شؤون سياسية

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

التعليم في العالم العربي هو خليط بين الأنباء الجيدة والسيئة. فمن ناحية، يواصل التعلّم التقدم على امتداد الإقليم مع تقدم بعض البلدان بأكثر من البعض الآخر. ومن ناحية أخرى، فإن العالم العربي ما زال متاخراً عن معظم بلدان العالم وهو يخرّج مواطنين غير مؤهلين للمشاركة في السوق العالمية التي تتطور سراعاً.

قطاع التعليم العالي ينمو في معظم الـ22 بلداً عربياً. هذا التوسع يبدو نتيجة لتجمع من المبادرات الخاصة والعامة الموجهة تجاه تعليم الأعداد المتعاظمة من الشبّان في كل بلد من تلك البلدان. ومع ذلك، وباستثناء حالات قليلة معزولة فإن الغالبية العظمى من تلك المؤسسات تفتقر إلى الجودة الضرورية في التعليم والقيادة المستقلة والمناهج التقدمية التي من شأنها تدريب الطلبة على مواءمة حاجات أرباب العمل المتوقعين. ففي دراسة قامت بها مجموعة تصنيف الخبراء الدولية ومؤسسة سياسات التعليم العالي في واشنطن، نالت جامعة عربية واحدة فقط موقعاً على قائمة تتألف من 3000 جامعة على امتداد العالم—وقد جاء ترتيبها في آخر تلك القائمة.

الخريجون العرب يجدون أنفسهم في مواضع غير ملائمة بشكل متزايد عندما يسعون إلى الدخول في أسواق العمل في بلدانهم، حيث لا تتطابق مهاراتهم في كثير من الحالات مع احتياجات السوق. على سبيل المثال، في المملكة العربية السعودية، حوالي 5.5 مليون عامل أجنبي يلعبون دوراً أساسياً في الاقتصاد السعودي—وبالأخص في قطاعي الخدمات والبترول. ومع ذلك، وعلى الرغم من سياسة الحكومة الداعمة بقوة لتعيين موظفين من حملة الجنسية السعودية، فإن البطالة المستمرة وفق الإحصاءات الرسمية تُشير إلى أنها تبلغ 13% بين السعوديين الذكور، ويعتقد الكثير من الخبراء المستقلين بأن هذه النسبة قد تكون عالية بما يصل إلى 25%.

الاستثمارات الكبيرة على امتداد سنوات عديدة التي قامت بها الحكومة السعودية لم تحقق نتائج مرضية. والنتائج السعودية هي مماثلة للنتائج التي تم تحقيقها في بلدان الخليج الغنية. فالإحصائيات تشير إلى أن الخريجين في كثير من الحالات غير قادرين على الاندماج بشكل ناجح في الاقتصادات الوطنية.

يعتمد تحسين التعليم العالي في العالم العربي على إصلاح المناهج ورفع توقعات الأساتذة من طلبتهم ليس فقط على مستوى الجامعات ولكن أيضاً على مستويات التعليم الابتدائي والثانوي. وكما تظهر التجارب العالمية، فإن علامات الطلبة العرب في المدارس الابتدائية والثانوية هي بين العشرينيات الأدنى في مادة الرياضيات والعلوم. نتائج المدارس الابتدائية العامة هي الأسوأ بما لا يقارن. إن حظ تلميذ يتخرج من مدرسة حكومية في القاهرة أو دمشق أو الخرطوم بأن يصبح رئيساً لشركة كبرى أو أن يصبح طبيباً متخصصاً هو ضعيف إلى أقصى الحدود. وإذا أخذنا في الاعتبار الكميات الكبيرة التي تنفقها تلك الحكومات على التعليم، فإن هذه النتائج المزرية والمؤشرات المرتبطة بها هي مفزعة بكل بساطة وتتطلب معالجة فورية.

ليس فقط أنه يتوجب إعادة تصميم المناهج بحيث تُعطى أولوية للرياضيات والعلوم، بل يتوجب على الأساتذة أيضاً أن يعتبروا مسؤولين عن أداء طلبتهم. أحد التفسيرات للعلامات الضعيفة التي حققها الطلبة العرب ناتجة عن أن توقعات الأساتذة هي منخفضة أكثر مما يجب. وفي الوقت الذي يواصل فيه القادة العرب السعي لإيجاد الطرق الكفيلة بتحسين التعليم، فإن التدقيق في سوية الأساتذة يصبح أمراً حيوياً. هل الغالبية العظمى من الأساتذة مؤهلة بأن يركن إليها تعليم الأجيال القادمة! ربما لا. إن استقطاب وتدريب كادرٍ جديد من الأساتذة من الدرجة الأولى، والذين يعوضون تعويضاً جيداً، يتطلب بحثاً معمّقاً.

لقد شهد العالم العربي في السنوات الأخيرة نمواً دراماتيكياً في عدد الجامعات الخاصة. لدى الأردن، على سبيل المثال، ما لا يقل عن 12 جامعة خاصة. هذه الجامعات التي أنشأت أخيراً سوف تسمح للبلدان من ذوي الدخل المتوسط بالاعتماد أكثر على المصادر الخاصة للإنفاق على التعليم العالي. ومع ذلك، فإن التخاصية وحدها ليست الجواب الشافي، وعلى غرار الجامعات الحكومية، فإن تلك المؤسسات الخاصة يجب أن تعتبر مسؤولة نحو تخريج طلبة يحققون الحاجات الوطنية المطلوبة. الحكومات، ربما على مستوى إقليمي، سوف تحتاج إلى إيجاد مستويات أداء تسمح للجامعات التعليمية، سواء كانت خاصة أو عامة، بأن تحقق حداً أدنى من المستويات.

محو الأمية كان يشكل رسالة مهمة في العالم العربي ما بعد الفترة الاستعمارية. لقد حقق العرب إنجازاً كبيراً على هذه الجبهة. وعلى الرغم من أن حوالي 70 مليون عربي ما زالوا أميين، فإن هذا العدد يتناقص بسرعة. ومع ذلك، فهنالك فرق بين أن تُعلّم لتحقيق القراءة والكتابة وبين تقديم تعليم من سوية عالية. وعلى العموم، فإن العالم العربي لم يطور بعد أنظمته التعليمية من التركيز على محو الأمية من جهة إلى نظام يخلق مؤسسات ضرورية قادرة على دمج الفئات الشبابية في أسواق عملها وأن تدفع ببلدانها إلى ميدان التنافس العالمي.

وفي الوقت الذي يواصل فيه واضعو السياسة العربية معالجة مخططات التنمية المستقبلية، يتوجب عليهم التركيز على إصلاح وتحسين مؤسساتهم التعليمية. إن الفشل في تحقيق ذلك سوف يؤدي دون شك إلى زيادة الملايين من العاطلين عن العمل، وربما يهددون استقرار المنطقة. إن معالجة الإصلاح التعليمي يجب أن يُعطى الأولوية اليوم.

[email protected]

© معهد كيتو، منبر الحرية، 13 كانون الثاني 2008.

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

قضية جوهرية تواجه أولئك الذين يسعون إلى تهدئة آخر جولة من النزاع في الأراضي الفلسطينية: كيف يمكن لحماس بأن تصبح وسيط قوة في زمن تتعرض فيه إلى مقاومة من قبل المجموعات الإقليمية والدولية؟
الاهتمام الأساسي يُركز على نوعية الحياة اليومية البائسة التي يُعاني منها الفلسطينيون، وكذلك اليأس السياسي الذي يستهلك نفوسهم.
إن نشوء حماس هو نتيجة مباشرة للفشل الذريع الذي مُني به الرئيس الفلسطيني محمود عباس وسلفه ياسر عرفات بالتفاوض والتوصل إلى أوضاع أفضل لشعبهم تستند إلى أسس اقتصادية صلبة.
الانهيار قد نشأ عن الجمع بين حكومة فاشلة غارقة في الفساد وفشل إسرائيل في دعم وتنمية شرعية السلطة الفلسطينية. وقد أدت النتيجة إلى نشوء عدم الثقة والإحباط واليأس الذي ساعد في نهاية الأمر إلى وصول حماس إلى السلطة.
عندما نتأمل في الذكرى الأربعين لحرب 1967 العربية الإسرائيلية فإننا نستذكر التدهور المتواصل في الأوضاع الاقتصادية للشعب الفلسطيني. ففي عام 1968 كان متوسط دخل المواطن العادي الإسرائيلي عشرة أضعاف متوسط دخل المواطن الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة اللذين كانا قد احتُلا في ذلك الوقت. واليوم فإن الناتج المحلي الاجمالي للفرد الإسرائيلي هو أكثر من 20 ضعف الفلسطيني. كما إن أكثر من 60% من الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر.
في غزة وهي قلب الصراع الأخير، فإن الوضع هو الأسوأ. ففي تقرير صدر مؤخراً عن صندوق النقد الدولي/البنك الدولي، تبين أن 75% من سكان غزة يُعتبرون فقراء وأن أكثر من 40% منهم عاطلون عن العمل. وخلافاً للاقتصاد الإسرائيلي المزدهر، فقد فشل الاقتصاد الفلسطيني في إحراز التقدم. الأوضاع الرهيبة يُمكن تفسيرها جزئياً كنتيجة للإغلاق الاقتصادي والجغرافي الذي فُرِضَ على قطاع غزة وهو من أكثر المناطق اكتظاظاً في العالم.
الفجوة الاقتصادية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية سوف تتسع وفق التقديرات. هذا التفاوت الاقتصادي قد ساهم في تغذية الشعور العميق بالإحباط واليأس على مستوى شخصي عميق بين الشباب الفلسطيني، بحيث أشعل الغضب وأثار العواطف التي بدورها تُشعل العنف، بحيث أصبح ذلك الشباب هدفاً طبيعياً للتجنيد في منظمات متشددة مثل حماس.
ربما تكون الفرصة الذهبية المضاعة في عقد السبعينات والثمانينات عندما كانت إسرائيل تسيطر بشكل تام على الضفة الغربية وغزة. كان يتوجب على إسرائيل استثمار موارد كافية في الاقتصاد الفلسطيني بهدف رفع المستويات الاقتصادية فوق تلك القائمة في البلدان العربية المجاورة. لو تم مثل ذلك لكان استثماراً حكيماً، لأنه كان سيجلب مزايا مقارنة للشعبين كليهما. الحوافز الاقتصادية والتنموية المركَّزة كان بإمكانها تحسين نوعية الحياة وإيجاد قفزات نوعية كبيرة على مستوى المعيشة. فالرفاهية هي أفضل سلاح لمجابهة التشدد والتعصب. ربما كان باستطاعة وارين بافيت وغيره من الرياديين الاستثمار لا في إسرائيل وحدها ولكن في رام الله والخليل ونعم، كذلك في غزة!
إن أكثر مصادر بعث الأمل والحياة الطبيعية للفلسطينيين تكمن في دفع مباشر للعجلة الاقتصادية التي توقفت عن الحركة إلى درجة خطيرة من البُطء. إنها لحظة مفصلية للفلسطينيين. هذا سوف يكون السلاح الأعظم الذي يمكن بواسطته تهميش التشدد من الداخل. فالفلسطينيون يحتاجون إلى أن يفهموا بأن وطناً مُستقراً يقوم على عاملين أساسيين اثنين: حكم القانون والنظام بالإضافة إلى اقتصاد سليم وشفاف. إنهم يحتاجون إلى المساعدة الدولية في كلا الهدفين في آن معاً، وفي الحال.
لقد حل الرئيس محمود عباس وزارة حماس وأعلن حكومة الطوارئ. ومن الأمور الحتمية أن تقوم المجموعة الدولية بالتقدم نحوها ومساعدتها. مساعدات عاجلة وكثيفة هي ما تحتاج إليه لضمان بقائها. وحيث تخرج حماس كقوة متشددة ترفض المهادنة، يتوجب على المجموعة الدولية بشكل عاجل مساعدة السلطة الفلسطينية للوقوف في وجهها. التردد في فعل ذلك قد يكون خطوة إلى الوراء وأمراً خطراً وله ثمن باهظ.
إن النجاح الاقتصادي التاريخي الذي حققته إسرائيل ما بين العام 1950 و1965 يرجع إلى حد كبير إلى تدفق رؤوس الأموال الأجنبية عليها وبشكل رئيسي من الولايات المتحدة التي سمحت لإسرائيل بالاستثمار في المشاريع الداخلية. وقد بلغت المساعدات في بعض السنوات إلى ما يقارب أكثر من 25% من ناتجها القومي الاجمالي وقد أتاح ذلك القيام ببرامج استثمارية كبيرة التي أبقت التنمية موازية لتدفق السكان المهاجرين ولتوسيع الاقتصاد. الفلسطينيون الآن يحتاجون إلى تدفق رؤوس أموالٍ مماثلة والتي من شأنها أن تسمح لهم بتطوير وإنضاج اقتصادهم وخلق فرص عملٍ يحتاجون إليها احتياجاً كبيراً. أما البدائل لذلك فهي معتمة.
ستستمر الأنباء السيئة في القدوم من الشرق الأوسط. تشدد حماس وتطرفها هو ظاهرة خطيرة. إنها تحمل في طياتها خطر القضاء على استقرار المنطقة على المدى القريب وتأخير الوصول إلى حل للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي على المدى البعيد. إن ضمان اقتصاد فلسطيني سليم هو ذو أهمية كبرى. دعوا الناس تعود إلى العمل. دعوا الناس تعود إلى الشعور بالارتياح والأمن الشخصي والمالي. فإن من شأن ذلك إعادة حدٍ أدنى من الشعور بالأمل والتطلع إلى المستقبل.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 20 حزيران 2007.

