؤمن ان الاديان كانت وستبقي عنصرا او عاملا بالغ الاهمية كمصدر للقيم، ولكن ذلك لا ينبغي ان يمتد خارج نطاق “الشأن الخاص”، اما الشأن العام كله فلا ينبغي ان يحكم بغير العلم، ولا شيء غير العلم، وان رجال الدين يجب ان يمنعوا من محاولات تحكمهم في الشأن العام لكونهم يفتقرون لألف باء التكوين المعرفي اللازم …   وأؤمن بأن خلط الدين (أيا كان اسمه) بالسياسة هو مدخل مؤكد للحروب، فمُلاك الحقيقة المطلقة لا يمكن الا وان يُحارِبوا …  وأؤمن بالتعايش المشترك حتى بين من كانوا في حالة عداوة مطلقة …   وأؤمن ان السبل السياسية والحوارية والتفاوضية هي فقط السبل المشروعة لحل الخلافات والصراعات السياسية وان ما يسمي بمعسكر المقاومة ما هو الا غطاء للعنف وثقافة الدم والبغض المتفشية في عدة مجتمعات وان بقت المجتمعات العربية ملعب هذه الثقافة الاكبر في عالمنا المعاصر …   وأؤمن ان الانخراط في التعاملات العلمية والثقافية والمعرفية “مع الآخر” امر حتمي للتقدم وان الخوف (والهلع) من هذا الانخراط هو تكتيك سياسي ممن يرغبون في بقاء شعوبهم داخل الاقفاص التي صنوعها هم بدعواتهم الثقافية (والدينية) التي تحتاج للانغلاق كي لا تتفتت وكي لا تكنسها مقشة العلم والحداثة …   وأؤمن ان المرأة اكثر اهمية بكثير من كونها عدديا نصف المجتمع وان كفالة كل الحقوق وكل الفرص لها هو شرط اساسي من شروط التقدم، فوضع المرأة التي يبقيها في الاطار القرون-أوسطي الذين ينشده البعض كفيل بوجود مجتمع مترع في التخلف اذ يكون نصفه (عدديا) متخلفا ويكون قسمه الذي ينشيء النصف الآخر ايضا متخلفا وهو ما يضمن التخلف الكلي للمجتمع …   وأؤمن بنفس الكيفية بحقوق الاقليات بشتي صورها واشكالها الدينية والاثنية والثقافية …   وأؤمن ان اهم العلوم الاجتماعية المعاصرة هي علوم الادارة الحديثة التي بوسعها (هي فقط) احداث الطفرات الاقتصادية والمجتمعية، وهذه العلوم لا دين ولا عرق ولا جنسية ولا هوية لها، وهي علوم لا تستقيم مع تحكم اية ايدولوجيا في المجتمع …   وأؤمن ان ما يظنه كثيرون في واقعنا من تآمر الغرب علينا هو وهم وهو ثمرة سيولوجيا الاقنان المنتشرة في المجتمعات العربية بوجه عام وفي المجتمعات التي حكمها (وعربد فيها ) المماليك وتركوها وجل ابنائها مسلسلين بسيكولوجيا وسيوسيولوجيا “تراث العبيد” والذي يقابل في علم الاجتماع الامريكي سوسيولوجيا الزنوج، بوجه خاص … وأؤمن ان هناك رابطة ثقافية بين الناطقين باللغة العربية، ولكن محاولة اجبار هذه الرابطة (بفعل البعثيين والقومجية العرب) على ان تصير رابطة سياسية تأخذ الناطقين بالعربية للوحدة السياسية (البعث … الناصرية … القذافية ) قد الحقت ضررا جسيما بالفكرة التي ولدت على يد السوريين المسيحيين وانتهت كتابع للفكرة الاسلامية … وأؤمن ان نظم التعليم في المجتمعات الناطقة بالعربية هي نظم ماضوية ومترعة في التخلف، بل وتنبثق من فلسفة تعليمية هجرها العالم المتقدم الذي تخلي عن فلسفة التعليم القائمة على التذكر وحشد المعلومات في الاذهان وانتقل لفلسفة قوامها تطوير القدرات على الابتداع والخلق … هذه هي اهم القيم التي أؤمن بها، وكنت ولا ازال (منذ صدر اول كتبي في المغرب سنة 1978) منشغلا بتقدمها والترويج لها والدفاع عنها، فهي وحدها (في ظني) القادرة على قيادة مجتمعاتنا المثخنة بجراح تسببنا نحن (وحكامنا في مقدمتنا) فيها وليس اعداؤنا بوجه عام واوروبا وامريكا واسرائيل (كما يظن كثيرون) بوجه خاص …
© منبر الحرية، 22 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

قيل الكثير عن هذا الرجل الظاهرة، كأخر صرعة تخرج به أمريكا إلى العالم، تحدثوا عن حيويته وذكائه وقدرته على الابتكار وإيمانه بضرورة التغيير، وتحدثوا أكثر عن موهبته الخطابية مع أن النجاح في إدارة دولة عظمى أو صغرى غير مشروط بمهارة الرئيس في فن البلاغة، بل إن بلاغة رجل السياسة كثيرا ما تكون وبالا على الدولة التي أنجبته وعلى الأمة التي انتخبته، فالبلاغة تعرف كيف تمس العواطف وتؤثر فيها وتقود الرأي العام نحو توجهات غير صحيحة، فقد استطاع هتلر ببلاغته أن يخدع الشعب الألماني ليصل إلى سدة الحكم، ليشعل حربا كانت وبالا على العالم وعلى ألمانيا وعليه شخصيا،  فإذا كانت السمة البارزة لكاريزما الرئيس باراك حسين أوباما هي البلاغة، فعلى دافع الضرائب الأمريكي وعلى العالم الحيطة والحذر، إذ أن الولايات المتحدة الأمريكية بزعامتها للعالم لن تنجح في ترتيب إدارة الكون بفن الخطابة، بل هناك شروط أكثر واقعية وأكثر عملية في توفير مستلزمات نجاح الإدارة الأوباماوية لأمريكا و للعالم.
ما يهمنا نحن بؤساء الشرق الأوسط بالنسبة للسيد أوباما، هو طريقة تعاطيه مع قضايا منطقتنا، حيث تنتظره ملفات سميكة ومعقدة أكثر مما يتصورها، خاصة انه قليل الخبرة بالسياسة الخارجية، ونحن نعرف أن قادة عالميين محنكين أصحاب خبرة، قد وقفوا عاجزين أمام أزمات الشرق الأوسط، التي تظل تتفاقم كلما مر الزمن، فما هي المعجزة التي سوف يفاجئنا بها أوباما؟ البدايات ليست مبشرة كثيرا، والحلول الأولية التي يقترحها أوباما ليست جديدة أو مبتكرة،  فهو ينوي أن يلقي بخطاب تاريخي في مصر، يعني انه سوف يستعين بموهبته في فن البلاغة ليعالج مشاكل بلاده مع  مجتمعات ما زالت تفكر بعقلية العصور الوسطى، فالرجل يريد أن يلمع صورة أمريكا في العالم الإسلامي، وعلى ما يبدوا انه لم يسأل نفسه هل سيقبل العرب والمسلمون بأمريكا إذا تم تلميع صورته؟
إن أول عقبة ستواجه أو ربما تفاجئ أوباما في هذا المجال، حين يفاتح زعيم عربي أو إسلامي أو يحاور النخب السياسية والدينية المتنفذة في مجتمعات المنطقة هي أن الجميع سوف يطالبونه بالمحافظة على الوضع الراهن، وهذا يناقض شعاره القائم على التغيير، هذا إذا كانوا لبقين معه فلا يحرجوه بمطالب تعجيزية كتخلي أمريكا عن الديمقراطية وغض النظر عن مسائل الحريات العامة وحقوق الإنسان، ليعرضوا عليه نموذج الدولة التوتاليتارية – التيوقراطية – الدكتاتورية.
أن العقلية السائدة في مجتمعات المنطقة لدى بعض الشرائح الحاكمة والمحكومة، مشبعة بثقافة إلغاء الآخر الحضاري والثقافي والديني، خاصة إذا كان هذا الآخر غربيا وتحديدا إذا كان أمريكيا، ومن الصعب على أي رئيس أمريكي إقناع العرب والمسلمين بالتخلي عن هذه العقلية أو على الأقل إجراء بعض التغييرات عليها.
