شؤون سياسية

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

المجتمع البشري كأي كيان فيزيائي يمكن أن يخضع للدراسة و التحليل العلميين. وقد سبق و أن قدم باحثون خلال القرن العشرين الكثير من المحاولات لدراسة المجتمع على أسس فيزيائية. لقد سبق لي و أن تناولت الموضوع من خلال مشابهة (simulation) المجتمع بالبلازما  Plasma (الغاز الموئين) إضافة لاستخدام مفهوم ترابط الزمان و المكان الذي طرحته النظرية النسبية الخاصة كبعد رابع.
المكان هو مجال الحركة المدركة مباشرة. و الأفراد و المجتمعات والأفكار و التقاليد تتنقل كما تتنقل المادة. و ما دعوات تصدير الثورات و نقل التكنولوجيا و الاحتلالات العسكرية إلا بعض من أنواع هذه الانتقالات المكانية. تجاوز المكان هو محاولة للانتشار و التوسع أنها محاولة للديمومة المكانية. إن أبعاد المكان الثلاثة تمنح حرية للحركة بأي اتجاه ضمن الفراغ الثلاثي الأبعاد.
وقد يصاحب هذا الانتقال تناقض ظرفي مكاني. كتصدير مدافيء إلى المناطق الحارة أو الاستمرار في ممارسة العادات الملائمة للموقع القديم في الموقع الجديد. إن خصوصية المكان القديم تنتقل هي الأخرى إلى المكان الجديد و عدم القدرة على استيعاب المكان الجديد هو ما يخلق تناقضا ظرفيا مكانيا.
نتيجة للتطور التكنولوجي أصبح المكان اصغر بسبب سهولة الانتقال و سرعته وأصبح تأثير الحدث ينتقل بسرعة على مستوى الأفراد و المجتمعات. و لم تعد الشعوب مستقلة بعضها عن بعض كما كانت في الماضي. لذا فان ظاهرة التناقض ألظرفي المكاني أصبحت ظاهرة منتشرة في الشرق و الغرب. و ليس أدل على ذلك من حالة تلبس احد الغربيين بممارسة الجنس على الساحل في دولة الإمارات العربية و مقاضاته. انه مارس حرية يكفلها الغرب له (المكان الأول) و لكنه مارساها في دولة أخرى تعتبر هذا التصرف ممنوع قانونا (المكان الثاني). أو كما في مقاضاة عائلة مسلمة زوجوا ابنتهم من شخص اختاروه أهلها لها في انكلترا (المكان الثاني) و هذا يعد تصرفا غير قانونيا في انكلترا و لكنهم من الباكستان وهذا التصرف مقبول و مرحب به في هذه الدولة الإسلامية (المكان الأول). إن احتكاك المجتمعات المختلفة زاد من ظاهرة التناقض هذه. وما الانتقال المكاني إلا سببها الأساس. و من ظواهر الانتقالات المكانية الخطرة التي عانت منها المجتمعات ظاهرة الاستعمار و الاحتلال. من خلال هذه الانتقالات تتم السيطرة على مجتمع في موقع مكاني أخر و خلال هذه العملية تحدث الكثير من التغيرات الاجتماعية الخطرة. مثال ذلك خضوع المجتمعات العربية للسيطرة العثمانية و بغطاء ديني و لمدة خمسة قرون تقريبا أدى إلى الكثير من التغيرات الاجتماعية و الفكرية و قاد إلى انحطاط اجتماعي ثقافي خطر مازالت أثاره المدمرة فعالة لحد ألان.
إن الانتقال المكاني حالة مألوفة و طبيعية لكون المكان عبارة عن امتداد يمكن الحركة خلاله و بثلاثة أبعاد. الانتقالات المكانية تتم خلال فترة زمنية لا تشكل تغيرات الأحداث فيها شيئا يذكر. الزمن هنا لا يشكل قيمة انتقالية كما يشكل تغير المكان. و الامتداد لا يدرك إلا من خلال إشغاله أو احتلاله وعلى ذلك يعرف المكان من خلال وجود المادة فيه. أما الزمن الامتداد الآخر فيدرك من خلال التغير و الحركة.
و لكن هذا الامتداد الزمني هو ببعد واحد فقط فهل يمكن احتلاله و السكون فيه مثل احتلال المكان و السكون فيه و البقاء و عدم المغادرة؟ الاستعمار أو الاحتلال هو نوع من أنواع الانتقال من مكان إلى أخر ثم الاستقرار و السكون في المكان الجديد. و قد عرف تاريخ البشرية أنواع مختلفة من هذه الانتقالات المكانية. أما الانتقال عبر الزمن و احتلال الزمن لم يتم التطرق له إلا من خلال بعض الدراسات الفيزيائية النظرية الصرفة.
بعيدا عن الخيال العلمي الزمن يتجه باتجاه واحد من الماضي نحو الحاضر و المستقبل. و هكذا نتجه جميعا. و المادة لا يمكنها أن تنتقل من الحاضر نحو الماضي أو ما يسمى بانعكاس الزمن (أو الزمن السالب). من الناحية ألنظريه يمكن التعامل فيزيائيا مع الجسيم المنفرد هكذا و لكن الأجسام المركبة فالأمر مختلف. على أية حال ليست المادة هي ما نقصده في هذه الدراسة و إنما الأفكار و العادات و التقاليد ألاجتماعية.
وهنا نناقش مسألتين هما:
1-    الانتقال عبر الزمن
2-    السكون و احتلال الزمن
إن الأنماط الفكرية المختلفة يمكن أن تنتقل أو تحتل الزمن كما تحتل المادة المكان. و انتقال الأفكار عبر حواجز الزمن المختلفة مسالة طبيعية وهكذا و صلتنا أفكار و عادات الأقدمين و هذا الانتقال هو السبب الأساسي وراء تراكم المعرفة لتتطور و تنمو.
أما ألاستقرار الزمني أو الوقوف الزمني فهو حالة تصف الجمود و عدم التغير و مواكبة الزمن. وهناك الكثير من التيارات الفكرية التي ترى في الماضي النموذج الفريد الواجب بقائه وهذا ما يعني السكون و البقاء عند فترة زمنية معينه و عدم الرغبة في تجاوز حاجز الزمن. هذه الظاهرة هي ظاهرة احتلال الزمن و البقاء فيه وعدم مغادرة موقع معين فيه.
ظاهرة احتلال الزمن و محاولة التوسع بتصدير الثورات الفكرية القديمة عبر ألازمان الأخرى ظاهرة إجحاف لا تختلف في شيء عن ظاهرة احتلال المكان من قبل شعوب أخرى و فرض إرادتها على شعوب ألاماكن المحتلة. هذه الظاهرة هي السبب الأساسي وراء ما سبق وان أسميناه بالتناقض ألظرفي (ٍSituational paradox) و لكن بجانبه الزمني. و كما لا توجد أفضلية لمكان ما على أخر إلا من خلال اعتبارات نسبية فكذلك لا يوجد زمن أفضل من أخر.
لقد عرف الفكر العربي الإسلامي القديم ظاهرة الجمود الزمني ويمكن أن تكون مقولة المفكر الإسلامي الأول الإمام علي بن أبي طالب “لا تُكرهوا أبناءكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لجيل غير جيلكم” هي أقدم إشارة فكرية أدركت هذه الظاهرة و التي عمرها بحدود 1400 سنة. إنها تصريح بعدم الجمود و البقاء عند إحداثيات الإباء. هذه المقولة تأشر نقطة مهمة في تجنب المساهمة في خلق التناقض الزمني كظاهرة اجتماعية مابين جيلين ( جيل الآباء و جيل الأبناء). فكيف سيكون الحال لو تم التجاوز إلى عدة أجيال؟
أن معظم ظواهر التناقض الاجتماعي و المشاكل الفكرية و السياسية التي تعيشها الدول العربية و الإسلامية سببها الأساسي هو الاستعمار الزمني و السكون في إحداثيات الزمن القديم. لقد بقيت هذه الشعوب في حالة سبات حضاري لمدة طويلة من الزمن مما شكل ظاهرة فريدة في تاريخ المجتمعات البشرية. وأخطر تأثير لهذا الاستعمار الزمني هو سيطرته الفكرية التي تعيق حركة نهوض و تقدم هذه الشعوب بالرغم من إمكانياتها المادية الكبيرة.
لاشك أن من يفضل مكان على أخر يذهب و يقيم في المكان الذي يرغب به و على ذلك يجب ان يفعل من يحب الماضي عليه ان يذهب اليه ليعيش فيه لا ان يفرضه على الحاضر ليحتله.
© منبر الحرية، 30 مارس 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