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

لا زالت تداعيات تعيين الرئيس الإيراني أحمدي نجاد لأربعة من المقربين منه أواخر الشهر الماضي في منصب “المبعوث الخاص” لكل من الشرق الأوسط وآسيا وبحر قزوين وأفغانستان تتفاعل في الداخل الإيراني. ويختلف مراقبون حول تفسير تحرّكات نجاد الأخيرة سيما وأنّها تطرح شكوكا حول نوايا الرئيس والهدف من هذه الخطوة وخطوات أخرى مماثلة كان قد اتّخذها سابقا.
ففي الوقت الذي ترى فيه بعض الأوساط أنّ هناك محاولات مستمرة من الرئيس الإيراني ليثبت للمرشد الأعلى بأنه قادر على التحرّك باستقلالية، تشير أوساط أخرى أنّ هناك وجود متنامي لحالة “نجادية” في النظام الإيراني تتضمن زرع الرئيس لمؤدين مخلصين له ومن دائرته الخاصة، والقريبة جدا منه في مراكز حساسة ومتعددة في النظام الإيراني بما يسمح له بممارسة صلاحيات أوسع بكثير مما ينص عليه أو يسمح به النظام الإيراني، ويضمن أيضا بقاء نفوذ أحمدي نجاد حتى عند خروجه من منصبه حال انتهاء ولايته.
ففي 22 أغسطس الماضي، قام الرئيس الإيراني بتعيين مدير مكتبه والشخصية الأكثر جدلا “اسفنديار رحيم مشائي” في منصب مبعوث خاص للشرق الأوسط، كما قام نجاد بتعيين نائبه ورئيس منظمة التراث الثقافي والسياحة الإيرانية “حميد بقائي” مبعوثا خاصا له لآسيا، ونائب المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني في الشؤون الإعلامية “أبو الفضل ظهرة واند” مبعوثا خاصا لأفغانستان، و”محمد أخوند زادة” لمنطقة بحر قزوين. ويحاول أحمدي نجاد استكمال حلقة المبعوثين من خلال تعيين اثنين في المنصب نفسه عن منطقة أفريقا وأمريكا الوسطى.
وعلى الرغم من أنّ نجاد يستند في تعيينه لهؤلاء الممثلين الخاصّين إلى المادة 127 من الدستور الإيراني التي تنص على أنّه: “في ظروف خاصة تخضع لموافقة مجلس الوزراء، يحق لرئيس الجمهورية أن يعيّن ممثلا خاصا عنه أو أكثر بسلطات محددة. وفي مثل هذه الحالات تعتبر قرارات هؤلاء الممثلين كقرارات رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء”، إلا أنّ خطوته هذه أثارت غضب العديد من مراكز القوى والنفوذ في النظام الإيراني، كما أشعلت نزاعا بين البرلمان والحكومة من جهة وبين الحكومة ووزارة الخارجية من جهة أخرى لتخطّيها الأصول القانونية.
المحافظون يهددون نجاد بتدابير تصعيديّة
فالمحافظون يصرون على ضرورة أن يتراجع أحمدي نجاد عن هذه الخطوة خاصّة أنّ الشخصيات التي قام بتعيينها مثيرة للجدل ولا تتمتع بالكفاءة المطلوبة. وقد وجّه 122 عضوا من أعضاء البرلمان المحافظين الأسبوع الماضي مذكرة إلى الرئيس الإيراني تتضمن رسالة تحذير، معتبرين أنّ ما قام به مخالف للقانون والدستور، وأنّه يجب عليه العودة عن قراره بتعيين الأربعة فضلا عن عزمه تعيين اثنين آخرين في منصب الممثل الخاص لرئيس الجمهورية، وإلا فإن تدابير أخرى ستتخذ لإجباره على العودة إلى القانون.
ويعتبر “مشائي” صهر الرئيس أحمدي نجاد والذي يوصف بمن قبل البعض بأنه “ليبرالي النزعة” ومن قبل آخرين بأنه “قومي الأيديولوجيا” هدفا محبّذا للمحافظين والمتشددين نظرا لمواقفه المستهجنة عادة. فقد سبق له وأن أعلن في العام 2008 عندما كان في منصب نائب الرئيس الإيراني لشئون السياحة والثقافة أنّ “إيران صديقة للشعب الإسرائيلي”، كما سمح بإقامة حفل حملت فيه اثنتا عشر فتاة إيرانية كن يرتدين اللباس التقليدي وهن يرقصن نسخة من المصحف على طبق، الأمر الذي أثار سخطا ضدّه خوفا من الاتهام بـ”اهانة القرآن الكريم”.
وأثار “مشائي” أيضا جدلا لموقفه المتراخي واللامبالي من الحجاب الإسلامي كما يتّهمه بذلك المحافظون. وقد أدّت مواقفه التي يصفها المحافظون بالـ”الاستفزازية والطائشة” إلى مطالبة أحمدي نجاد في يوليو 2009، بالتراجع عن قراره تعيين صهره في منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية.
وعلى الرغم من أنّ نجاد قاوم هذه الضغوط بداية ونفّذ قرار التعيين، إلا أنّه اضطر إلى التراجع بعد التدخل الشخصي للمرشد الأعلى الذي أصدر فتوى مكتوبة في هذا الشأن تفرض عليه التخلي عنه، فاستقال “مشائي” بعد ثلاثة أيام من تعيينه في منصبه آنذاك.
وزارة الخارجية تدخل على خط النزاع
ودخلت وزارة الخارجية متمثلة بوزير الخارجية “منوشهر متكي” على خط النزاع ، فرأت في خطوة احمدي نجاد تجاوزا لها وتهميشا لدورها بما يسمح بإنشاء سياسة خارجية مستقلة للرئيس موازية لسياسة وزارة الخارجية التي تمثّل الخط الرسمي للدولة، ويؤدي أيضا إلى تضارب في السلطات مع صلاحيات وزير الخارجية.
ويعتبر تعيين “بقائي” واحد من الأسباب الإضافية التي أثارت استياء وسخط وزير الخارجية. إذ أعلن الأول قبل أيام بأنّ رئيس الجمهورية أحمدي نجاد سيقوم قريبا بتعيين مبعوثين خاصّين لمنطقة أفريقا وأمريكا الوسطى، وهو الأمر الذي دفع وزير الخارجية إلى التصريح للإعلام بقوله “من غير الواضح ما هي الأسس أو الصلاحيات التي يتمتع بها “بقائي” أو الموقع الذي يخوّله الإدلاء بهكذا تصريحات”.
وسبق لـ”منوشهر متكي” وأن اضطر إلى الاعتذار علنا للمسؤولين الأتراك عن التصريحات التي أبداها نائب الرئيس “بقائي” الشهر الماضي عندما قال خلال مؤتمر عقد في العاصمة طهران بمناسبة الذكرى الـ 70 للغزو الذي تعرضت له إيران إبان الحرب العالمية الثانية، أنّ الأتراك ارتكبوا مذابح ضد الأرمن.
كما تسربت معلومات مؤخرا عن أنّ “متكي” سيستقيل إذا بقي الأمر على ما هو عليه بعدما حذّر في تصريح له في 7 أيلول/سبتمبر من أنّ إنشاء سياسات خارجية موازية سيؤدي إلى إضعاف الجهاز الدبلوماسي الإيراني. وعلى الرغم  من نفي الناطق باسم وزير الخارجية “رامين مهمان برست” هذه الأنباء، الاّ أنّ مصادر عديدة تؤكّد إمكانية أن يقوم أحمدي نجاد باستغلال الانشقاقات التي تحصل في الجسم الدبلوماسي وآخرها طلب ثلاثة دبلوماسيين إيرانيين في أوروبا اللجوء، وتوظيف ذلك على أنه دليل على فشل وزير الخارجية بما يمهّد لإبعاده واستبداله بمرشحين قريبين من دائرته الخاصة، قد يكون من بينهم الرئيس السابق لمركز الدراسات الإستراتيجية التابع للرئاسة ومحافظ مدينة أصفهان حاليا “علي رضا ذاكر أصفهاني” المعروف بقربه من “مشائي” ومن “محمد رضا رحيمي” النائب الأول لنجاد، و” مجتبی ثمرة هاشمي” أبرز مستشاري الرئيس الإيراني ونائب وزير الداخلية للشؤون السياسية.
ولا شك أنّ الصراع على السلطات في ظل سعي نجاد إلى توسيع دائرة أتباعه وخلق تياره الخاص داخل النظام بعيدا عن المؤسسة الدينية المتمثلة بطبقة آيات الله من دون أن يستغني عن المرشد الأعلى لما يملكه من نفوذ وقوة سيبقى مستمرا، خاصّة في ظل الحديث المتزايد عن طموح أحمدي نجاد لإيصال صهره في الانتخابات الرئاسية القادمة إلى سدّة الحكم على أمل أن يفتح ذلك بابا لعودته إلى الرئاسة مرة أخرى.
‎© منبر الحرية،16 نونبر/تشرين الثاني 2010

إدريس لكريني17 نوفمبر، 20100

تصاعدت وتيرة العمليات الإرهابية بشكل مكثف في العقود الأخيرة، في مختلف المناطق من العالم، سواء من حيث مخاطرها وأشكالها أو على مستوى النطاق الذي تتم فيه أو بالنسبة لعدد المنظمات التي تمارسها، وإذا كانت معظم الدول قد أجمعت على خطورة هذه الآفة، وأكدت على ضرورة مجابهتها، فإنها اختلفت في مقاربتها، مما جعل هذه العمليات تتزايد بشكل مطرد.
يكاد يجمع الكل على أن ظاهرة “الإرهاب الدولي”، أصبحت تشكل تحديا كبيرا أمام المجتمع الدولي برمته بالنظر للتحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي أصبحت تطرحها أمام مختلف الدول بشمالها وجنوبها، فالعمليات التي طالت عددا من البلدان في الآونة الأخيرة، أكدت أن مخاطرها تتجاوز مخاطر الحروب النظامية بالنظر لجسامتها وفجائيتها واستهدافها لمنشآت استراتيجية ومصالح حيوية وخسائرها البشرية الفادحة.
فبعدما كانت العمليات “الإرهابية” تتم وفق أساليب تقليدية وتخلف ضحايا وخسائر محدودة في الفئات والمنشآت المستهدفة، أصبحت تتم بطرق بالغة الدقة والتطور مستفيدة من التكنولوجيا الحديثة.
وعلى الرغم من مختلف الجهود المحلية والاتفاقية التي بذلت في سبيل الحد من هذه الظاهرة، فإنها لم تكن بالفعالية المطلوبة، حيث تبين أن الظاهرة باتت في تزايد مستمر وخطورة متنامية وانتشار واسع.. ويمكن القول إن عجز المجتمع الدولي عن صياغة مفهوم دقيق ومتفق عليه بشأن هذه الظاهرة، بسبب تباين الخلفيات الإيديولوجية والمصلحية والمذهبية بالنسبة للباحثين والمفكرين والسّاسة.. الذين تناولوا هذه الظاهرة، أسهم بشكل كبير في قصور مختلف هذه التدابير والإجراءات التي حاولت مقاربة هذه الظاهرة العابرة للحدود..
إن إقرار المجتمع الدولي برمّته بهذا الخطر، الذي أصبح يحتل مكانة بارزة على رأس قائمة الأولويات ضمن مختلف اللقاءات والمؤتمرات الدولية إلى جانب قضايا حيوية أخرى كالحد من الانتشار النووي وتلوث البيئة والديمقراطية وحقوق الإنسان والأمراض الخطيرة العابرة للحدود..، لم يمنع من تطور وتنامي الظاهرة خلال السنوات الأخيرة، ذلك أن التباين المطروح بصدد مفهومه الملتبس، أضحى عائقا أمام مقاربته بشمولية وفعالية تسمح بوقف زحفه وانتشاره.
فعلاوة عن مواقف الفقهاء والدول المتباينة بهذا الصدد، فالأمم المتحدة نفسها عجزت عن بلورة مفهوم قار ومحدّد يحظى بقبول جميع دول العالم.
وتتعدّد الرؤى والمواقف إزاء هذه الظاهرة تبعا لتباين الخلفيات الإيديولوجية والثقافية والسياسية.. وتتباين بين مؤكد على اختزال “الإرهاب” في كل أشكال العنف، وبين من يميز بين العنف المشروع والعنف المحرم، وبين من يركز على “إرهاب” الأفراد، وبين من يميزه عن “إرهاب” الدولة.. إلى الحد الذي اختزل فيه الإرهاب في كثير من الأحيان في عنف “الآخر”..
وجدير بالذكر أن هذا التباين في المفاهيم، يفتح المجال أمام المقاربات الانفرادية للظاهرة التي تركّز في غالبيتها على الجوانب الأمنية، مما يسهم في تنامي الظاهرة وانتشارها على نطاق جغرافي واسع.
وبإلقاء نظرة سريعة على مختلف الجهود الدولية المرتبطة بمكافحة الظاهرة الإرهاب، سواء في صورها القانونية والاتفاقية الجماعية والميدانية الانفرادية، يتأكد أن جل هذه الجهود اتخذت الطابع العلاجي، وتحكّم فيها الهاجس الأمني أكثر من أي اعتبارات أخرى.
إن أسباب ظاهرة “الإرهاب” الدولي كمظهر من مظاهر العنف متعددة ومتشابكة ومعقدة في آن واحد، تتنوّع بين ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي وتربوي وأمني أيضا.
ولذلك فالمكافحة الحقيقية لهذه الظاهرة تبدأ من بلورة مفهوم عالمي للظاهرة، وتجاوز المقاربة الأمنية التي تركز على الفاعل والفعل (وقد أثبتت إفلاسها بالفعل في العديد من الحالات) إلى مقاربة شمولية، تسمح ببلورة سبل ناجعة ومداخل تقف على المسببات والدوافع الحقيقية لهذه الظاهرة في شتى أبعادها وتجلياتها النفسية والاجتماعية والتربوية..، بدل الخوض في علاجه بأشكال زجرية وأمنية وربما “إرهابية” أيضا قد تزيد من تفاقمه وتطوره.
وبخاصة أن التجارب الدولية المرّة في هذا الخصوص (أحداث أمريكا 11 سبتمبر 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال) أوضحت وبالملموس أن أي إجراء أمني مهما توافرت له الإمكانيات البشرية والتكنولوجية والمادية، لا يمكنه الحد من هذه الظاهرة، بعدما أصبح القائمون بهذه الأعمال يطورون آلياتهم ووسائلهم ويستغلّون وبتحايل كبير أضيق الفرص والفجوات لتنفيذ أعمالهم.
‎© منبر الحرية،13 نونبر/تشرين الثاني 2010