ربما يعتقد أوباما إن جوهر الخلاف بين بلاده والعالم العربي – الإسلامي هو انحياز أمريكا إلى إسرائيل وتدخلها العسكري والسياسي في بلدان المنطقة، ولكن القضية أعمق من هذه الخلافات الظاهرية
هناك إيديولوجيات شمولية،، دينية، سياسية، فكرية، تسود المنطقة، ويتبناها المتطرفون، والتي لها استراتيجياتها الكونية وأجندتها البعيدة المدى، تجعل قضية صراع الحضارات بين المشرق الإسلامي والغرب مسالة حتمية، أصحاب مثل هذه الإيديولوجيات وهم بذات الوقت أصحاب صناعة القرار في دول المنطقة، لن يقبلوا بالحسناء الأمريكية مهما وضعت كميات إضافية من مساحيق الماكياج السياسي، لأنهم وبكل بساطة مؤمنون بان الصراع مع الغرب صراع مصيري حيث الكرة الأرضية لا يمكنها أن تتسع لعالمين متناقضين، والحل الوحيد هو إزالة احدهما من الوجود ومن الأفضل إزالة أمريكا.
هل فكر الرئيس أوباما في الدوافع الحقيقية وراء انتشار الفكر المتطرف وثقافة العنف والتعصب وشيوع السلفية والأصولية لتتطور في النهاية إلى إيديولوجية إرهابية خطيرة تهدد البشرية، أم انه يعتقد أن الإرهاب مجرد ردة فعل طارئة ناتجة عن سلوكيات السياسة  الأمريكية في المنطقة؟
لقد وضع الرئيس بوش برنامج زمني للانسحاب من العراق، وتخلى عن دعم القوى الديمقراطية والليبرالية في لبنان، وكف عن الضغط على السلطات السورية، وترك المجتمع الدولي يعالج ملف إيران النووي بالطرق السلمية، وطرح فكرة بناء دولة فلسطينية، وتعهد للنظام العربي بجناحيه أي حكومات الممانعة و حكومات الاعتدال بالتخلي عن مشروع نشر الديمقراطية في دول الشرق الأوسط، ليسحب البساط من تحت أقدام النظام الإقليمي العربي – الإسلامي المنتج للإرهاب، ومع كل هذه التنازلات والإغراءات فان التطرف والإرهاب ازداد نموا بدلا من أن يتوقف أو يخف على الأقل، وهذا يشير على إن الصراع بين أمريكا وبين المشرق الإسلامي ليس صراع على القضايا الخلافية الظاهرة فحسب بل هو في جوهره يعود إلى إيمان بعض الأطراف القوية في مجتمعات المنطقة بضرورة شطب الغرب من الوجود حتى يتسنى لها السيادة على العالم بدلا من أمريكا.
ما يفكر به أوباما أو يتحدث عنه اليوم، قد سبقه إليه بوش وطبقه عمليا في أواخر حكمه دون أن ينجح في تجميل وجه أمريكا.
على كل حال انتهت مرحلة الخطابة والبلاغة لدى الرئيس أوباما، ليدخل الامتحان الحقيقي وسرعان ما يكتشف العالم حقيقة قدراته ومواهبه وذكائه في التعامل مع أتباع صراع الحضارات و المتطرفين في كلتا الجانبين.
وقد لوحظت علامات الخوف والقلق من أحلام الفتى الأسود على وجوه الجمهوريين، وهذا سر ارتياحهم من تسلم السيدة هيلاري كلينتون حقيبة الخارجية باعتبارها أكثر واقعية وخبرة وفهما لطبيعة الصراعات الكونية الدائرة في الشرق الأوسط، حيث استفادت من تجربة الرئيس الأسبق بل كلينتون الذي لم يتردد في استخدام الشدة ضد قوى التطرف في المنطقة، فهل تنجح السيدة كلينتون في إقناع رئيسها ليكون أكثر واقعية؟
© منبر الحرية، 03 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

يبدو الخطاب الإسلامي اليوم في مرحلة تاريخية من مراحل عمره الطويل، وهذه المراحلة تشكل نقطة تحول غير محسوسة، لكننا مع ذلك نرى أن اللحظة التاريخية تتشكل في أعماق الوعي الإنساني، وأن ملاحظة هذا التغير تكون عادة غير واضحة لأنها خفية وبطيئة، وتتحرك بثقل التراث الكبير الذي تشكل خلال قرون عديدة، وإن ما حدث في السنوات الأخيرة منذ احتلال العراق ومرورا بلبنان وانتهاء بغزة كلها نقاط مفاصل توقف الخطاب الإسلامي عندها حائرا مترددا لا يعرف أين يتوجه، فعندما كان رجال الدين يعتقدون أن بعض الدول تحكم باسم الإسلام وأن حكامها يستحقون لقب أمير المؤمنين، كانت هذه الدول نفسها تقف مع المحتل ضد دولة مسلمة، وقد استطاع الخطاب الإسلامي في ذلك الحين أن يجد ما يبرر وقوفه عاجزا، وذلك بالقول إن نظام البعث هو نظام كافر، ولا يجوز مناصرته، وعلى قاعدة( ضرب الظالم بالظالم)، وعندما أقدمت إسرائيل على ضرب لبنان والمدنيين فيه وقف الخطاب الإسلامي موقفا جديدا هذه المرة وكان عليه أن يتخذ موقفا أكثر وضوحا لا تأويل فيه، إلا أن بعض القوى الإسلامية استطاعت أن تتخلص من وخز ضميرها وذلك بمبررات طائفية، فحزب الله هو حزب شيعي يبطن خلاف ما يظهر، ولكن آخر المفاصل ما حدث في غزة فقد أثار الكثير من الأسئلة الحائرة في نفس الإنسان الذي يرى ويسمع، وظهرت هناك رؤية جديدة للعالم الإسلامي، تتناقض مع ما استقر في وعي المسلم حول العقيدة الإسلامية وتصنيفاتها للمسلم وغير المسلم، وتصدعت مقولات الأمة الواحدة، بل ربما تغير مفهوم الأمة، وهذه التصنيفات باتت هشة أمام الواقع المؤلم تحت وطأة ومأساة الصورة والخبر، ولما كان المسلمون يعتقدون أن القاعدة الشرعية تقول : ” المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله”، هذه القاعدة التي كانت توحد بين المسلمين على اختلاف منابتهم ومشاربهم، وهي قاعدة يواجهون بها أعداءهم، ويلجؤون إليها عندما تقع بهم المصائب وتحيق بهم الأخطار، وفي اللحظة التي كانوا أحوج ما يكونون إليها لم تصلح هذه القاعدة لآمالهم وطموحاتهم، ولكن الذي حدث هو على غير المتوقع، فإن تقسيمات العالم لم تعد متطابقة مع هذه التصورات، فالذين أبدوا تضامنا مع المسلمين في غزة لم يكونوا كلهم من المصنفين في دائرة الأمة الإسلامية، حسب التصنيف العقدي الموروث، بل الذي حصل هو العكس تماما، فإن كثيراً من القوى الفاعلة في العالم والتي كانت تسعى لوقف العدوان وإبداء التضامن بكافة أشكاله كانت من غير المصنفين إسلامياً، والدول غير الإسلامية كانت أكثر تعاطفا وأكثر تأثيرا من بعض الدول الإسلامية، والأكثر من ذلك أن المظاهرات التي كانت تخرج في دول العالم غير المسلم – حسب تصنيفات العقيدة – كانت أكثر وأكبر من المظاهرات التي تخرج حتى في الضفة الغربية،ومن هنا كيف لنا أن نصنف الناس بناء على هذه المواقف؟ وهل يمكن للخطاب الإسلامي أن يخضع لمراجعات جذرية حول تعريف المسلم والكافر؟ وهل سنخرج من هذه التصنيفات التي تختزل الإنسان إلى مقولات قانونية خالية من الروح؟.
إن الخطاب الإسلامي اليوم مطالب أن يوسع دائرة النظر إلى مفهوم الأمة الواحدة، وهي الأمة التي تضم المسلم وغير المسلم تحت تصنيف جديد يقوم على مبادئ الحق والباطل، ويستند إلى العدالة ويرفض الظلم، وهي مبادئ إنسانية لا بد من النظر إليها على أنها هي الإسلام الذي يسعى إلى تحرير الإنسان والدفاع عن حقه في الحرية والكرامة والحياة، وهذه المبادئ سوف توسع دائرة الإسلام ليرقى إلى دين عالمي يقف مع المظلومين في العالم كله دون النظر إلى التصنيفات العقدية التي تخرج الناس وتدخلهم في أطر ضيقة غير قادرة على استيعاب التطور، ويبدو أن تحولات هذا الخطاب بدأت ملحوظة من خلال ما نسمعه على شاشات الفضائيات من بعض العلماء المسلمين.