أما أَكثر الذين يتحدثون في واقعِنا عن الفارقِ بين (قيمةِ الوقتِ) عند أفرادِ المجتمعاتِ الأكثر تقدماً وبين قيمته ومعناه لدينا. ويتفاوت المعنى المقصود من فردٍ لآخرٍ: فبينما تدل العباراتُ عند البعضِ على نظرةٍ خارجيةٍ (وربما سطحيةٍ) للظاهرة عندما يظنون أن الشعوبَ الأكثر تقدماً في تعاملها مع الوقت هي مجردُ شعوبٍ منظمة ودقيقة ، فإن البعضَ الآخر يملكُ نظرةً أكثرَ عمقاً تدرك أن الأمرَ أكبرُ وأعمقُ وأوسعُ وأخطرُ بكثيرٍ من مجرد فارقٍ بين (شعوبٍ دقيقةٍ في مسألةِ الوقتِ) و(شعوبٍ أقل دقة في التعاملِ مع الوقتِ). فجوهرُ الأمرِ أعمقُ بكثيرٍ من كلماتٍ مثل (الإنتظام) و(الدقة) و(الإنضباط) فكلُ هذه العباراتِ وعشرات غيرها هي مجرد المظاهر النهائية لاختلافٍ عميقٍ في فهمِ وتقديرِ وتقييمِ (بل وتقديسِ أو عدم تقديسِ) الوقت . ففي المجتمعاتِ الأكثرَ تقدماً فإن الوقتَ هو الإطارُ الذي من خلالِه تتم الخططُ وتُنفذ وتعد المشروعات وتُحوّل من فكرةٍ إلى واقعٍ ؛ فالوقتُ هو إطار كل شئ: إطار كل فكرةٍ… وإطار كل مشروعٍ… وإطار كل خطةٍ… وإطار كل برنامج… وإطار كل إصلاحٍ… بل وإطار كلِ التطوراتِ الإقتصاديةِ والعلميةِ والتعليميةِ والثقافيةِ والإجتماعية ِ . وبالتالي فإن من لا يعرف قيمةَ الإطارِ لا يعرف بالضرورةِ قيمةَ أي شئ يمكن أن يحتويه هذا الإطارُ .
ومن أكثرِ الأمورِ غرابةً أن الكثيرين في مجتمعِنا يظنون أن تقديسَ الوقتِ واحترامَه والإلتزامَ بالمواعيدِ إلتزاماً شبة عسكري هو مجرد (طبع) يتسم به البعضُ ولا يتسم به آخرون: وهذه زلةٌ فكريةٌ متكاملةُ الأركان … فتقديسُ الوقتِ والإيمانُ العميقُ بحتميةِ احترامِه واحترامِ المواعيد… ولزومية أن تكون كلُ الأفكارِ والمشروعاتِ والخططِ والبرامج في ظل أُطرٍ زمنيةٍ… وأن عدمَ إحترامِ الوقتِ والمواعيد هو شرخٌ في المصداقيةِ والكفاءةِ لا علاقةَ له بالطباع : فالناسُ لا يولدون بطبعٍ يقدس الوقت ويحترمه وينظر للمواعيدِ وكأنها مواقيتٌ سمائيةٌ وآخرون على خلاف ذلك… وإنما نحن بصدد مُناخٍ ثقافيٍّ عامٍ من فرطِ فقرِه في تقديسِ الوقت والمواعيد والأُطر الزمنية أصبح يفرز تلك الفكرة الخاطئة وجوهرها أن الذين يتشددون في المواعيد والوقت هم أصحابُ طبعٍ معين جُبلوا عليه بينما الآخرون مختلفون (وكأننا بصدد مجرد إختلاف وتنوع لا ينُمّان عن رقيٍّ في حالةٍ وتدهورٍ في الأُخرى) .
إن التقدمَ والتحضرَ والتمدنَ مسائلٌ لا تحققها الأموالُ ولا تبلغها الثرواتُ الطبيعيةُ وإنما تحققها منظومةُ القيمِ الذائعة والشائعة في المجتمع من قاعدتِه إلى قمتِه وأهم تلك القيم هي : تقديس الوقت … والإيمان بفعالياتِ العملِ الجماعي … والاهتمام البالغ بالبشر (الموارد البشرية) … والتعليم القائم على الإبداع (وليس التلقين) … وإشاعة روح توخي الكمال والتميّز والسعي الدؤوب للإتقان … ورسوخ فكرة عالميةِ المعرفة والعلم في العقول منذ سني التعليم الأولى … وقيام التعليم بخلق شخصياتٍ إنسانيةٍ تنافسيةٍ – فعن طريق توفر هذه المنظومة من القيمِ يتقدم الذين يتقدمون … وعن طريق إنتفاءِ هذه القيم (وأَحياناً وجود نقيضها) يتأخر الذين يتأخرون ثم يغرقون في خداعِ أنفسِهم بأنهم متأخرون إما لأن الظروف غير مواتيةٍ أو لأن الإمكانياتِ ناقصةٌ أو لأن العالمَ الخارجي يتآمر عليهم ولا يريد لهم خيراً – وكلها أوهامٌ في روؤس الفاشلين لا أساس لها على الإطلاقِ في الواقعِ ولا مبرر لوجودِها إلاِّ لتعزيةِ الفاشلين عن فشلهم لأن البديلَ (وهو الحق والمنطق والصواب والحكمة) أن يقولوا لأنفسهم أننا متأخرون لأننا متقاعسون ولأننا نفتقر لآلياتِ التقدمِ وكلها آليا ت توجد داخلِ الإنسان وليس خارجِه.
وهكذا يتضح جلياً أن تقديسَ الوقتِ وتقديرَه واحترامَه وتأسيسَ كل أَنشطةِ الإنسان والمؤسساتِ والمجتمعِ بأسرِه على أساسِ أُطرٍ زمنيةٍ تحترم الوقت كأحترامِ المؤمنين للعقائدِ هو ليس مجرد (صفة من صفات البعض) أو (طبع لدى البعض) أو (إحدى السجايا أو حتى المزايا الشخصية) وإنما هي علامة فارقة بين منظومتين من القيم: منظومة قديمة تنتمي إما للثقافةِ الزراعيةِ في شكلهِا البدائي أو للثقافةِ البدويةِ وأنها واحدةٌ من معالمِ مُنَاخٍ ثقافيٍّ عامٍ وليست مجرد طبع أو خصلة أو سجية. إن الدارسَ لتطورِ القيم يعرف أن الوقتَ لم يصبح تلك القيمة العليا المحورية والعلامة الفارقة بين المتأخرين والمتقدمين إلاِّ منذ زمن الثورةِ الصناعيةِ: فالثورةُ الصناعيةُ هي التي فرضت ذلك الإهتمام المتصاعد بالوقتِ ودقته وقيمته وحتميةِ الإلتزام به حتى وصلنا إلى نموذج فريد يتمثل في القطاراتِ السويسرية التي تبدأ وتنهي رحلاتِها ليس بالساعةِ ولا بالدقيقةِ وإنما بالثانيةِ فيما يمثلُ ترجمةً عليا لقيمِ الصناعةِ ولقيمِ المجتمعاتِ الخدميةِ ، ثم هبت رياحُ ثورةِ الإتصالاتِ وحقائق عصر التكنولوجيا فإذا بالتمسكِ بقيمةِ الوقت وتقديسها يبلغُ حداً يشبه العقيدةَ الدينية في نفوسِ كبارِ المؤمنين.
وكما هي الحال في العديدِ من قيمِ التقدمِ فإن هذه القيم يسهل شيوعها وذيوعها إذا جاءت من الرقائق الأعلى في الهرمَ المجتمعي أي في شكلِ أمثلةٍ وقدوةٍ ممن يُفترض أنهم المثلُ الذي يُحتذى – أما إذا داس هؤلاء الذين يشكلون الرقائق العليا للهرم المجتمعي قيمَ التقدمِ ومن بينها قيمة الوقت فإن إنتشارَ هذه القيم في المجتمع يكون ما بين (المستحيل) أو (شبه المستحيل): فليست هناك مقولات أسلم ولا أحكم من الأقوال المأثورة (الناس على دين ملوكهم) و(السمك يفسد من رأسه) و(إذا كان رب البيت على الدف ضارباً … إلخ) . ومعنى كل ذلك أن الرقائقَ العليا في المجتمع من كبارِ المسؤولين في الإدارات الحكومية وقيادات الحياة الإقتصادية العامة والخاصة والوزراء وشاغلي المواقع المرموقة في المجتمع … إذا لم يكن هؤلاء قدوةً في قيمِ التقدم بوجهٍ عامٍ وفي قيمة تقديس واحترام وإجلال قيمة الوقت وإعطائها كل ما تعنيه من أبعادٍ هامةٍ وخطيرةٍ وذات صلةٍ وثيقةٍ بعمليةِ التقدم – إذا لم يكن الأمرُ كذلك فقل على المجتمعِ السلام – لأن بثَ تلك القيم عن طريق الرقائقِ الأدنى من الهرم المجتمعي مسألةٌ في غايةِ الصعوبةِ إذ أن أفرادَها لا يملكون عضلاتِ فرض نموذجهم ومُكنة أن ي كونوا مثلاً يحتذى وقدوةً تُقتفى.