نبيل علي صالح17 نوفمبر، 20100

في كل مرة أزور فيها مدينة اسطنبول التركية، أحد أهم وأبرز عواصم وحواضر الشرق، شرق الثقافة والحضارة والمجد التاريخي. أرى وأشاهد فيها أشياء ومعالم جديدة وجميلة تنعش الروح والفؤاد وتضفي البهجة والسعادة في النفس. وهذه الأشياء الجديدة ربما لا تكون جديدة بالشكل والمظهر والموقع، بل قد تكون جديدة بالروح الداخلية النشطة والفعالة التي تسري فيها وتحركها وتجعلها مادة خصبة غنية بمعاني التاريخ، وحافلة بحكاياه وأحداثه الكثيرة التي مرت عليها وأكسبتها فرادةً –مضافةً إلى موقعها الجغرافي المميز والرائع-، من حيث قوة حضور الماضي التاريخي بألقه وتألقه في الراهن والمعاصر، ومن خلال هذه الروح الحضارية المهيمنة عليها وفيها والتي يمكن للزائر معاينتها ومعايشتها حيثما حل في أرض اسطنبول.
اسطنبول سحر الشرق القادم من عبق التاريخ، لا تكل ولا تمل ولا تنام ولا تهدأ. تستقبل زواها من كل الدنيا، وتفتح ذراعيها لهم للتمتع بجمالها وسحرها الشرقي العتيق المندمج بانسابية وتلقائية ممتنعة مع الحداثة والعصرنة التي تبهر الأنظار والألباب.
لقد كانت الآستانة التي فتحها السلطان محمد الفاتح منذ حوالي ستمائة سنة تقريباً، أحد مراكز التجارة والاقتصاد والممرات الإستراتيجية في عالم الشرق القديم بحكم الموقع الفريد أولاً، وطبيعة الإرادة والتصميم على الإنجاز التي توفرت للقائمين عليها سابقاً. وقد حافظت هذه المدينة الكبيرة على هذه المكانة والدور التاريخي، بل وأضافت لها في العصور المتتالية إضافات نوعية مهمة على مستوى العمارة والفن والحداثة العملية حيث قام المشرفون عليها بالإبداع في تطويرها وتنميتها، مما أهلها لتكون عاصمة لتلاقح الحضارات وحوار الثقافات، وجعلها ملتقى للناس من كافة أرجاء المعمورة. وهذه لعمري ناحية مهمة جداً، وهي أن توفر وتبني وتصنع وتخلق كافة الظروف والمناخات والأجواء النفسية والعملية ليكون بلدك موقعاً للقاء والتعارف والحوار والزيارة والسياحة. طبعاً نؤكد هنا أنه لولا وجود الموقع الجغرافي الفريد والرائع والهائل الذي يأخذ بالألباب لمدينة اسطنبول ما كنا رأينا ولاحظنا وعاينا هذه المجاميع البشرية الهائلة تهيم في طرق وساحات وفنادق ومطاعم وآثارات ومزارات وكازينوهات ومولات ومعارض ومتاحف اسطنبول.
وهذا التطور الكبير الذي تلاحقت فصوله في اسطنبول خلال السنوات العشر الأخيرة ما كان ليحصل أيضاُ، لولا وجود مواطن يحب ويعشق بلده ومدينته، ويعمل على الحفاظ عليها ورعايتها بأجفان عيونه. وما كان ليحصل أيضاً لولا مرونة القوانين والأنظمة البلدية وغير البلدية، لأن جمود وبيروقراطية النص القانوني مدخل وسبيل ودافع ومحرض كبير للفوضى والكسل والترهل والفساد، وهو أكبر عائق للتطور والحداثة ومواكبة الحياة والعصر.
وهذه اسطنبول التي قال عنها نابليون بونابرت ذات مرة: “لو خيرت في وضع عاصمة للعالم كله لاخترت اسطنبول عاصمة له”. تعشق الحياة والمستقبل. شوارعها نظيفة، ومحالها وساحاتها تفوح منها رائحة العطر والعبق التاريخي الحاضر بقوة في كل المواقع والأمكنة والامتدادات.
وبعد ذلك كله، ليس من محل أو مكان للاستغراب والاستعجاب من هذا الرقم المعروف والمتداول حول أعداد السياح والزائرين لاسطنبول سنوياً، والذي يصل إلى حوالي 26 مليون إنسان، بينهم 3 مليون يومياً يزورون شارع الاستقلال في حي وجادة تقسيم. أفبعد هذا الحديث حديث.
المعادلة باختصار: محبة وطن وإرادة عمل وقانون عصري حديث. وقبل ذلك وجود نظام سياسي ديمقراطي عادل غير مستبد يعمل لصالح خدمة الناس والمجتمع، لا أن يكون الناس خداماً وحواشي له، مع حريات سياسية، وحرية سوق وتداول السلع.
بالفعل أعط بلدك تعطيك. وابخل عليها تبخل عليك.
العمل ثم العمل يا شباب.

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

لا شك أن إحراق الكتب هو عمل همجي، وتزداد الهمجية عندما تكون الكتب محل هذا العمل الشائن موضع تقديس وتجلية عند البعض (كثر هؤلاء أو قلوا ) …، ولا شك عندي أن القس الأمريكي الذي كان يهم بحرق القرآن في ولاية فلوريدا الأمريكية هو رجل صيغ من مادتين بشعتين: هما التعصب الأعمى، والحماقة المنفلتة من عقال العقل والرشد. ولكن ذلك الرجل البشع ومشروعه الأخرق لا يجب أن يثنيانا عن رؤية المناخ العام الذي كانت هذه الفعلة الشائنة على وشك الحدوث في ظله. ولا يعني ذلك تبرير هذا الفعل المعتوه والمشرب بالجنون والتعصب وضيق الأفق والكراهية. فيجب علينا أن نرى بوضوح أن هذا الرجل كان على وشك القيام بعمل بالغ الرداءة كالذي قامت به حكومة طالبان الإسلامية في أفغانستان منذ نحو عشر سنوات، عندما داست على مشاعر ملايين من البشر بإطلاقها دانات المدافع على تمثالين لبوذا حتى تم دمار التمثالين. ويجب أن نتذكر أن قليل من المسلمين قد أدانوا يومها تلك الجريمة الحمقاء. ويجب أيضا أن نتذكر بل وأن نعي أن العالم لم ينقلب على المسلمين، بل إن أفعال وتوجهات وسلوك وأقوال ونوايا بعض المسلمين هي التي تقلب العالم ضدنا. كثير من المسلمين لا يرون جريمة 11 سبتمبر / أيلول 2001  بحجمها الحقيقي، وقليلون هم الذين يصدقون أن القاعدة هي الفاعل، وكثيرون يرددون (بجهل أسطوري عجيب ) أن فاعل تلك الجريمة هو من داخل النظام السياسي والأمني الأمريكي، وملايين المهاجرين المسلمين في أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا يعطون الانطباع شبه المؤكد أنهم عازمون على أسلمة المجتمعات التي هاجروا إليها…، وكثيرة هي وسائل الإعلام والتثقيف (!!) في مجتمعاتنا التي تصور الغرب بأنه أضحى منغمسا بالكلية في مؤامرة ضد الإسلام، وهو عبث محض. وما أكثر الجهلاء في مجتمعاتنا الذين لا يفرقون بين تدين البعض في الغرب وعلمانية مجتمعات هذا الغرب. ولاشك عندي أن وسائل الإعلام وجل طبقة الإنتلجنسيا في مجتمعاتنا، ستضرب الصفح عن مواقف نبيلة للأغلبية من رجال الدين اليهود والمسيحيين في الغرب الذين أدانوا بقوة الحماقة التي كان ذلك القس الشائه في فلوريدا على وشك اقترافه، فمعظمنا أصحاب عقلية انتقائية تختار من بين الأشياء الحادثة ما تحب أن تراه، وتستبعد ما لا يوافق أهواءها، كما فعل معظمنا عندما ناصرت أمريكا مسلمي البوسنة، على خلاف المواقف الأوروبية (الروس مع الصرب الأرثوذوكس وفرنسا مع الكروات الكاثوليك ) التي حكمتها عقد تاريخية.
منذ أيام سمعت عالم مصري يشيد بالمستويات التعليمية العالية للغاية في مصر الخمسينات والستينيات، ويرجع الفضل لتلك الحقبة وقادتها وعلى رأسهم “جمال عبد الناصر”. وهو قول ساذج للغاية، فأنا كابن لهذه المرحلة (إذ حصلت على الشهادات الابتدائية والإعدادية والثانوية والليسانس أي الشهادة الجامعية الأولي) غداة رئاسة جمال عبد الناصر، أعرف أن مستويات التعليم بمصر كانت وقتها على أرفع المستويات، بل وبعض أبناء جيلي تذهلهم المستويات التعليمية والثقافية لمن هم في أعمارنا من الأوروبيين والأمريكيين. ولكن تلك المستويات هي نتيجة طبيعية لمعدن وسبيكة ومستويات مدرسينا وأساتذتنا والذين هم (جميعا) من ثمار وتجليات ما قبل حقبة العسكر. هؤلاء كانوا نتاج وثمار عهد كان وزراء التعليم (المعارف) خلاله على شاكلة منصور باشا فهمي ومحمد حسين هيكل باشا وطه باشا حسين. أما التعليم في عهد جمال عبد الناصر فكان بيد عسكري شبه أمي ومعدوم الثقافة وإخواني النزعة (وأعني كمال الدين حسين). وكما كان التعليم المصري رفيع المستوي في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، فكذلك كانت الحياة الثقافية الحركة الأدبية والمسرح والفنون والسينما. ولكن بسبب ذات العامل، وأعني العنصر الرفيع لأجيال تشكلت وتكونت في ظل الحقبة الليبرالية وقبل قيام العسكر (أنصاف المتعلمين) بخطف مصر يوم الأربعاء 23 يوليو / تموز 1952. أما المدرسون والأساتذة الذين تكونوا في الحقبة الناصرية، فإنهم المسؤولون عن الأوضاع التعليمية المتردية في مصر اليوم، ويقال ذات الشيء على المثقفين: فكما أن طه حسين ،والعقاد، وتوفيق الحكيم، وسلامة موسى/ وسهير القلماوي، ولطيفة الزيات، ونجيب محفوظ، ويوسف ادريس، ولويس عوض، ومجدي وهبة، ومحمد مندور، وجل المثقفين المصريين الماركسيين (جيل محمد سيد أحمد)، هم أناس تكونوا في بيئة ما قبل انقلاب العسكر (غير المثقفين)، فإن المثقفين الذين تكونوا في مصر – عبد الناصر هم المثقفون المصريون أصحاب القامات المتوسطة والقصيرة الذين يقفون اليوم في حالة عجز عن التصدي للوحشين الكبيرين الذين تقف مصر اليوم بينهما: وحش الاستبداد السياسي الذي أفرز الفساد والزواج المشبوه بين السلطة والثروة، ووحش الأفكار الظلامية التي تحاول أن تجهز على روح مصر وتسحبها لما قبل القرون الوسطي… الائتلاف والتحالف مع الإسلاميين (بل ومع غلاة التطرف منهم) كان منتجا ذا منبعين: فهو من منتجات حقبة الحرب الباردة، إذ استعمل الإسلاميين ضد الإتحاد السوفيتي وضد نظم اشتراكية (أو تبدو كذلك) مثل النظام المصري في خمسينيات وستينيات القرن الماضي (حرب السعودية المدعومة أمريكيا مع مصر المدعومة سوفيتيا على أرض اليمن). وكان شعار المرحلة (في هذا الشأن) أن (عدو عدوي هو حليف لي.  ونظرا لأن الإسلام السياسي كان (بتفاهة وسطحية منقطعي النظير) عدوا للمعسكر الاشتراكي، فقد وجدته الولايات المتحدة (بغباء تاريخي منقطع النظير) “نعم الحليف” ضد الإتحاد السوفيتي وأنسباءه!. وأما المنبع الثاني لهذا الائتلاف فقد كان أمريكي-سعودي المصدر. وهذا المنهج (المفتقد كلية للثقافة وللحس التاريخي) هو نهج مخابراتي بريطاني منذ أوائل القرن العشرين. فقد كانت الأغلبية في المخابرات البريطانية (إم . آي . 6 ) تعمل مع عبد العزيز آل سعود (المندمج آنذاك مع إخوان نجد ذوي الهوس الديني) لكي يمد نفوذه ويسيطر على معظم الجزيرة العربية، بل وحارب معه في بعض معاركه ضباط بريطانيون،  بل ومات بعضهم وهو يحارب ضمن قوات عبد العزيز آل سعود. ونفس المخابرات (البريطانية) هي التي ساعدت حسن البنا على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر سنة 1928، أي بعد سنة واحدة من وفاة قائد وزعيم الحركة الوطنية المصرية سعد زغلول الذي رأت بريطانيا والملك فؤاد ضرورة تأسيس حركة الإخوان في محاولة منهما لسرقة الشارع المصري (باسم الإسلام) من الوفد المصري، الذي فقد زعيمه منذ عام واحد. ومعروف أن الأب الروحي لحسن البنا هو السوري المتزمت محمد رشيد رضا (صاحب تفسير المنار)، والذي كان وصلة الصلة بين حسن البنا وعبد العزيز آل سعود والذي كان قد أصبح (بعون الإنجليز) ومنذ ثلاث سنوات فقط (1925) ملك الحجاز وسلطان نجد… وحتى اليوم، لم تعترف الولايات المتحدة بخطئها وخطيئتها التي جعلت العالم الذي نعيشه اليوم عالما خطرا، وأحيانا كثيرة “عالما كريها” ….
© منبر الحرية،11 أكتوبر/تشرين الأول 2010