إن مفهوم الأمة الواحدة الذي تحدث عنه القرآن الكريم يختلف عن المفهوم المتوارث، فمن الناحية اللغوية في قوله تعالى” إن هذه أمتكم أمةً واحدة وأنا ربكم فاعبدون” تفيد دلالة تركيب الآية من خلال توكيد الخبر والحال بأن الأمة تكون أمتكم في حال كونها موحدة، فإذا كانت متفرقة فهي ليست أمتكم، ثم إنه ليس هناك محددات للوحدة، فربما تكون أمة واحدة على اختلاف أديانها، وهذا ما يظهر جلياً  في وثيقة المدينة، حين كتبها الرسول محمد عليه السلام فقال:” أهل المدينة أمة من دون الناس” وكان فيها المسلمون واليهود في ذلك الوقت، أي أن مفهوم الأمة الواحدة كان مبنيا على أسس جغرافية و إستراتيجية، ومصالح مشتركة، ولم تكن مبنية على الأساس الديني.
ومن هنا يبدو أننا أمام حالة جديدة من المفاهيم التي يمكن أن يتعامل معها الخطاب الإسلامي بطريقة أقدر على استيعاب المفاهيم الإنسانية التي جاء بها القرآن الكريم وحث عليها، دون النظر إلى الحيثيات التاريخية التي ضيقت المفهوم عبر صراع طويل من المصالح والأهواء السياسية المتسلطة والآفاق الضيقة.
© منبر الحرية، 29 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

تنحو الصراعات العالمية الرئيسة اليوم منحى غريباً، وكأنها يمكن أن تختزل على نحو “حرب باردة” جديدة، بين الإسلام والغرب، هذه المرة. وتشير الأنماط السلوكية للإعلام و لاستطلاعات الرأي العام إلى ثمة أيادِ خفية تعمق (على نحو واع أو غير واع) من هذا الإنشطار، وكأن العالم قد إستبدل الكتلة الشيوعية بالعالم الإسلامي كي تدور رحى الصراع القائم اليوم حول محور جديد. واحد من الأدلة على صحة هذه الملاحظة تقدمه اليوم مؤسسة “غلوب” العالمية الأكثر شهرة في حقول إستطلاع الرأي العام، حيث أنها قدمت خلاصات “سوداوية” شديدة التشاؤم حول “الشرخ” بين الإسلام والغرب، بوصفه شرخ متسع، متنوع، مدمر!
على الرغم من أنن الكثير كتب عن تعقيدات هذا الموضوع فإن علينا الإعتراف بأن المقصود في هذا السياق هو تتبع أصول وتبرعمات الصورة الأكثر شيوعاً في الثقافة الغربية للإسلام وللعالم الذي يعتنقه. أما أن تحال الصراعات العالمية السائدة إلى كينونتين مفترضتين غير متجانستين، فإن في ذلك خطأً مفهومياً يستوجب التأشير. الإسلام ليس دولة أو كتلة دولية منافسة قائمة، كما كانت عليه الكتلة الإشتراكية على سنوات الحرب الباردة. كما أن الغرب لم يعد كما كنا نراه في عصر الكولونياليات والوصايات الأوربية وما بعده. لذا ترتكب مؤسسة غالوب خطأً عندما تتحدث عن “العلاقة” بين الإسلام والغرب نظراً لسيولة المفهومين وتجريديتهما الزائدة: فهل أن المقصود بـ”الإسلام” هو الحكومات القائمة في دول العالم الإسلامي، وهي (كما ندرك جيداً) تحتفظ بعلاقات طيبة (عامة) مع مثيلاتها في العالم الغربي. ثم هل أن المعني بالإسلام الحركات الراديكالية الأصولية التي ترجمت أفكارها إلى برامج مضمخة بالدماء وبالعنف والإرهاب؟ هذا سؤال آخر يسري عبر الكثير من التشعبات والإنحناءات. إن الحديث عن “الإسلام” نظاماً دينياً عقائدياً، كما هي عليه الحال مع الأنظمة الدينية الأخرى كاليهودية والمسيحية وسواهما، فإن الموضوع يحتاج إلى شيء من التأمل المتأني، ذلك أننا لا يمكن أن نقرن أو نرصد علاقة بين كينونتين غير متجانستين: يمكن أن ندرس العلاقة بين الإسلام والهندوسية في شبه القارة الهندية، بإعتبارهما دينين شائعين هناك، ولكن من غير اليسير أن ندرس العلاقة بين مفهوم هلامي كـ”الغرب” وبين دين كبير: ليس هناك تجانس يسمح بمثل هذه الدراسة أو المقارنة.
ثمة تعقيد آخر في الشرق العربي الإسلامي: فالغرب في الجزائر عموماً يعني فرنسا، في مراكش هو يعني فرنسا وإسبانيا، في ليبيا هو يعني إيطاليا خاصة، في المشرق العربي الإسلامي كان الغرب يعني بريطانيا وفرنسا حتى دخول الولايات المتحدة الأميركية معترك صراعات الشرق الأوسط لتكسب صفة “الغرب” غير الواضحة. هل أن الغرب هو صفة جغرافية تشير إلى كل ما يمتد إلى اليسار على الخارطة؟ هذا مفهوم مضحك لأنه يلغي كروية الأرض وحركتها الدورانية حيث يكون مفهوم “شرق / غرب” مفهوماً نسبياً متغيراً. ثم كيف يمكن لنا أن نصنف الدول إلى “غربية” و “شرقية”، وأي الأسس يمكن أن تعتمد في هذا السياق: فهناك تعقيد شائك آخر هنا: هل أن الغرب أسلوب حياة وتقنيات عالية وعلاقات مجتمعية من نوع خاص، هل لنا أن نعد اليابان جزءاً من العالم الغربي؛ ثم ماذا عن أستراليا أو نيوزيلاندا وحتى إسرائيل، هل لنا أن نضع هذه الأسماء في “سلة” العالم الغربي، نظراً لمعطيات هذا المعيار، بالرغم من أنها (جغرافياً) تتموضع في الشرق التقليدي القديم؟
أما إذا كان المقصود بـ”الغرب” بعداً روحياً دينياً، بمعنى أن الغرب هو “العالم المسيحي” Christendom، فلماذا نخجل من الكلام عن هذا العالم بصفته الدينية هذه؟ وكيف يمكن لنا أن نصنف المسيحيين الموجودين بين ظهرانينا في العالم الإسلامي؟ وبطبيعة الحال، ثمة إضطراب على الجانب الآخر من هذه المعادلة الإفتراضية الخاطئة، ذلك أن العالم الغربي هو الآخر غير متجانس لأنه مجموعة كبيرة من الدول والحكومات والأمم أو الأقوام التي تدين غالبيتها (ولو إسمياً) بالمسيحية. هذه دول تأسست أو تبلورت على أسس قومية في القرن التاسع عشر كألمانيا وإيطاليا وفرنسا، ولكنها سرعان ما طلّقت الفكرة القومية ثلاثاً كي تحتضن فلسفة علمانية لا صلة لها بالقومية ولا بالأديان. لهذا تكون الحوارات عن الغرب والإسلام بلا أسس فكرية مقبولة، خاصة وإن حكومات الدول الغربية وشركاتها الكبرى لا تعاملنا على أساس ما نعتنق من دين بقدر ما تعاملنا على أساس المصالح وحسابات الربح والخسارة. إن الحكومات القائمة في الدول الغربية من أوربا إلى الولايات المتحدة وحتى اليابان وأستراليا هي حكومات علمانية تخص الأديان عامة بنظرة ملؤها التسوية والتحجيم كي تدفعها إلى الخلف، الأمر الذي يفسر التسامح الواضح حيال إنتشار الإسلام داخل العالم الغربي، خاصة في أوربا وحتى في الولايات المتحدة وكندا.
وتأسيساً على ما تقدم من جدل لا يمكن للمرء أن يجد مسوغاً منطقياً كافياً كي يخدم لتأسيس وتهويل علاقة متوترة بين كينونتين غير متجانستين، حيث يتطلب هذا منا أن ندير ظهورنا لهذا الجدل المفتعل كي نقف بدقة أشد على المفاهيم الصحيحة التي يمكن أن تقودنا نحو إدراك أفضل لما يجري في العالم اليوم. فإذا ما أردنا تسوية الصراع على نحو مفهومي ديني نقع في مطب الكلام عن “صليبية” جديدة؛ أما إذا ما حاولنا أن نبتسر المفاهيم إلى فلسفات دينية مقابل فلسفات علمانية مادية، فإننا نقترب إلى شيء من الصواب، ولكننا نبقى بعيداً عن ملامسة الحقيقة كاملة. ثمة سيولة مرهقة ومربكة في المفاهيم ينبغي أن تباشر بشيء من الثبات والقدرة الواضحة على رؤية الأشياء.