إن كاتبَ هذه السطور والذي كان المسئول الأول في واحدةٍ من أكبر المؤسساتِ الأقتصادية في العالم لقرابةِ عقدٍ كاملٍ من الزمان وكان بالتالي يشرفُ على آلافٍ يمثلون أعلى درجات الخبرة العالمية ومن خلفياتٍ مختلفة (أكثر من 20 جنسية) يجزم بأنه يستطيع أن يرى أمام ناظريه علاقةً شبه مؤكدة بين تقديسِ الوقتِ واحترامِه والالتزامِ به التزاماً يشبه التزام أشد المتمسكين بقواعدِ الدين والإيمان بأن التأخرَ في المواعيد والإخلال بالإلتزامات الموعدية وإنجاز الأعمال خارج الإطارِ الزمني المتفق عليه وبين درجةِ الكفاءةِ – فمن بين عشرات الآلاف من كبارِ الشخصياتِ الإقتصاديةِ والسياسيةِ التي تعاملت معها وأنا في موقع يسمحُ بالتعامل مع زبدةِ المجتمعات ، كنت أرى بوضوحٍ كاملٍ أنه لا يمكن وجود شخص لا يقدس الوقت ويتأخر في المواعيد ولا يقدس الإلتزام بالأداءِ في الإطار الزمني المتفق عليه إلاِّ وهو في الوقتِ ذاته على غيرِ درجةٍ عاليةٍ من الكفاءة : فكلُ الأكفاء الذين قابلتهم في الحياةِ في عشراتِ المجتمعاتِ كانوا ممن لا يتأخرون ثانيةً واحدةً عن مواعيدِهم ويلتزمون بالوفاءِ بإكمالِ مهامِ عملهم على أعلى درجاتِ الإتقانِ في ظلِ زمن محددٍ وينظرون في نفسِ الوقتِ لمن لا يتسمون بهذه السمة بنظرةٍ يشوبها قدرٌ غير قليل من عدمِ التقديرِ – وكانت طبيعةُ عملي التي تقتضي التعامل مع خلفياتٍ حضاريةٍ وثقافيةٍ متباينةٍ تُظهر لي بوضوحٍ إختلافَ ردودِ الفعلِ حول مسألة الوقت والمواعيد والإلتزام بالأُطر الزمنية : فعندما كنت أقومُ بإلغاء تعاقدٍ بمئاتِ الملايين مع شركة لا تفي بتعهداتها في الأُطر الزمنية المُتفقِ عليها في دولةٍ من دولِ العالمِ الثالثِ كان ردُ الفعلِ الغالب هو إستهجان قرار من هذا النوع بينما كان نفسُ القرار إذا إتخذ في بيئةٍ غربيةٍ أو في جنوب شرق أسيا يحظى بعظيم الإستحسان بل والإكبار والإجلال : والفارقُ أن جانباً كان يرى في القرار ردَ فعلٍ مبالغ فيه تجاه مسألة غير ذاتِ أهمية بينما كان الجانبُ الآخرُ يرى أن القرارَ جاء متفقاً مع قيمِ التقدمِ والتي لا تعرف تجاه الوقت إلاِّ الإجلال والإكبار والتقديس والإحترام بل وتأسيس الحياة كلها على أساسٍ من الأُطر الزمنية التي لا يحق لأحدٍ أن يتجاهلها أو يتجاوزها – بل كانت الأغلبيةُ في معظمِ المجتمعاتِ من دولِ العالمِ الثالثِ تنظر لقرارٍ مثل الذي ضربتُ به مثلاً وكأنه من قبيل الأطوار الغريبة: فلماذا المبالغة في ردِ فعلٍ تجاه شخصٍ تأخر عن موعدِه أو مقاولٍ تجاوز الحدودَ الزمنية المتفق عليها – وهي مجتمعات وصل فيها التدهور القيمّي لحد أن أصبح التأخرُ رمزاً للقيمةِ العالية للشخص ، فالأشخاصُ الكبارُ والمهمون وأصحاب القوة والمكانة من حقِهم أن يكونوا متأخرين كيفما بدا لهم وعلى الناسِ أن ينتظروهم (!!) ، فهم مهمون وأصحاب مسؤوليات واسعة وعلى الآخرين أن يقبلوا ذلك (!!!) … وفي المقابلِ فقد كنت أرى في المجتمعاتِ الأكثرَ تقدماً رجالاً يقومون بإدارةِ مشاريع بحجمٍ يفوق مجمل حجم إقتصاد كل الدول العربية ولا يمكن أن يكونوا متأخرين دقيقةً واحدةً عن موعدٍ بل ويفتخرون بأنهم يسبقون المواعيد وأن مؤسساتهم في سباقٍ مع الزمن بهدفِ أن يكونوا في أطار المواعيد المتفق عليها بل ويكون هدفهم في كثيرٍ من الأحيان لا أن يقابلوا الحدودَ الزمنية المتفق عليها بل أن يسبقوها. وقد أصبح يقيني راسخاً أن كلَ من لا يعرف كيف يضبط مواعيده ومواعيد عمله ومواعيد تنفيذ مشروعاته إنسان أو شركة أو مؤسسة مدموغة بالفشل الإداري (بل ولدي إعتقاد راسخ أنهم بنفس القدر لا يتقنون كل الأشياء الأخرى التي يقومون بها في الحياةِ) – وأي استثناءٍ من ذلك أو أية محاولةٍ لقبول إستثناءات من ذلك هي ضد العلم والتمدن والتحضر وحركة التاريخ في المجتمعات المتقدمة. وهناك فارق كبير بين الإلتزامِ بالمواعيد وإحترام الوقت بدافع الخوف وهو موجود في بعض الأحيان (في دول العالم الثالث) وبين أن يكون تقديسُ الوقتِ واحترامه والإلتزام بالأُطر الزمنية المحددة هو ديدنَ الذين يحترمون أنفسهم وينتمون للعصر ويسايرون قيم التقدم: ففي كل مجتمعاتِ العالم الثالث يذهب النوابُ للمجالسِ النيابيةِ (البرلمانات) متأخرين ويظلون في إجتماعاتهم في حالاتِ فوضى عارمةٍ ما بين متحدثٍ مع زميلٍ وآخر يُجري حواراً على الهاتف المحمول وثالث يكتب في أوراقٍ ورابع يُجري حواراً مع أحد المسئولين – ثم نجدهم جميعاً في الجلساتِ التي يحضرها رئيسُ الدولة في كل دولِ العالمِ الثالث : ملتزمين بالحضورِ في الموعدِ .. ملتزمين بآدابِ حضورِ الإجتماعاتِ العامة : وهم هنا لا يفعلون هذا من بابِ تقديسِ الوقتِ واحترامِ المواعيدِ وإجلالِ الأُطر الزمنية وإنما بدافعٍ آخر لا يخفى عن فطنةِ القارئ . وهذا الدافع لا يخلق التقدم المنشود، لأن التقدمَ والتنميةَ يصنعها (المؤمنون) لا (الخائفون).
ومما أساء لقيمةِ الوقت وحُرمتها وأهميتها وكونها واحدةً من أُسسِ الرقي وقيمِ التقدمِ وجود طبقة من الأثرياءِ الجددِ في عددٍ من دولِ العالمِ الثالث كانوا في معظمهم بسطاء التعليمِ والثقافةِ وتكونت ثرواتُهم بفعلِ وفضلِ علاقاتهم السياسية والعامة وليس لكونهم عبقريات إدارية أو إقتصادية أو علمية – ولما شاع نموذجُهم في عددٍ من مجتمعاتِ وصاروا في صدارةِ الواجهة الإجتماعية أصبحوا مصدراً جديداً لبثِ القيمِ السلبيةِ ومنها منهجهم في التعامل مع الوقت ، فهم أبعد ما يكونون عن فهمِ وإحترامِ قيمة الوقت كأساسٍ حضاريٍّ وقيمة من قيم التقدم ، إذ أنهم في حد ذاتهم طبقة طفيلية إنهمرت عليها الأموالُ دون ثقافةٍ ناهيك عما يعتري مصادر ثرواتهم من شكوكٍ تدعم إستحالةِ أن يكونوا قدوة أو نموذج يُحتذى: فكيف يمكن لنا أن نقول للشبابِ في مجتمعِنا أن يحتذوا بقياداتِ الحياةِ الإقتصادية التي نسميها “رجال الأعمال” وهم تجسيد حي لعشراتِ القيمِ السلبية بوجهٍ عامٍ ولقيمة إزدراء الوقت والمواعيد بوجهٍ خاصٍ ! … إن طبقةَ رجال الأعمال والأثرياء الجدد (معظمهم وليس كلهم) في عددٍ من دول العالم الثالث هم طبقة منقّحة من رجال المافيا – فكيف يتسنى لنا أن ننتظر أن يكونوا قدوةً تُتبع ومثالاً يُحتذى في إحترام الوقت أو في أية قيمةٍ إيجابيةٍ أخرى من قيم التقدم . ويحزنني لأبعدِ الحدود أن أكتب بقلمي أنني رأيتُ عن قربٍ عشرات من هؤلاء الذين يسمون بكبار رجال الأعمال فوجدتهم بالمقارنةِ بالشخصيات الإقتصادية العالمية الكبرى التي تعاملتُ معها خلطةً من أربعةِ عناصر: إنعدام الموهبةِ الإدارية … وفقرٍ ثقافيٍّ مذهلٍ … وإنتهازية سياسية بلا حدود … وبُعدٍ مطلق عن قيم ومبادئ كبار الرجال – ووجدتُ أن معظمهم قد كوّن مؤسساته وأعماله على أرضيةٍ من العلاقات وليس على أساسٍ من الكفاءة والعبقرية الإدارية والإستعمال الإقتصادي النموذجي لتكنولوجيا العصر أو القدرة على إدارة الخدمات – ومرةً أخرى يفرضُ السؤالُ نفسَه: كيف لمثل هؤلاء أن يكونوا قدوةً ، إلاِّ إذا كان رؤساءُ المافيا يصلحون لأن يكونوا قدوةً لأجيالٍ جديدةٍ من الشباب ؟!
ولا أجدُ من بين كل ما ذكرت في هذه الجزئية من هذا الفصل ما أرى فائدةَ تكرارِه أكثر من قولي: أنه لا يمكن وجود قائد إداري فعّال ومُنجز وعلى درجة عالية من الكفاءة إذا لم يكن تقديس الوقت مكون أساسي من مكوناته … ولا يعني ذلك أن تقديس الوقت هو العنصر الوحيد للكفاءة … فللكفاءة عناصر أُخرى عديدة (تقديس الوقت من أهمها) وإن كانت الكفاءة لا تنهض كاملةً بدون باقي العناصر والتي بدونها لا يوجد تقدم .. ولا يوجد كادر بشري من المديرين التنفيذيين القادرين على إنجاز المهمة التي تبدو للبعض مستحيلة بينما أعتقدُ أنا أنها سهلة وميسورة إلى أبعد الحدود ، وأعني بلوغ درجة من التقدم الإقتصادي والتعليمي تجعلنا على مقربةٍ من دول جنوب أوروبا وفي نفس الوقت تسيرُ بمحاذاة حياة ثقافية وإعلامية وسلام إجتماعي يكفلون لنا معاً المجتمع الذي ننشده: مصر المزدهرة والمستقرة والآمنة والتي يعودُ فيها المصريون لسجاياهم التي عُرفوا بها عبر التاريخ وكلها سجايا إنسانية نبيلة تقومُ على الخُلق السمح والمودة والترابط وإحترام الآخرين والبعد عن بؤرات العنف والتشاحن والصدام اليومي بين الأفراد والطبقات وسائر وحدات وكيانات المجتمع… يتبع
© منبر الحرية، 28 مارس 2009