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

المفاوضات المباشرة في هذه المرحلة هي أفضل الخيارات الصعبة أمام السلطة الفلسطينية، لأنها تساهم على الأقل مرحلياً في زيادة الضغط على إسرائيل لإيقاف الاستيطان وتخفيف الضغط الأميركي على الفلسطينيين (الطرف الأضعف)، إضافة إلى إبقاء الرئيس اوباما مهتماً باستمرار المفاوضات والتعامل مع القضية الفلسطينية، كما أنها تبقي دولاً عربية رئيسة مثل مصر والأردن وراء محاولة إبقاء فرص السلام قائمة.
لكن من جهة أخرى، إن وجود معارضة لهذه المفاوضات في الساحة الفلسطينية والعربية من قبل حركة «حماس» و «حزب الله» وقطاعات أخرى فلسطينية، بالإضافة إلى سورية وإيران يبدو مفهوماً ومتوقعاً. ويضاف إلى ذلك أن الدول العربية ليست في جلّها وراء هذه المفاوضات، والدول المشاركة كمصر والأردن ليست متأكدة من النتيجة وذلك لقناعتها بمحدودية ما تستطيع إسرائيل تقديمه في هذه المرحلة. وتأتي العملية المسلحة التي قامت بها «حماس» وأدت إلى مقتل أربعة مستوطنين في الخليل منذ ثلاثة أيام لتؤكد طبيعة الوضع الذي ينتظر إسرائيل في حال استمرار الاحتلال والاستيطان. في الإمكان القول أن الطرفين («فتح» و «حماس») على صواب في الموقف من المفاوضات (قبول «فتح» ورفض «حماس»)، لكنهما على خطأ كبير في عدم صوغ صيغة وحدة وطنية تدعم الموقف الفلسطيني المفاوض بينما لا تسقط وسائل النضال الأخرى.
وستتعرض المفاوضات لقضايا لا تقوى إسرائيل بقيادتها اليمينية الراهنة على تقديم حلول لها. فقضايا اللاجئين والمستوطنات والقدس والدولة والحدود والمياه وكل ما يتفرع عنها ستفعل فعل المتفجرات في المفاوضات. بمعنى آخر لا توجد قواسم مشتركة بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي، فكل منهما في المفاوضات لأسباب ودواع لا علاقة لها بموضوع التفاوض، فالإسرائيلي يريد أن يخفف الضغوط العالمية والأميركية عليه ويريد أن يفترس المفاوض الفلسطيني والأرض التي يقف عليها، بينما الوفد الفلسطيني يريد أن يوقف زحف الاستيطان ويخرج من المفاوضات محققاً دعماً عالمياً اكبر لينجح في إقامة دولة فلسطينية وخلق شرخ أميركي – إسرائيلي. بل على الأغلب يسعى الطرف الفلسطيني، في حال فشل المفاوضات، إلى إقناع القوى الدولية بأهمية مساعدته على إقامة دولة فلسطينية من طرف واحد وبضمانات دولية.
ويزيد الأمر صعوبة إصرار إسرائيل على اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة غير مكتفية بالاعتراف بإسرائيلية الدولة. لكن الاعتراف بيهودية إسرائيل سيعني إضراراً كبيراً بمصالح الأقلية العربية (الفلسطينية) غير اليهودية المكونة من مسلمين ومسيحيين في إسرائيل. هذه الأقلية الفلسطينية العربية تمثل ٢٠ في المائة من مواطني إسرائيل. هل يعقل مثلاً أن يكون هناك اعتراف بمسيحية الدولة بالنسبة إلى الولايات المتحدة؟ ماذا سيعني هذا بالنسبة إلى اليهود والمسلمين والبوذيين وغيرهم من مواطني الولايات المتحدة؟ ان فكرة يهودية الدولة في إسرائيل فرضية عنصرية تعيد إلى الذاكرة الكوارث التي جاءت مع الصهيونية منذ نشوئها.
وهناك عنصر رئيس في المعادلة يترك أثراً كبيراً في السلوك الأميركي الراهن. ففي هذا الشهر تحل الذكرى التاسعة لهجمات 11 أيلول (سبتمبر)، ومع ذلك لم يتم حتى الآن اقتلاع الإرهاب، كما أن الولايات المتحدة لم تحقق انتصاراً حاسماً في هذه الحرب أو تلك التي في العراق وأفغانستان والآن في اليمن وباكستان. ويضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة تدفع سنوياً مئة بليون دولار في أفغانستان وحدها، كما أنها أمام تحدي الوضع الاقتصادي منذ الأزمة المالية العالمية.
هناك إذا بيئة سلبية للدولة الكبرى اقتصادياً وبيئة تفرز الإرهاب إقليميا في الشرق الأوسط. هذه التطورات ساهمت في تنمية إدراك بين فريق الرئيس أوباما بأن الكثير من الرفض للولايات المتحدة في العالم الإسلامي مرتبط بعمق دعمها لإسرائيل واستيطانها وحروبها واحتلالها. إن الولايات المتحدة تخوض نقاشاً كبيراً على مستوى الإدارة، وبدأت تكتشف أن جزءاً كبيراً من الورطة الأميركية في الشرق الأوسط مرتبط بحالة الاحتلال والقهر والاستيطان الإسرائيلية وجميع الآثار والأبعاد التي تثيرها هذه الحالة في جميع المجتمعات العربية والإسلامية.
لنأخذ تصريح الرئيس اوباما منذ أسابيع قليلة مما يعكس طبيعة الأجواء في الإدارة الأميركية الراهنة: «إن حل الصراع في الشرق الأوسط مصلحة رئيسة للأمن القومي الأميركي». ثم أردف قائلاً: «إن صراعات كالتي تقع في الشرق الأوسط تكلفنا كثيراً من الدماء والإمكانات».
لنأخذ تصريحات الجنرال بترايوس عندما كان رئيساً للقيادة الوسطى وقبل استلامه قيادة القوات الأميركية في أفغانستان عندما قال في الكونغرس الأميركي في آذار (مارس) الماضي «إن عدم تحقيق تقدم في حل الصراع العربي – الإسرائيلي يخلق بيئة عدائية للولايات المتحدة». بل وصف بترايوس الصراع العربي – الإسرائيلي بأنه «أول موضوع يؤثر بصورة شاملة في الأمن والاستقرار في المنطقة». كما أوضح أن الصراع في المنطقة «يخلق مشاعر معادية للولايات المتحدة ناتجة من الانطباع بأن الولايات المتحدة تؤيد إسرائيل». كما قال أن «الغضب العربي المرتبط بالصراع يحد من قدرة الولايات المتحدة على بناء شراكة مع دول المنطقة وشعوبها».
لكن كما هو الحال في كل مفاوضات، من يعرف كيف ستتطور في ظل ارتفاع وتيرة الهجوم الذي تتعرض له الإدارة الأميركية من القوى المؤيدة لإسرائيل في الساحة الأميركية؟ ولكن قد يقدم نتانياهو تنازلاً بسيطاً في شأن الاستيطان ينتج منه سقوط الحكومة الإسرائيلية الحالية وانتخابات جديدة يصعب على نتانياهو الفوز بها. وهل يسعى نتانياهو إلى عقد ائتلاف مع أحزاب إسرائيلية اقل تطرفاً للوصول إلى صيغة تنهي بالنسبة إليه عدم الاستقرار الناتج من احتلال الأراضي الفلسطينية وحصار غزة واحتلال القدس والجولان؟ وقد يفكر اوباما في مرحلة مقبلة كما يدعو مروان المعشر وزير الخارجية الأردني السابق في مقال له الأسبوع الماضي إلى إشراك مزيد من المفاوضين الإقليميين ومشاركة الأطراف الفاعلة بلا استثناء بما فيها سورية والسعودية. بل يحذر المعشر من أن الأسلوب الراهن لن يحقق السلام.
وعلى رغم تداخل الموقفين الإسرائيلي والأميركي ودور جماعات الضغط الإسرائيلية ودور الكونغرس الأميركي المنحاز لإسرائيل، إلا أن هذه الإدارة ترث من الإدارة السابقة حالة تراجع في منطقة الشرق الأوسط في ظل عدم القدرة على احتواء الإرهاب وتنظيم «القاعدة» والوضع في كل من أفغانستان والعراق واليمن وباكستان وفلسطين. إنها إدارة لا تمتلك أوهاما حول إسرائيل وشن الحروب الاستباقية والاستيطان. لكنها لتصل إلى الحفاظ على وضعها الدولي والتراجع الهادئ والتخلص من سلسلة الحروب التي تورطت فيها، عليها أن تسير في خط صعب وأن تمارس ديبلوماسية دقيقة. أن تعاملها مع الصراع العربي – الإسرائيلي بصفته جوهر صراعات الشرق الأوسط يمثل مدخلاً ضرورياً يجب أن نرحب به. التعامل مع الصراع هو جوهر التعامل مع الورطة الأميركية في الشرق الأوسط الكبير.
إن المأزق الذي تجد السلطة الفلسطينية نفسها فيه ويجد الشعب الفلسطيني انه يعيش وسطه تحوّل أيضا إلى مأزق تعيشه الإدارة الأميركية هي الأخرى، وتحول أيضا إلى مأزق إسرائيلي لا تعرف إسرائيل كيف تتعامل معه بعيداً من الإمعان في تعميقه من خلال مزيد من الاستيطان. قد تمثل المفاوضات كما هي الآن محطة في صراع عصي على الحل وإن كان حله حلاً عادلاً لا يزال في مصلحة كل الشعوب.
© منبر الحرية،29 شتنبر/سبتمبر 2010