© منبر الحرية، 22 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

الدكتور علي شريعتي (1933-1977) الذي كتب ونشر مؤلفاته قبيل سقوط حكم الشاه في إيران من أشهر المفكرين الإيرانيين في القرن العشرين. وأنا رغم تقديري لقوةِ عقلِه إلا أنني أختلف معه في مسائلٍ كثيرة. أما أبرز نقاط إختلافي معه فتتعلق بإيمانه الراسخ بأن الحضارة الغربية تتميز بمعطياتٍ مادية فقط وليس بسببِ منظومة قيمٍ هي التي جعلتها ما هي عليه اليوم (رغم الكثيرِ من عيوبها ونواقصها). فأنا على نقيض الدكتور شريعتي أؤمن أن الروح الثقافية التي بدأت منذ عصر النهضة ومجموعة القيمة السياسية والمجتمعية والثقافية والتي ذاعت وشاعت في الغرب هي التي قلصت سلطان الحكام المطلق وهي التي أوجدت الديموقراطية وهي التي وفرت المُناخ الذي تحقق فيه التقدم العلمي والمادي والإقتصادي. أما الدكتور شريعتي فكان يعتقدُ أن القيم والأخلاق فمكانها الشرق المتخلف، وأما التميز المادي فقط فهو الذي يسود في الغرب. وبناءً على هذا الإختلاف فلا أعتقد أن الدكتور علي شريعتي (رغم قوة عقله) كان يفهم معنى عبارات مثل: “الإنسانية” و”عالمية المعرفة” و”حضارة واحدة وثقافات عدّة”. فمن المؤكد أنه لم يكن يؤمن بذلك وأكاد أجزم أنه لم يحاول التفكير في ذلك. ولكن في المقابل فهناك أولاً شجاعته الفكرية الرائعة وكراهيته الشديدة لمن يسمون أنفسهم برجال الدين في أي مجتمع أو ثقافة أو دين ورؤيته أنهم يكوِّنون مع سلطان السياسة والمال ضفيرة واحدة لما كان يسميه “إستحمار الناس”
أمس كنت أُلقي نظرة ثانية على أعماله التي ترجمت للعربية والإنجليزية وأعدت قراءة كتيبه الصغير “النباهة-الإستحمار” الذي صدرت ترجمته العربية سنة 1991. في هذا الكتيب الصغير يقول علي شريعتي: (وقع مصير الدين في أيدي قوات إستحمارية مضادة للإنسانية تتسمى بأسماءٍ كالطبقة الروحانية والطبقة المعنوية والطبقة الصوفية وطبقة الكهنوت الذين إتخذوا من الدين وسيلة لإستحمار الناس-الإستحمار الفردي والإستحمار الإجتماعي. وكلامي هنا يدور حول الدين الإستحماري المضلل … الدين الحاكم وشريك المال والقوة الذي يتولاه طبقة من الرسميين الذين لديهم بطاقات للدين أي لديهم إجازات للإكتساب تُنبئ عن إحتفاظهم بالدين وأنهم هم الدعاة وشركاء السلطة والمال والقوة. ماذا يفعل هذا الدين بالإنسان فيستحمره؟ ليس بإستطاعة الدين أن يسلب مني نباهتي الفردية أو مسئوليتي المجتمعية إن عمله ينصب في نقل الإنسان بالنسبة إلى الظروف والزمان أي يقول لك: (:دع الدنيا فإن عاقبتها الموت” … “إدخر كل هذه المشاعر والأمنيات إلى الآخرة؟!” ليس الفاصل الزمني بكثير: ثلاثون أو أربعون أو خمسون سنة: ما قيمتها؟؟.. بعدها كل شيء سيكون تحت أمرك. إنها سنوات العمر القصير لا قيمة لها دع الدنيا لأهلها … وهو يقصد بأهلها نفسه وشركاءه “السلطة والمال والقوة”). هنا يقترب علي شريعتي أشد الإقتراب من كارل ماركس في كل ما كتبه عن الدين، وإن إختلفت الدوافع وتباينت الأهداف … فأحدهما كان يسعى لتدمير الدين … والآخر لتغيير جوهر فهم الناس له تغييراً جذرياً … ولكنهما معاً يتفقان بتصريحٍ أو تلميحٍ أن الدين “أفيون الشعوب” أو في الحقيقة أن إستعمال رجال الدين للدين هو الذي يجب أن يوصف بأنه أفيون الشعوب
إن كتابات المفكرين الإيرانيين المعاصرين ومعظمهم من الإسلاميين هي في إعتقادي (ورغم إختلافي مع الكثير منها) أرقى بمراحلٍ من الفكر الإسلامي في العالم السني الذي هو الآن (في شقٍٍ واحدٍ منه) ضفيرة من أفكار إبن تيميه ومحمد بن عبد الوهاب وأبي الأعلى المودودي وسيد قطب وأدبيات الجماعة الإسلامية في مصر قبل التطوير الأخير في أفكارها
إنني آمل أن يتوقف العالم السني عن ظلمه البيّن للعالم الشيعي … وأن ندرك أننا لا نعلم إلا أقل القليل عن مساهمات الشيعة الفكرية منذ جعفر الصادق عليه السلام وحتى لحظتنا هذه. لا نعرف عن مذاهبهم الفقهية (وبعضها بالغ الرقي) ولا نعرف عن أدبياتهم المعاصرة ويتسم الإنسان المتعلم لدينا (ل وكبار المثقفين) بدرجة غريبة من لجهل بأفكار الشيعة-وكان نصيب الشيعة منا هم “الظلم البين” من لحظة إغتيال أسمى الصحابة (على بن أبي طالب) وإبنه (الحسين بن علي) وحتى جرائم صدام حسين في حقهم … رغم إيماني أن إيران إذا تركت ولم تهاجم من الخارج، فسوف تقوم بتنقية حياتها السياسية والمجتمعية والفكرية وربما تصبح (بعد ماليزيا وتركيا) ثالث الديموقراطيات في المجتمعات الإسلامية-وإن كان نصيبها (عندئذ) من الديموقراطية سيكون أكبر بكثير من نصيب ماليزيا وتركيا لأسباب ليس هذا موضوع تبيانها…
© منبر الحرية، 20 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

ثمة مفارقة تستحق عناء التأمل المتأني تنطلق من عنوان “عصر الحوارات” الذي فضل عدد من المفكرين إطلاقه على عصرنا الجاري، استذكارا لعناوين أخرى من نوع حوار الشمال/الجنوب، الشرق/الغرب، الدول الصناعية/الدول النامية أو “النايمة”. وإذا كانت جميع هذه الحوارات تصب في هدف واحد، وهو بلوغ عالم مزدهر تسوده قيم السلام والمحبة واحترام الإنسان لأخيه الإنسان بغض النظر عن العقيدة واللون، الأصل والفصل، إلخ. أما المفارقة، فإنها تتجلى في أن هذا يمكن أن يسمى “عصر الحوارات الدامية” كذلك، إذ آثر الإنسان، كما يبدو، أن ينزف، سوية مع أخيه الإنسان، دماً على طريق حوار تشوبه النيات المبيتة والضغائن القديمة والأهداف المتعاكسة.
ضمن هذا السياق المؤسف الذي نلاحظه حال متابعة أية نشرة للأخبار، يأتي الحديث عن حوار الأديان، وهو حديث طيب بقدر تعلق الأمر بأهدافه السامية التي تتبلور في رؤيا إنسان “معولم” قادر على أن يحيا مع سواه من البشر دون ملاحظة الفروقات الدينية أو المذهبية، كدافع للعداء أو للإرهاب والجريمة. ومع هذه الرؤيا السامية ينبغي أن نباشر عدداً من الأسئلة المهمة، ومنها: (1) ما معنى حوار الأديان، وماهي الأديان التي ينبغي أن تدخل الحوار الآن؟؛ (2) من يحاور من؟؛ (3) ما الهدف النهائي لمثل هذا الحوار؟
إن أول ما يقفز إلى رأس المتأمل في مثل هذه الأسئلة هو أن مثل هذا الحوار ينبغي أن يقوده رجال الدين الذين يمثلون كل معتقد أو نظام روحي. وللمرء أن يتوقع أن مائدة حوار، إذا ما فرشت اليوم، ستكون مثالاً للمحبة والتعايش والأواصر المشتركة، خاصة إذا ما عقدها كبار رجال الدين من أديان متنوعة. وقد حدث مثل هذا النشاط عبر التاريخ، كما هي عليه الحال في “برلمان الأديان” الذي عقد في مدينة شيكاغو في القرن التاسع عشر، على هامش معرض شيكاغو التجاري، إذ تمكن المضيفون الأميركان من استقدام عدد من رجال الأديان الكبرى من آسيا وأفريقيا وأوربا للجلوس سوية وللقيام بمناظرات دينية أمام الجمهور الأميركي حين كانت الولايات المتحدة لم تزل جمهورية فتية ترنو لأن ترى “العالم القديم” بمنظور “العالم الجديد” المتعالِ. كما أن حواراً آخر شبيها قد حدث في نفس القرن بين الطوائف الإسلامية، برعاية وتنظيم الوالي العثماني في بغداد، وقد سمي الاجتماع بـ”مؤتمر النجف” الشهير الذي أرخ له العلامة الراحل الأستاذ علي الوردي في أحد مجلدات (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث). ولكن يبقى السؤال قائماً: هل تمكنت هذه الأنشطة من تجاوز تفاهمات رجال الدين (على جلال قدرهم) كي تشيع مفاهيم المحبة والتعاون بين سواد الناس من أتباع الأديان المختلفة؟
إن أية قراءة متأنية للعقائد الأساس لجميع الأديان الكبرى في العالم ستقودنا إلى حقيقة لا غبار عليها، وهي أن جميع الأديان تدعو إلى التسامح والمحبة والتعايش في جوهرها. إلاّ أن الاختلاف يأتي من الجهلة الذين يركبهم شبح التعصب والعصبية درجة الانجراف في تيار الكراهية و الضغينة. لذا يكون حوار رجال الدين فيما بينهم حواراً محدود الجدوى بقدر تعلق الأمر بتعميم دلالاته ومعانيه على أتباع المعتقدات المختلفة. إن المشكلة لا تكمن في رجال الدين الراسخين في العلم، ولكنها تكمن في الجهل وفي شعور كل فرد بأنه هو لوحده ينتمي إلى الفئة غير الضالة أو الفئة الناجية، بعونه تعالى.