حواس محمود18 نوفمبر، 20100

يؤكد الكثير من الباحثين والكتاب والمفكرين العرب على أن الدول العربية بعد حصولها على استقلالها من الاستعمار المباشر في أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم قد عمدت إلى تهميش المجتمع وإقصائه وتضخيم جهاز الدولة، وانتفخت أجهزة المراقبة لديها بكيفية شلت المبادرات المستقلة والحرة، وقدمت نفسها كأنها الضامنة للحقوق والمصالح العامة، والمدافعة عن “كرامة  المواطن” دون الإقرار الفعلي له بصفة المواطنة – والحامية لصحته وأولاده ومستقبله، والمحاربة للعدو الذي يحتل أرضه.
إلا أنه منذ أواسط الثمانينات إلى الآن اضطرت هذه الدولة إلى المراجعة القسرية لبعض التزاماتها، ذلك أنه مع ثقل المديونية الداخلية والخارجية وفشل النماذج التنموية السابقة، وسقوط الشعارات التعبوية ( لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ) التي تمكنت من الاستمرار لبعض الوقت، وعرقلة أي جهد توحيدي أو حتى تعاوني عربي عربي.
تطلب الدولة الآن من مواطنيها ألا يعولوا عليها في كل شيء، وأحيانا حتى على صعيد الأمن الشخصي والجماعي، تطالب المواطن بدفع كل ضرائبه على أن يتكفل هو بصحته وبنقله وبسكنه وبتعليم أبنائه وبتشغيلهم، ونقص الموارد، وتضخم القطاع العام وانعدام مردوديته. ولأن هذه الدولة تضخمت على حساب المجتمع فإنها عملت طيلة أكثر من أربعة عقود على التشويش على أشكال التنظيم المحلية وأنماط التضامن والتعاضد والصيغ التعاونية المختلفة التي عرفتها المجتمعات عبر تاريخها، خوفا من نموها وتحولها إلى سلطات قد تفرز بؤر اعتراض أو تململ ممكن. وحاصرت بموازاة ذلك التنظيمات السياسية ومنعتها أو دجنتها، ( وتدخل الجهاز الحكومي- وبخاصة لدى الدولة العربية الشمولية في كل مفاصل المجتمع ” كل شاردة وواردة” ) وحدت من نموها وانتشارها لتحتل هي كل المجال العمومي، وتفرض الرأي الوحيد الأوحد وأفكار الزعيم القائد الرمز المهيب والملهم، والإيديولوجيا الوحيدة… هذا في الوقت الذي لا تكف فيه هذه الدولة عن الضجيج والتبجح المستمر عبر وسائل الإعلام المحتكرة لديها بالديمقراطية النابعة من سلطة الشعب وبالتعددية وحرية الرأي والتنظيم.
في سياق هذا الجو الاحتقاني والذي يحاصر الإنسان في حركاته وسكناته والذي يقتل فيه روح الابتكار والإبداع والتطور، وأي مساع للتنمية والديمقراطية اندفعت عناصر من النخبة السياسية والثقافية إلى إطلاق مبادرات ذات أهداف مدنية وإصلاحية، وذلك بتأسيس جمعيات ومنظمات تتنشط في المجالات الاجتماعية والثقافية والإنسانية التي أسقطتها الدولة من حساباتها أو كانت تخشاها وتحسب لها ألف حساب.
لماذا فشل الإصلاح العربي؟
في دراسة قيمة عن الإصلاح في العالم العربي يبين الدكتور برهان غليون أسباب فشل الجهود الإصلاحية العربية ويلخصها بجملة أسباب منها استفادة النظم العربية من الموقف السلبي التاريخي للرأي العام من السياسات الأمريكية في المنطقة، ومن الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة المدنية في العراق، من أجل نزع المصداقية من الإصلاح الأمريكي الأوروبي، ونجحت بالفعل في تعبئة هذا الرأي العام ضد ما أسمته الإصلاح المفروض من الخارج. وقدم لها تدهور الوضع الأمني والسياسي والاقتصادي والإنساني في العراق خلال السنوات الأربع الماضية نموذجا سلبيا لا يقدر بثمن لإظهار مخاطر التسليم بالتدخل الأجنبي والإنصات للنصائح الغربية
ويرى وجود عوامل أخرى في إخفاق الإصلاح العربي منها :
– أن الانقسام الذي غذته وعملت عليه النظم القائمة حول مسائل الإصلاح قد أدخل الفكر والسياسة الإصلاحيين العربيين في حالة تخبط عميق وأجهض جميع جهود العمل على دفع المجتمعات العربية إلى تبني مشروع الإصلاح والتضحية من أجله
– لقد أدركت النخب الحاكمة أن تطبيق برنامج الإصلاح المطلوب يعني إلغاء وجودها نفسه لصالح صعود نخبة جديدة، وبالتالي على أنه عملية انتحارية ووقفت بجميع الوسائل ضد برنامج الإصلاح الذي يشكل بالأحرى برنامج انقلاب على النظم المركزية واستبدالها بنظم تعددية
– أن الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه التحالف الغربي المشار إليه آنفا لا يلغي أيضا مسؤولية قوى التغيير المحلية، وتكمن هذه المسؤولية في العجز الذي أظهرته هذه القوى عن إدراك الرهانات الكبرى التي يرتبط بها الإصلاح والتي لم تخف على الأوليغارشيات الحاكمة. فقد اعتقدت هذه القوى أنها تستطيع إذا اقتنعت النخب الحاكمة ببرنامج سلمي للإصلاح، أن تغير موازين القوى و تضع لا يتضمن تغيير النظم الحاكمة. والواقع أن دعوة الإصلاح العربية قامت منذ البداية على سوء تفاهم كبير بل ربما على خداع الذات شاركت فيه القوى المحلية الداعية للإصلاح كما شارك فيه التحالف الغربي أيضا. فقد نظرت هذه القوى إلى الإصلاح على أنه مقدمة للتغيير أو محاولة لتغيير النظم من الداخل وتقريبا بالتفاهم معها والاتفاق على برنامج عمل انتقالي يسمح بتجاوز الوضع الراهن والدخول في نظم تعددية حقيقية في مستقبل ما.
إن الحالة العامة للأزمة في العالم العربي بجميع جوانبها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية تقتضي أن يتم التحرك الفعال والحثيث للتغلب على هذه الحالة الأزموية، فلا يمكن لقوة وحيدة أن تحقق الإصلاح وإنما هو يتطلب تضافر جهود جميع قوى المجتمع للدخول في المعترك الإصلاحي والاستمرار بنجاح إلى النهايات المنطقية. كما يجب التذكير بأن القوى المحلية مهما كانت قوتها لا تستطيع انجاز الإصلاح بمفردها  – لأسباب عدة – من دون مساعدة شخصيات و منظمات وهيئات حقوقية إنسانية دولية كما يؤكد على ذلك المفكر برهان غليون. إذ يقترح لجنة دولية وسيطة مهمتها تسهيل فتح الحوار مع الأطراف المتنابذة وتذليل العقبات التي تحول دون تواصل هذه الأطراف، وإبراز إمكانية المراهنة على الحلول السياسية المتفاوض عليها وجدواها.
© منبر الحرية، 27 مارس 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100
التجارة الحرة هي أنجع السبل
تتشرف مؤسسة أطلس للبحوث الاقتصادية وشبكة السياسات الدولية بدعوتكم للتوقيع على هذا البيان الذي سيتم الإعلان عنه في الأول من نيسان / أبريل 2009 عشية اجتماع مجموعة الـ20 في لندن:
إن خطر السياسة الحمائية في ارتفاع متزايد. فبالإضافة إلى كونها سياسة عقيمة وخطيرة، فإن تهديدها يزداد بشكل خاص في فترات الأزمات الاقتصادية، حيث تهدد بتدمير الاقتصاد العالمي.
إن منطلق السياسة الحمائية الغريب هو أن الإزدهار الوطني يتزايد عندما تمنح الحكومة الاحتكار  للمنتجين المحليين! ولكن كما بيّنت قرونٌ متتالية من التفكير الاقتصادي العقلاني، والخبرات التاريخية، والدراسات التجريبية، فإن هذا المنطلق هو منطلق خاطئ بشكل خطير. فالحمائية تنتج و تفرخ الفقر وليس الازدهار كما أنها لا “تحمي” حتى الوظائف أو الصناعات المحلية؛ بل  تدمرها، من خلال إلحاق الضرر بصناعات التصدير، والصناعات التي تعتمد على الواردات لأجل صنع بضائعها. فرفع أسعار الحديد المحلية، على سبيل المثال، من أجل “حماية” شركات الحديد المحلية سيؤدي إلى رفع كلفة إنتاج السيارات والعديد من السلع الأخرى المصنوعة من الحديد. فالحمائية سياسة عقيمة ومضرة.
إن السياسية الحمائية لا تكتفي فقط بإنتاج و تفريخ الفقر وتبذير الثروات  بل، والأسوء من ذلك، فالحمائية تدمّر السلام … وهذا مبرّرٌ كافٍ لجعل كافة الخيّرين وذوي النوايا الحسنة يرفعوا أصواتهم وبكل قوة ضد الفلسفة الاقتصادية الانعزالية المحلية، والتي هي بمثابة أيديولوجية صراع مبنية على الجهل، يتم تنفيذها من خلال السياسات الحمائية.
لقد لاحظ مونتيسكو، قبل مائتين وخمسين عاما، أن “السلام هو النتيجة الطبيعية للتجارة. فقد تعتمد أمتان مختلفتان على بعضهما بشكل متبادل؛ فإذا كانت لدى إحداهما مصلحة بالشراء، يكون لدى الأخرى مصلحة بالبيع؛ وهكذا فإن اتحادهما يُبنى على احتياجاتهما المتبادلة.”
فالسلام هو أكثر نتائج التجارة أهمية.
إن التجارة تنشر السلام وتروّج له من خلال توحيد شعوب مختلفة في إطار ثقافة تجارية مشتركة؛ ثقافة تقتضي الانخراط الدائم في عملية فهم الآخرين عبر تعلّم لغاتهم ومعاييرهم الاجتماعية وقوانينهم وتطلعاتهم وحاجياتهم ومهاراتهم.
كما أن التجارة تروّج السلام عبر تشجيع الناس على بناء أواصر التعاون المتبادل القائم على المنفعة المتبادلة. فمثلما توحّد التجارةُ المصالحَ الاقتصادية لمدن مختلفة داخل البلد الواحد كالقاهرة و الإسكندرية، كواشنطن و نيويورك، كحلب ودمشق، فهي توحّد أيضا المصالح الاقتصادية لمدن في بلدان مختلفة  كباريس وبغداد، كوهران و الدار البيضاء، كالدوحة و برلين؛ كما أن التجارة  توحد مصالح كافة الأمم التي تتاجر في ما بينها.
ولقد أكد عدد كبير من الأبحاث العلمية و التجريبية كيف أن التجارة تساهم بشكل واسع ومباشر في نشر وترسيخ ثقافة السلام.
فالحرب العالمية الثانية هي خير دليل على النتائج المأساوية الناجمة عن إغفال أو تجاهل هذه الحقيقة.
لقد تدهورت التجارة العالمية بنسبة 70 بالمائة بين عامي 1929 و 1932، في أجزاء واسعة من العالم جرّاء تعرفة سموت – هاولي الأمريكية عام 1930 والتعرفات الانتقامية التي اتخذتها الأمم الأخرى. ولاحظ الاقتصادي مارتن وولف أن “هذا التدهور في العلاقات التجارية  كان المحرك الجبار الذي دفع  بألمانيا واليابان بشكل خاص إلى البحث عن الاكتفاء الذاتي  و عن مجال حيوي”. فسرعان ما كان من تبعات ذلك أكثر الحروب بشاعة وفتكا في التأريخ البشري.
إن التجارة تحقن الدماء و تنقذ الأرواح وذلك عبر نشر ثقافة السلام و تقليل الحروب.
كما أنه لم يعد هناك شك في أن التجارة الأكثر حرّية تنقذ الأرواح أيضا من خلال زيادة الإزدهار وتوسيعه ليشمل المزيد ثم المزيد من الأفراد. فهذا الازدهار يمكّن عموم الأفراد، رجالا ونساءً، من أن يَنْعَموا بحياة أطول وأكثر صحة. فبهذه الحياة المديدة والصحية، وفي إطار سلمي، يمتلك الأفراد الأكثر اندماجا في الاقتصاد العالمي المجال للتمتع بالتجارب والخبرات الواسعة التي تضعها التجارة الحرّة بين أيديهم. كما تثرى الثقافة وتغنى من خلال الإسهامات التي تأتي من كل ربوع العالم بضاعة كانت أم أفكارا؛ وكل ذلك بفضل التجارة الحرّة.
لا شك أن التجارة الحرّة زادت من الازدهار المادي. ولكن أعظم هباتها لا يمكن بكل بساطة أن تقاس بالأموال. فأعظم الهبات هي الحياة التي أصبحت أكثر حرية وسلاما، في منأى عن وحشية الصراعات والحروب.
وبناء على ما تقدّم، نقوم نحن الموقّعون أدناه، بضم صوتنا لتقديم التماس إلى حكومات كل الأمم لرفض ومقاومة كل نداءات الجشعين وقصيري النظر الهادفة إلى وضع حواجز أكبر أمام التبادلات التجارية. وبالإضافة إلى ذلك، نناشد هذه الحكومات أن تقوم بإزالة كل الحواجز الحمائية التي تقف في طريق التجارة الحرة. ونقول لكل الحكومات: دعوا مواطنيكم يستمتعون ليس بثمار حقولكم ومصانعكم وعبقرياتكم فحسب، بل بتلك التي في العالم برمّته. وستكون المكافأة هي الإزدهار الأكبر، والحياة الأغنى، والتمتع بمزايا السلام.
لكي تضم صوتك لأصوات الموقعين على البيان، ومن أجل مبادئ لعالم يرفل بالسلام وحرية التجارة، ومن باب تغير المنكر، يرجى إرسال إلى [email protected] بالمعلومات التالية:
الاسم الكامل:
البريد الإلكتروني:
المهنة أو الجهة:
البلد:
أو الضغط على هذا الرابط
http://www.minbaralhurriyya.org/site/?q=petition
شاكرين تعاونكم وسنسعد بإدراج أسمائكم ضمن قائمة الموقعين على هذا البيان.
peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