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

الجزء الثاني
المحدد الاقتصادي
الاقتصاد والطاقة النووية:
تدرك إيران أن الطاقة عصب الحياة في العصر الحاضر، وعليها أن تعمل جادة في القيام بمسئوليتها على توفير الطاقة الكامنة للحياة والتنمية الاقتصادية، وإيجاد مصادر أخرى للطاقة البترولية. ولعل تطوير إيران لبرنامج نووي أحد تجليات هذا الإدراك. وبالفعل استطاعت إيران أن تحقق بعض الانجازات العلمية بهذا الخصوص، فقد نجحت في تخصيب اليورانيوم باستخدام أجهزة الطرد المركزي، وبإعلان أحمدي نجاد في 11  إبريل 2006  أن إيران امتلكت دورة وقود نووي كاملة، تكون إيران قد امتلكت العلم والتقنية النووية. وهكذا حققت إيران انجازا علميا وتقنيا، وهذا يعني أن البرنامج النووي الإيراني سوف يستخدم في تحديث الدولة علميا وتقنيا في المجال الطبي والزراعي والعسكري، فضلا عن تنوع مصادر الطاقة فيها، لأن البترول مادة فانية ناضبة طال الزمن أم قصر، وسكان إيران يتزايدون بمعدلات مرتفعة، وهم في أمس الحاجة لمصادر بديلة للطاقة.
وعليه تكون الطاقة النووية ركيزة لرفاهية الشعب الإيراني، وذلك من خلال استبدال مصدر الطاقة البترولية بطاقة أخرى نووية، وتقليص احتياجات السوق المحلي من البترول، وهو ما يرفع فائض البترول الذي يتم تصديره للخارج وغزو الأسواق الأجنبية بالبترول الإيراني، وبالتالي زيادة في الدخل القومي الإيراني بفعل زيادة عوائد البترول المصدر للخارج، ومن هنا يتم توظيف هذه العائدات في الداخل، وهو ما يرفع الدخل الفردي وتوفير الكثير من الاحتياجات الداخلية من خلال إنشاء فروع إنتاجية جديدة في المجال الصناعي، ويساهم بشكل كبير في معالجة مشكلات البطالة، والتخفيف من الاستيراد، وغيرها من المشكلات الاقتصادية.
أضف إلى ذلك أن سعي إيران المتواصل لتطوير برنامج نووي، ليس فقط للأغراض السلمية، بل أيضا للأغراض العسكرية، وثمة شواهد على ذلك ليس اقلها تصريحات إيرانية تؤكد هذا المسعى، فهذا أية الله مهاجراني، نائب الرئيس الإيراني السابق، أشار في23  أكتوبر 1991  إلى أن “امتلاك إسرائيل للسلاح النووي يجعل من الضروري على الدول الإسلامية أن تتزود بنفس هذا السلاح، ويجب أن تتعامل من أجل الحصول عليه”.
وهكذا يتبين لنا مدى أهمية الطاقة النووية في تحديث إيران وتطويرها في كافة المجالات. وبالتالي ليس صحيحا ما يُقال أن إيران دولة غنية بالنفط، وبالتالي فهي ليست بحاجة إلى إنفاق ميزانيات طائلة لامتلاك بنية أساسية متكاملة في المجال النووي. إن ما قلناه أعلاه ينفي ذلك لجهة أن امتلاك إيران قدرات نووية سيعجل من عجلة التنمية والتصنيع، ويعالج مشكلات اقتصادية كثيرة، فضلا عن امتلاكها لبنية علمية متطورة، وبالتالي ستحقق إيران من جراء ذلك عوائد ضخمة لا تقدر بثمن.
وحتى ندرك الانتظام والاستمرارية في سياسة إيران الخارجية، لابد من مقارنتها بدول أخرى في المنطقة حتى نستطيع أن نقيم سياستها الخارجية. ومن هنا، إن المراقب للبرنامج النووي الإيراني ونظيره المصري يرى المفارقة بينهما: ففي الوقت الذي يشهد البرنامج النووي الإيراني قدرا كبيرا من الاستمرارية سواء في العهد الإمبراطوري الشاهنشاهي، أو في العهد الثوري، وهو ما يعكس وضوحا في الرؤية والإستراتيجية الإيرانية، ونهجا ثابتا ومطردا رغم اختلاف طبيعة النظامين، في المقابل نرى الجهود المصرية التي بذلت لبناء برنامج نووي في الخمسينات والستينات من القرن الفائت(الحقبة الناصرية)، والمحاولات التي بذلت أيضا في إعادة إحيائه في عقدي السبعينات والثمانينات في نفس القرن، وكيف انتهت تلك المحاولات في الوقت الذي أصبحت فيه الطاقة المحركة هي عصب الحياة، وفي الوقت الذي أصبحت فيه مصر تستورد البترول، والتي ستزداد الحاجة المصرية للاستيراد في المستقبل، بهدف تنمية القدرات العلمية وخدمة المجتمع والتنمية في مختلف المجالات، مما يفاقم المشكلة اكبر واكبر، وهو ما يدفع مصر بالبحث عن إستراتيجية لها، وفي نفس الوقت يعكس ذلك الانقطاع أحيانا والاستمرار أحيانا أخرى، تخبطا في الرؤية وانقطاعا في الهدف وغياب الرؤية الإستراتيجية الواضحة والمتماسكة، ويؤكد أن إيران تعمل على الاستفادة من الفرص القائمة في البيئة الإستراتيجية. ففي الوقت الذي تتراجع فيه القوة الأمريكية، ومأزقها في العراق وأفغانستان، وما رتبت له سياسات إدارة بوش إلى حد كبير من تحول إيران إلى لاعب أساسي في العديد من الساحات، كل ذلك هيأ لإيران بأن تصبح قوةً فاعلةً في الإقليم، “ودولة محورية تمتلك من الإمكانات ما يؤهلها لتصبح قوة عظمى” فهي استغلت بذكاء هذا التراجع والضعف في السياسة الأمريكية، في تفعيل سياستها الخارجية وبخاصة المسألة النووية، حيث تدرك طهران هذه البيئة الإستراتيجية المناسبة والمواءمة لإستراتيجيتها وتدرك هذا التحول في العالم‏، حيث تتنبأ مختلف المراكز السياسية والإستراتيجية‏ والاقتصادية‏ بأن العالم يتجه إلي التعددية وقرب انتهاء عصر انفراد قوة وحيدة بقيادة العالم‏، التي تحتكر إدارة الأزمات الدولية‏، تلك اللحظة التاريخية‏، التي يتحول فيها العالم‏، وتتغير المعايير التي تحكم الأفكار والسياسات‏، هذه اللحظة تستغلها إيران جيدا في طرح وتفعيل سياستها لتحقق مصالحها القومية، وهي لحظة سيكون فيها العالم العربي أمام حساب التاريخ‏، إذا ما ضيع هذه الفرصة.‏ أو حسب ما قاله سياسي أمريكي: “عندئذ لا تلوموا إلا أنفسكم”، هكذا يتبين لنا أن المشروع الإيراني يسير بخطى مدروسة ومنتظمة وبدون انقطاعات، وهو ما يعطي إيران ميزة تميزها عن غيرها من دول المنطقة التي تتغير سياساتها بتغير القيادات الحاكمة، وهو ما ينفي صفة الاستمرارية عنها.
تكنولوجيا الأقمار الصناعية والعسكرية:
تعتبر إيران الدولة الثانية بعد إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط التي تمتلك القدرة على إطلاق أقمار اصطناعية، بعد أن وضعت إيران في4  فبراير 2009  قمرا اصطناعيا صنعته، حيث أطلقته بواسطة صاروخ “سفير2” الذي أفادت وكالة الأنباء الإيرانية أنه بدوره صنع في إيران. ومن المؤكد أن إطلاق قمر إيراني الصنع بواسطة صاروخ إيراني الصنع أيضاً يعد انجازا علميا وتقنيا تفتقر إليه دول المنطقة. إن امتلاك إيران تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية والصواريخ الحاملة لها والتي بدا واضحا أن إيران حققت فيهما سبقاً على العرب، يعد مصدر قوة تضاف إلى مصادر القوة الأخرى التي تمتلكها إيران وهو ما يعني التقدم نحو تحقيق المشروع الإيراني. بالإضافة إلى امتلاك إيران لصواريخ شهاب 1 ، 2، 3، 4 ،5  وهناك توجه للتطوير شهاب6، وصواريخ أخرى مثل “زلزال” و”الفاتح”.
وتبذل إيران جهدا جبارا في تطوير قدراتها الصاروخيّة البالستية والتكنولوجيا العسكرية، وهي تنفق جزءا كبيرا من ميزانيتها التسلحية على ترسانة الصواريخ التي تمتلكها وتطورها، فضلا عن امتلاكها للأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وتصنيع الغواصات، لذا تعتبر التكنولوجيا محركا رئيسيا لسياسة إيران الخارجية، وتوجيه العلاقات الإيرانية الخارجية، ونجاحها أحيانا وإخفاقها أحيانا أخرى، حيث إن إيران في حاجة متزايدة إلى تطوير قدراتها التكنولوجية واللحاق بطفرتها العالمية، والرغبة في تحديث جيشها وإصلاح ما تم تدميره منذ الثورة وأثناء حربها مع العراق، والرغبة في تحقيق نمو اقتصادي والاعتماد على الذات كأحد المبادئ الأساسية للثورة الإيرانية في ظل الحصار الأمريكي المضروب عليها، لذا لجأت إيران لتعميق علاقاتها مع الصين وروسيا كبديل عن التكنولوجيا الأمريكية والغربية. فقد بقيت معادلة البترول الإيراني مقابل التكنولوجيا والتجهيزات العسكرية هي المعادلة المسيطرة على توجه السياسة الخارجية الإيرانية، وهو ما جعل إيران تنجح في اختراق الحصار الأمريكي المضروب عليها، وهو ما سبب قلقا أمريكا وإسرائيليا. وهذا كله علامة نجاح تحسب لإيران وسياستها الخارجية.
التنمية والسياسة:
من المؤكد أن التنمية لا تقتصر فقط على القدرة على تخصيب اليورانيوم أو تطوير تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية والكيماوية والبيولوجية وتكنولوجيا السلاح، على أهمية كل ذلك إلا أنه غير كافي، فالتنمية هي منظور شامل متكامل ومستديم، وهي تمثل نظاما متكاملا يعضد بعضه البعض، وبالتالي فالتنمية تشمل أبعادا صناعية واقتصادية وسياسية واجتماعية. فمن خلال التنمية الاقتصادية يمكن تحقيق زيادة في الناتج الوطني الاقتصادي أكبر من معدل الزيادة في عدد السكان، مما يؤدي إلى زيادة في حجم الدخل الوطني، وبالتالي زيادة في متوسط نصيب الفرد من الدخل. وتنمية سياسية من خلال تطوير أو استحداث نظام سياسي عصري، وترسيخ المواطنة، وتحقيق التكامل والاستقرار، وإشراك القاعدة الشعبية في صنع القرار أي في المشاركة السياسية وتنمية ثقافة سياسية ديمقراطية. وتنمية اجتماعية من خلال تطوير البنية الاجتماعية المتكلسة، واعتبار الإنسان عنصرا أساسيا ومحوريا في أية خطة تنموية، وتغيير نظرة الإنسان والمجتمع إلى الأمور في المقام الأول.عند ذلك يمكن الحديث عن نجاح الدولة في تأسيس نظم اقتصادية وسياسية متماسكة.
عند تطبيق ذلك على إيران، يتضح أنها استطاعت أن تحقق بعض الانجازات التنموية، ولكنها عجزت عن تحقيق المنظور الشمولي للتنمية المستدامة، ويكشف عن ذلك حالة الاحتجاجات الواسعة ليس فقط في الأوساط الشعبية والطبقة الوسطى، بل من داخل النخبة السياسية التي اعترتها الفرقة وأصابها الانقسام إثر فوز نجاد بولاية رئاسية ثانية، حيث لا يزال يعاني النظام الإيراني من تلك التحولات العاصفة في بنيته الاجتماعية تم التعبير عنها بمظاهرات وحرائق وصدامات وقتلى واعتقالات بالآلاف، وهو مؤشر على أن النظام الحاكم فقد جزءا من قاعدته الاجتماعية نتيجة عجزه عن التعبير عن حركية المجتمع الإيراني، وهو دليل على فشل الطبقة الحاكمة في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة في ظل ازدياد الفجوة بين النظام الحاكم وقاعدته الشعبية. هذه الفجوة سوف تستغل من قبل الخارج وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية في إحداث المزيد من العقوبات الجديدة التي يطلق عليها بـ”العقوبات الذكية” ضد إيران إثر تعثر نجاح المفاوضات على خلفية برنامجها النووي، وفشل نظام العقوبات الاقتصادية، وبالتالي هيكلة العقوبات بما يستعيد من فاعليتها في منع إيران من تطوير مشروعها النووي. وهي عقوبات وصفتها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون بـ “عقوبات تصيب بالشلل”. سوف تستهدف هذه العقوبات بشكل أساسي القاعدة الاجتماعية-الاقتصادية المساندة للنظام الإيراني، من خلال استهدافها نقطة الضعف الاقتصادية الإيرانية الأساسية المتمثلة باعتماد النظام على واردات البنزين الأجنبية التي تصل إلى 40%  من احتياجاته المحلية، وهو القطاع الذي يعمل فيه داعمو النظام وبخاصة الحرس الثوري الإيراني حيث هناك كيانات تابعة لـ (الحرس الثوري) مرتبطة بهذه التجارة بشكل مباشر أو غير مباشر.
هكذا يتبين لنا أن إيران أخفقت في تحقيق التنمية الشاملة، وهو ما يؤثر سلبا على سياستها الخارجية، ويشكل نقطة ضعف في نظامها، وهو ما تعمل القوى الدولية على استغلاله من أجل تحقيق أهدافها. إن الأمل في مستقبل واعد لإيران يتوقف على قدرتها في تحقيق منظور متكامل للتنمية ومستديم بما يحقق الاكتفاء الذاتي.
رغم أن إيران بلد نام، ويعاني من معضلات اقتصادية وبيئة دولية وإقليمية شديدة التعقيد، بيد أنه لا يمكن إنكار ما حققته على الصعيد التنموي- وإن كانت تنمية ناقصة- فهي تحتل على صعيد المنطقة مكانةً متميزة في الحقل الاقتصادي والعلمي والتقني، كما بينا سابقا. وهنا تبدو مفارقة غريبة تحتاج إلى بحث معمق مفادها أن إيران منذ ثورتها عام 1979  وهي ترفض الاعتراف بالنظام الدولي، واتبعت سياسة الحياد “لا شرقية ولا غربية”، مقابل ذلك فُرض عليها عزلة دولية وإقليمية وحصار ضارب من قبل النظام الدولي وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، واستمر النزاع بينها وبين واشنطن، بالإضافة إلى عدم اعترافها بالهيمنة الأمريكية، حتى أمست، كما يقال “رأس حربة في مواجهة المشروع الأمريكي”، ورائدة بما يسمى جبهة “الممانعة”، ومع ذلك استطعت إيران أن تحقق بعض الانجازات التقنية والعلمية والتنموية برغم الحصار والعزلة المضروبة عليها. في المقابل نجد دول عربية تتساوق سياستها مع واشنطن وفي حالة سلام مع إسرائيل إلا أنها بقيت في إطار التبعية ولم تنجز مشروعها التنموي كما أنجزته إيران التي شقت طريقها نحو التنمية الاقتصادية والصناعية. في المقابل نجد تركيا تتمتع بعلاقات جيدة مع واشنطن وإسرائيل وتعترف بالنظام الدولي القائم ومع ذلك شقت طريقها بنجاح باهر في المجلات التنموية الاقتصادية والسياسية والصناعية، رغم اختلاف منهجها عن نهج إيران. في المقابل نجد سورية التي تتبع النهج الإيراني( أي الممانعة) أخفقت بامتياز في كافة المجالات حتى أمست تعاني من جفاف يضرب بعض مناطقها، ناهيك عن فشلها حتى الآن في استعادة أرضها المحتلة. ومصر التي تتساوق سياستها مع واشنطن وفي حالة سلام دائم واستراتيجي مع إسرائيل، ومع ذلك تراجعت مكانتها الدولية ودورها الإقليمي، وأمست عاجزة عن صنع الأحداث الدولية والإقليمية، وأكثر من ذلك فعندما أراد اوباما أن يرسل رسالة إلى العالم الإسلامي اختار تركيا ولم يختر مصر. هذه المفارقات بحاجة إلى دراسات حيث يتجلى أن المشكل يكمن عندنا نحن معشر العرب. وفي الوقت الذي تحاول فيه إيران تعديل الخلل في الميزان الاستراتيجي، نجد “العرب” منذ حرب 1973  لم تجر أية محاولة لتجاوز الاختلال الاستراتيجي بينهم وإسرائيل. وهكذا، بينما تتباين الطرق والمناهج التي يتبعها الآخرون وينجحون في تحقيق مصالحهم، إلا أن العرب يتبعون خطاهم و يفشلون.
© منبر الحرية،21 شتنبر/سبتمبر 2010