إن أهم مسببات التنافس الديني الذي غالباً ما يؤججه أفراد غير متدينين (وهذه المفارقة تستحق المعاينة كذلك) هو أن اغلب الأديان الكبرى في العالم هي أديان تبشيرية، أي أنها أديان مفتوحة لكسب المزيد من الأتباع والمؤمنين. وهكذا يكون التنافس عنيفاً، ليس بين الأديان، وإنما بين الأتباع الأقل إستنارة، من أجل الإنسان.
وللمرء أن يدعي بأن أجواء التقدم والرفاهية تحت هيمنة مركز سلطة قوي كافية لجعل الناس يؤمنون بأنهم إنما ينتمون لأديان مختلفة وأن مفاهيم التعايش والتضامن الاجتماعي ممكنة الاحتضان ضمن حركة المجتمع الشاملة. هذا ما حدث في التاريخ دون حوارات بين رجال الدين، ودون الحاجة إلى بيانات وتفاهمات وبلاغات مشتركة يمضي عليها ممثلو الأديان المتنوعة. وعلينا الاعتراف في هذا السياق أن عصراً ذهبياً للتنوع والتعايش الديني كان قد تحقق في بغداد العباسية عبر العصر الوسيط، إذ أجتمع في هذه المدينة الكوزموبوليتان أتباع مختلف الأديان تحت مظلة الإسلام المتسامح، باحثين عن لقمة العيش وعن فرص التفوق والإبداع، بالرغم من أن غير المسلمين كان يتوجب عليهم ارتداء ملابس خاصة تفرقهم عن عامة المسلمين. وقد كان “بيت الحكمة” العباسي أنموذجاً لهذا التعايش، إذ أنه كان يضج باليهود والمسيحيين وحتى الزرادشتيين والمجوس والهندوس من مترجمين وأطباء وعلماء وفلكيين تحت خيمة الخليفة العباسي المأمون الذي كان يهدف من وراء توظيفهم الإفادة من علوم الأعاجم وغيبيات الجميع على طريق بناء واحدة من أرقى حضارات التاريخ، الحضارة العربية الإسلامية، وهي الحضارة التي حفظت لأوربا تراثها الكلاسيكي الإغريقي عبر التعريب، إذ عادت أمهات الكتب الإغريقية والرومانية إلى أوربا عبر الأندلس وجزيرة صقلية بواسطة المسلمين العرب لتطلق عصري الأنوار والنهضة في أوربا.
أما الآن، فإننا نلاحظ ثمة يقظة للتعصب الديني والفرقي والفئوي، وهي من نتائج التنافسات السياسية التي تقود دوماً إلى سيادة قانون “فرق تسد” Divide and Rule الذي غالباً ما يستعمله المتنفذون والمهيمنون، إما على المستوى الكوني أو المحلي، من أجل فرض سيادتهم وإدامة سيطرتهم على المجتمعات من خلال توظيف التعامي المتعصب للتنافس بين الإنسان والإنسان، المعتقد والمعتقد. إنه عصر يقظة الولاءات الصغيرة والمجهرية التي تبقي القوي قوياً والضعيف ضعيفاً إلى ما لا نهاية.
© منبر الحرية، 06 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

تجتمع عناصرُ وأبعادُ عددٍ من عيوب التفكير التي انتشرت في واقعنا فيما يشبه المعادلة الكيميائية لتخرج لنا عيباً (أو عيوباً) إضافية جديدة. فمن اختلاط “تقلص السماحة” و”تآكل هامش الموضوعية” ينبثق عيبٌ آخر جديد هو عجز الكثيرين منا عن رؤية (من ليس معنـا) إلاَّ بصفته (ضـدنا) أو (علينا). وقد ضاعف من عمق جذور هذا العيب، أن تاريخنا المملوكي الذي ترك أعمق الآثار في تكوين شخصيتنا قد عرف هذا الأسلوب في التفكير والحكم على الآخرين على أوسع نطاق. فطيلة القرون التي قبض فيها المماليكُ على زمـامِ الأمـور فـي حياتنا، كان المجتمـعُ يرى بوضوحٍ وكل يوم تطبيقاً عملياً على (أن من ليس معنا فهو ضدنا أو علينا) مع تـوابـعِ هـذه المقـولـة وآثارها المترجمة في مواقفٍ كثيراً ما اتسمت بالعنفِ والقسوةِ والدمِ. وكما يقول أُستاذ جامعي مرموق، فإن علم الاجتمـاع التاريخـي يؤكد أن آثار العهد المملوكـي علـى التفكيـر المصـري لا تـزال قـويـةً وحيـةً رغم انتهاء دولة المماليك في مصر بمذبحة القلعة منذ أكثر من مائة وثمانين سنة، (وبالتحديد في سنة 1811).
وجـوهـر هـذه المسـألـة، أننا ننشـأ في منـاخٍ ثقافـيٍّ عـام يتسمُ -إلى حد بعيد- بالشـخـصـانيـة أو الذاتية في مواجهـة الموضوعيـة، كما يتسم بضيقِ الصـدرِ بالنقدِ وعدم الاحترام العميق لكون الآخرين مختلفين وهو ما يحتم أن يرى الكثيرون منا “الآخرين” من منظورِ السؤال النمطي: أهو معي؟.. أم ضدي؟ ويزيد من تأصيلِ حقيقةِ هذا البعد من أبعادِ تفكير الكثيرين منا أن أعداداً كبيرة منا “قرويون” جاءوا حديثاً إلى المدن وهم يحملون في تكوينهم قانون تأسيسِ الانتماءِ على أرضيةِ الاشتراكِ في الخلفيةِ المكانيةِ والعائليةِ. وهذه الضفيرة من الأبعاد (ذاتيون لا موضوعيون…. تقلص السماحة تجاه الآخر المختلف…. الضيق بالنقد) هي ما تجعل العملَ الجماعي أبعد ما يكون عن التوفر. فروحُ الفريق تنسفُ نسفاً عندما تضربها هذه الأبعادُ في ذاتِ الوقت. وهذا الجانب هو أحد أهم أسباب تأخرنا عن عددٍ من الشعوبِ الآسيوية في اللحاقِ بركبِ التقدم الاقتصادي الحديث، فبينما كانت الحضارةُ الآسيوية (لا سيما في اليابان والمجتمعات التي انتشرت فيها الأقلياتُ الصينية )عاملاً من أقوى عوامل دفع العمل الاقتصادي والصناعي إلى درجاتٍ مرتفعةٍ للغاية، لوجود هذا الاستعداد القوى للعملِ الجماعي، كنا نحن بعيدين إلى حدٍ بعيدٍ جداً عن توفر روح الفريق في العملِ التي يصعب بدونها تصور أي إنجازٍ كبيرٍ في العملِ والإنتاج.