كثرت التحاليل والتكهنات والقراءات في الصحف والإعلام حول أسباب العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، ولكن قراءة متأنية متفحصة لجوهر هذه القراءات ستلحظ سيادة مفهوم الذريعة الذي يخفي بدوره ذرائع أخرى مستترة، ليغدو منطق الذريعة بذاته هو ذريعة أخرى لخلط المفاهيم وإخفاء الأسباب الحقيقية لهذا العدوان المجنون.
تعددت الذرائع في الخطاب العربي السائد : من انقلاب حماس على الشرعية الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير المختزلة بالسلطة الفلسطينية، إلى إلغاء التهدئة، إلى سجن مناصري فتح في سجون حماس، إلى  جعل غزة إمارة إسلامية أو موقع متقدم للخمينية الإيرانية في المنطقة العربية..
ومنطق الذريعة ليس جديدا، إنه يأتي دائما في الأوقات العصيبة لتبرير ما لا يبرر. نتذكر جيدا ذرائع العدوان الإسرائيلي على لبنان، حيث كانت الذريعة خطف الجنديين الإسرائيليين، لنكتشف بعد مضي زمن قصير وعلى لسان الإسرائيليين أنفسهم أن العدوان كان يعد له منذ زمن سابق. والطامة الكبرى أن الكتّاب والمحللين أنفسهم الذين روّجوا للذريعة آنذاك، هم أنفسهم من يروّج لمنطق الذريعة الحمساوية  الآن، دون أن يعتذر أحدا منهم أو يتراجع عن خطأ تحليله أو يصوّبه على ضوء نتائج الواقع، الأمر الذي يطرح تساؤلا أخلاقيا عن “ذريعة ” من يكتبون ؟ ولماذا يكتبون ؟
ومنطق الذريعة موجود منذ الحروب العربية الإسرائيلية الأولى، حين اتهم عبد الناصر بتقديم الذريعة لإسرائيل عام 67 بعد أن طلب مغادرة القوات الدولية، واتهمت المقاومة الفلسطينية بتقديم الذرائع لغزو جنوب لبنان، و هناك ذريعة الرئيس العراقي السابق صدام حسين باحتلاله الكويت وذريعة أسلحة الدمار الشامل، و..و…
يتحدث المحتجون على حماس بتقديمها الذريعة لإسرائيل، ويتناسى هؤلاء – إذ أخذنا بمنطقهم عن الذريعة- أن من ألغى حماس من المعادلة السياسية بعد فوزها بانتخابات نيابية نزيهة باعتراف الأوربيين والأمريكيين، ومن سكت على سجن النواب المنتخبين من حماس ( ومنهم رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني المنتخب ديمقراطيا عزيز الدويك)، ومن كان يسجن ويلاحق حماس عندما كانت مشروع مقاومة فقط، هو من قدّم الذريعة لحماس لفعل ما فعلت.
ولنا أن نتابع ونقول لمن يتساءلون : هل أخذت حماس رأي أهل غزة  ؟ نسأل :هل أخذت السلطة الوطنية الفلسطينية السابقة رأي الفلسطينيين (جميعا ) عندما وقعت أوسلو؟ أي هل كان هناك شرعية ديمقراطية حقيقية لما كان سائدا قبل حماس،حتى نطالب حماس بالعودة إليه، ولماذا نتذكر الشرعية فقط فيما يتعلق بحماس فقط ؟ ولم منطق الذريعة يطبق عليها فقط ؟
كل الأسئلة السابقة تصبح مشروعة إذا أخذنا منطق الذريعة هذا، بحيث يصبح منطق الذريعة المستخدم هنا هو ذريعة لتغطية ذرائع أخرى أشد هولا وتنطبق بحذافيرها على سياسات الفريق الآخر الذي يدافع عنه منتجو (نظرية الذريعة) بطريقة تدعو للرثاء.
رغم ذلك نحن لا نأخذ بمنطق الذريعة، ونعلم أنّ لحماس أخطاءها الكثيرة وتهوراتها الخارجة عن لعبة السياسة والتوازنات، بدءا من برنامجها السياسي الذي يجعل أرض فلسطين وقف إسلامي، وهي كانت ومازالت ملتقى الديانات التوحيدية الثلاث(يهودية ومسيحية وإسلام)(لم تقل لنا حماس ماذا ستفعل بمسيحي فلسطين وأراضيهم؟ هل سيدفعون الجزية  بعد التحرير الشامل؟)
مرورا بدخولها اللعبة السياسية والديمقراطية تحت سقف الاحتلال، لأن ديمقراطية الاحتلال هي ديمقراطية زائفة لا تفضي إلا لإسباغ الشرعية على تصرفات الاحتلال وأعوانه، وليس انتهاءاً بتصرفاتها  الحمقاء بعد فوزها بالانتخابات (من فرضها الشريعة الإسلامية في غزة وتحويلها إمارة طالبانية وتصفيتها خصومها بمنطق القوة والبلطجة متناسية أن دخولها اللعبة السياسية يفرض عليها العمل وفق قوانينها، لأنها كانت تتصرف باسم السلطة، ومن يصل السلطة عليه أن يتصرف كأب للجميع وليس بمنطق الإقصاء والعزل وهي هنا تصرفت كما كانت السلطة الفلسطينية تتصرف(ومازالت) بمنطق الثأر وفرض الأمور بالقوة).
ولكن مهما كان خطأ حماس كبيرا،  هذا لا يبرر الاحتلال و قصف الأبرياء و اجتياح المدن، لأن الاحتلال لا ينتظر ذريعة. إن نظرية الذريعة تعطي الاحتلال شرعية يفتقدها وكأنه مكوّن أساسي من المكوّنات الأساسية التي ينبغي علينا ملاطفتها أو مداهنتها، أي تنسى النظرية هذه (أو تتناسى) أنه احتلال لا شرعية له، وأن مقاومته حق وواجب. وهو نفسه يدرك أنه احتلال لذا يبحث عن شرعيته بوسائل القوة والمجازر والقتل والدمار، أي أن نظرية الذريعة تعطي الاحتلال شيئا هو يرفضه !
وختاما نتساءل : هل احتاجت  إسرائيل لذريعة عندما تأسست ؟  وهل احتاجت مجازرها الدموية القديمة(دير ياسين – صبرا وشاتيلا) والحديثة(قانا 1وقانا2 وغزة حاليا) لذريعة ؟وهل انتصرت في 67 بذريعة ؟ وهل احتلت جنوب لبنان بذريعة ؟ وهل قصفت المفاعل العراقي بذريعة ؟ وهل ضربت الموقع السوري في دير الزور بذريعة ؟ وهل اغتالت الشهداء بذريعة المقاومة؟
هل ينتبه منتجو خطاب الذريعة أن إسرائيل تتمدد وتضرب وتقتل بوحشية، بينما ذرائعهم تبدو في أغلبها كمبرر لكل هذه الوحشية  متناسين أبسط حقوق الشعوب في المقاومة والدفاع عن حقوقها، والأهم حرية الشعوب في تقرير مصيرها على أرضها !
© منبر الحرية، 11 مارس 2009