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

في الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ وبينما كنت أقود سيارتي في العاصمة الأميركية، رأيت الدخان يتصاعد من مبنى البنتاغون. لم أفهم ما حصل إلا عند دخولي المكتب الإعلامي الكويتي الذي كنت أرأسه في العاصمة الأميركية. في ذلك اليوم فرغت العاصمة الأميركية من موظفيها، توقف السير في معظم أنحاء المدينة، وتعطلت الدولة والمؤسسات، وبدا كل شيء يذكر ببيروت خلال الحرب الأهلية.
في اليوم الثاني جاءتني دعوة للتحدث أمام مجموعة كبيرة من الرسميين الأميركيين الذين كانوا يريدون أن يفهموا شيئاً عن هوية المجموعة التي نفذت الهجوم، والأسباب التي قد تكون وراءه. فاجأتني الدعوة، فماذا سأقول لهم عمّا وقع؟ وهل سأتعرض لموقف صعب مع حشد كبير يصل لما يقرب من ألفي مستمع. وما إن دخلت القاعة الضخمة حتى شعرت بثقل الهواء. كان الحزن والهدوء مسيطرين على الحاضرين، كان ذلك صمتاً شاملاً.
تساءلت بيني وبين نفسي: كيف يفكرون الآن بنا وبعالمنا الإسلامي؟ ربما يتساءلون الآن: هل هو معنا أم ضدنا؟ ربما يقولون: كيف يتجرأ على المجيء بينما الحرائق مشتعلة في نيويورك ومعظم الموتى لم يدفنوا بعد؟
لم أجد في مستهل كلمتي أفضل من قول أبيات قصيرة للشاعرين الكبيرين جلال الدين محمد الرومي، وحافظ الشيرازي. الرومي وحافظ من كبار شعراء المسلمين من القرن الثالث والرابع عشر، وقد كتبوا شعرهم بالفارسية وترجم للانكليزية وللغات كثيرة. كلاهما ترك لنا شعراً متصالحاً مع النفس ومع الديانات الأخرى ومع الحضارات ومع الإنسان ومع وحدانية الله.
بمجرد قراءة الأبيات التي تدعو إلى السلام بين الناس من دون التفات إلى دين أو عرق، هدأ الموقف وتغير الجو بينما ارتسمت على الوجوه بعض الابتسامات المختبئة وراء ستائر من الحزن. لم أكن أعرف حين ألقيت شعر الرومي انه سيكون الشاعر الأكثر انتشاراً وشعبية في الولايات المتحدة منذ ذلك التاريخ وليومنا هذا. لم أكن أعرف انه سيكون بطل عيد الحب في كل عام نظراً لكثرة استخدام شعره بين المحبين.
تحدثت عن الشرق الأوسط وعن حروبه، عن تطور الراديكالية الإسلامية وتاريخها، عن عنف إسرائيل واحتلالها، عن النظرة إلى الولايات المتحدة السائدة في الشرق بين العرب والمسلمين من جراء أخطاء السياسة الأميركية على مدى نصف قرن (مع استثناءات قليلة). وتحدثت عن عنف الدول والأنظمة غير الديمقراطية، وعن اثر العقوبات على العراق من دون التوصل إلى حل نهائي لمصلحة تغيير النظام أو الرئيس. تحدثت عن الحرب غير المعلنة بين الولايات المتحدة و «القاعدة» وعن ردود فعل تلك الجماعات في تفجيرات في اليمن وأفريقيا.
وكان لا بد من شرح آخر: فالعالم الإسلامي منقسم على نفسه بين تفسيرات دينية مختلفة كما وسبق للغرب أن انقسم على نفسه بسبب تفسيرات دينية متناقضة، والعالم الإسلامي هو الآخر ضحية الإرهاب كما حصل في تفجيرات كثيرة في مدن رئيسية في مصر والمملكة العربية السعودية وغيرهما. بل إن بعض الرؤساء كانوا ضحية الاغتيال والإرهاب كما حصل مع الرئيس السابق أنور السادات. لقد وصلت مشكلات الشرق الأوسط إلى شواطئ الولايات المتحدة. وما حصل هو جرم بحق أبرياء مدنيين، وهو تعبير عن الحاجة إلى دور أميركي مختلف في إخماد بعض حرائق المنطقة وأهمها الصراع العربي الإسرائيلي.
مر ذلك الاختبار بيسر وسهولة، غير أنني سأواجه اختباراً أكثر صعوبة عندما ذهبت بعد أيام إلى مدينة نيويورك للتحدث مع مجموعات من سكان المدينة ومن يهودها. كانت رائحة الجثث المحترقة القادمة من مركز التجارة تعم مانهاتن في قلب نيويورك حيث كنت أتحدث. تساءل الحاضرون وتفهموا، بعضهم ذرف الدمع. هكذا وجدت نفسي على مدى ثلاثة شهور متتالية في حديث يومي أمام مجموعات أميركية تريد أن تعرف عن الشرق الأوسط والإسلام وعن الإرهاب و «القاعدة» وعن مسببات الحادي عشر من سبتمبر.
بكل مقاييس الخيال أدت الهجمات الجهنمية التي نفذتها مجموعة من تسعة عشر شاباً عربياً ومسلماً في 11 سبتمبر ٢٠٠١ إلى حروب بين الشرق والغرب. لقد دخل منفذو الهجمات التاريخ وأدخلوا معهم في الوقت نفسه كماً كبيراً من المآسي والآلام بدأت ولم تنتهِ. لقد أرادوا خلق هزة كبرى لدولة هي الأكبر والأقوى في التاريخ، فكان لهم ما أرادوا قبل اختفائهم وراء سحب الدخان المبهمة وحروب الثأر المتعددة.
إن رد الفعل الرسمي الأميركي في إدارة الرئيس بوش كانت متفجرة. إذ انطلقت الآلة الأميركية العسكرية في حروب عدة في أفغانستان والعراق ثم عمليات كبرى في باكستان واليمن بالإضافة إلى حرب مفتوحة على «القاعدة» في كل مكان. والواضح أن تلك الحروب لم تنته وأن ما بدأته إدارة الرئيس بوش على مدى عهدين لم تستطع إدارة الرئيس أوباما التنصل منه. ولكن الدولة الكبرى الأولى في العالم أصبحت من جراء الحدث مثخنة الجراح، تعيش حروباً لا تستطيع الفوز بها، تستنزف مئات البلايين مما ساهم في الأزمة الاقتصادية التي تعيشها، وأصبحت الدولة الكبرى مدينة لكل من الصين وروسيا في المواقف الدولية. تغير العالم منذ 11 سبتمبر كما تغير موقع الولايات المتحدة.
وبعد تسع سنوات على تلك الهجمات نتساءل: هل ولدت «القاعدة» من فراغ؟ وهل حروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ودعمها لإسرائيل منفصلة عن «القاعدة» ونشوئها واستهدافها للولايات المتحدة؟ من أين جاءت «القاعدة» بأفكارها الجهنمية والمدمرة؟
يمكن القول أنه بسبب عنف «القاعدة» وبسبب تصوراتها الدينية المتشددة من الصعب أن تتحول إلى نظام سياسي واجتماعي ناجح. إن فرصها ممكنة في مجتمعات منهكة ومنقسمة ومعزولة عن العالم كما هو حال أفغانستان وبعض أجزاء اليمن والصومال والباكستان. «القاعدة» في الجوهر ظاهرة قتالية تستخدم وسائل مدمرة بحق أعدائها وبحق الأبرياء وبحق الشيعة والطوائف الأخرى. لكن هذا لا ينفي أن منطقاً محدداً يسيّر أعمالها كما أن ينبوعاً دائماً من البؤس والفقر والاضطهاد والتهميش وانسداد الآفاق والتعصب يغذيها بالشبان المستعدين للقتال حتى الموت تحت رايتها.
منذ أيام قرأت رواية «الموت» لفلاديمير بارتول والتي كتبها قبل ستين عاماً وترجمتها بمهارة إلى العربية فاطمة النظامي. الكتاب يؤرخ بأسلوب روائي للداعية الإيراني حسن الصباح الأب الروحي لممارسات «القاعدة» الذي عاش في ١٠٩٢ م. حسن الصباح هو قائد «قلعة الموت» وأحد أتباع الطائفة الإسماعيلية والحشاشين الذي أرعب الدولة السلجوقية التي حكمت إيران وتركيا وسيطرت على الدولة العباسية في بغداد. لقد تميز فدائيو الصباح الانتحاريون بقدراتهم ومهاراتهم القتالية كما تميزوا باستعدادهم للموت بلا أدنى تردد. لقد ابتدع الصباح وسائل جهنمية للسيطرة على الانتحاريين، ونجح مع انتحارييه الذين تمرسوا على القتل بواسطة الشفرات السامة بإنهاء وإضعاف الدولة السلجوقية وإسقاط نفوذها. لقد أدخل حسن الصباح بممارساته في القاموس العالمي كلمة «الاغتيال» كما هي اليوم بالانكليزية Assasination والعائدة للحشاشين.
هناك بالطبع أرضية خصبة تنتج «القاعدة» وترسل لها المجندين. إنها التربة التي لم نتعامل معها حتى الآن على رغم مرور تسع سنوات على أحداث 11 سبتمبر. فالاحتلال الإسرائيلي ينتج حروباً دائمة ويساهم في تثوير الشبان. كما أن غياب آليات المشاركة والديمقراطية الحقيقية ينتج فكراً معادياً للحياة ومتشدداً في معارضته. وهناك تشدد في فهم الدين قلما يتصدى له العلماء والعارفون بالدين. إن العنف مهما كان مصدره (دولاً أو جماعات) ينتج عنفاً والفكر البائس ينتج أيضاً عنفاً، والجمود والتهميش بحق المجتمعات والفئات والاحتلال والهجمات الإسرائيلية كما حصل في جنوب لبنان وغزة ينتجان عنفاً، وحروب الولايات المتحدة وانحيازها إلى إسرائيل تنتج عنفاً. إن الفكر العربي المتوازن في إطار عدالة وتنمية ومشاركة ما زالا غائبين عن العالم العربي مما يحد من البدائل والآفاق المتفائلة، لهذا تستمر ظاهرة «القاعدة».
بعد تسع سنوات على أحداث الحادي عشر من سبتمبر ما زال الصراع مفتوحاً وما زال الإرهاب عنصراً مؤثراً وأحياناً حاسماً. ما زال الخلاف على موقع مسجد يخلق انقساماً كبيراً في الدولة الكبرى. ما زال الصراع بين الشرق والغرب مرتبطاً بمفاهيم العدالة والاختلاف والقوة. ما ينتظر منطقتنا والعالم هو استمرار للمشهد الراهن في ظل المزيد من العنف، وذلك لأن القضايا التي أدت إلى ذلك الحدث الجهنمي في 11 سبتمبر ما زالت على حالها.
© منبر الحرية،18 شتنبر/سبتمبر 2010