وخلال سنوات عديدة أمضيتها في مؤسسة اقتصادية عالمية كبرى كنت أرى -كل يوم تقريباً- كيف ينفرط عقدُ أي مجموعةٍ عمل منا بفعلِ غيابِ روحِ الفريقِ والعملِ الجماعي وغلبةِ تأسيسِ العلاقات على أرض (معنا أم ضدنا؟). وفى نفسِ الوقتِ كانت مجموعات العملِ التي ينتمي أفرادُها لخلفياتٍ أوروبيةٍ أو آسيويةٍ تنخرطُ في العملِ الجماعي دون أية تشققاتٍ في وحدة الفريق بسببِ العوامل الثقافية التي تلغى أسباب الفرقة وتغلب أَسباب الوحدة. ومن الضروري أن أُبرز أنه في ظل ظروف عامة معينة، وعندما تكون قيادة وحدات العمل في يدِ من هو مشربُ للغاية بنفسِ الروح (“معنا” أم “علينا”؟) فإن قيمَ تفسخِ روحِ الفريق تتعاظم وتضرب المناخ العام بسهامها من كل جانبٍ، تاركة إيانا أمام ما يشبه حالة استحالة لأن نعمل كفريقٍ واحدٍ متجانس ومتوائم.
© منبر الحرية، 01 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

ربما كان “الابتكار” أحد أهم أسباب ومقومات تفوق الحضارات، إذ أن الأفكار المبتكرة، مترجمة إلى برامج وأدوات وأجهزة وطرائق حياة، كانت دائماً متلازمة مع الحضارات النامية الواعدة. وعلى نحو معاكس، تسود الحضارة الراكدة أو المتراجعة حالة غياب الابتكار، الأمر الذي يبرر محاولة أبناؤها الالتزام بالموروث حد العبادة المتعامية! لذا نجد حضارات تتقدم، وأخرى تركد وثالثة تتراجع. وهكذا يكون المعيار متاحاً بأيدي المؤرخين الحقيقيين: ما درجة الابتكار وأعداد المبتكرات التي تقدمها حضارة معينة، وما درجة وطبيعة إستقبال العقول الابتكارية العبقرية القادرة على توليد المبتكرات. إن الحضارة المتطورة تستقبل الابتكار بحفاوة وتكريم، بينما ترتجع الحضارات الآسنة إلى المحافظة، فهي تقاوم الجديد المبتكر وتضطهد العقول المبتكرة وربما تنفيها إلى عوالم الجمود والتحجر. لقد اعتُمد هذا المعيار في تقييم وتقويم الحضارات القديمة والحديثة، إذ ينظر إلى الحضارة السومرية (في بلاد الرافدين) بوصفها حضارة متقدمة بسبب ما ابتكره الإنسان الرافديني آنذاك من أفكار جديدة لم تكن متاحة لحضارات معاصرة لها ولكنها كانت حضارات جمود وتخلف. لقد فكر العقل السومري القديم بزيادة كميات الغلال من خلال اكتشاف الزراعة وتحويل نفسه من مخلوق جامع للقوت إلى مخلوق منتج له، الأمر الذي أطلق سلسلة أخرى من المبتكرات ابتداءً من الأدوات الحادة للحرث والحصاد وانتهاءً بتحريك الأواني الكبيرة بواسطة العجلات.
ربما كان هذا وراء سك وإضافة فعل جديد إلى اللغة الإنكليزية، فعل مشتق من كلمة “فكرة” Idea. الفعل بحد ذاته ابتكار لأنه إضافة جديدة للقاموس الإنكليزي، ولأنه كذلك يعني صناعة أو إنتاج الأفكار “ideate”. الطريف هنا هو أحد الإعلانات التجارية التي تقدم عدداً من الشبان والشابات الأميركيون وهم مضطجعون أرضاً وقد سدوا عيونهم في هدوء تام، لأنهم في حالة إنتاج أفكار جديدة “ideating”. وهذه حالة قد تكون مثيرة للتندر لدينا: فكم واحد منا يترك لنفسه فسحة من الزمن للتفكير بالجديد؟ لنلاحظ جداول أنشطة حياتنا اليومية: كذا ساعة عمل، كذا ساعة نوم وراحة، كذا ساعة استجمام وجلوس أمام التلفاز، وكذا ساعة تمارين رياضية، إن وجدت. ولكن من منا يفكر بتخصيص وقت معين لإنتاج الأفكار أو للتأمل، على الرغم من أن التأمل بحد ذاته ولذاته هو نشاط عقلي مهم نحتاج إليه لنرفع الغشاوة أو الغيمية التي تغلف أذهاننا والتي تفرضها متطلبات الحياة والهموم اليومية على أبصارنا وبصائرنا. نصف ساعة تأمل قد تكفي لتريك أين أنت؟ وهل أن ما تفعله صحيح، وهل ينبغي أن تستمر كما أنت أم أنك يجب أن تضفي شيئاً جديداً على حياتك، وما الذي يمكن أن تخرج به من مبتكر لحياتك العملية أو لمجتمعك أو للآخرين من الذين يحيطون بك أو يعتمدون عليك؟ هذه أسئلة غالباً ما نتعامى عنها، بالرغم من أن حضارتنا العربية الإسلامية كانت مملوءة بالأذهان التأملية العملاقة القادرة على بلوغ خلاصات مبتكرة من خلال التأمل، الأمر الذي يبرر ظهور ظواهر من نوع “الصومعة” حيث يختلي العقل المفكر بنفسه، أو “المعتكف” حيث يكرس الطالب نفسه، لوحده، للتأمل وللتعامل مع المكتوب والمطبوع من مبتكرات عقول الآخرين، القدماء والمحدثين. وقد بزّ الإمام الغزالي مجايليه في ميله إلى الإنفراد بنفسه وتوليد الأفكار العملاقة. ولم نزل نقرأ الإمام الغزالي ونرتجع إليه كنبع غزير للأفكار.
إننا إذا ما حاولنا أن نعدد الأدوات والآلات البسيطة التي ابتكرتها عقول من الأمم الأخرى وقد جاءتنا مستوردة، سنلاحظ أن هناك العديد منها كان يمكن أن نبتكره في مجتمعاتنا العطشى للمبتكر: فلماذا نستورد المبتكرات البسيطة، من فرشة الأسنان الهزازة إلكترونياً إلى الأفران الإلكترونية ولا نتوقع أن يبتكرها عقل محلي، على الرغم من بساطتها؟ هذه علامات الركود والإستكانة التي ينبغي أن ترصد بحذر والتي نعاني منها حيث لا تمنحها مناهجنا الدراسية لتلاميذنا، من مراحل روض الأطفال والتمهيدي إلى مراحل الدراسات العليا. ليس هناك ما يكفي من تدريب على التفكير الحر المولد للمبتكرات. إن مناهجنا الدراسية، في أغلب الحالات، مؤسسة على آليات الحفظ وإعادة إنتاج المعلومات في الامتحانات. لذا فإن أذكى العقول لدينا هي تلك التي تتمتع بذاكرة قوية، استرجاع للمعلومات المطلع عليها. هذه الآلية لا تنمي خلايا الدماغ القادرة على ابتكار الجديد من الأفكار، فالطالب يذهب إلى قاعة الامتحان لاجترار ما حفظه خلال اليوم السابق، وربما الليلة السابقة؛ أما إذا لم يتمكن من استرداد هذه المعلومات المطلوبة كإجابات على الأسئلة، فله الله! فدراستنا هي مذاكرة وحفظ واستذكار، ولا مجال للاجتهاد ولترويض العقل برياضات إنتاج الجديد والأصيل من الأفكار. أما إذا ما تجرأ أحد من تلاميذنا وحاول أن يقدم شيئاً جديداً فإننا نقابله بالتهكم وبالتصفير وربما بالتندر حد إعلانه التوبة من الفكرة الجديدة أو من محاولة التفكير بطريقة إبداعية.
وما دمنا نناقش قدرات الحضارات المتنوعة على الابتكار وتقديم الجديد والشجاع من الأفكار، فإن للمرء أن يلاحظ أن الإعلام يمثل أحد أهم البيئات أو الأواني المشجعة على الأفكار الجديدة، ابتداءً من سك وتركيب الكلمات الجديدة وتثوير اللغة إلى تقديم أفكار مفيدة ومهمة للمجتمع. هذا، بكل دقة، ما تحقق قبل بضعة أسابيع في نيويورك حيث تم ابتكار إسم جديد يضاف إلى قاموس اللغة الإنكليزية، وهو: Newseum، وهي لفظة مركبة من news بمعنى الأخبار، والنصف الثاني من كلمة museum بمعنى المتحف. وهكذا جاء العقل الإعلامي هناك بفكرة متحف الإعلام أو المتحف الإعلامي. هذا متحف طريف ومهم، ليس لطلبة أقسام الإعلام فقط، باعتباره يؤرخ للأدوات التي استخدمت في العمل الصحفي من بداياتها حتى اللحظة، ولكنه مهم كذلك بالنسبة للجميع لأنه يؤرخ للأحداث التاريخية التي رصدها الإعلام والتي حظيت باهتمامه: من صور وأخبار وتعليقات ومقالات وأجهزة واتصالات. هذا نوع مهم من الأرشفة الثقافية التي يتوجب أن تتوافر في بلداننا العربية. ولكن، مع هذا، يبقى المبتكر (إذا ما حاولنا محاكاته) مستورد. والسؤال الأهم هو: لماذا لم نبتكر مثل هذه الفكرة “هنا”، ولماذا ننظر إليها كفكرة أصيلة جديدة تستحق المحاكاة “هناك”؟
© منبر الحرية، 29 أبريل 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

ما احتاج العقلُ الأصوليّ إلى كثير من إعمال الفكر ليهتمّ بالآخر “المغاير” له دينيا وثقافيا، وإنّما بادر بإعلان “جاهلية العالم” منذ اللحظة الأولى لتشكله متذرعا في ذلك بسيادة وهيمنة ما أسماه “عقلية الغاب” على مقدراتِ العالم. ومن المفارقات الغرائبيّةِ في هذا الإطار أنّ العقل الأصوليّ، وفيما يسوق براهينه لتبرير نظريتهِ هذه، قد تذرّع بالقول: إنّ الجاهليّة الجهلاء التي باتت تسود عالم اليوم ستؤدي حتما إلى نشأةِ حروب وحشيّة وطاحنة، على النحو الذي عانت منه البشرية إبان الحربين العالميتين: الأولى والثانية!