إدريس لكريني18 نوفمبر، 20100

يعد البحث العلمي سواء في صورته المرتبطة بالعلوم الطبيعية أو تلك التي تنصب على مقاربة العلوم الإنسانية؛ أدق وأسمى الحقول المعرفية؛ فهو يعتمد على مناهج وسبل منظمة قوامها التجربة والملاحظة.. لاستجلاء الحقائق والمعارف والتأكد من الفرضيات بصدد مواضيع وقضايا مختلفة؛ بهدف التوصل إلى نتائج دقيقة تسهم في حل مشاكل وقضايا المجتمعات.
والإسهامات البحثية والفكرية يفترض أن تحمل قدرا من الموضوعية والأصالة والإبداع بما يسمح باحترام أصول وقواعد الأمانة العلمية؛ فهذه الأخيرة وعلاوة عن كونها تقتضي الإشارة إلى مصدر المعطيات والمفاهيم والتعريفات والإحصاءات.. ومختلف المعلومات التي وظفت في البحث دون تحريفها أو تشويها؛ فإنها تفرض عليه أيضا الالتزام بإدراج النتائج والخلاصات التي توصل إليها الباحث دون تحفظ أو مجاملة أو نقصان.
وتفيد العديد من التقارير والأخبار أن وتيرة السرقات العلمية تزايدت في السنوات الأخيرة في مناطق مختلفة من العالم بشكل عام؛ نتيجة لتطور وسائل الاتصال وما أحدثته ثورة الإنترنت في هذا الشأن؛ والتي سهلت عمليات وتقنيات هذه السرقات من جهة؛ وصعبت من جهة ثانية مأمورية المقاربة القانونية في هذا الشأن.
وهي سلوكات مشينة تنطوي على استعمال حقوق الملكية الفكرية للغير على نحو غير مشروع؛ وعلاوة عن كونها عمل غير قانوني تجرمه مختلف التشريعات الوطنية؛ والاتفاقيات الدولية؛ فهي سلوك لا أخلاقي ويتنافى مع أبسط الحقوق التي كفلتها التشريعات المحلية والدولية للإنسان. ذلك أن الثانية من المادة 27 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تشير إلى أن “لكل فرد الحق في حماية المصالح الأدبية والمادية المترتبة على إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني”.
وإذا كان من المألوف أن نجد هذه السلوكات المنحرفة في المجالات الصناعية وما يرتبط بها من ملكية صناعية؛ أو في أوساط بعض الباحثين المبتدئين أو بعض الكتاب المغمورين إما عن قصد بهدف الربح المادي أو الشهرة أو سعيا للترقية في سلم الإدارة.. أو نتيجة للأخطاء وقلة الوعي.. فإن الممارسة والواقع يثبتان يوما بعد يوم تورط العديد من الأساتذة والباحثين الجامعيين في هذه المنزلقات؛ سواء تعلق الأمر منها بترجمة أو نقل الكتب والأطروحات والمحاضرات الأجنبية وغيرها ونشرها أو عرضها على الطلبة باعتبارها إنتاجا وإبداعا شخصيا؛ أو بالترامي على أفكار الغير واستنتاجاتهم بشكل جزئي أو كلي دون الإشارة إلى مصادرها وأصحابها..
والسؤال الذي يظل مطروحا في مثل هذه الحالات: كيف يمكن لمتورط في هذه الممارسات أن يتحمل مسؤولية تربية وتعليم النشء وتلقينه مبادئ وقيم البحث العلمي ومناهجه؟ وكيف يمكن أن يستأمن على مؤسسات حيوية بالمجتمع والدولة؟
ويبدو أن تفشي هذه الظاهرة في الأوساط الأكاديمية العربية؛ لا يمكن فصله عن الأزمة التي يعرفها الحقل الجامعي والبحث العلمي في الأقطار العربية بشكل عام.
إن حجم الاستثمار في مجالي التعليم والبحث العلمي؛ أضحى معيارا ومؤشرا أساسيا لقياس مستويات التنمية الاجتماعية والاقتصادية.. داخل الدول. وتعتبر الأقطار العربية من ضمن أكثر الأقطار حاجة إلى تطوير قطاعي التعليم والبحث العلمي والمراهنة عليهما في تنميتها؛ كسبيل للحاق بركب الدول المتطورة في هذا الشأن.
وإذا كان التعليم بكل مستوياته يعد أحد أهم المداخل الرئيسية لتحقيق تنمية حقيقية محورها الإنسان؛ وبوابة لإعمال تنشئة اجتماعية بناءة قادرة على إعداد جيل مبدع وخلاق، فإن عددا من الأبحاث والتقارير المحلية والدولية تشير إلى المأزق الذي تعرفه منظومة التعليم في عدد من الأقطار العربية؛ نتيجة لضعف الاعتمادات المالية المرصودة لهذا المجال الحيوي؛ ولعجز المؤسسات التعليمية عن مسايرة مختلف التطورات العلمية؛ وعدم انفتاحها على المجتمع؛ بالإضافة إلى اعتمادها مناهج وطرق تعليمية جامدة ومتجاوزة؛ ترتكز إلى الحفظ والتلقين والشحن؛ عوض الفهم والمناقشة والإبداع والتحفيز على طرح السؤال؛ وفي ظل نظم تعليمية وتربوية عقيمة؛ أغلبها ينحو للماضي أكثر منه إلى الحاضر والمستقبل؛ ويكرس التقليد والتبعية بدل الاجتهاد والإبداع. الأمر الذي يجعل شهادات العديد من خريجي المعاهد والجامعات لا تعكس المستوى العلمي الحقيقي لحامليها.
وكنتيجة موضوعية لهذه الوضعية أصبح البحث العلمي العربي في السنوات الأخيرة يعرف مجموعة من الاختلالات والمشاكل المرتبطة بظهور عدد من الكتب والأبحاث والدراسات العقيمة التي تغيب فيها الأصالة ومقومات البحث والأمانة العلميين.
ونظرا لارتباط ظاهرة السرقات الفكرية بالاعتداء على حق من أهم الحقوق المكفولة للإنسان؛ وللخسائر المادية والمعنوية التي تترتب عنها والتي تتجاوز في تداعياتها ومخاطرها حدود الدول في ظل تشابك العلاقات الدولية وتسارعها؛ سعى المجتمع الدولي منذ فترات مبكرة إلى نسج عدد من الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية والجماعية؛ أهمها الاتفاقية العالمية لحقوق المؤلف؛ على طريق وضع حد لهذه الممارسات السيئة واحتوائها ضمن سياق الاعتراف المتبادل بهذه الحقوق.
وقد تم الإقرار لأول مرة بأهمية الملكية الفكرية في اتفاقية باريس بشأن حماية الملكية الصناعية سنة 1983، كما تعد اتفاقية (برن Bern) بشأن حماية المصنفات الأدبية والفنية التي اعتمدت بتاريخ 9 شتنبر 1886؛ من أقدم الاتفاقيات الدولية في مجال الملكية الأدبية والفنية. وبالرغم من مشاركة معظم الدول العربية في منظمة أو اتحاد دولي لحماية الملكية؛ فإن تطور قانون الملكية الفكرية في معظم الأقطار العربية مازال متعثرا ولم يرق إلى حجم التحديات المطروحة.
ويكاد يجمع الباحثون والمهتمون على أن ظاهرة الاعتداء على الملكية الفكرية تنتشر عادة وبشكل صارخ في أوساط الدول المتخلفة؛ كمؤشر عن عدم إيلاء صانعي القرار الاهتمام للفكر والإبداع بشكل عام؛ وعدم مواجهة مرتكبي السرقات بالصرامة والزجر المطلوبين؛ على عكس الدول المتقدمة التي تواجه الظاهرة بإجراءات وتدابير وقائية وزجرية صارمة؛ تضيق من فرص حدوثها.
لقد صادقت عدة أقطار عربية على مختلف المعاهدات المرتبطة بهذا الشأن؛ ومنها من أصدر تشريعات في هذا الخصوص كمصر؛ المغرب، سوريا..؛ غير أن جمود القوانين وعدم مسايرتها لتطور وسائل هذه القرصنة المعتمدة على تطور التكنولوجيا الحديثة، إضافة إلى وضعية القضاء وما يحيط به من مشكلات مرتبطة بعدم الصرامة في فرض احترام القوانين؛ أو اقتصار العقوبات على بعض الغرامات المالية..؛ تفرغ هذه الضوابط من كل فعالية؛ الأمر الذي لا يشجع العديد من ضحايا القرصنة إلى اللجوء إلى القضاء..
وأمام هذه الوضعية؛ يكتسي فضح سلوك مقترفي السرقات العلمية أهمية وضرورة قصوى؛ بالنظر إلى فعاليته ونجاعته في صد وردع هذه الممارسات.
ونقصد بذلك؛ العمل على فضح هذه السلوكات إذا ثبت حدوثها بالفعل؛ والترويج لها على نطاق واسع، وهي مهمة يفترض أن تتحملها مجموعة من الجهات من باحثين وجامعات وإعلام ومراكز للأبحاث.. كإجراء لردع مقترفي هذه السلوكات؛ وتكريس ثقافة تقر بأهمية هذه الملكية وتؤمن بضرورة مواجهة الممارسات المسيئة لها.
إن اللجوء إلى تقنية الفضح يجد مبرراته في كون عدد كبير ممن يتعرضون لهذه السرقات يمتنعون عن اللجوء إلى القضاء؛ لقناعتهم بعدم فعاليته ونجاعته في ردع هذه الأعمال أو لاعتبارهم أن المسألة أضحت عادية ومعهودة ولا تستدعي اهتماما كبيرا؛ كما أن الحكم القضائي إذا ما صدر في هذا الصدد؛ وعلاوة عن كونه غالبا ما يقتصر في مضمونه على تعويض الضحية دون اتخاذ إجراءات تأديبية تمنع الجناة من مزاولة مهام البحث والتعليم بشكل نهائي أو لفترات محددة أو من المشاركة في الندوات واللقاءات أو في المؤسسات العلمية..؛ يظل في الغالب محدود الإشعاع؛ بحيث يقتصر العلم بمضمونه على الجاني والضحية والقاضي فقط.
والفضح من هذا المنطلق؛ لا يعني الامتناع عن اللجوء إلى القضاء؛ فاللجوء إلى هذا الأخير ضروري في جميع الأحوال؛ مع الترويج لهذا السلوك في حالة التأكد من وقوعه، بل ينبغي أيضا الترويج للقرارات القضائية التي تصدر في حق الجناة بهذا الصدد؛ حتى تفي بوظيفتها وهدفها المطلوب.
© منبر الحرية، 21 فبراير 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

في الوقت الذي تناشد فيه الدول الكبرى دول الخليج العربي المساهمة في حل الأزمة المالية العالمية وتوجيه استثمارات الصناديق السيادية إليها، تلوح في الأفق أزمة تكاد لا ترى حلّا ناجعا لها في ظل السياسات المتّبعة إلى الآن والتي أثبتت فشلها بواقع الأرقام والحقائق.
إنها أزمة البطالة في العالم العربي والتي جاءت الأزمة المالية العالمية لتعمّق من حجمها وتزيد من خطورتها ما يستوجب معها تحرّكا سريعا من الدول العربية وفق خطّة إستراتيجية ومنهجية مع ما يتطلّبه ذلك من تفعيل وتحرير التجارة البينية وتحقيق التكامل العربي الاقتصادي.
واقع صعب ومر
في الوقت الذي تشير فيه جميع التقديرات إلى أن معدلات النمو العربية ستنخفض إلى أدنى حد لها في السنة القادمة متأثرة بتداعيات الأزمة المالية العالمية مما من شأنه أن يخفّض الإنفاق في ظل انكماش العجلة الاقتصادية، يؤكّد تقرير حديث لمنظمة العمل العربية على أن الوضع الحالي للبطالة في المنطقة العربية يعدّ الأسوأ بين جميع مناطق العالم من دون منازع، وأنه في طريقه لتجاوز كل الخطوط الحمراء حيث تخطّت نسبة البطالة الـ 14%، وبلغ عدد العاطلين عن العمل أكثر من 17 مليون شخص، وينبّه تقرير لمنظمة العمل الدولية إلى إمكانية أن يصل عدد العاطلين عن العمل في البلدان العربية عام 2010 إلى 25 مليون عاطل، 60% تقريبا منهم دون سن الخامسة والعشرين، وتتوقع مصادر أخرى أن يقفز هذا الرقم إلى 80 مليون عاطل بحلول عام 2020، علما أن هناك بعض التقارير الاقتصادية ومنها تقرير الوحدة الاقتصادية في الجامعة العربية يقدّر معدّل البطالة الحالي في الوطن العربي بين 15% و20%.
وتشير دراسة اقتصادية حديثة في إطار “مبادرة شباب الشرق الأوسط” إلى أن كلفة البطالة في 11 دولة عربية تصل إلى 25 بليون دولار سنوياً، أي ما نسبته 2.3 % من إجمالي الناتج المحلي. واستنادا إلى تقديرات منظمة العمل العربية، فكل زيادة في معدل البطالة بنسبة 1% سنوياً تنجم عنها خسارة في الناتج الإجمالي المحلي العربي بمعدل 2.5%، أي نحو 115 مليار دولار، وهو ما يعني ارتفاع المعدل السنوي للبطالة إلى 1.5 وارتفاع فاتورة الخسائر السنوية إلى أكثر 170 مليار دولار، علما أن هذا المبلغ يمكن أن يوفر نحو 9 ملايين فرصة عمل وبالتالي تخفيض معدلات البطالة في الوطن العربي إلى ربع حجمها الحالي.
علما أن التقديرات تفيد إلى وجوب استثمار حوالي 70 مليار دولار إذا ما أردنا الحفاظ على المعدّل الحالي للبطالة، وتوفير فرص عمل جديدة تناسب الداخلين الجدد إلى سوق العمل والذين يقدر عددهم بحوالي 4 ملايين شخص سنويا.
مفارقات واقعية غريبة
وللمفارقة، ففي الوقت الذي يعاني فيه الوطن العربي من هذه الأرقام المخيفة في البطالة، نجد أن عدد الأجانب العاملين في الدول العربية يتزايد بشكل مستمر، ونسبة كبيرة من هؤلاء من غير المختصّين وحملة الشهادات، ما يعني أنها عمالة ذات مستوى منخفض، وقد بلغ عددها حوالي نصف مليون عامل عام 1975 ووصل إلى 8.8 ملايين عام 2000.
ورغم أن البعض يشير إلى تراجع هذه الأرقام في السنوات القليلة الماضية، إلاّ أنها عادت لترتفع مجددا، حيث تفيد التقديرات أن هناك ما لا يقل عن 9 ملايين عامل أجنبي، يتمركز معظمهم في دول الخليج، وتنقل بعض المراجع أن المملكة العربية السعودية التي تعد اكبر مصدّر للنفط في العالم أصدرت حوالي 1.7 مليون تأشيرة عمل العام 2007 (أرقام أخرى تشير إلى نحو 700 ألف) وهو رقم قياسي في الوقت الذي تعاني فيه من نسبة بطالة تبلغ حوالي 11% رغم الجهود الحثيثة للحد منها في.
المفارقة الثانية هي أن عدد العاطلين عن العمل بارتفاع مستمر على الرغم من أن الفترة السابقة لتداعيات الأزمة المالية العالمية شهد أعلى معدلات للنمو الاقتصادي في البلدان العربية على الإطلاق، مترافقة مع تدفق عائدات مالية ضخمة لدى الدول العربية المصدّرة للنفط، واستفادت الدول الأخرى الغير مصدّرة من هذه العائدات على شكل تدفقات استثمارية وصلتها إثر السيولة الضخمة التي تكونّت لدى الدول النفطية. إذ يذكر تقرير لصندوق النقد الدولي أن نمو اقتصادات دول المنطقة استمر في تخطي معدل النمو العالمي البالغ نحو 5% للسنة السادسة على التوالي خاصة دول الخليج العربي. وعلى الرغم من الأداء القوي هذا، واستمرار صعود الفائض المالي في المنطقة، فإن رقم البطالة تضاعف في معظم دول المنطقة عن تلك الفترة.
ولنا أن نتصوّر الوضع الآن في ظل الانعكاسات السلبية الضخمة للأزمة المالية العالمية ووضع الدول العربية بالنسبة لها. إذ تلفت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة ”أسكوا” إلى أن نصف سكان العالم العربي يعيشون بأقل من دولارين في اليوم، حيث جاء في دراسة صادرة عنها “أن صورة العرب الأثرياء هي الصورة الطاغية، إلا أن الواقع يظهر أن بين 40% إلى 50% من السكان يعيشون بأقل من دولارين يومياً”.
مسّببات متنوعة ومتعددة للبطالة
1- تدني المواءمة بين مخرجات التعليم واحتياجات ومتطلبات سوق العمل من جهة، وعدم خلق وظائف جديدة من جهة أخرى، وهو الأمر الذي يؤدِّي إلى تراكم أعداد هائلة من خريجي الجامعات في صفوف الباحثين عن العمل، وبالتالي إلى زيادة نسبة البطالة لدى المتعلّمين وحملة الشهادات أكثر من أي فئة أخرى، وهو ما تؤكده التقديرات التي تقول أن معدلات البطالة بين الأميين هي الأدنى في غالبية البلدان العربية، في حين ترتفع هذه المعدلات في صفوف ذوي التعليم الثانوي والمتوسط والجامعي، لتبلغ عشرة أضعاف في مصر، وخمسة أضعاف في المغرب، وثلاثة أضعاف في الجزائر، مما يعني أن غير المتعلمين أكثر حظا في العمل من المتعلمين في البلدان العربية.
2- انتشار الفساد والمحسوبيات التي تحرم الشاب الكفوء والمتعلّم من الحصول على الوظيفة التي يستحقها عبر المباراة لصالح من هم اقل مستوى أو تعليم أو اختصاص منه.
3- ضعف الاستثمار الداخلي، وتوجيه الأموال العربية إلى الخارج بدلا من توظيفها في سبيل خلق اقتصاد إنتاجي يقوم على العلم والمعرفة ويوظّف القدرات والطاقات البشرية في سبيل خلق قيمة مضافة تؤدي إلى ضمان هيكلية اقتصادية مستقبلية بعيدا عن الاقتصاد الريعي والاستهلاكي الغير منتج الذي يساعد على تزايد معدلات البطالة لقدرته المحدودة على استيعاب وظائف جديدة، علما أن حجم الاستثمارات العربية الموظّفة خارجا يقدّر بـ 1400 مليار للعام 2005 أي قبل الطفرة وارتفاع أسعار النفط في الفترة السابقة التي زادت بالتأكيد من حجمها.
4 – استنزاف معظم الموارد العربية خاصة إبان فترة الازدهار الاقتصادي اثر الفوائض المالية الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط في الإنفاق على التسلح، وتمويل الحروب التي اندلعت في المنطقة، حيث يعدّ العالم العربي من اكبر دول العالم إنفاقا على التسّلح قياسا بالناتج المحلي الإجمالي، إلى جانب الفساد و تراكم الديون وخدمة هذه الديون.
5- العزوف عن التوجه إلى العمل الحر لغياب الدعم المالي والمبادرة والتشجيع من قبل الدولة أو القطاع الخاص إلى جانب تفضيل الشباب عدم المغامرة بسبب المسؤوليات والمهام الملقاة على عاتقهم في تحمّل عبء العائلة التي ينتمون إليها.
6- الافتقار إلى قواعد بيانات وإحصاءات حول طبيعة وعدد ونوع الوظائف المتوافرة إلى جانب عدد واختصاص وتوجه الباحثين عن عمل، وهو الأمر الذي يضفي غموضاً على حجم سوق العمالة في الوطن العربي ويجعله يسير بشكل عشوائي بعيدا عن أية آليات أو ضوابط.
© منبر الحرية، 16 فبراير 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