نبيل علي صالح17 نوفمبر، 20100

ذكرى اا أيلول أو ما سمي بـ”غزوة منهاتن!”
العرب وواجب إعادة رسم صورة جديدة للإسلام الحضاري المستنير
أتت أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 على ما تبقى من صورة جميلة باقية للعرب والمسلمين لدى العالم الغربي، وثبتت في ذهنية المجتمعات الغربية صورة نمطية سبق لهم أن عرفوها عن الإسلام وخلاصتها أنه دين إرهابي متعصب يستقوي بالعنف، ويتوسل بوسائل الإكراه والقوة العارية للوصول إلى تحقيق مقاصده وغاياته في التبشير وأسلمة العالم.
ولم تتمكن مئات الندوات الحوارية والمؤتمرات الحضارية التي تبنتها وأقامتها كثير من المواقع والنخب والتيارات والأحزاب والجهات العربية والإسلامية، وحتى الدولية في تبديل أو زحزحة موضع تلك الصورة القاتمة والسوداء حتى الآن.
وهانحن اليوم نمر بالذكرى التاسعة لتلك الأحداث المأساوية التي راح ضحيتها عدد كبير من الأبرياء الذين لم يكن لهم أي ذنب، سوى أنهم ولسوء الحظ تواجدوا في تلك اللحظة في أماكن ومواقع التفجيرات الإرهابية التي عبر منفذوها –بصورة من الصور- عن حقد أعمى وكراهية سوداء لكل ما هو جميل وإنساني في هذا العالم.
ولا شك أنه قد مرت بنا منذ ذلك التاريخ وحتى الآن كثير من الأحداث السياسية والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بالعالم، عندما تلاحقت تلك الوقائع بصورة دراماتيكية لتلهب العالم كله، ممتدة في دوائرها وتأثيراتها السلبية على أكثر من مستوى في هذا الموقع أو ذاك.
ولكننا نجد أنفسنا–في كل ما حدث من تحولات ومتغيرات– ملزمين تماماً (كعرب ومسلمين) أن نقف، ونهدأ، ونتأمل قليلاً بحثاً عن حقائق الأمور وبواطن الأشياء، ونتساءل عن جملة الأسباب الداخلية (الذاتية) –قبل الأسباب الخارجية الموضوعية الكامنة في داخل نسيجنا الاجتماعي والديني والسياسي التي تكرس -يوماً بعد يوم– جذور ومظاهر العنف الداخلي، وتقوي مواقعه وامتداداته الدولية المنتشرة هنا وهناك؟! ولنكن أكثر دقة وموضوعية في طرحنا لسؤالنا السابق : ألسنا مسؤولين -بصورة مباشرة أو غير مباشرة– عن صنع الإرهاب، وإنتاجه، وتطويره، وحتى تصدير بعضه (أو كثيره) للآخرين؟!.
ألا تتحمل النخب السياسية العربية والإسلامية المثقفة في السلطة والمعارضة المسؤولية الذاتية المباشرة عن تطور (وتزايد وتضخم) الحجم المادي والكيفي للتيارات (والقوى والنخب) السياسية ذات التوجه الأصولي في داخل بلداننا ومجتمعاتنا؟!.
إننا نجزم هنا بأن معظم الحكومات والنظم العربية والإسلامية القائمة عندنا تتحمل المسؤولية النفسية والمادية الكاملة عن نمو بذور العنف الداخلي، وامتداده إلى مواقع الآخرين. ويبدو لنا أن لهذه النتيجة الحاسمة -التي وقفنا عليها هنا- مقدمات أساسية ارتُكز عليها للوصول إلى النتيجة الحاسمة السابقة.. فما هي هذه المقدمات؟!..
نستطرد هنا ونفتح هلالين قبل الحديث عن تلك المقدمات لنؤكد –وهذه من دون شك من البديهيات السياسية في علم التاريخ السياسي لمنطقتنا- أن للتاريخ الاستعماري الطويل الذي شمل معظم أوطاننا العربية والإسلامية الدور الأكبر والأبرز في تكريس نزعة العنف والعدوان في بيئتنا ومجتمعاتنا، كما كان لوجود إسرائيل غير الشرعي على أرض فلسطين المدعوم كليةً من الغرب دوراً مهماً في تعميق ثقافة الإرهاب والعنف، حيث أن العنف يستولد عنفاً والإرهاب يستولد إرهاباً، والاحتلال يستدعي مقاومةً وعنفاً مضاداً.
طبعاً، لا شك بأن هناك معاناة حقيقية شاملة، وتخلف سياسي واجتماعي عام يلف واقع العرب والمسلمين. ويظهر أمامنا حالياً كنتيجة طبيعية للسياسات العقيمة والفاشلة التي اتبعتها الحكومات والإدارات السياسية العربية –في كل مواقعها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية– منذ بداية عهود الاستقلال الشكلي عن الاستعمار الغربي وحتى الآن، والتي أدت إلى إلحاق الضرر والخراب الكبير بحق أبناء مجتمعاتنا، وبحق ثرواتهم، ومواردهم الطبيعية الهائلة التي أضحت نهباً ومشاعاً للدول الكبرى المرتبطة كلياً بوكلائها ومعتمديها المحليين في هذا البلد أو ذاك.
ومن المعروف –بالنسبة إلينا جميعاً– أنه لا توجد (في معظم البلدان العربية والإسلامية) حياةٌ سياسية حقيقية. حيث أنه ليس مسموحاً أبداً للشعب -في داخل الحياة السياسية العربية– لا بالتعبير عن آرائه، ولا بالتظاهر، ولا بممارسة النقد، ولا بالإضراب، ولا بالتنظيم السياسي، ولا بإقامة الانتخابات الحرة، ولا بالإعلام الحر والنزيه، …الخ. أي أن هذه السياسة الشمولية المركزية تدفع المجتمع كله باتجاه سلوك طرق (واتباع وسائل) غير سلمية للتعبير عن حقوقهم ومعتقداتهم وآرائهم وثقافاتهم، خصوصاً أولئك الناقمين والساخطين والمتضررين مباشرة من هيمنة تلك السياسة التسلطية القاهرة.
ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أن سلوك طرق العنف واستخدام الوسائل العنيفة –في التعبير عن الرأي، وممارسة السياسة– هو أمر مرفوض من قبل كل من يملك عقلاً حراً ووعياً إنسانياً متقدماً في الفكر والممارسة، ولكن المسألة هي أن هناك من يدفع مجتمعاتنا دفعاً نحو تلك الطرق والوسائل العمياء غير المجدية والمرفوضة كلياً، وعند البحث عمن يكمن وراء ذلك تجد أن الفضاء الثقافي الديني المهيمن على العقول والواقع العام له دور رئيسي في ذلك، وسياسة إلغاء الحقل السياسي العام المتبعة في كثير من البلدان لها دور، والسلطات القائمة المشرفة والموجهة لها الدور الأهم أيضاً، فهي التي تهيئ –في داخل إستراتيجيتها السياسية– الأجواء المناسبة، وتخلق التربة الأخصب لنمو أفكار ومشاريع وسياسات العنف الداخلي، ومن ثم العنف الخارجي، وذلك من خلال منعها أبناء المجتمع من مزاولة النشاط الحياتي الطبيعي، وإتباع الطرق والأدوات والمناهج السياسية السلمية.. ويشهد على ذلك واقع الحضارات والأمم في الماضي والحاضر، حيث نجد هناك أن النظم والحكومات المستبدة هي المتسبب و(الأم الحنون؟!) لتوليد (ورعاية) وتغذية حركات (وعناصر) العنف والإرهاب.
وبالإضافة إلى انعدام الحياة السياسية الطبيعية في معظم دولنا العربية والإسلامية، فإننا نجد أن هذه الدول تعاني معاناة اقتصادية واجتماعية شديدة نتيجة تطبيق (وفرض) سياسات تنموية قاصرة وعقيمة على شعوبها ومجتمعاتها.
كما أن للفساد العريض –الذي يلف أركان تلك البلدان- الدور الأكبر في الوصول إلى تلك النتائج المأساوية والخطيرة التي أفقدت مجتمعاتنا توازناتها وإيقاعاتها الداخلية، وخربت الإنسان -الذي هو أساس بناء الأوطان– من الداخل، وتركه حائراً من أمل بحياة شريفة، هادئة ومطمئنة.
وعندما تصل الأمور –على الصعيد الاقتصادي- إلى هذا المستوى الكارثي الخطير من التدهور والسوء والانحطاط -الذي يعبر عنه من خلال تفشي مظاهر اليأس والإحباط والقنوط والعدمية واللا إبالية- فإنه من الطبيعي جداً أن تتحول مجتمعاتنا إلى مواقع وبؤر توتر حقيقية لتفريخ الإرهابيين، ونمو بذور العنف الذي يمكن أن تتطاير شرره وشره إلى مسافات بعيدة ليصيب بلهيبه وشظاياه هذا البلد أو ذاك، ومن دون انتظار ومعرفة النتائج السلبية الخطيرة المترتبة على مثل هذه الأفعال الشنيعة.
من هنا نحن نعتقد أن صناعة الإرهاب وإنتاجه، وتوسيعه، وتركيز خطوطه (المتبادلة بين الداخل المتورط والمرتكب والخارج المتآمر) –كقيمة عملية، لها أسسها، وقواعدها، وآليات عملها المباشرة وغير المباشرة في داخل المجتمعات المتخلفة والفقيرة على مستوى النخب السياسية والاجتماعية الحاكمة ككل- هو الذي يساهم في جعل كل هذا الإرهاب الدولي (المتحرك حالياً) إرهاباً عربياً وإسلامياً فقط، وبالتالي يدفع باتجاه تكوين رأي عالمي موحد ضد العرب والمسلمين في كل مكان وزاوية من هذا العالم، مع العلم أن للدول الكبرى نصيباً وافراً في تعميق ثقافة الإرهاب وتوليد الإرهابيين وصناعة العنف والدم في داخل بلداننا ومجتمعاتنا التي عانت معظمها من التدخلات الدموية للكثير من سطوة وقوة وهيمنة القوى الكبرى وعلى رأسها أمريكا.
ولذلك فالمشكلة القائمة حالياً لا تقتصر فقط على وجود قوى ومنظمات وشخصيات تؤمن بالعنف وتعتقد اعتقاداً جذرياً بأولوية الإرهاب والنشاط الجهادي (نذكر هنا أن الإسلام كدين ميز بين نوعين من الجهاد، الأول: الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس.. والثاني: الجهاد الأصغر، وهو جهاد العدو.. وفضل الأكبر على الأصغر لأنه أساسه ومعياره وناظمه العملي) المسلح على السياسة والسجال السلمي لأخذ الحقوق، وتعمل في السر أو العلن هنا وهناك، بل إنها تتعدى ذلك لتصل إلى مرحلة وجود مناخ أو جو عربي وإسلامي عام يتعامل –بصورة شبه طبيعية- مع قضية الإرهاب المحلي والدولي، وذلك كنتيجة منطقية لوجود نظم ونخب سياسية تُرعب، وتُرهب، ولا تهتم إلا بمصالحها ومواقعها الخاصة على حساب مصالح الأمة كلها.