في مقابل ذلك، زاوجتِ الأصوليّة في طرحها بين مصطلحين مهمين في إطار القول بجاهليّة العالم وهما: الجهاد والسلام، مؤكدة أنّ تعطيلَ دور الإسلام قد أدّى إلى تحريك النعراتِ القوميّة والمذهبيّة وصولا إلى الطائفية. ممّا يعني أنّه في حال “عدم تعطيل دور الإسلام” لن يكون لمثل هذه التنويعاتِ والتعددّات السياسيّة والثقافيّة أيّ وجود يُذكر نظرا لسيادة المنظور الأحاديّ والمنطق الاقصائيّ الاختزاليّ الذي يُفهم الإسلام من خلاله لدى العقل الأصوليّ.
وبحسب الأصوليّة الإسلامويّة أيضا، فإنّ الإسلام لا يجوز له أن يخضع بدوره إلى الواقع العالميّ “الجاهلي”، وإنّما يتوجبُ عليه أن يواجهه لا ليتحاور معه وإنما ليُخضعه لتصوراته ومفاهيمه ومنهجه فيُبقي منه ما هو فطريٌ وضروريّ ويتركُ ما هو “طفيلي” ومؤدٍ إلى فساد العالم. وبهذا تتحدد ملامح النظرة إلى النظام العالميّ لدى الأصوليّة في إعمال مبدأ المواجهة لا الحوار، والإقصاء لا القبول بالتعددية، في احتواء الآخر لا تركه يختار طريقة حياته وإلا سيتابع خطى الجاهلية التي تهيمن على العالم!
وتلك معركة مصيرية بحسب الأصولية التي تؤكد أنّه هكذا كان الإسلام يوم أن واجه جاهلية البشرية منذ قرون، وهكذا هو اليوم يواجه الجاهلية في كل زمان ومكان. فالمجتمع الجاهلي، سواء في القرن السابع الميلادي/الأول الهجري أو في القرن العشرين/الرابع عشر الهجري، يتمتع بنفس صفات الجاهلية، وعلى رأسها ظهور الخلل في العقيدة وتعدد صور الشرك العقدي.
وفي المحصلة، تعتبر الأصولية الإسلاموية (سواء في شكلها الحركي أو في شكلها المؤسساتي) عدم الخضوع للقوى الحاكمة واجبا مقدسا لا يمكن المساس به. ليس غريبا إذاً، والحالة هذه، أن يُصدر رموز هذه الحركات بيانات تكفيرية للغرب فيما هم يتمتعون بحق اللجوء السياسي فيه!
وإلى جانب ذلك، تعاملت معظم الحركات الأصولية الإسلاموية مع الأنظمة السياسية القائمة، منذ أوائل العشرينات وحتى اليوم، على أنّها أنظمة جاهلية حتى وإن ادعت عكس ذلك.
وفي السياق ذاته تؤكد الأصولية رفضها القاطع لكافة أشكال التعددية السياسية والدينية (والاقتصادية أيضا حيث لا مجال للحديث عن أية أنظمة اقتصادية أخرى بخلاف ما يسمى بالنظام الاقتصادي الإسلامي)، وذلك بحجة الخوف على المجتمع المسلم من الوقوع في “الفتنة” (فتنة التحزب بالنسبة للسياسة، والتمذهب بالنسبة للدين، وفتنة الوقوع في فح المعاملات الربوية بالنسبة للاقتصاد…إلخ).
ليس غريبا إذا أن تؤكد الأصولية أن انتشار النزعة القومية تعد من أهم النكسات الحديثة التي لحقت بالأمة الإسلامية. وتبعا لذلك، فإن ظاهرة الشخصية الإقليمية أو القومية هي برأي الأصولية “صنعة الاستعمار الكافر، وتقوم على أساس تعميق الفواصل اللغوية والمذهبية والعرقية بما يخدم مصالح الاستعمار المتجددة، ولهذا فإن القومية هي عنصر إضعاف وإثارة تناقضات”.
القومية بهذا المعنى مرفوضة جملة وتفصيلا لدى الأصولية بذريعة أن مهمة الإسلام لا تكمن في الذوبان التام ضمن تضاعيف المفاهيم الإنسانية المفتعلة برأيها داخل أو خارج العالم الإسلامي (تعددية، عِلمانية، ديمقراطية، ليبرالية…إلخ) وذلك بحكم “الأمانة” أو “المسئولية” التي ألقاها الله على عاتق هذه الأمة والتي تستوجب، ضمن ما تستوجب من أمور أخرى بطبيعة الحال، أن لا تُذَل لأحد وألا تُستعبد لأحد لأنّ الله قد قضى أنْ لا “يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا”.
وهذا المعنى تحديدا يتردد كثيرا في أدبياتهم، بمعنى أنه لا يجوز للمؤمن الذي رضي بالاحتكام لشريعة الله مطلقا أن يحتكم لأية شريعة إنسانية أخرى كمرجعية حاكمة لتوجهاته العلمية والعملية “فالمؤمن لا يستحق لقب الإيمان حتى يجعل منهج الله منهجه وشريعة الله شريعته فلا يتخذ من عند بني الإنسان منهجا ولا شريعة ولا نظما لأنّه ما إن اتخذ أيا منها كفر على الفور بألوهية الله”!
بمعنىً آخر، فإنّ كل من يرفض إفراد الله بالإلوهية إنما يكفر معه كل من يُقره على ادعاء حق الألوهية لنفسه، فالطاغوت هو كل سلطان لا يستند إلى سلطان الله وكل وضع لا يجعل شريعة الله أساسا للحياة.
ومن ثم، لا يجوز الاحتكام مطلقا إلى التشريعات العالمية بزعم أن الإنسان لا يملك لا القدرة ولا حتى الاستعداد الذي يؤهله لوضع منهج عادل ومتكامل فيما هو يجهل مآلات رغباتِه وأعمالِه مدللين على ذلك بقوله تعالى: “ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون”.
وانطلاقا مما سبق، ترى الأصولية في الجهاد حلا مناسبا لمواجهة هذا الواقع وتقويمه ليناسب منهج الله ويزيل الجهالة عن المجتمع العالمي المعاصر. ووفقا لهم، فإنّ كل مجتمع تتجمع فيه الناس لروابط لا تتعلق فيه الإرادة الإلهية، كرابطة المال والعاطفة واللغة والإنتاج والأرض والانتماء المذهبي أو العرقي أو حتى السياسي، فهو مجتمع “جاهلي”.
من أجل هذا يتوجب على المسلمين اليوم، وكل يوم، ملاحقة الأصل الذي شرّعه الله “وفتح المواجهة مع الجاهلية التي لا تتحدد بزمان أو مكان. المواجهة التي تهدف إلى هدم الجاهلية واقتلاع جذورها من أجل الشروع في بناء بنيان راسخ وعادل”. ( سيد قطب: المستقبل لهذا الدين)
فالإسلام، بنظر الأصولية، مكلف
أولا بالدفاع عن الأمة والذود عنها ماديا ومعنويا
ثانيا بضمان حرية الدعوة للإسلام وإزالة كل قوة طاغية تمنع وصول هذه الدعوة للعالمين
ثالثا بإقرار سلطان الله في الأرض ومقاتلة المعتدين على هذا السلطان الذين يدّعون “حق التشريع من دون الله”.
يتحصل مما سبق أن الفكر الأصولي ينزع في مجمله لنفي كل تعددية قائمة أو حتى محتملة مستقبلا وهو ما يعبر عنه سيد قطب في عبارة مكثفة يقول فيها: “إنَّ المؤمن هو الأعلى..الأعلى سندا ومصدرا، فمَا تكونُ الأرضُ كلها؟ وما يكونُ الناس؟ وما تكونُ القيمُ السائدةُ في الأرض؟ والاعتباراتُ السائدةُ عند الناس؟ وهْوَ من اللهِ يتلقى، وإلى اللهِ يرجع، وعلى مَنْهَجِهِ يسيْر؟”.