أعاد القصف و العمليات العسكرية التي قام بها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة إلى الأذهان السؤال التالي : لماذا لا يستطيع الفلسطينيون و الإسرائيليون التوصل لحل لصراعهم ؟ من هو المخطئ ؟ أهي فقط حماس التي رفضت تجديد الهدنة ؟ أم أن إسرائيل هي التي لم تبادر خلال هذه المدة بخطوات نحو التفاوض ؟ أم أن هناك أسبابا أعمق من ذلك ؟
ليس هناك شك في أن حماس مسؤولة عن إطلاق الصواريخ، لكنها لا تمثل كل سكان فلسطين اللذين يعيشون منذ ثلاثة عقود حالة من البؤس. بؤس زاد من حدته حصار فُرض لمعاقبة السكان الذين دفعهم اليأس للتصويت لصالح حماس. و من سخرية القدر أن إسرائيل هي التي أخرجت المارد من الزجاجة عندما أعطت في سنة 1982 الضوء الأخضر لتأسيس حماس في فلسطين كما يؤكد شارل أندرلان في مقال نشر بجريدة لوموند الفرنسية في (06/02/04). كما يذهب البعض إلى أنها أسهمت ماديا في هذا التأسيس، و كان هدفها من وراء ذلك هو خلق قوة مضادة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
و في الوقت الذي تساند فيه الولايات المتحدة إسرائيل و يبقى العرب و الأوروبيون عاجزين، يبدو أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أصبح يمثل أساسا نقطة تجاذب داخل الحلبة السياسية الإسرائيلية حيث الأحزاب والسياسيون مهتمون بمصالحهم الانتخابية و المهنية. فبعد الفشل الذي تعرض له الجيش الإسرائيلي في لبنان صيف 2006 فإن المعارضة لم ترحم حزب”كاديما”؛ حزب الوزير الأول أولمرت و وزيرة الخارجية ليفني.
صحيح أن هناك انعداما دائما و خطيرا للأمن بمدن الجنوب تحاول كل الحكومات القضاء عليه. لكن السؤال الذي يستلزم الإجابة هو: هل يمكن تفسير ردة فعل إسرائيل، غير المتكافئة كما يصفها عدد من الملاحظين، بتحقيق أهدافا أمنية أم بالانتخابات المزمع تنظيمها في إسرائيل؟ يبدو أن قادة “كاديما” يضعون نصب أعينهم الانتخابات المقبلة آملين أن تزيل عملياتهم في غزة آثار كارثة 2006.
و يمكن لفرضية وجود موجات عنف دورية تتزامن مع فترة الانتخابات، أن تساعد على فهم أسباب فشل مبادرات السلام السابقة. ففي النظام البرلماني الإسرائيلي المبني على التمثيلية النسبية يمكن للأحزاب الصغيرة المتطرفة أن تحدد من سيحكم و تمنح الأصوات الضرورية لتشكيل أغلبية.
منذ السبعينات كان حزبا الليكود و العمل يعتمدان على الأحزاب الصغيرة و المتطرفة (مفدال، إسرائيل بيتنا) من أجل تشكيل تحالفات للحصول على الأغلبية، كما كانوا يسعون لضمان دعم هذه الأحزاب رغم معارضتها لمسلسل السلام. و يمكن لتصرفات استفزازية أن تؤدي أيضا إلى توجيه المسار السياسي كما حصل عندما استغل أرييل شارون زيارته لساحة المسجد الأقصى من أجل إشعال شرارة الانتفاضة الثانية. الشيء الذي أدى إلى تطرف السياسات المتبعة و ضمن فوزه في انتخابات2001.
و يمكن القول أيضا أن السياسة الأحادية للسلام التي بادر بها شارون في 2005 والتي أدت إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة تنسجم مع النظرية التي تقول بوجوب إبقاء كل الأوراق بأيدي السياسيين في إسرائيل. و تقول نفس النظرية أن الرهانات السياسية لا الأمنية هي التي توجه أغلب الاستراتيجيات في المنطقة. و لن تكون هذه أول مرة ولا هذا أول بلد تستعمل فيه القوة العسكرية كرسالة موجهة للناخبين ( والتدخل الروسي في جيورجيا والشيشان هو خير مثال على ذلك).
أصبحت قضية الحرب و السلام مع الفلسطينيين شبيهة بكرة تتجاذبها أطراف الطيف السياسي الإسرائيلي و لم تعد مجرد رد فعل موضوعي على تهديد عسكري. وقد ساهمت حماس بشكل مباشر وغير مباشر في هذه اللعبة السياسية الإسرائيلية. إذ يتشارك المتطرفون ضمنيا، و مع اختلاف أسبابهم، في نفس الهدف المتمثل في عرقلة مسلسل “السلام مقابل الأرض”. فعندما استأنفت، سنة 1992، المفاوضات بين إسرائيل و منظمة التحرير برئاسة ياسر عرفات، بادرت حماس إلى القيام بعمليات عسكرية ضد جنود إسرائيليين. ولكن في سنة 1994 و بعد أن قام عضو جماعة كاش المتطرفة والمعارض لمسلسل أوسلو باروخ غولدشتاين بقتل 29 مسلما أثناء تأديتهم للصلاة، توجهت حماس نحو قتل المدنيين. وفي سنة 1995 بادرت إلى القيام بالعمليات الانتحارية الدموية.
و قد منح هذا الأمر سلاحا لليكود ضد غريمه الحزب العمالي مما أضعف هذا الأخير و أضر بمسلسل السلام. كما أدت عمليات حماس إلى إضعاف سلطة رئيس الوزراء في المرحلة الانتقالية، شمعون بيريز الذي فشل في انتخابات 1996 أمام بينيامين نتانياهو. و قد حصل هذا الأخير على مساندة الرأي العام و بذلك أوقف مسلسل السلام بتراجعه عن المعاهدات التي وقعها اسحق رابين.
كيف يمكن إذن الخروج من هذه الصيرورة المتصاعدة من العنف السياسي؟
و مع أن الإصرار السياسي للوصول إلى حل يبقى مهما لكنه، و لحد الآن، لم يؤدي إلى أية نتيجة تذكر. لذا، فان المشكل قد يستوجب مقاربة أخرى كتلك التي تركز على الاقتصاد مثلا. يجب على الإسرائيليين رفع الحصار على غزة. لأن السياسات الحمائية، و أيا كان مصدرها داخليا أم خارجيا، لا تسبب إلا الفقر.
وفي هذا الصدد يمكن القول أن السياسات الإسرائيلية تجاه غزة المتمثلة في التضييقات الاقتصادية و نقاط التفتيش و المراقبة، أدت إلى خنق النشاط الاقتصادي. و عندما لا تستطيع الشعوب الإنتاج فإنها تفكر و تلجأ إلى التخريب. إن الإيديولوجية هي المصدر الأساسي للتطرف العنيف. أما البطالة والبؤس الاقتصادي و اليأس فيشكلون البيئة التي تحتضنه. لقد ذكر صندوق النقد الدولي مؤخرا أنه، و بقياس الدخل فإن 79% من الأسر الفلسطينية تعيش تحت عتبة الفقر. و هذا يرجع إلى انعدام الحرية في الأراضي الفلسطينية و خصوصا غزة. و يلاحظ البنك الدولي أن إسرائيل و بتقييدها لحرية تنقل السلع و الأشخاص تعرقل أي فرصة للاقتصاد الفلسطيني للخروج من الأزمة.
إن لإسرائيل و فلسطين القدرة للخروج من دوامة العنف هذه، و ذلك باعتراف كل منهما بحق الآخر في الوجود. على الشعبين الإسرائيلي و الفلسطيني أن يعيا بأن دورة ردود الأفعال العنيفة التي يطلقها السياسيون و المتطرفون لا تؤدي إلا لنتائج عكسية. لذا فالتفاوض يبقى الطريق الأوحد نحو السلام.
إن الاستنتاج الذي يمكن أن نخرج به من دورة العنف هذه و التي تتزامن مع الانتخابات هو أن الحل السياسي يبقى ضروريا لكنه غير كاف. لأن السلم يتطلب أيضا مكونا اقتصاديا. فالمسار سيستمر بشكل أفضل لو مُنح الفلسطينيون فرصة للإنتاج بدل التخريب، ولتبادل السلع بدل تبادل الصواريخ. و كما كتب ذلك مونتسكيو”السلام هو نتاج طبيعي للتجارة”. كما أن إلغاء الحواجز أمام تنقل السلع يمكن أن يمثل الوسيلة لتشجيع مسلسل السلام و ذلك بخلق أطراف فاعلة في اتجاه السلام من الجانبين، و تحويل الأعداء إلى شركاء في التبادل، و القضاء على البطالة والبؤس باعتبارهما من مسببات التطرف.
إذن يجب اللجوء إلى و تفعيل الحل الاقتصادي عندما تفشل السياسة والقوة العسكرية.
د. هشام المساوي، د. إيمانويل مارتان، د. توم بالمر باحثون في مؤسسة أطلس.
© منبر الحرية، 11 فبراير 2009.