والقوى والنخب الوطنية الحرة الحية في المجتمعات العربية الحية لا تزال، بالرغم من عدم انسجامها (أو اتفاقها) ورفضها لمجمل السياسات العملية المطبقة في معظم البلاد العربية -التي تكرس الإرهاب والتسلط والاستقالة الشاملة من المستقبل الحضاري المتطور والمنشود– تأمل وتنتظر من تلك النظم القائمة أن تنطلق من لحظتها الراهنة –مستفيدة من تعاظم متغيرات العالم وتسارعاته الكبيرة– لإجراء إصلاحات سياسية جدية وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية على مستوى منطق الحكم وممارسات السلطة ومجمل آليات العمل الاجتماعي والسياسي، وفي كل ما يتصل بضرورة مواكبة معايير ومبادئ التنظيم السياسي والاجتماعي الإنساني الحديث، في قضايا: التعددية، وحقوق الإنسان، وحرية الفكر والتعبير، وإلغاء قوانين الطوارئ والاستثناء، ووضع حد نهائي لمناخ القمع والرعب والاضطهاد السائد (الذي تمثله تلك الأنظمة الشمولية)، والمبادرة الفورية إلى إعلان عهد الحريات والأمان العام في كل البلاد، لأن الحرية والأمان شرطان أساسيان لازمان لكل عمل خلاق ومبدع، حيث أنه لا تنمية حقيقية، ولا تحديث صحيح معافى (وليس التحديث الشكلي القشري الذي يقوم على استهلاك حضارة ومنتجات الآخرين بما يبقينا تابعين ومستلبين لهم) دون تمثل وتطبيق تلك التطلعات الكبرى.
وحتى نتمثل تلك الطموحات العالية -ونتحرك في خط التنمية المطلوبة فردياً وجماعياً- لابد أن تكون أنظمة الحكم القائمة في داخل اجتماعنا السياسي والديني العربي والإسلامي (والتي تدير وتشرف وتنفذ السياسات العامة في المجالات كلها) شرعية في فكرها ووجودها وامتدادها. أي أن تحظى بقبول طوعي (لا قسري) بين أبناء الأمة والمجتمع.
وهذه هي الإشكالية الأكبر التي لا نزال نعاني منها، ولا أعتقد بأننا سنخطو خطوة واحدة نحو الأمام من دون إيجاد حلول جذرية علمية وعملية لها. إنها إشكالية إحجام الناس عندنا، وعدم مشاركتهم بشكل فاعل ومنتج في مجمل النشاطات السياسية والاقتصادية العامة، وبالتالي عدم الاستفادة القصوى من كل الإمكانيات والطاقات والجهود البشرية (والطبيعية) المتاحة أمامنا.
ونحن نعتبر أن تثمير جهود وقدرات أفراد الأمة في طريق العمل الخلاق والمبدع    -الذي نحن بأمس الحاجة إليه حالياً– لا يمكن أن يصل إلى نهايته السعيدة ما لم نوجد إطاراً ثقافياً ونفسياً صحياً لعملية التنمية المطلوبة، يمكنه أن يدمج الأمة ضمنه لتتجاوب معه، بما يساعد على الشروع بتطبيق خطة اقتصادية وإدارية يشارك فيها الشعب كله، وتمهد للقضاء على مواقع الفساد، وتساعد في خلق مناخ نقي وصحي جديد مشجع على العمل والإنتاج والاستثمار من أجل أن تتحرك الأمة (كل الأمة) على طريق إنجاح التنمية، وبناء المجتمع الحديث. حيث أن حركة الأمة ككل تعبير حر عن إرادتها، وعن نمو وعيها، وانطلاق مواهبها الداخلية وطاقاتها الكامنة نحو المشاركة الفاعلة لأبنائها في عملية البناء والتنمية للثروة الخارجية من خلال تنمية ووعي الثروة الداخلية.
وبتعبير أكثر صراحة نحن نعتبر أن إطار التنمية الثقافي والنفسي الشامل السابق ينبغي أن يتأسس -في العمق الروحي والنفسي– على مناهج فكرية ومعرفية عملية لا تتعارض (ولا تتواجه ولا تتناقض) مع طبيعة التركيب النفسي والشعوري التاريخي المتركز داخل البنية النفسية والفكرية لأبناء الأمة. أي لا تتعارض مع الإسلام كفكر حي متحرك ومنفتح على الحياة والإنسانية جمعاء.
لأن وجود التعارض والمواجهة مع التركيب النفسي للأمة (مع الإسلام كاعتقاد ورسالة دينية روحية) سينعكس حتماً بصورة سلبية خطيرة على واقع مجتمعاتنا في الحاضر والمستقبل، ويتمظهر-كما ذكرنا- من خلال امتناع أفراد الأمة عن المشاركة في صياغة ومناقشة القضايا الرئيسية، وممارسة رقابتهم على الأجهزة المختلفة للدولة.
لذلك -وحتى ينخرط الجميع في عملية بناء الوطن وتطوير المجتمعات من خلال تحقيق وإنجاز عملية التنمية المطلوبة لها- فإن الدولة يجب أن تكون تعبيراً حقيقياً عن إرادات الناس ومصالح المجتمع، وتجسيداً عملياً لقيمه الثقافية والتاريخية الأصيلة المنفتحة، في تقدير وجود الإنسان واحترامه، وتوفير العمل اللازم لمعيشته، ونمو وعيه وبذلك تثبت الدولة، وتستقر وتتطور قدماً نحو الأمام.
ولذلك نقول بأن افتقاد الأمة للمشاركة الشعبية الطوعية الواعية للجماهير الواسعة في عملية التنمية الذاتية، والتغلب على واقع التخلف، والخروج من أنفاق التبعية والارتهان للخارج، لا يمكن إلا أن يضعف الشأن العربي والإسلامي في قضاياه الإستراتيجية المصيرية، وبكل مستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبالتالي: عندما نحقق مناخ الحرية، ونؤسس الديمقراطية الصحيحة فإنه يحق لنا أن نتحدث هنا عن وجود قدرات أكبر وأوسع تسمح لنا بتوفير قاعدة مادية صلبة لمواجهة العدو الإسرائيلي وغيره ممن يتربصون بنا الدوائر ويخططون ويتآمرون علينا، حيث أن واقع هذه المواجهة (المؤكدة في المستقبل القريب أو البعيد) يزداد ضعفاً كلما زاد ابتعاد الحكام عن هموم الشارع العام (أي عن متطلبات المواطن الأساسية)، وكلما فرض (هؤلاء الحكام) على الناس نموذجاً واحداً في الفكر أو الاعتقاد والعمل أو الممارسة، وهذا ما يحدث حالياً في بلداننا العربية والإسلامية بشكل واضح تماماً حيث تتصور الكثير من النخب السياسية أن الهيمنة على الشعب، والتحكم بمعتقداته وأفكاره ومعيشته وقدراته، وتفتيت قواه وثرواته، هي الوسائل الأسهل والمباشرة التي قد تمكنها من تنفيذ سياساتها الداخلية والخارجية بسهولة ويسر أكثر فأكثر.
ولكن الحقيقة هي أن هذا التصور المزعوم قد يصدق حيناً، ويسقط أحايين كثيرة أخرى. فالشعب يحتاج –بدايةً- من أنظمته الحاكمة إلى توفير أجواء ومناخات حرية دائمة تسمح بوجود حوار فكري متحرك ومفتوح، يشارك فيه الجميع، وتتعمق من خلاله النقاشات الجادة والمثمرة، وتطرح فيه الرؤى والأفكار المتعددة التي تنصبّ أساساً على طريق بلورة الوعي القادر على محاصرة كل أنواع القهر والتخلف والتأخر في واقعنا، والمتمثلة -كما تحدثنا سابقاً-في التجزئة، والاستلاب، والارتهان والتشتت واتباع الأهواء وفقدان إرادة التغيير الصحيح، وضعف (تضعيف) المؤسسات الدستورية، وهيمنة التدخلات الأجنبية على الداخل، والاستكثار منها تعويضاً عن غياب (أو تغييب) الإرادة العربية والإسلامية الجامعة (حيث أن العرب يجتمعون على أفكار الآخرين أكثر مما يجتمعون على قراراتهم هم).
وهذا الأمر (أي الوعي بالواقع والتأسيس الجدي لمواجهة الخارج من خلال الانفتاح على الداخل بتنفيذ سياسات إصلاح جدية وحقيقية غير ديكورية وغير مزيفة) ليس متوفراً للأسف حالياً. لأن النظم والنخب مهتمة ومهجوسة بأولوية الحكم والسلطة، وهي لا تريد –كما يظهر في سلوكها وممارساتها الفردية العنيفة- فتح باب الحوار الهادئ والعقلاني المتوازن، وهي أصلاً لا ترغب به، لأنها تشعر بأن فيه –في حال تحققه جزئياً أو كلياً– ما يهدد سلطتها الشاملة وهيمنتها وسطوتها المطلقة التي لا تنتهي على الثروة والسلطة والبلاد والعباد.
طبعاً نحن عندما نتحدث عن أولوية الحرية والتعددية من زاوية ضرورة وضع الحل للواقع المأزوم القائم، لا نتحدث عن وصفة جاهزة لمرض طويل، وإنما الحل عبارة عن ممارسة قانونية واعية لعملية التداول السلمي للسلطة، ولا تنحصر فقط في قضية مواجهة الاستبداد والفساد إذ أن مواجهة فكر وثقافة الاستبداد لها الأولوية، وهذه تجربة وسلوك حضاري معرفي ثقافي طويل الأمد، وليست مجرد تجربة أو وصفة دواء جاهزة سريعة تؤخذ عند الطلب.
أخيراً أحب أن أشير إلى نقطة أراها ضرورية لاستكمال هذه الكلمات، وهي أننا كعالم عربي وإسلامي -نعيش في الحياة بين مجموعة من الأمم المتقدمة والمتخلفة- لا نزال نفكر فيها بعقلية البلدة والوطن الصغير، ولم نعد نفكر بعقلية الأمة والوطن الكبير مع العلم أن كل المسؤوليات الخاصة والعامة (بما فيها مسؤوليتنا أمام المجتمع والأجيال وأمام الله) قد ألزمتنا بضرورة أن نتضامن ونتوحد أمتياً-إذا صح التعبير- مع بعضنا البعض من أجل تحقيق هدف وجودنا الحضاري الأساسي في الحياة، كأمة لها رسالتها الإنسانية، ولها دورها المحوري الرائد بين أمم ورسالات العالم كله. وهذه هي الأمانة الحقيقية التي حُمّلنا إياها، أمانة بناء إنسان عاقل وسعيد ومفكر وواعي بنفسه وبعالمه. فهل نحن مؤتمنون حقاً عليها؟!. وهل أدينا وعملنا على ما تستلزمه منا هذه الأمانة الثقيلة؟!.
إننا وقبل أن نبدأ بالإجابة على السؤالين السابقين، يجدر بنا أن نلتفت جيداً إلى واقعنا الراهن. لأننا سنجد فيه ما يوفر علينا عناء التدقيق والتأمل في أسئلة باتت بلا معنى، والبحث عن إجابات وافية وشافية لأسئلة كثيرة لا تنتهي. فنحن قوم لا نحب العمل والكد في طرق ذات الشوكة، ولا نرغب بإجهاد أنفسنا وعقولنا في البحث والتنقيب هنا وهناك. وهذه هي للأسف أكبر مصيبة ابتلينا بها. أن يفكر الآخرون بالنيابة عنا، فقد أعطينا عقولنا إجازة طويلة منذ زمن طويل.. طويل جداً.. وأعلنّا على الملأ الإفلاس والاستقالة العقلية والعملية من الحياة والوجود كله!.
© منبر الحرية،11 شتنبر/سبتمبر 2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018