* د. محمد حلمي عبد الوهاب باحث وكاتب مصري
© منبر الحرية، 17 أبريل 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

منذ اللحظات الأولى لتأسيسه، نَظَرَ تنظيم “القاعدة” إلى الصومال نظرة خاصة، ومنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي احتلّت هذه الدولة، التي تحوّلت شيئاً فشيئاً إلى أشلاء دولة، احتلّت موقعاً مميزاًً في إستراتيجيته العالمية. وتكشف وثائق التنظيم ومراسلاته السرية، كما عملياته، عن هذه المكانة بوضوح. ففي العام 1993، توجّه بعض قادة “القاعدة” إلى هذا البلد في رحلة وصفتها أدبيات التنظيم بـ “رحلة الثواب” أو “عملية المسك”. وكان الهدف منها إنشاء معسكرات بديلة أو موازية لمعسكرات “القاعدة” بأفغانستان في كُلٍّ من بوصاصو ولوق وإقليم أوغادين، وتأمين كادر تدريبي فعّال ونشِط. وقد عُدّت هذه الزيارة البداية الحقيقية لتغلغل تنظيم “القاعدة” في الصومال وبقية بلدان القرن الأفريقي.
ومنذ ذلك الحين وتنظيم “القاعدة” يحاول الحفاظ على موطئ قدم دائم له في الصومال، مُستغِلاً حالة الحرب الأهلية الطويلة الأمد وهشاشة المؤسسات المركزية الحاكمة فيه، بهدف تحويل هذا البلد إلى ساحة مركزية لنشاطاته (التي تتضمن نقل العملاء والمعدات والتجهيزات العسكرية عبر الحدود الصومالية إلى دول الجوار)، وكذلك إلى ملاذٍ آمنٍ وقاعدة خلفية لتحركاته وهجماته الإرهابية التي تستهدف تلك الدول.
ورغم أن أنشطة “القاعدة” في الصومال لم تأخذ زخماً كبيراً وتصاعدياً كما كان متوقعاً، لاسيما بعد تمكُّن الأميركيين من تقويضها بشكل كبير في إطار حربهم على الإرهاب، لكن قدرة التنظيم على حماية وجوده ما تزال واضحة للعيان، خاصةً بعد دخوله في تحالفات وتفاهمات مع بعض جماعات العنف الصومالية الإسلامية المتشددة كحركة “شباب المجاهدين” (الفصيل الذي انشق مؤخراً، وتحديداً في كانون الأول/ ديسمبر من العام 2007، عن المحاكم الإسلامية). والظاهر أن التنظيم بدأ يدرك أن بقاءه هناك يتطلب مجهوداً إضافياً، وأن عليه العمل بسرعة على توسيع نطاق تحالفاته على الأرض الصومالية، وفي الوقت نفسه تأمين التمويل اللازم لاستمرار أنشطته وقدرته على التجنيد والاستقطاب وتخطيط العمليات وتنفيذها في الزمان والمكان اللذين يحددهما.
ويبدو أن التنظيم وجد في الآونة الأخيرة ما يبحث عنه، من خلال ملاحظته لتطور عمليات القرصنة قبالة السواحل الصومالية. فمن ناحية، تُغري ظاهرة القرصنة البحرية التنظيم بإعادة التفكير في أولوياته الإستراتيجية في المنطقة؛ فبدلاً من التركيز على البرّ بشكل شبه مطلق ثمة فرصة حقيقية لشنّ عمليات مؤثرة وصاخبة في البحر أو ضد أهدافٍ مُحاذيةٍ له، وهذه الأهداف كثيرة وضربها يَسيْرٌ ولا شك (مرافئ، وسفن تجارية، وناقلات نفط، وأساطيل وقطع حربية غربية تمخر عباب خليج عدن والمحيط الهندي بلا توقف). أما وسائل الهجوم والدعم اللوجيستي فمتوافرة هي الأخرى؛ وإذا صدقت معلومات جهاز الاستخبارات النرويجية، فإن “القاعدة” قد تكون تملك (أو تتحكم في) ما يتراوح بين 15 و23 سفينة تحمل أعلام اليمن أو الصومال وتونغا.
وفي هذا السياق، يمكننا فهم الدعوة التي أطلقها تنظيم “القاعدة” لأتباعه وأنصاره في اليمن قبل أشهر قليلة، وحضّهم فيها على “السيطرة” على الملاحة البحرية في جزيرة العرب في إطار ما عدّه التنظيم “ضرورة إستراتيجية” له. ففي رسالة بعنوان “الإرهاب البحري ضرورة إستراتيجية” تناقلتها في نيسان/ أبريل من العام الماضي 2008 مواقع إسلامية عديدة مقربة من التنظيم، ثمة تأكيد على “أن طلائع مُسلّحة قبالة الشواطئ اليمنية تقوم [منذ أكثر من عام] باصطياد السفن التجارية والسياحية والنفطية واحدة تلو الأخرى، و[أنه] بات من الضروري في المرحلة الحالية على المجاهدين وهم يديرون معركة عالمية لاستعادة الخلافة الإسلامية وحكم العالم بها، أن تكون الخطوة التالية هي السيطرة على البحر والمنافذ البحرية بدءاً بما حول الجزيرة العربية”، وأنه “كما نجح المجاهدون بتشكيل سرايا الاستشهاديين على الأرض، يبقى البحر الخطوة الإستراتيجية التالية نحو سيادة العالم وإعادة الخلافة الإسلامية”.
وتشدد الرسالة على أن “الشواطئ اليمنية تعد من أهم المنافذ البحرية للسيطرة على البحر العربي وخليج عدن”، وأنها “نقطة إستراتيجية لطرد العدو من أهم أركان معركته؛ فإذا لم يتمكن من حماية نفسه في تلك المنطقة الإستراتيجية فإنه لن يستطيع حماية نفسه على الأرض وقواعده البحرية تحت ضربات المجاهدين”. وكالعادة، استعرضت الرسالة بعض ما وصفته “نجاحات المجاهدين البحرية العالمية والعربية”، مُشيرةً إلى أنهم نجحوا في “ضرب أهداف صهيو- صليبية في البحر مرتين: الأولى كانت تهيئة للغزوتين المباركتين في نيويورك وواشنطن بضرب المدمرة الأميركية (كول) في تشرين الثاني/ أكتوبر 2000، ثم ناقلة النفط الفرنسية (ليمبورج) في العام 2002”. وتمضي الرسالة في تهديدها، مؤكدة أن “ساعة الحسم” قد اقتربت، وحينها سيشهد الجميع لحظة “تركيع قيادة الحملة الصهيو-  صليبية إلى طاولة المجاهدين ليفرضوا عليهم شروطهم؛ بالخروج من ديار المسلمين مع تسليم أسلحتهم للمجاهدين، وإيقاف الدعم للاحتلال اليهودي في فلسطين، وعدم التدخل في شؤون المسلمين أو دعم حكامهم وأنظمة الجور والفجور والفساد فيها”.
ومن ناحية ثانية، وعطفاً على ما سبق، قد يرى التنظيم الذي يُراقب باهتمامٍ متزايد نشاط القراصنة الصوماليين المثير في مياه خليج عدن والمحيط الهندي، أن له مصلحة مؤكّدة في دعم هؤلاء وتوثيق صلاته معهم على نحوٍ يتيح له توفير عوائد مالية ضخمة تساهم في تمويل أنشطته المختلفة، وتعزيز وجوده في المنطقة. وعلى الرغم من عدم توفر دليل حاسم حتى اللحظة يؤكد تورّط “القاعدة” في أنشطة القراصنة المتزايدة، إلا أن ملاحظة سيكولوجية جماعات العنف المسلح بشكل عام تُبيّن، وباستمرار، أن لديها ميولاً كامنة تُحفّزها على استغلال (وانتهاز) أي فرصة متاحة من أجل رفد كيانها بفائض قوة ما انفكت تحتاج إليه في إطار محاولتها الحفاظ على نفسها وحماية وجودها في مواجهة جميع الأخطار المُحدِقة بها؛ والشاهد الأكثر وضوحاً على ميلٍ كهذا لجوء تنظيم “القاعدة” ذاته إلى الاتجار بالمخدرات في إطار حرصه الدءوب على البقاء، ومقاومة شتى الضغوط والسياسات التي تهدف إلى تجفيف ينابيع تمويله ومحاصرته تمهيداً للقضاء عليه.
© منبر الحرية، 14 أبريل 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018