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

ما إن يتم ذكر الواقع المزري الذي يتصف به العالم العربي و الإسلامي وحالـة التخلف السياسي  والاقتصادي و العلمي التي تجعل معظم البلدان العربية تقبع في مكانة متأخرة بين الأمم في مجالات شتى حتى تجد شرائح عريضة من المجتمع العربي ترد بحماسة متحججة بالعصر الذهبي للحضارة العربية والإسلامية .فإذا كان الحديث عن تخلف  العرب في مجال التقنيات الحديثة للمعلوميات، سرعان ما يجيبك البعض أن العالِم الرياضي المسلم الخوارزمي هو واضع علم اللوغاريتمات الذي شكل النواة الأولى التي تطورت منها المعلوميات. أما إذا كان الكلام عن قدرات الطب الحديث على علاج أصعب الأمراض يشار إلى كون الأطباء المسلمين من أمثال ابن سينا والرازي كانوا متفوقين على نظرائهم الأوربيين في مجالي التشريح والجراحة. وبالطبع فتخلف العرب عن المسايرة والمساهمة في تطور العلوم الحديثة يرد عنه  بأن هذه العلوم التي طورها الغرب انبثقت في الأصل من رحم فلسفة الإغريق التي ما كانت لتصل إلى علماء أوروبا لولا فلاسفة المسلمين من أمثال ابن رشد وهكذا دواليك في كل المجالات. فرفض العرب لحاضرهم المتردي يجعلهم يحتمون بماضيهم الزاهر. إنه رد فعل قد يبدو طبيعيا لأنه يريح المرء ولو مؤقتا من عناء الإجابة عن الأسئلة المستعصية للحاضر.
لقد أصبحت حالتنا نحن العرب كحالة ذلك المحارب القديم الذي خاض الحروب تلو الحروب و حقق النصر تلو النصر حتى ضَعف و ذبلت قوته و انتهى به المطاف في حانة بائسة يجتر أسطوانة انتصاراته و معاركه لكل من شاركه طاولة الشراب.
ليس عيبا أن تنظر الأمم إلى ماضيها كي ترسي دعائم تقدمها، لكن عيب هذه الأمة أنها ظلت منبهرة بماضيها لا تنظر إلا لما هو مشرق فيه حتى توقفت عن التقدم.
إننا هنا لسنا بصدد إنكار دور التاريخ في فهم المسار الحضاري للأمم و توطيد دعائمه. لكن قراءة التاريخ لا يجب أن تكون انتقائية تكتفي بالحقب الزاهرة و تغفل فترات الاندحار و التقهقر. فالرجوع إلى الماضي يجب أن يكون الهدف منه استخلاص العبر والدروس لأنه السبيل الأمثل لإيجاد الحلول لمشاكل الحاضر.
إن العرب هائمون بماضيهم لأنهم كتبوا صفحات مشرقة من التاريخ الإنساني لقرون. لكنهم ظلوا خارج هدا التاريخ لقرون أيضا. لقد أضاعوا الطريق التي قادتهم ذات يوم نحو الحضارة فبحثوا عنه لأزمنة، ولكن دون جدوى. فالالتحاق بركب الحضارة مجددا و دخول التاريخ من بابه الواسع يقتضي من العرب معرفة كيف خرجوا منه من الباب الضيق.
و يظن الكثير أننا خرجنا من التاريخ في ذلك اليوم من عام 1492 حين سلم أبو عبد الله آخر ملوك غرناطة المسلمين مفتاح قصر الحمراء للملكين فرديناند و إيزابيلا. لكن هذا الحدث، على أهميته، لا يحمل سوى مدلول رمزي أعطى بعدا رومانسيا لتراجيديا الاندحار العربي. لقد خرجنا من التاريخ قبل ذلك بكثير، يوم توقف الاجتهاد و أحرقت كتب ابن رشد بالأندلس و أغلقت دار الحكمة ببغداد.
لقد خرجنا من التاريخ يوم توقفت مدارس العلم عن لعب دورها الحقيقي و صارت مجرد مكان يجتر فيه الخلف ما قاله السلف. لقد خرجنا من التاريخ حقا يوم اختفت تلك البيئة المتسامحة التي وظفت كل الطاقات الخلاقة حتى تلك القادمة من أديان أخرى، تلك البيئة التي سمحت لفيلسوف يهودي مثل ابن ميمون أن يصدر كتبه في دار الإسلام بل و أن يصير طبيبا خاصا لصلاح الدين، أعظم سلاطين المسلمين في تلك الحقبة. هذه الأسباب عمقت جذورها في جسم أمتنا فأوقفتها عن الحراك والتقدم حتى ظللنا جامدين و باءت كل محاولتنا للنهوض بالفشل.
فالداء إذن متجذر في عمق تاريخ هذه الأمة. أما استخلاصه فيمر أساسا عبر إصلاح شامل لمناهج التعليم و المنظومات الفكرية التي تؤطر الانتقال المعرفي بين الأجيال. إصلاح يخفف من وطأة التقليد و الإتباع و يحيي ملكة النقد و الابتكار و يعيد الاعتبار لوظيفة الاجتهاد. إن رهان إخراج العالم العربي من أزمته الحالية يتوقف على إعادة قراءة التاريخ قراءة واقعية بعيدة عن التيئيسية القاتمة و عن التفاؤلية الحالمة.
هدا هو المسار الأمثل للتغيير، مسار يجعلنا قبل كل شيء نغير ما بمجتمعنا من عيوب ترسخت فيه عبر التاريخ فنضع بذلك اللبنة الأولى لتطور قد يلحقنا بركب الحضارة من جديد و يمنحنا فرصة جديدة لدخول التاريخ مرة أخرى.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 2 فبراير 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

على وقع طبول العملية الانتخابية المحمومة في الكويت والسباق الملتهب للوصول إلى خمسين كرسي أخضر تحت قبة البرلمان الكويتي، تتأوه الديمقراطية الكويتية التي نتغنى بها منذ ولادة الدستور الكويتي، وليس غريبا أن تكون الديمقراطيات في بلاد الغرب أكثر نضجا على مر سنين الممارسة الديمقراطية الحرة عندهم وتكتسب نضجا أكثر. إلا أنها على خلاف ذلك في الكويت، فالنضج الديمقراطي كان أكثر واقعية في بداية انتقال الكويت إلى بلد مستقل يؤمن بالممارسة الانتخابية الحرة، لكنه وكمؤشر بياني آخذ بالهبوط ويكاد ينعدم هذا النضج في السنوات الأخيرة حينما بدأت تعلو أصوات النشاز الانتخابية التي تنتكس على نغماتها الديمقراطية المثالية التي ننشدها كمجتمع خليجي.

الديمقراطية الكويتية، وهي جزء من ديمقراطية خليجية ناشئة، لن يستقيم لها حال، وأدوات تخريبها بمرور السنين تنضج وتفرض نفسها كواقع سيء لبلد ارتضى الديمقراطية كنظام سياسي. فالمال السياسي لتخريب الانتخابات البرلمانية أصبح واقعا لا مفر منه بهدف تجيير رموز مختارة من المرشحين والدفع بها إلى قبة البرلمان وما يصاحب آلية هذا المال السياسي من شراء ذمم الناخبين والناخبات واستغلال حاجة شرائح كثيرة من المجتمع الكويتي لهذا المال نتيجة أوضاع اقتصادية واجتماعية مهزوزة لدى البعض تسهل عملية شراء ذممها مقابل هذا المال السياسي، حتى أصبحت الشعارات الانتخابية لكثير من النخب السياسية التي تؤمن بالديمقراطية كممارسة حضارية نزيهة في العملية الانتخابية القائمة: (الكويت ليست للبيع) أو (الوطن ليس للبيع).

ومن أدوات التخريب الانتخابية التي فرضت نفسها كواقع سيء في هذه الممارسة الانتخابية الديمقراطية ما يسمى بـ”الانتخابات الفرعية” للقبائل والعوائل، على الرغم من تجريم القانون الكويتي لها، وهي أداة تخريب جديدة أطلت برأسها في انتخابات الفصلين التشريعيين الأخيرين للبرلمان الكويتي؛ أداة من شأنها تهميش وقتل كل كفاءة ترغب خوض هذه الممارسة الانتخابية، لكنها تصطدم بهذا الواقع المتخلف لتخريب الممارسة الانتخابية بما يسمى بالانتخابات الفرعية بين وجهاء القبائل التي تسبق العملية الانتخابية الرئيسية، فيتم تزكية وانتخاب عدد محدود من المرشحين ولا يحق لغيرهم ممن ليس لهم حضوة أو قبول عند وجهاء القبائل أن يتقدموا بالترشيح، بل ستتم مقاطعة أي مرشح يشذ عن إجماع القبيلة ووجهائها. وبذلك تعود ممارسات جاهلية بعيدة عن روح المجتمع الذي يتطلع إلى ممارسة ديمقراطية ناضجة.

أدوات التخريب الانتخابية لا تقف عند هذا الحد، بل هي تبدأ في الأساس من نظام انتخابي يشجع على مثل هذه الأدوات التخريبية لها. فالنظام الانتخابي كتقسيمة للدوائر الانتخابية في الكويت لم يكن منظما لممارسة انتخابية نزيهة. فقد مر هذا النظام الانتخابي بتقسيمات عديدة بدأت بتقسيمة عشرية للدوائر، ثم تم تعديلها إلى خمس وعشرين دائرة انتخابية هي أسوأ من الأولى، ثم التعديل الأخير إلى خمس دوائر جميعها كانت البيئة الخصبة لنمو هذه الأدوات التخريبية التي أشرنا لها في المقال.

يحسب للكويت كونها سباقة إلى نظام سياسي حر يحتكم إلى الشعب في تشريعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفي جميع مجالاته، إلا أن الممارسة الديمقراطية تحتاج إلى مراجعة جادة لتجريدها من أدوات تخريبها.

© معهد كيتو، مصباح الحرية، 7 أيار 2008.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018